الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الصف
مدنية وآياتها أربع عشرة
أَسماء هذه السورة:
وتسمى سورة الحَواريين، وسورة عيسى عليه السلام وهي مدنيَّة، ويدل على ذلك ما أَخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أَصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أَي الأَعمال أحب إِلى الله تعالى لعملناه فأَنزل - سبحانه -: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} .
قال عبد الله: فقرأَها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها.
مناسبتها لما قبلها:
ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك تأكيد للنهي عن اتخاذ الكفار أَولياءَ الذي تضمنته السورة السابقة (سورة الممتحنة).
أهم مقاصد السورة:
تخبر السورة الكريمة في افتتاحها بأَنَّ الله - سبحانه - نزهه عمَّا لا يليق به كُل ما في السموات والأَرض وهو العزيز الحكيم، ثم تبين أَنه لا يليق بالمؤمنين أَن تخالف أَفعالهم أَقوالهم؛ لأَن هذه ليست طباع المؤمنين الصادقين، بل هذا خلق يبغضه الله ويمحقه.
ثم ترسم السورة لوحة جميلة، وصورة مشرقة يحبها الله للمؤمنين وهم يقاتلون في سبيل الله لإِعلان الدين صفًّا واحدًا كأَنهم بنيان مرصوص، ففي اجتماعهم قوتهم، وفي اتحادهم عزتهم ثم تُسلَّي الرسول عمَّا يحدث له، بما قد حدث لرسولين سابقين عليه جاءا إِلى بني إِسرائيل وهما: موسى عليه السلام فآذوه مع علمهم بأَنه رسول الله لكثرة ما جاءَهم به من المعجزات فلما أصَروا على الانحراف أَمال الله قلوبهم عن الهداية والله لا يهدي القوم الفاسقين.
أَما عيسى عليه السلام فقد أَخبر بني إِسرائيل أَنه رسول الله إِليهم، مصدقًا لِما قبله من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أَحمد؛ فلما جاءَهم الرسول المُبَشِّر به بالآيات كفروا به وقالوا: هذا سحرٌ مبين، وتذكر السورة أَن بني إِسرائيل لكفرهم وعنادهم وضلالهم
(يُرِيدُونَ ليُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، وهم في سعيهم مخفقون وعاجزون، فهل يستطيع أَحد أَن يطفئ نور الله بفمه، هيهات هيهات {وَيَأبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) كما تذكر أَن الله - سبحانه - هو الذي أَرسل محمد بالقرآن ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم ترشد السورة المؤمنين إِلى التجارة الرابحة التي تنجيهم من عذاب أَليم، وهي الإِيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالأَموال والأَنفس، وربحُهم من هذه التجارة، غفران الذنوب ودخولهم جنات النعيم، ولهم نعمة أُخري يُحبُّونها، وهي نصرٌ من الله وفتحٌ قريب، ثم تدعو السورة المؤمنين أَن يكونوا أَنصارًا له كما كان الحَواريون مع عيسي أَيضًا أَنصارًا لله، وتختم السورة، بأَن الله يؤيد بنصره أَولياءَه وأَصفياءَه حتى يصبحوا على عدوهم غالبين منتصرين.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(سَبَّحَ لِلَّهِ): نزهه عما لا يليق، ومجده، ودل عليه.
(الْعَزِيزُ): الغالب على كل شيء.
(كَبُرَ مَقْتًا): عظُم بغضا، وكره كرها شديدا.
(صَفًّا): صافين أَنفسهم، أَو مصفوفين.
(بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ): بنيان متلاصق محكم لا فرجة فيه.
(1) سورة التوبة من الآية: 32.
التفسير
1 -
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} :
يخبر الله تعالى أَن جميع ما في السموات وما في الأَرض من الحيوانات والنباتات وغيرهما يُسبحه - جلَّ وعَلَا - وينزهه عمَّا لا يليق به ويمجده ويُقدسه ويُصلِّي له ويُوحِّده ويدلّ عليه وهو - سبحانه - وحده الغالب على كل شيء الذي خضع له كل شيء وهو ذو الحكمة البالغة يضع الشيء في موضعه.
2 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} :
المعنى: يا أَيها الذين آمنوا لأَي شيءٍ تقولون بأَلسنتكم ما لا تصدقه أَفعالكم، وما لا تفعلونه من الخير والمعروف، على أَن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإِنما وُجِّه إِلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم.
قال الزمخشري: هذا الكلام تناول الكذب وإِخلاف الوعد، روي أَن المؤْمنين قالوا قبل أَن يؤْمروا بالقتال: لو نعلم أَحب الأَعمال إِلى الله لعملناه، ولبذلنا فيه أَموالنا وأَنفسنا، فدَلَّهم الله على الجهاد في سبيله فَوَلَّوْا يوم أُحد فعيَّرهم، وقيل: لما أخبر الله بشهداءِ بدر قالوا: لئن لقينا قتالًا لنُفْرِغن فيه وُسْعَنا ففروا يوم أُحد، ولم يَفُوا وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وقيل: كان قد آذى المسلمين رجل فقتله صُهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصُهيب: أَخبر الرسول أَنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: ذلك يا أَبا يحيى قال: نعم فنزلت في المُنْتحِل، وعن الحسن: نزلت في المنافقين، ونداؤهم بالمؤْمنين في الآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تهكم بهم وبإِيمانهم.
3 -
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} :
المعنى: كره الله كرها شديدا أن تقولوا ما لا تفعلون وأن تخالف أَفعالكم أَقوالكم.
قال الآلوسي والزمخشري: قصد في (كَبُرَ) التعجب وتعظيم الأَمر في قلوب السامعين؛ لأَن التعجيب لا يكون إِلا من شيءٍ خارج عن نظائره وأَشكاله، واختير لفظ (المقت) لأَنه أَشد البغض وأَبلغه ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأَة أَبيه - ولم يقتصر على أَن جعل البغض كبيرا حتى جعله أَشده وأَقبحه وأَفحشه، وكونه (عِند الله) فيه دلالة على أَنه أَبلغ من ذلك لأَنه إِذا ثبت كبر مقته عند الله الذي يحقر دونه كل عظيم، فقد تم كبره وشدته، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إِليه كثير من أَهل اللغة.
4 -
هذا بيان لِمَا هو مَرْضِيّ عنه عند سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت لديه جل شأَنه والمشار إِليه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ .... ) الآية. وظاهره يرجح أَن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون غيره.
وهذا هو إِخبار من الله - تعالى - بمحبته عباده المؤْمنين إِذا صُفُّوا مواجهين أَعداءَ الله في حرمة الوغى يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، روي الإمام أَحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ يضحَكُ الله إِليهم: الرجل يقومُ من الليل، والقومُ إِذا صُفُّوا للصلاة، والقوم إِذا صُفُّوا للقتال).
وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) أَي: كأَنهم في تَراصهم والتحام بعضهم ببعض من غير فرجة ولا خلل (بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) رُصّ وضم بعضه إِلي بعض.
والمرصوص على ما قاله الفراءُ المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناءَ لاءَمت بين أَجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، وقيل: المراد استواءُ نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وتوحيد الرأي كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأَول.
المفردات:
(زَاغُوا): مالوا باختيارهم عن الحق وأَصروا على الانحراف عنه.
(أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ): حرمهم الله التوفيق لاتباع الحق، وأَمال قلوبهم عن قبول الهداية.
(مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ): مصدقا لما تقدمني وجاءَ قبلي من التوراة.
التفسير
5 -
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) هذا كلام مستأنف مقرر لِمَا قبله من شناعة ترك القتال.
والمراد: اذكر يا محمد لهؤلاءِ المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لقومه بني إِسرائيل حين ندبهم لقتال الجبابرة بقوله: (ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ) (1)، فلم يمتثلوا أَمره وعصوه أَشد عصيان حيث قالوا:(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا)(2)، وقولهم:(فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(3).
وأَصرُّوا على ذلك كل الإِصرار وآذوه عليه السلام كل الإِيذاءِ فوبخهم على ذلك بما حكاه الله عنه بقوله (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أَي: لم تؤذنني بالمخالفة والعصيان فيما أَمرتكم به ونهيتكم عنه (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) أَي: والحال أَنكم تعلمون علما قطعيًّا بمشاهدة ما ظهر على يديَّ من المعجزات الباهرة التي منها إِهلاك عدوكم وإِنجاؤكم منه، تعلمون أَني رسول الله إِليكم لأُرشدكم إِلى خيري الدُّنيا والآخرة وكان مقتضي علمكم بذلك أَن تبالغوا في تعظيمي، وتسارعوا إِلى طاعتي، لا أَن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأَن من عرف الله وعظمته عظَّم رسوله، ولأَن من آذى رسول الله كان وعيد الله لاحقا به.
(فَلَمَّا زَاغُوا) أَي: فلما أَصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاءَهم به موسى عليه السلام واستمروا على ذلك، (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أَي: صرفها عن قبول الحق وعن الميل إِلى الصواب لصرف اختيارهم للعمى والضلال (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
تذييل مقرر لمضمون ما قبله - أَي: والله لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المُصرِّين على الغواية.
والمراد بهم إِما المذكورون خاصة، والإِظهار في مقام الإضمار لذمّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أَو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولًا أَوليًّا.
وذهب بعضهم إِلى أَن إِيذاءَهم إِياه عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وما ذكر أَولًا هو الذي تقتضيه جزالة اللفظ الكريم لمناسبته لما قبله.
(1) سورة المائدة من الآية 21.
(2)
سورة المائدة من الآية 22.
(3)
سورة المائدة من الآية 24.
6 -
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ): إِذ معطوف على إِذ الأُولى، والمعنى: واذكر يا محمد حين أَن قال عيسى ابن مريم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ولعله عليه السلام لم يقل: (يَا قَوْمِ) كما قال موسى، بل قال:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) لأَنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأَب فيهم، أَو إِشارة إِلى أَنه عامل بالتوراة وأَنه مثلهم من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأَنه لا أَتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إِن التعبير بما ذكر لِمَا فيه من التعظيم لهم فقد كانوا يفتحرون بنسبتهم إِلى إِسرائيل عليه السلام.
(إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أَي: إِني مرسل منه - تعالى - إِليكم حال كوني مصدقا لِمَا تقدمني وجاءَ قبلي من التوراة، وذكر هذه الحال لأَنه مِن أَقوى الدواعي إِلى تصديقهم إِياه عليه السلام وقوله تعالى - (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) معطوف على مصدقا وهو داع أَيضا إِلى تصديقه عليه السلام من حيث إِن البشارة بهذا الرسول واقعة في التوراة ويتضمن كلامه عليه السلام أَن دينه التَّصديق بكتب الله تعالى وأَنبيائه وجملة (يَأتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الاسم الجليل (أَحْمَدُ) علم لنبينا، وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن لي أَسماءً، أَنا محمد وأَنا أَحمد، وأَنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأَنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأَنا العاقب".
والعاقب: الذي ليس بعده نبي، وأَحمد منقول من الفعل المضارع للمتكلم، أَو من أَفعل التفضيل من الحامدية أَو المحمودية، وبشارة عيسى عليه السلام بنبينا مما نطلق به القرآن المُعجز فإِنكار النصارى له ضرب من الجحود والهذيان.
ذكر الآلوسي أَنه ورد في إِنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أَنصف، وسلك الصِّراط السَّوي وما تعسف، ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح (إِن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أَبي يعلمكم كل شيء)، وقال يوحنا أَيضا: قال المسيح: (من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإِليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة، كلمتكم بهذا لأَني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أَبي هو يعلمكم كل شيءٍ .... الخ).
(والفارقليط) لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إِرادته صلى الله عليه وسلم من كلام عيسى عليه السلام ممَّا لا غبار عليه لمن كشف الله غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصاري بالحمَّاد وبعضهم بالحامد في مدلوله إِشارة إِلى اسمه عليه الصلاة والسلام أَحمد:(فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أَي: فلمَّا جاءَهم عيسى عليه السلام بالمعجزات الظاهرة قالوا مشيرين إِلى ما جاء به عيسى، وقيل: مشيرين إِلى ما جاءَ به أَحمد عليه الصلاة والسلام (هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) وتسميته سحرا للمبالغة ويؤيده قراءَة طلحة والأَعمش: هذا ساحر.
المفردات:
(وَمَنْ أَظْلَمُ): أَي: لا أَحد أَشد ظلما.
(افْتَرَى): اختلق بادعاءِ الشركاءِ له.
(نُورَ اللَّهِ): الحق الذي جاءَ به الرسول.
(بِالْهُدَى): بالقرآن.
(وَدِينِ الْحَقِّ): الإِسلام.
(لِيُظْهِرَهُ): ليعليه ويرفعه.
(عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على جميع الأَديان.
التفسير:
7 -
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} :
أَي: أيُّ النّاس أَشد ظلما ممن يُدْعى إِلى الإِسلام الذي يُوصله إِلى سعادة الدارين فتكون استجابته الافتراءَ والاختلاق على الله بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا، والمراد أَنه أَظلم من كل ظالم، والآية فيمن كذب من هذه الأُمة على ما يقتضيه السياق، وهي إِن كانت في بني إِسرائيل الذين جاءَهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إِلى عدم اختصاص الإِسلام بالدين الحق الذي جاءَ به نبينا عليه الصلاة والسلام بل الإِسلام هو كل دين جاءَ به الأَنبياءُ والمرسلون (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أَي: لا يوفقهم إِلى ما فيه فلاحهم لسوءِ استعدادهم وعدم توجههم إِليه.
8 -
هذا تمثيل لحالهم - وهم يجتهدون في إِبطال الحق - بحال من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها؛ تهكمًا وسخرية بهم.
والمعنى: يفتري بنو إِسرائيل الكذب على الله لكي يطفئوا نور دينه بأَفواههم ومثلهم في ذلك كمثل من يريد إِطفاءِ نور الشمس بنفخه من فيه، والله مكمل الحق ومبلغه غايته بإِتمام دينه، وعن ابن عباس وابن زيد: يريدون إِبطال القرآن وتكذبيه بالقول، وقيل: يريدون إِبطال شأن النبي وإِخفاءَ ظهوره بكلامهم وأَكاذيبهم، فقد روي عن ابن عباس: أَن الوحي أَبطأَ أَربعين يوما فقال كعب بن الأَشراف: يا معشر يهود أَبشروا أَطفأَ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره. فحزن الرسول فنزلت (يُرِيدُونَ
…
) الآية.
وقوله - تعالى -: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) أَي: ولو كره الجاحدون، وفيه إِشارة إِلى أنه عز وجل متم ذلك قسرا عنهم وإِرغاما لهم.
9 -
أَي: أَن الله سبحانه وتعالى هو الذي أَرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى أَي: بالقرآن؛ أَو المعجزة عامة، وجعل ذلك نفس الهدى مبالغة، ودين الحق وهو الملة الحنيفية ودين الإِسلام ليظهره على الدين كله: أَي: ليعليه على جميع الأَديان المخالفة له، ولقد أَنجز الله عز وجل وعده، وإذْ جعله بحيث لم يبق دين من الأَديان إِلا وهو مقهور مغلوب بدين الإِسلام، فقد هزم الأَديان الباطلة ونسخ الأَديان السماوية السابقة.
وعن مجاهد: إِذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأَرض إِلا دين الإِسلام.
وقيل: المراد بالإِظهار: الإِعلاءُ بوضوح الأَدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أَبدا.
(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أَي: ولو كره المشركين ذلك لِمَا فيه من التوحيد الخالص وإِبطال الشِّرك.
المفردات:
(أَدُلُّكُمْ): أَرشدكم.
(جَنَّاتِ عدن): جنات إقامة.
(وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا): أَي: ولكم من النعم نعمة أُخرى تحبونها في الدنيا.
التفسير
10 -
جاء في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أَرادوا أَن يسأَلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أَحب الأَعمال إِلى الله عز وجل فأَنزل الله هذه السورة ومن جملتها هذه الآية.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا هل أرشدكم إِلى تجارة عظيمة الشان تنجيكم وتخلصكم من عذاب شديد الأَلم يوم القيامة.
11 -
استئناف بياني كأَنه قيل: ما هذه التجارة الجليلة الشأن؟ دلَّنا عليها، فقيل:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} أَي: هذه التجارة هي أَن تثبتوا على الإِيمان بالله ورسوله وتجاهدوا في سبيل الله بأَموالكم وأَنفسكم، والمضارع في الموضعين (تُؤْمِنُون، وَتُجَاهِدُونَ) كما قال المبرد وجماعة: خبر بمعنى الأَمر، أَي: آمنوا وجاهدوا، ويؤَيده قراءَة بوقوعها (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) أَي: ذلكم ما ذكرته وأَرشدكم إِليه من الإِيمان والجهاد، خيَّر لكم على الإِطلاق أَو من أَموالكم وأَنفسكم.
(إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ): أَي: إِن كنتم من أَهل العلم؛ إِذ الجهلة يعتد بأَعمالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل إِن كنتم تعلمون أَنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ؛ لأَنكم إِذا علمتم ذلك واعتقدتم أَحببتم الإِيمان والجهاد فوق ما تحبون أَموالكم وأَنفسكم وتخلصون وتفلحون.
12 -
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أَي: آمنوا وجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم ذنوبكم - فيغفر جواب للأَمر المدلول عليه بلفظ الخير في قوله - تعالى -: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) ويجوز أَن يكون التقدير: إِن تؤْمنوا وتجاهدوا في سبيل الله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأَنهار (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً) أَي: طاهرة زكية مستلذة وهذه إِشارة إِلى حسنها بذاتها، وقوله - تعالى -:(فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إِشارة إِلى حسنها باعتبار محلها (ذَلِكَ) أَي: الجزاء الذي ذكر من المغفرة وما عطف عليها (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز بعده.
13 -
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} :
أَي: ولكم أَيها المؤمنون المجاهدون إِلى ما ذكر من النعم من المغفرة والرضوان في الآجلة نعمة أَخرى عاجلة تحبونها ثم فسرها بقوله: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أَي: عاجل وهو فتح مكة، وعطف (وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)؛ لأَنه خبر في معنى الأَمر كما قدمنا، كأَنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبتكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك.
المفردات:
(الْحَوَارِيُّونَ): أَصفياءُ عيسى وخواصه.
(فَأَيَّدْنَا): فقوينا.
(ظَاهِرِينَ): غالبين ومنتصرين.
التفسير:
14 -
يقول الله تبارك وتعالى آمرا عباده المؤمنين أَن يكونوا أَنصار الله في جميع أَحوالهم بأَقوالهم وأَفعالهم وأَنفسهم وأَموالهم كما كان الحواريون أَنصار الله حين قال لهم عيسى: من أَنصاري إِلى الله؟ والحواريون: هم أَتباع عيسى وأَصفياؤه وأَول من آمن به، قيل: كانوا اثني عشر رجلًا فوقهم في البلاد وبعثهم دعاة إِلى الناس في البقاع المختلفة، واشتقاق الحواريين من الحَوَرِ وهو البياض؛ لأَنه كان ملبسهم، وقيل: لأَنهم كانوا قصارين يبيضون الثبات، وقيل: لنقاءِ ظاهرهم وباطنهم، وقيل: الحواريون هم المجاهدون.
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أَيام الحج: (مَنْ رجل يؤويني حتى أَبلغَ رسالةَ ربي؟) حتى قبض الله له الأَوس والخزرج من أَهل المدينة فبايعوه على أَن يمنعوه من الأَسود والأَحمر إِن هو هاجر إِليهم بمن معه من أَصحابه، ووفوا له بما عاهدوا الله عليه، ولهذا سماهم الله ورسوله الأَنصار وصار ذلك علما عليهم رضي الله عنهم وأَرضاهم، وقوله - تعالى -:(فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) أَي: لَما بلَّغ عيسى عليه السلام رسالة ربه إِلى قومه وآزر من آزره من الحواريين اهتدت طائفة من بني إسرائيل مما جاءَ به وصَلت، فخرجت عما جاءَ به وجحدوا نبوته ورموه وأُمه بالعظائم والأَباطيل وهم اليهود - عليهم لعنة الله المتتابعة إِلى يوم القيامة - ونحلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أَعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقا وشيعا، فمن قائل: إِنه ابن الله، ومن قائل: إِنه ثالث ثلاثة - الأَب والابن وروح القدس - وقوله تعالى - (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) أَي: فنصرنا وقوينا الذين آمنوا بعيسى على عدوهم الذين كفروا به فصاروا بتقويتنا ومساعدتنا غالبين منتصرين قال زيد بن علي: ظاهرين بالحجة والبرهان.
وقيل المراد: (فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) أَي: فآمنت طائفة من بني إِسرائيل بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت به طائفة أُخري، فأَيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين، والله أَعلم.