الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البشر، قال تعالى:(يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ)، ومنها طوائف كريمة محبة للخير، وأُخرى دنيئة خسيسة محبة للشر.
(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)، ولا يعرف أَنواعهم وأَصنافهم إِلَاّ الله ومن أَطلعه الله على ذلك من عباده.
وأَكثر الفلاسفة ينكرون الجن، ونفي وجودهم كفر صريح؛ لأَنه الله قد ذكرهم في القرآن الكريم في أَكثر من موضع، ومنه ما هو مذكور في هذه السورة الكريمة.
وجهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين، وإِن اختلفوا في حقيقتهم ويسمونهم بالأرواح السفلية.
3 - الشياطين:
ذهب قوم إِلى أَنهم ولد إِبليس - عليه اللعنة - ولا يموتون إلَّا مع أَبيهم، فهم على هذا القول جنس مستقل، أَشرار بجبلتهم وطبعهم.
وذهب آخرون إِلى أَن الشياطين هم الأَشرار والمرَدة من الجن، ويطلق اسم الشيطان على الشرير المتمرد من الإِنس أَيضًا، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ولكل وجهة. والله أَعلم.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(أُوحِيَ): الوحي: بمعنى الإِيحاء لغة: الإِعلام بالشيء على وجه الخفاء والسرعة، ومعناه في الشرع: إِعلام الله لأَنبيائه ما يريد إِبلاغه إِليهم من الشرائع والأَخبار بطريق خفي، ويكون بطريق الإِلقاءِ في القلب دفعة أَو بالكلام من وراءِ حجاب بحيث يسمع النبيُّ كلَامَ الله ولا يراه، أَو بإِرسال الملك إِلى رسول وهو المراد هنا.
(نَفَرٌ): جماعة ما بين الثلاثة إِلى العشرة.
(عَجَبًا): بديعًا مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه.
(الرُّشْدِ): الصواب، وقيل: التوحيد والإِيمان.
(جَدُّ رَبِّنَا): عظمته وجلاله، أَو ملكة وسلطانه، أَو غناه.
(سَفِيهُنَا): السفه: خفة العقل، أَو الحمق والجهل.
(شَطَطًا): الشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره.
التفسير
1 -
أَي: قل لهم يا محمد: إِن الله أَخبرني على لسان جبريل عليه السلام أَن نفرًا من الجن قد أَلقوا بسمعهم إِلى القرآن الذي كنت أَتلوه، فلما سمعوه قالوا: إِنا سمعنا كلامًا جليل القدر عظيم الشأن ليس على نمط غيره من الكتب، بديعًا في حسن نظمه ودقة معانيه.
2 -
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)} :
أي: وهو مع علو منزلته يدل ويرشد إِلى الطريق الحق والصراط المستقيم، ويدعو إِلى الإِيمان بالله وتوحيده فبادرنا فور سماعنا له باعتقاد ما جاءَ به، ولرسوخ ذلك في قلوبنا، واطمئناننا إِلى أَنه منزل من عند ربنا لن نعود إِلى الإِشراك بالله أَبدًا، بل نفرده وحده بالأُلوهية والربوبية.
3 -
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} :
الجد معناه: العظمة، وفيه الحديث:"كان الرجل إِذا قرأَ سورة البقرة جدَّ فينا" أَي: جل قدره.
أَي: وأَنه - سبحانه - تعالت عظمته وتسامى جلاله قد تنزه عن أَن يتخذ صاحبه أَو ولدًا يحتاج إِليهما ويستأنس بهما؛ فالشأن فيهما ذلك، إِذ الرب - جل شأنه - يتعالى عن هذا وأَمثاله كما يتعالى ويتعاظم ويتنزه عن الأَندادِ والنظراءِ.
4 -
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)} :
أَي: وأن الأَحمق فينا والجاهل منا - وهو الذي خف عقله وذهب صوابه - كان يقول على الله قولا شططًا بعيدًا عن الحق والصدق والصواب؛ إِذ قد أَشرك به، ونسب إِليه الصاحبة والولد والله - سبحانه - منزه عن ذلك. وقيل: المراد من السفيه هو إِبليس، أَو كل ما رد من الجن كافر بالله.
5 -
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} :
أَي: وأَننا حسبنا وظننا أَن أَحدًا من الإِنس والجن لن يجتريء على الله ويفتري عليه وينسب إِليه الصاحبة والولد كذبًا، فلما سمعنا القرآن كانوا يظنون أَن إِبليس أَو المتمرد من الإِنس والجن صادق في نسبه الصاحبة والولد لله، فلما سمعوا القرآن أَيقنوا أَنَّه كان كاذبًا في ذلك فسموه سفيهًا
وهنا يجمل بنا أَن نتعرض لاجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بالجن ورؤيته لهم لوثوق الصلة بينه وبين ما جاءَ في هذه السورة فنقول:
اختلفت الروايات في أَنه صلى الله عليه وسلم رأَى الجن وكلمهم على قولين:
فقالوا الأَول: وهو مذهب ابن عباس، أنه عليه الصلاة والسلام ما رآهم: قال: إِن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فيسمعون أَخبار السماءِ ويلقونها إِلى الكهنة، فما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حرست السماءُ وحيل بين الشياطين وبين خبر السماءِ وأُرسلت الشهب عليهم فرجعوا إِلى إِبليس - عليه اللعنة - فأَخبروه بالقصة، فقال: لا بد لهذا من سبب، فاضربوا مشارق الأَرض ومغاربها واطلبوا السبب، فوصل جمع من أُولئك الطالبين إِلى تهامة فرأَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأَصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا والله هو الذي حال بينكم وبين حال السماءِ، فهناك رجعوا إِلى قومهم وقالوا: يا قومنا (إِنَّا سمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) فأَخبر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك الغيب وقال: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) كذا وكذا، قال: وفي هذا دليل على أَنه صلى الله عليه وسلم لم ير الجن، إِذ لو رآهم لمَا أُسند معرفة هذه الواقعة إِلى الوحي، فإِن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إِثباته إِلى الوحي.
والقول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود: أَن الرسول صلى الله عليه وسلم أَتاه داعي الجن فذهب معه وقرأَ عليهم القرآن، وأَن ابن مسعود سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انطلق به وبغيره بربه آثار الجن وآثار نيرانهم.
وطريق التوفيق بين المذهبين أَن ما ذكر ابن عباس وقع أَولًا، فأَوحى الله إِلى رسوله بهذه السورة، ثم أُمر صلى الله عليه وسلم بالخروج إِليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود.
هذا، وفي أمر الله رسوله أَن يظهر لأَصحابه ما أَوحاه الله إِليه به في واقعة الجن فوائد: منها أَن يعرف الصحابة أَنه عليه الصلاة والسلام كما بعث إِلى الأَنس بعث إِلى الجن، وأَن تعلم قريش أَن الجن مع تمردهم لَمَّا سمعوا القرآن عرفوا إِعجازه فآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وفي هذا تعريض بهم لأَنهم يعرفون ذلك فإِن القرآن الكريم قد نزل بلغتهم ولم يستطيعوا معارضته والإِتيان بمثله أَو بسورة من مثله مع تحديهم بذلك، ولكنهم - لظلمهم بآيات الله يجحدون، ومنها أَن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيله إِلى الإِيمان به (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ)(1)، ومنها أَن الجن يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
المفردات:
(يَعُوذُونَ): يلتجئون، من العَوْذ، وهو الالتجاء إِلى الغير والتعلق به.
(رَهَقًا): الرهق: غشيان المحارم وإِتيانها.
(1) من الآية 31 من سورة الأحقاف.
(لَمَسْنَا السَّمَاءَ): اللمس: المس، فاستعير للطلب، لأَن الماسَّ طالب متعرف أَي: طلبنا بلوغ السماء.
(شُهُبًا): جمع شهاب، وهو النجم المحرق.
(رَصَدًا): راصدًا ومستعدًّا ومترقبًا له.
التفسير:
6 -
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} :
قيل: إن الرجل من العرب في الجاهلية كان إِذا أَمسى في قفر من الأَرض قال: أَعوذ بسيد هذا الوادي أَو بعزيز هذا المكان من شر سفهاءِ قومه، يريد الجن وكبيرهم، فيبيت في جواره حتى يصبح.
قال مقاتل: كان أَول من تعوذ من الجن قوم من أَهل اليمن ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاءَ الإِسلام عاذوا بالله وتركوهم.
أَي: وأَنه كان رجال من الإِنس يلجأُون ويستجيرون بالجن رجاء رعايتهم وأَملًا في حفظهم من شرور سفهاءِ الجن ومردتهم فزاد الإِنسُ الجنَّ بسبب استعاذتهم بهم تكبرًا وصلفًا وعتوًّا حيث قالت الجن: سُدْنا الإِنس والجن، أَو أَن الجن زادوا الإِنس بسبب هذا الالتجاءِ من الإِنس زادوهم فرقًا وخوفًا، بل زادوهم كفرًا بالله، إِذ الاستعاذة بغير الله كفر.
7 -
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)} :
أَي: وقال الجن بعضهم لبعض: إِن كفار الإِنس حسبوا وظنوا كما حسبتم - يا معشر الجن أَن الله - سبحانه - لن يبعث أَحدًا بعد الموت، وأَنهم كانوا يقولون:(إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(1) فقد أَنكروا البعث كما أَنكرتموه أَنتم، أَو أَن الإِنس ظنوا كظنكم أَن الله لن يرسل رسولًا إِلى أَحد من العباد، وقد أَخطأَ الإِنس وأَخطأتم معشر الجن، فالله قد أَرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأَنزل عليه هذا القرآن الكريم.
(1) من الآية 29 من سورة الأنعام.
8 -
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)}
أَي: وأَننا طلبنا بلوغ السماءِ واستماع كلام أَهلها فأَصبناها وصادفناها ملئت بالحفظة من الملائكة الشداد الذين يحرسونها وبالشهب والنجوم المحرقة التي كانت تنقض على الجن عند استراق السمع، قال بعضهم: إِن رمي الجن بالشهب كان بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم وهو إِحدي آياته، والصحيح أَن ذلك كان قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام فلما بعث زاد ذلك إِنذارًا بحاله وتنبيهًا إِلى إِرساله، أَي: زيد في حرس السماءِ حتى امتلأَت من الملائكة والنجوم كما يشعر بذلك قوله تعالى: (مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا):
قال ابن عباس: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أَصحابه إِذْ رُمِيَ بنجم فاستنار، فقال:"ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية"؟ قالوا: كنا نقول: يموت عظيم، أَو يولد عظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنها لا ترمي لموت أَحد ولا لحياته
، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إِذا قضى أَمرًا في السماءِ سبَّح حملة العرش ثم سبَّح أَهل كل سماءٍ حتى ينتهي التسبيح إِلى هذه السماءِ، ويستخبر أَهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أَهل كل سماءٍ حتى ينتهي الخير إِلى هذه فيتخطف الجن فيرمون؛ فما جاءُوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه، وقال ابن قتيبة: كان (الرمي) ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث، وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأَحوال فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت (الجن) من ذلك أَصلًا.
9 -
أي: وأَنا كنا قبل ذلك نتخذ من السماءِ مواضع للسمع نجدها خالية من الحرس والشهب، أَو صالحة للترصد والاستماع، فالآن ملئت المقاعد والمواضع كلها بالملائكة والشهب فمن يحاول أَن يقترب للاستماع يجد له شهابًا قد أُرصد له ليرجم به وقال مقاتل: رميًا بالشهب ورصدًا من الملائكة.
(دُونَ ذَلِكَ) أَقل منهم صلاحًا، أَو غيرهم في الصلاح.
(طَرَائِقَ قِدَدًا): طرائق: مذاهب، قددًا: جمع قِدَّة، من قَدَّ، كالقطعة من قَطَع أَي: كنا ذوي مذاهب مختلفة.
(نُعجِزَ اللَّهَ): نفوته ونتفلت منه.
(بَخْسًا) البخس: نقض الشيءِ على سبيل الظلم.
(رَهَقًا): ظلمًا ومشقة عليه بالزيادة في آثامه وسيئاته.
(الْقَاسِطُونَ): الجائرون والمائلون عن طريق الحق.
(تَحَرَّوْا): قصدوا وتوخَّوْا طريق الحق والصواب.
التفسير
10 -
أي وأَننا - معشر الجن - لا نعلم ما الله صانع بأَهل الأَرض بسبب امتلاءِ السماء بالحرس والشهب وانقضاضها وتهافتها، وتغير الحال عما أَلفناه، أَحَدَثَ ذلك لعذاب وشر يريد - سبحانه - أن ينزله بأَهل الأَرض؟ أَم لخير يريده الله لهم؟ أَو أَننا لا ندري أَن إِرسال محمد الذي من أجله منع استراقنا للسمع وقعودنا في مواضع في السماءِ، أَيكون ذلك نذير عذاب لهم، فإِنهم قد يكذبونه فيهلكونه بتكذيبه كما هلك من كذَّبوا رسلهم من الأُمم السابقة أَم يكون ذلك بشير خير لهم فإِنهم قد يؤمنون به ويهتدون، ولا يخفى ما في قول الجن:(أَشَرٌّ أُرِيدَ) من الأَدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إِلى الله عز وجل كما صرحوا به في الخير والرشد وإِن كان فاعل الكل هو الله - تعالى - فقد جمعوا بين جم الأَدب وحسن الاعتقاد.
11 -
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} :
أَي: وأَنا منا الأَبرار المتقون، ومنا قوم دون ذلك في الصلاح وهم المقتصدون غير الكاملين فيه، أَو: ومنا سوى ذلك وهم الطالحون الفاسدون الذين ليس لهم صلاح وهم الكافرون.
(كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) أَي: كنا في اختلاف أَحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا ذوي مذاهب متفرقة؛ فالطرائق - وقد وصفت بالقِدَد - تدل على معنى التقطع والتفرق والاختلاف كأَن كل طريق لامتيازها مقطوعة عن غيرها.
12 -
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} :
أَي: وأَننا علمنا وتيقَّنَّا بالاستدلال والتفكر في آيات الله وبما شاهدنا من قدرته أَننا في قبضته وقهره، ولن نعجزه في الأَرض مع بسطها وسعتها وكثرة فجاجها وتشعب طرقها، فلا نفوته إِذا أَراد بنا أَمرًا أَينما كنا فيها، ولن نستطيع أَن نفلت منه عز وجل هربًا إلى السماء، وإِن هربنا فلن نخلص منه؛ وذلك لشدة قدرته وعظيم سلطانه.
13 -
هذا عود ورجوع من الجن إِلى تذكر نعمة الله عليهم بالإِيمان به واهتدائهم بسماع آيات القرآن وافتخارهم بذلك، وفي الحق إنه لمفخرة وشرف رفيع لهم.
أَي: وأَننا حين سمعنا القرآن العظيم اهتدينا به وآمنا بالله الذي أَنزله، وصدقنا محمدًا صلى الله عليه وسلم في رسالته من غير تردد ولا تريث (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا) أَي: فمن يصدق بالله فإِنه لا يخشى نقصانًا من حسناته، وإِنما يجازي عليها كلها الجزاءَ الأَوفى، ولا يخاف - كذلك - أَن يرهق ويشق عليه بالزيادة في آثامه وسيئاته أَو تغشاه ذلة، فَعَدْلُ الله يأتي ذلك قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)(1).
15،14 - {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ (2) فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}:
أَي: وأننا - معشر الجن بعد سماعنا القرآن - مختلفون ومتفرقون؛ منا من انقاد وأَسلم وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ومنا من جار وعدل عن الحق، وحاد عن الطريق القويم.
وقد رُوي عن سعيد بن جبير رحمه الله أَن الحجاج بن يوسف الثقفي - قال لسعيد حين أَراد قتله: ما تقول فيَّ؟ قال سعيد: قاسط عادل، فقال القوم: ما أَحسن ما قال؛ حسبوا أَنه يصفه بالقِسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة؛ إِنه سماني ظالمًا مشركًا، وتلا لهم قوله تعالى:(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)، وقوله - عز شأنه -:(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ).
(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) أَي: فمن انقاد واختار الإِسلام واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام فأولئك الذين قصدوا الصواب والحق، وتوخَّوْا سبيل النجاة حتى اهتدوا إِلى رشد عظيم لا يبلغ كنهه ومداه إِلا الله.
(1) الآية 40 من سورة النساء.
(2)
من قسط قسطًا بالفتح، وقسوطًا: إِذا جار وعدل عن الحق، والقسط بالكسر، والإِقساط: العدل.
(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) أَي: وأَما الكافرون الجائرون البعيدون عن الحق والإِيمان فكانوا في سابق علم الله الأَزلي، كانوا حطبًا للنار وقودها الناس، والحجارة؛ تسعر بهم كما تسعر بكفرة الإِنس.
المفردات:
(غَدَقًا): كثيرًا.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ): لنعاملهم معاملة المختبر الممتحن لنعلم علم ظهور ما يكون من أمرهم: أَيكفرون أَم يشكرون.
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ): هو من قولهم: أَعرضت عنه، بمعنى أَضربت وتوليت وصددت عنه، أَي: أخذت عَرْضًا، أَي: جانبًا غير الجانب الذي هو فيه.
(يَسْلُكُهُ) يدخله.
(صَعَدًا): شاقًّا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
(كَادُوا): قاربوا.
(لِبَدًا): جمع لِبدة، وهي الجماعات، شبهت بالشيءِ المتلبد المتراكم بعضه فوق بعض، من ازدحامهم عليه.
(لَنْ يُجِيرَنِي): لن يمنعني ولا يغيثني من الله أَحد.
(مُلْتَحَدًا): ملجأً وحرزًا.
التفسير
17،16 - {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}:
أَي: وأَن لو سار الكفار من الجن والإِنس معتدلين دون ميل أَو جور على الطريقة المثلى والنهج القويم والصراط السوي وهو ما جاءَ به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه لأَسقاهم الله المطر الغدق الكثير، والغيث العميم الذي يحيي الله به نفوسهم، وينبت لهم به الزرع، ويدر الضرع، ويغمرهم في دنياهم بوافر النعم وجليل الخيرات، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ): لنعاملهم معاملة المختبر لنعلم ما يكون من أَمرهم: أَيكفرون أَم يشكرون، أَي: لنعلم ذلك حاصلًا وواقعًا منهم بعد أَن علمناه قديمًا أَزلا، حتى لا يكون للناس على الله حجة، بعد أَن يظهر ذلك للخلائق، والقول بإِغداق الخير عليهم لاستقامتهم مصداقه قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)(1)، وقوله:(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)(2).
(1) من الآية 96 من سورة الأَعراف.
(2)
من الآية 66 من سورة المائدة.
وقيل المعنى: وأَن لو استقام الجن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل سماع القرآن ولم ينتقلوا عنها إِلى الإِسلام واستمروا على كفرهم لوسعنا عليهم الرزق، وأَغدقنا عليهم من الخير استدراجًا لهم وإِمهالًا وإِملاءً حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} (1) وقال - سبحانه -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} (2).
والرأَي الأَول أَولى وأَحق بالاعتبار لأَن كلمة (الطريقة) المعرَّفة بالأَلف واللام إِنما ترجع إِلى الطريقة المعروفة المعهودة وهي طريقة الهدى والرشاد. (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا).
أَي: ومن يتولَّ ويَنْأَ عن عبادة ربه ويتجافَ عنها فيجعلها في جانب وهو في جانب يدخله الله في عذاب يعلو طاقة ذلك الشقي المعذب ويشق عليه ويغلبه فلا يطيقه.
18 -
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} :
قال مجاهد: كان اليهود والنصاري إِذا دخلوا بِيَعَهُمْ وكنائسهم أَشركوا بالله فيها؛ وذلك أَن النصارى تقول: المسيح ابن الله، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فأَمر الله عز وجل نبيَّه والمؤمنين أَن يخلصوا العبادة لله وحده، وأَلَاّ يدعوا مع الله أَحدًا إِذا دخلوا المساجد كلها، هذا وإِن الأَرض جميعًا مساجد للرسول صلى الله عليه وسلم ولأَمته، فقد ورد في حديث جابر عن عبد الله الذي أَخرجه البخاري:"وجعلت لي الأَرض مسجدًا وطهورًا، فأَيما رجل من أَمتي أَدركته الصلاة فليصل" وعلى هذا قال: فالمساجد جمع مسجِد - بكسر الجيم - وقيل: المراد بها الأَعضاء السبعة التي يسجد عليها، واحدها مسجَد - بفتح الجيم -
(1) الآيات - 33،34، 35 من سورة الزخرف.
(2)
الآية 178 من سورة آل عمران.
وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه، وروي أَن المعتصم سأَل أَبا جعفر محمد بن علي ابن موسى الكاظم رضي الله عنهم عن ذلك فأَجاب بما ذكر، وقيل: المراد المساجد السجدات، على أَن المسجَد - بفتح الجيم - مصدر ميمي، قال الحسن؛ من السنة إِذا دخل الرجل المسجد أَن يقول: لا إِله إِلَاّ الله: لأَن قوله: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) في ضمنه أَمر بذكر الله ودعائه.
وقيل المعنى: أَفردوا المساجد لذكر الله ولا تتخذوها هزوًا ومتجرًا ومجلسًا ولا طرقًا، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبًا، وفي الصحيح:"من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردَّها الله عليك؛ فإِن المساجد لم تبن لذلك".
هذا، وقد روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم كان، إِذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى وقال:(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) اللهم أَنا عبدك وزائرك، وعلى كل مَزُور حق، وأَنت خير مَزوُر، فأَسأَلك برحمتك أَن تفك رقبتي من النار" وإِذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال: "اللهم اصْبُبْ عليَّ الخير صبًّا، ولا تنزع عني صالح ما أَعطيتني أَبدًا، ولا تجعل معيشتي كدًّا، واجعل لي في الأَرض جَدًّا) أَي: عِنًى وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة المساجد لأَن كل أَحد يسجد إِليها، أَي: يتخذها قبلة له.
19 -
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} :
أَي: وأَن الله أَوحى إِلى رسوله أَنه حين قام صلى الله عليه وسلم عابدًا ربَّه عز وجل في صلاة الفجر في بطن نخلة، أَو في سوق عكاظ يؤم أَصحابه كاد الجن يلتصقون يركب بعضهم بعضًا تزاحمًا وتراكمًا عليه؛ متعجبين مما رأَوه من عبادته واقتداء الصحابة به قائمًا وراكعا وساجدًا، وإِعجابًا بما تلاه من القرآن العظيم، لأَنهم رأَوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، وقيل المراد: أَن الرسول لما قام يعبد الله تلبدت وتجمعت الإِنس والجن، أَو المشركون، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءَ به ويطفئوا نور الله، فأَبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وينصره ويظهره على من عاداه.
20 -
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)}
سبب نزولها: أَن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنك جئت بأَمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن بخيرك؛ فنزلت. فأَمر الله رسوله أَن يجيبهم على قولهم هذا: بأَن ما ترونه من عبادتي لله ورفضي الإِشراك به ليس مما يتعجب منه، وإِنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكًا، أَو أَن يقول لمن تظاهروا وتمالئوا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءَ به:(إِنَّمَا أَدْعُو) يريد ما جئتكم بأَمر مستنكر ولا مستهجن إِنما أَعبد ربي وحده (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) وليس ذلك مما يوجب اجتماعكم على مقتي وعداوتي.
21 -
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} :
أَي: قل يا محمد في محاجة هؤُلاءِ وجدالهم: إِني لا أَقدر أَن أضركم ولا أن أَدفع عنكم ضرًّا، ولا أَستطيع أَن أَجلب لكم نفعًا، إِنما الضار والنافع والمرشد والمُغوي هو الله عز وجل وأَن أَحدًا من الخلق لا قدرة له على ذلك.
23،22 - {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)}:
أَي: قل لهم يا محمد: إِنَّني لن يستطيع أَحدٌ أَن يأخذني في جواره ويعيذني ويمنعني من الله إِن أَراد بي أَمرًا وهذا لأَنَّهُمْ قالوا له: اترك ما تدعو إِليه ونحن بخيرك. وإِنني لن أَظفر بملجأ أَركن إِليه أَو معاذٍ أَحتمي وأَلوذ به من غير الله؛ إِذ ملجأَ ولا منجى منه إِلَاّ إِليه، وأَن المخْلصَ والنجاة لا تكون إِلا بأَن أَتبع ما أَمرني به ربي، فأُبلغكم ما أرسلت به إِليكم ولا أَكتم شيئًا كلفني به - سبحانه - وأَوجب عليَّ أَن أُسْمِعَه لكم من غير زيادة أَو نقصان أَمَّا عياذي بكم والتجائي إِليكم - كما تؤملون وترجون - أَو اعتمادي على نفسي في الفِرار من جزاءِ ربي وحسابه فإِنه لا جدوى منه ولا نفع فيه، وقيل المراد: قل لا أَملك لكم إِلَاّ أَن أُبلغكم رسالة ربي، أَما الكفر والإِيمان فلا أَملكهما. (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أَي: ومن يتمرد على الله ويَأبَ الإِيمان به ربًّا
وبمحمد رسولا فإن له لا لغيره - من الطائعين الأَتقياء - له عذاب جهنم يخلد ويبقى فيه لا ينفك عنه ولا يزول ولا يبيد.
المفردات:
(نَاصِرًا): معينًا.
(أَمَدًا) زمانًا بعيدًا أَو قريبًا.
(الْغَيْبِ) ما خفي واستتر.
(ارْتَضَى): اختار واصطفى.
(يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا): الرصد: الحفظة.
(أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ): علمه علمًا تامًّا.
(وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا): ضبط كل شيءٍ معدودًا محصورًا.
التفسير
24 -
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)} :
هؤُلاءِ الكفار لا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم ويستقلُّون عددهم، حتى إِذا رأَى هؤُلاءِ المشركون ما تهددهم الله وتوعدهم به من صنوف العذاب وفنونه في الآخرة، أَو من خذلانهم وهزيمتهم في الدنيا - كما حدث في غزوة بدر الكبري - فسيتبين ويظهر لهم من هم الأَضعف ناصرًا ومعينًا وأَقل نفرًا وجندًا وعددًا؟ هل هم أَم المؤمنون بربهم المصدقون برسالة نبيَّهم؟ لا شك ولا مرية َأن الكافرين لا وليّ ولا ناصر ولا شفيع لهم، قال تعالى:(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)(1) وأَنهم هم الذين ينصرف وينفض عنهم أَهلوهم وذووهم يوم القيامة.
أما المؤمنون فلهم في الآخرة العزة والكرامة والكثرة قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (2)، والملك القدوس - جل شأَنه - يسلم عليهم، قال تعالى:(سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(3) ولهم عز النصر واجتماع الشمل وعلوّ الشأن.
25 -
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)} :
عندما سمع المشركون ما نزل في الآية السابقة قالوا - إِنكارًا له واستهزاءً به: متى يكون ذلك الموعود؟ فأَمر الله رسوله أن يبلغهم - تبكيتًا لهم وتهديدًا - أَن العذاب الذي أُوعِدُوا وهُددوا به كائن وحاصل، لا محالة، وأَن وقوعه متيقن، أَما وقته وزمن نزوله بهم فلا أَعلم متي يكون: أهو حالٌّ متوقع في أَية ساعة أَم مؤجل قد ضرب الله له غاية وَوقَّتَ له زمنًا معينًا؟ إِن الله - سبحانه - قد استأَثر بعلم ذلك.
(1) من الآية 18 من سورة غافر.
(2)
من الآية 23 والآية 24 من سورة الرعد.
(3)
الآية 58 من سورة يس.
هذا، والأَمد: الزمان مطلقًا بعيدًا كان أَو قريبًا، والمراد به هنا: البعيد؛ بقرينة المقابلة بالقريب.
27،26 - {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)}:
أَي أَنه - سبحانه - هو الذي يعلم كلَّ ما خفي واستتر؛ لأَنه خالق كل شيءٍ: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(1) ومن ذلك الغيب: العذاب والنكال الذي يقع عليهم ويلحق بهم، وَأنه - جل شأَنه - لا يطلع ولا يظهر على غيبه أَحدًا إِلا من يختاره ويصطفيه للنبوة والرسالة فيطلعه على بعض ما يريد سبحانه أَن يظهره له، لأَن الرسل عليهم السلام مؤيدون بالمعجزات ومنها الإِخبار عن بعض الغيبيات، قال تعالى - حكاية عن عيسى عليه السلام (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (2) وفي قوله تعالى:(إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) إِشارة إِلى إِبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأَنَّ أَصحابها أَبعد شيءٍ عن ارتضاء الله وأَدخل ما يكون في سخطه وغضبه.
روي أَن مسافر بن عوف قال لأَمير المؤْمنين على بن أَبي طالب رضي الله عنه لَمَّا أَراد لقاءَ الخوارج: يا أَمير المؤْمنين؛ لا تُسِرْ في هذه الساعة وَسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار، فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إِن سرتَ في هذه الساعة أَصابك وأَصاب أَصحابك بلاء وضر شديد، وإِن سرت في الساعة التي أَمرتك بها ظفرت وظهرت وأَصبت ما طلبت فقال عليّ رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أَن يكون كمن اتخذ من دون الله نِدًّا أَوضِدًّا، اللَّهم لا طير إِلَاّ طيرك ولا خير إِلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أَقبل على الناس فقال: أَيها الناس: إِياكم وتَعَلُّمَ النجوم إِلا ما تهتدون به في الظلمات البر والبحر، وإِنما المنجم كالساحر، والساحر
(1) الآية 14 من سورة الملك.
(2)
من الآية 49 من سورة آل عمران.
كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أَنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأَخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة (النهروان) الثابتة في الصحيح لمسلم، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أَمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل: سار في الساعة التي أَمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البدان ثم قال: يا أَيها الناس: توكلوا على الله وثقوا به؛ فإِنه يكفي عمن سواه (يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، أَي: فإِذا أَراد الله إِظهار شيءٍ من غيبه على رسوله فإِنه يحيط الرسول إِحاطة تامة من جميع جوانبه بحرس وحفظة من الملائكة يحفظونه من تعرض الجن لما يريد إِطلاعه عليه؛ لئلا يسترقوه ويهمسوا به إِلى الكهنة قبل أَن يبلغه الرسول، وذلك ليصل الوحي إِلى الناس خالصًا من تخليط الجن وعبثهم.
28 -
أي: أَخبرنا وأَنبأنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أَن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق، وأَنه حفظ كما حفظوا من الجن، أَو ليعلم النَّاس أَن الرسول والرسل قبله عليهم السلام قد أَبلغوا رسالات ربهم كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان، أَو ليعلم الله أَن الرسل قد أَبلغوا الرسالة وأَدوا الأَمانة كاملة لم يكتموا منها شيئًا، أَي: ليعلم ذلك مشاهدًا وحاصلا وواقعًا كما علمه غيبًا وأَزلًا في علمه القديم.
(وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ): أَي: علم - سبحانه - بما عند الرسل ظاهرًا وباطنًا من الأَحكام والشرائع وغير ذلك لا يفوته منها شيءٌ ولا ينسى منها حرفًا؛ فهو المهيمن عليها والحافظ لها (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) أَي: ضبط كل شيءٍ ضبطًا تامًّا لا يعتريه خلل ولا يناله نقص، أَحصاه - سبحانه - معدودًا محصورًا، وذلك مثل القطر والمطر والرمال وورق الأَشجار وزيد البحار وأَنفاس خلقه وغير ذلك مما نعلمه ومما لا نعلمه، ومَنْ هذا شأنه كيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ إِنَّه - سبحانه - المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيءٍ لا تأَخذه سنة ولا نوم.