الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المنافقون
مدنية وآياتها إحدي عشرة آية
صلتها بما قبلها:
جاءَت هذه السورة بعد سورة الجمعة التي ذكر فيها المؤمنون؛ لأَنها تحكي أَحوال المنافقين الذين هم أَعداء المؤمنين، أَخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأَوسط بسند حسن عن أَبي هريرة قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأَ في صلاة الجمعة سورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية سورة المنافقون فيقرع بها المنافقين).
وقال أَبو حيان في مجيئها بعدها: لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلًا من المنافقين، واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالمِيرَة، إِذ كان الوقت وقت مجاعة، جاءَ ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أَهل الإِيمان، وأَتبع قبائح أفعالهم بقبائح أَقوالهم.
مقاصد السورة:
اشتملت سورة (المُنافِقُونَ) على تكذيبهم في دعوى الإِيمان، وفي أَيْمَانِهم التي أَيدوا بها زعم إِيمَانهم، وما هم إِلا كافرون في الحقيقة صادون عن سبيل الله، وبينت أَنهم آمنوا ثم كفروا مُصِرِّين على كفرهم فطبع الله على قلوبهم وأَغلقها عن قبول الحق.
وبينت أَن مظهرهم يخالف مخبرهم، فإِن رأَيتهم أَعجبتك أَجسامهم وحسبت أَنهم أَهل نجدة وهمة وصدق، ولكنهم في الحقيقة جبناء يحسبون كل صيحة عليهم، فيجزعون لها، وبينت أَنهم هم العدو وحذرت الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وبينت أَنهم لا يهمهم ما يثار ضدهم من ربهم من النفاق، فهم إِذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لووا رءوسهم واستكبروا، وذكرت أَن الله - تعالى - لن يغفر لهم نفاقهم، سواء استغفر لهم الرسول أَو لم يستغفر لهم، وبينت أَنهم الذين يقولون:(لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّي يَنفَضُّوا) وأَنهم هم الذين يقولون: (لَئِن رَجَعْنا إِلَي الْمديِنَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وخُتمت السورة بنهي المؤمنين عن أَن تلهيهم أَموالهم وأَولادهم عن ذكر الله، وتحريضهم على أَن ينفقوا في سبيل الخير مما رزقهم الله، وأَن يعجلوا بذلك قبل أَن تأتيهم آجالهم فيندموا على عدم العمل لأَنفسهم قبل أَن يجيء أَجلهم.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(الْمُنَافِقُونَ): هم الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويخفون الكفر منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً): اتخذوها سترة لنفاقهم.
(فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ): فختم عليها بالكفر.
التفسير
1 -
سبب نزولها كما رواه البخاري بسنده عن زيد بن أَرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبَيّ بن سلول يقول: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" وقال: "لئن رجعنا إِلى المدينة ليخرجن الأَعز منها الأَذل" فذكرت ذلك لعمي، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأَرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عبد الله بن أُبي وأَصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فأَصابني همٌّ لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأَنزل الله عز وجل (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) إِلى قوله (هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إِلى قوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) فأَرسل إِليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"إِن الله قد صدقك" أَخرجه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح وقد رواه الترمذي عن زيد بن أَرقم برواية أُخرى، ومما جاءَ فيها أَنهم كانوا في إِحدي الغزوات، واختلف الأَنصار مع المنافقين لمنعهم الماءَ عن الأَنصار، فقال ابن أَبي ما قاله وهذه الرواية طويلة ومفصلة، وقد ذكرها القرطبي، فمن شاءَ قراءَتها فليرجع إِلى القرطبي وسواه، وحسب القاريء ما رواه البخاري ووافقه فيه الترمذي، وهو ما تقدم ذكره.
ويؤَخذ من ذلك أَن النفاق في الدين أَو في غيره مذموم، وقد جاءَ في الصحيحين عن أَبي هريرة أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"آيةُ المنافق ثلاث: إِذا حَدَّث كذَب، وإِذا وعَدَ أَخلَف، وإِذا ائتُمِن خَان" وعن عبد الله بن عمْرو أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلَةٌ منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَهَا إذا ائتمن خان، وإِذا حدثَ كذب، وإِذا عاهدَ غدر، وإِذا خاصَم فَجرَ".
قال الحسن: إِنما هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإِنذار للمسلمين، والتحذير لهم أَن يعتادوا هذه الخصال، شفقا أَن تفضي بهم إِلى النفاق، وليس المعنى أَن مَنْ بدرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أَنه منافق.
ونحن نقول: إِن المقصود مما جاءَ في هذين الحديثين، أَن لا يتصفوا بهذه الصفات أَو بعضها، فإِنها شيمة المنافقين وسجاياهم، وهي لا تليق بالمؤمنين ولا بأَخلاقهم الرفيعة، فمن اتصف بهذه الخصال أَو ببعضها فهو منافق من جهة الخلق لا من جهة العقيدة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "الْمُؤْمِنُ إِذَا حَدَّثَ صَدَقَ وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ وَفَّى".
ومعني الآية: إِذا جاءَكَ المُنَافقون - أَيها النبي - قالوا نعترف بأَنك رسول الله وتشهد بذلك، يريدون يشهادتهم هذه نفي النفاق عنهم، ودفعًا للشبه التي تحوم حولهم، والله يعلم إِنك لرسول الله كما قالوا بأَلسنتهم، والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون في ادعاء إِيمانهم، وكاذبون في أَن شهادتهم بأَلسنة توافق ما انطوت عليه قلوبهم.
وقال الفراء: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ بضمائرهم، فالتكذيب راجع إِلى الضمائر.
وهذا يدل على أَن الإِيمان تصديق بالقلب، وعلى أَن الكلام الحقيقي هو كلام القلب، ومن قال شيئًا واعتقد خلافه فهو كاذب: أهـ.
وتلخيصًا لما قيل فيه نقول: إِن قولهم نشهد إِنك لرسول الله صادق من جهة الواقع وكاذب بالنسبة لما في قلوبهم التي لا تشهد بذلك، فهم بشهادتهم هذه يكذبون على قلوبهم التي لا تشهد بذلك لكفرهم.
2 -
هذه الآية استئناف مبين لعادتهم في نفي الشبه عن أَنفسهم، حتى لا يؤاخذوا بقول أو عمل ضد المؤمنين ومن ذلك شهادتهم بأَنهم لم يقولوا ما نسب إِليهم، فالشهادة منهم في حكم اليمين، وقد أَفادت الآية أَن المنافقين اتخذوا أَيمانهم الكاذبة سترة ووقاية عما يتوجه إِليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أَو غير ذلك قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأَموالهم ودمائهم، وقال الآلوسي: ويجوز أَن يراد بأَيمانهم شهادتهم السابقة والشهادة وأَفعال العلم واليقين أَجرتها العرب مجرى القسم، وتلقتها بما يتلقى به القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، ونحن نقول: إِن الكلام السابق أَعم وأَشمل، فتدخل فيه الشهادة كسائر الأَيمان، فإِنهم لم يتخذوا الشهادة الكاذبة وحدها سترة لهم، بل جميع أَيمانهم.
والمعنى الإِجمالي للآية: اتخذ المنافقون أَيمانهم الكاذبة سترة ووقاية لهم من العقاب الذي يقتضيه ما نسب إِليهم، فصدوا من أَراد الدخول في الإِسلام أَو فعل الطاعة مطلقًا أَو أَعرضوا (1) عن الإِيمان الذي هو السبيل إِلى الله، إِنهم قبح ما كانوا يعلمون من النفاق وآثاره.
3 -
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} :
ذلك الذي حدث من المنافقين ضد الإِسلام والمسلمين، حاصل بسبب أَنهم آمنوا باللِّسَان ثم ظهر كفرهم بالقلب وتبين بما علم من قولهم: إِن كان ما يقوله محمد حقًّا فنحن حمير وقولهم في غزوة تبوك: أَيطمع هذا الرجل أَن تفتح له قصور كسرى وقيصر وغير ذلك، وأَصروا على النفاق، فختم الله على قلوبهم وأَغلقها على الكفر، فهم لا يفقهون عظمة الإِسلام وآثاره الجليلة في الدنيا والآخرة، فلذلك نافقوا وضلوا عن سواء السبيل، والله أَعلم.
المفردات:
(تُعْجِبُكَ): تروقك وتحسن في عينك.
(قَاتَلَهُمْ اللَّهُ): لعنهم وطردهم من رحمته.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ): كيف يصرفون عن الحق إِلى الباطل.
(1) لفظ "صد" يستعمل متعديا للمفعول كالمثال الأَول، أَو لازما بمعنى أَعرض كالمثال الثاني.
التفسير:
4 -
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ .. } الآية.
بعد أَن بين الله في الآيات السابقة أَن المنافقين لكاذبون؛ لأَنهم يقولون بأَلسنتهم ما ليس في قلوبهم حيث يضمرون الكفر ويظهرون الإِسلام، وأَنهم اتخذوا الحلف والقسم وقاية من قتل وسبي المسلمين لهم جزاءَ ما يظهر منهم، وهم مع ذلك قد منعوا غيرهم من الدخول في الإسلام ونفروهم منه وأَنهم قد بلغت أَفعالهم درجةً كبيرة من الإِساءَة يتعجب منها، وأَنهم انقلبوا ونكسوا على رءُوسهم فكفروا بعد إِيمان بعد ذلك أَبان الله سبحانه وتعالى بعض صفاتهم الخلقية والخلقية فقال:(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أَي: وإِذا نظرت إِلى هؤلاءِ المنافقين راقك منظرهم، واستحسنت هيأَتهم، وأَخذتك فصاحة أَلسنتهم وبلاغة حديثهم، وكان عبد الله بن أَبيّ رأس المنافقين في المدنية رجلًا جسيما صبيحًا فصيحا ذلق اللسان وقوم من المنافقين في مثل صفته، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه، ولهم جهارة المنظر وفصاحة الأَلسن فكان النبي عليه الصلاة والسلام ومن حضر يعجبون بأَجسامهم ويسمعون إِلى كلامهم.
وفي قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) ما يدل على أَنهم في حقيقة أَمرهم لا ينتفع بهم، والشأَن فيهم أَنهم ببسط أَجسامهم وذرابة أَلسنتهم أَهل لأَن يذودوا عن الإِسلام، ويدافعوا عنه في ساحة الوغى وميادين القتال مع قدرتهم على بيان ما أَنزل الله على رسوله تبليغا لغيرهم ودعوة لسواهم إِلى الإِسلام، ولكنهم لما نافقوا كانوا كالخشب المسندة التي لا تؤدي وظيفتها وما تصلح له من عمل في سقف أَو جدار أَو باب أَو نافذة إِلى غير ذلك من مظان الانتفاع ثم هي فوق ذلك عبء على سواها؛ لأَنها تلقي بثقلها على ما تستند إِليه، وهم بذلك لا يسمعون ولا يعقلون أَشباح بلا أرواح وأَجسام بلا أَحلام (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أَي: يظنون كل صوت عال واقع عليهم وضارٌّ بهم لجبنهم وهلعهم وللرعب والخوف الذي تمكن من قلوبهم فإِذا نادي مناد بصوت في العسكر إِبان الحرب أَو انقلتت دابة أَو أُنشد وطلب شيء قد ضاع من صاحبه ظنوا ذلك إِيقاعًا، وإِنزالًا للنكال بهم، وقيل: كانوا على
وجل وخوف من أَن ينزل الله فيهم ما يهتك أَستارهم ويكشف نفاقهم ويبيح دماءَهم وأَموالهم لكفرهم ونفاقهم.
(هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) أَي: هم وحدهم الذين تناهوا في العدواة وبلغوا فيها مبلغًا كبيرًا فخذ حذرك منهم، ولا تغتر ولا تنخدع بإسلام ظاهرهم؛ لأَن أَعدى الأَعداء العدو المداجي (1) الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداءُ الدويّ. (قَاتَلَهُمْ اللَّهُ) هذا دعاءٌ عليهم بالطرد واللعن والإِبعاد من رحمته - تعالى - وهو أَيضا تعليم للمؤمنين أَن يدعوا عليهم بمثل ذلك شريطة أَلا يكون اللعن لكافر أَو منافق بذاته خشية أَن يكون ممن كتب الله لهم الإِيمان وختم به حياتهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) هذا تعجيب من جهلهم وسفاهتهم أَي: كيف يُصرفون عن الحق مع معرفتهم له وتحقيقهم منه وقال ابن عباس: (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أَني يكذبون.
المفردات:
(يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ): يطلب لكم من الله الصفح عما بدر منكم من العصيان وفحش القول.
(لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ): أَمالوها تكبرًا وإِعراضًا أَو حركوها استهزاءً.
(1) المداجي: هو الذي يداري ويستر العدواة، يكاشرك: يبتسم لك.
(يَصُدُّونَ): يعرضون متكبرين، أو يمنعون سواهم.
(الْفَاسِقِينَ): الخارجين عن طاعة الله البالغين في الفسق غايته.
التفسير:
5 -
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
…
} الآية:
لَمَّا أَقسم رأس النفاق عبد الله بن أَبيّ بن سلول أَنه ما دعا قومه إِلى منع الإِنفاق على فقراءِ المسلمين حتى ينصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتدوا إِلى الكفر، وأَنه ما قال عند رجوعه إِلى المدينة: ليخرجنَّ الأَعز منها الأَذل، وقصد بالأَعز نفسه ومن على شاكلته من المنافقين، وعنى بالأَذل رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين، وقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أَن يكون قَدْ وَهِمَ، وأَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن أَرقم استيثاقا من كلامه (لَعلَّكَ غضبت عليه)؟ قال: لا قال: (فلعله أَخطأَ سمعك؟) قال لا قال: (فلعله شبه عليك)؟؟ قال لا فلما نزلت (إِذَا جَاءِكَ الْمُنَاِفقُونَ) لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا من خلفه فعرك أَذنه قال: (وفت أُذنك يا غلام إِن الله صدقك وكذب المنافقين) قيل لعبد الله بن أَبي بن سلول: لقد نزلت فيك آي شداد فاذهب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أَمرتموني أَن أُومن فآمنت وأمرتموني أَن أَزكي مالي فزكيت فما بقي إِلَّا أَن أَسجد لمحمد فنزلت: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ
…
) الآية:
والمعنى: وإِذا قيل لهذا المنافق وأَضرابه كالجد بن قيس، ومعتب بن قشير تعالوا وأَقبلوا تائبين متعذرين عما بدر منكم من سيء القول وسفيه الحديث - يطلب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه - جلت قدرته - أَن يصفح ويعفو عنكم أَبوا وأَمالوا رءُوسهم إِعراضًا واستكبارًا أَو حركوه استهزاءً وسخرية (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أَي: وأَبصرت منهم أَو علمت من أَمرهم إِعراضًا عن اتباعك ومنعًا وإِبعاد لسواهم عن ذلك، وختمت الآية الكريمة بقوله تعالى:(وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) للإِشعار بأَنهم لم يكرههم غيرهم ولم يجبرهم سواهم على ما فيه من كفر ونفاق وصدّ وإِعراض وإِنما كان حالهم وشأنهم أَنهم في أَنفه وعناد واستكبار.
6 -
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
…
} الآية:
أَي: ما دام هذا شأنهم وحالهم فإِن استغفارك لهم وعدمه يستونان؛ لأَنهم لا يرغبون فيه ولا يلتفتون إِليه ولا يعتدون به أَو لأَن الله لا يغفر لهم (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أَي لأَنه - سبحانه - لا يمنح هدايته وتوفيقه للقوم المغالين في الغش الخارجين عن دائرة الطاعة المنهمكين في أَنواع القبائح المتردين في حمأَة النفاق والشرك وهؤلاءِ قد بلغوا الغاية في ذلك وتربعوا على ذروتها وركبوا سنامها لذلك سبق في علم الله أَنهم يموتون فساقًا؛ لأَنهم اختاروا الفسق.
المفردات:
(يَنْفَضُّوا): يتفرقوا ويتركوا الرسول.
(لا يَفْقَهُونَ): لا يفهمون ولا يفطنون.
التفسير:
7 -
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا
…
} الآية:
أَي: هؤُلاءِ الذين أَخبرك الله عنهم - يا محمد - أَنه لن يغفر لهم، ولن يصفح عنهم هم أُولئك الآثمون في قولهم المدعون أَن الأرزاق بأَيديهم، وأَن المنة لهم على فقراءِ المسلمين بالإِنفاق عليهم وأَنهم لو كفوا أَيديهم عن إِعطائهم جاعوا وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في زعمهم هذا واهمون، فما هذا هو شأن المسلمين؛ إِنهم بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام على بذل النفس والنفيس بأَن لهم الجنة فكيف بهم يتفرقون عنه لعرض من أَعراض الدنيا؟ فضلًا على أَنه - سبحانه - رازقهم وقائم بأَسبابهم جميعا، فإِن خزائن السموات والأَرض ومفاتيح الرزق والمطر والنبات لله وحده لا شريك له فيها يعطيها من يشاءُ ويمنعها عمن يشاء لا مكره له ولا معقب لحكمه (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) أَي: ولكن هؤلاء لا يفهمون ولا يفطنون لذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان وما تطوع لهم أَنفسهم من مختلف القول وسقط الكلام.
8 -
أَي: يقول عبد الله بن أُبي رأس النفاق ومن معه عند العودة من غزوة بني المصطلق: والله لئن عدنا إِلى المدينة - لا يكون فيها مقام ولا مأوى لأُولئك المهاجرين الذين ضممناهم وآويناهم وأَطعمناهم فتطاولوا علينا ونالوا منا وهم في غربة وفقر وليس لهم ما يمنعهم منا فلنخرجنهم من ديارنا فنحن الأَعز وهم الأذل.
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أَي: ولله الغلبة والقوة ولمن أَعزه الله وأَيده من رسوله ومن المؤمنين، وعزهم كان بنصرته - تعالى - إِيَّاهم وإِظهار دينهم على سائر الأَديان.
(وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا ذلك ما قالوا مقالتهم هذه. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) وهم الأَخصاءُ بذلك كما أَن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أَن رجلًا قال له: إن الناس يزعمون أَن فيك تيها (كبرا) فقال: ليس بتيه ولكنه عزة، فإِن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه وتلا هذه الآية. قال بعض العارفين
في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر، ولا يحل للمؤمن أَن يذل نفسه؛ فالعزة معرفة الإِنسان بحقيقة نفسه وإِكرامه عن أَن يضعها لأَمور عاجلة دنيوية، كما أَن الكبر جهل الإِنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم والعزة محمودة.
فإِن قيل: قال تعالى في الآية الأُولى: (لا يَفْقَهُونَ) وفي الآية الأُخرى: (لا يَعْلَمُونَ) فما الحكمة فيه؟ فنقول: ليعلم بالأَول (لا يَفْقَهُونَ) قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني (لا يَعْلَمُونَ) كثرة حماقتهم وجهلهم. (1)
قيل: عند العودة من غزوة بني المصطفي أَراد عبد الله بن أُبي بن سلول أَن يدخل المدينة فاعترضه ابنه حباب وهو عبد الله بن (2) عبد الله بن أُبي - وكان مخلصا فقال لوالده: وراءَك لا تدخلها حتى تقول: رسول الله الأَعز وأَنا الأَذَل فلم يزل حبيسا في يده حتى أَمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته، وروي أَنه قال لوالده: لئن لم تُقِر لله ولرسوله بالعزة لأَضربن عنقك فقال: ويحك أَفاعل أَنت؟ قال: نعم فلما رأَى منه الجد قال: أَشهد أَن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنه: (جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا).
(1) عن الفخر الرازي بتصرف يسير.
(2)
غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه إِلى عبد الله وقال: (إِن حبابا اسم شيطان).
المفردات:
(لا تُلْهِكُمْ): لا يشغلكم الاهتمام بها.
(لَوْلا): هلا والمراد بها هنا التمني.
التفسير:
10 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
…
} الآية.
حذر الله المؤمنين أَن يتخلقُوا بأَخلاق المنافقين فنهاهم بقوله - سبحانه -: (لا تُلْهِكُمْ أموالكم) أَي: لا تشغلكم أَمولكم بالسعي في تدبير أَمرها والتهالك على طلب النماءِ فيها بالتجارة أَو العمل على زيادة غلتها، والتلذذ بها والاستمتاع بمنافعها. (وَلا أَوْلادُكُمْ) وذلك بفرط السرور بهم، وشدة الشفقة عليهم والقيام بما يصلحهم في أَمر معاشهم في حياتكم وبعد مماتكم وقد عرفتم - أَيها المؤمنون - قدر منفعة الأَموال والأَولاد في جنب ما عند الله لا يشغلكم ذلك (عن ذِكْرِ اللهِ) وأَداءِ ما طلبه رب العزة، منكم، ولتعلموا أَن لكلٍّ حقًّا، والمؤمن الكيس من يؤدي كل ذي حق حقه دون حيف أَو تفريط. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)
أَي: اللَّهو بها عن ذكر الله (فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: فهؤلاء هم الذين أَوغلوا في الضياع وتناهوا في الخسران حتى كأَنه لا خسران إِلا فيهم وذلك لأَنهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
10 -
بعد أَن نهى الله المؤمنين عن التلهي والاغترار بالمال والولد أَمرهم - جل شأنه - أن يتحلوا ويتزينوا بالطاعة وذلك بإِنفاق بعض ما أَفاءَ الله عليهم ورزقهم به في سبيله - سبحانه - فكان الأَمر - كما يقولون - التخلية قبل التحلية أَي: التبري والتطهر من الذنب أَولًا ثم فعل الطاعات بعد ذلك على نقاءِ قلب وطهارة سريرة؛ ليكون ذلك أَرجى في القبول لدى الله، أَي: ابذلوا وأَعطوا من أَموالكم قبل أَن يشارف أَحدكم الموت ويرى دلائله وأَماراته فيكون منه أَن يتمنى أَن يرجيء الله أَجله ويؤخر حيْنَهُ إِلى أَمد قريب وأَجل قصير كي يتصدق، ويكون من الصالحين الأَتقياء.
وعن ابن عباس: تصدقوا قبل أَن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل.
11 -
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} :
ولكن أَنَّى له ذلك وكيف يتحقق ما يتمناه والله العلي القدير يقول: {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1).
أَي: ولن يمهل الله نفسًا حان أَجلها وانتهى الزمان الذي حدد الله لها من أَول العمر - إلى آخره.
(1) سورة النساء: الآية 18.
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أَي: عالم ببواطن أُموركم أَو خبير بمعنى مخبر أَي: يخبركم وينبئكم بما تعملونه ويجازيكم عليه.
قال الفخر الرازي: فقوله: (لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) تنبيه على الذكر قبل الموت، (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) تنبيه على الشكر لذلك، وقوله تعالى:(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أَي: لو رُدّ إِلى الدنيا ما زكى ولا حج ويكون ذلك كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)(1).
(1) سورة الأنعام من الآية 28.