الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البينة
وتسمى سورة القيامة، وسورة لم يكن، وسورة البرية وهي مدنية، وآياتها ثمان
مناسبتها لما قبلها:
هي أَن قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
) إِلخ .. كان كالتعليل لإِنزال القرآن، كأَنه قيل: إِنا أَنزلناه لأَنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأْتيهم رسول يتلو صحفًا مطهرة؛ لذلك وقعت تالية للسورة السابقة.
أَهم مقاصد السورة:
1 -
بينت تمرد أَهل الكتاب -اليهود والنصارى- على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أَن ظهر لهم الحق، وسطعت أَنواره بما عرفوا من الأَوصاف المذكورة في كتبهم للنبي المبعوث آخر الزمان وكانوا ينتظرون بعثته، فلما بُعث كفروا وعاندوا: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ
…
) الآيات.
2 -
تحدث عن أَهم عناصر الإِيمان التي أُمورا بها، وهي إِخلاص العبادة لله العلي الكبير، والتوجه إِليه سبحانه في جميع الأَقوال والأَفعال مائلين عن كل دين يخالف دين التوحيد:(وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ .. ) الآية.
3 -
أَبرزت بيان ما ينتظر شر البرية من كفرة أَهل الكتاب والمشركين في الآخرة من عذاب أَليم، وخلود في نار الجحيم:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ .. ) الآية.
4 -
وختمت بالإِشادة بخير البرية. أَهل المنازل العالية الذين أَطاعوا الله حق طاعته، وتحدثت عن جزائهم في الآخرة لقاءَ اتصافهم بخشية ربهم وحسن مراقبته:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ .... ) الآيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5))
المفردات:
(أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى.
(وَالْمُشْرِكِينَ): وعبدة الأَصنام والنيران من العرب والعجم.
(مُنفَكِّينَ) أَي: لم يكونوا منتهين ولا مفارقين لما كانوا عليه.
(الْبَيِّنَةُ): الحجة الواضحة.
(يَتْلُوا): يقرأ عليهم من حفظه (صُحُفًا مُطَهَّرَةً) أَي: صحفًا من القرآن منزهة عن الباطل والشبهات.
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أَي: في الصحف أَحكام لا عوج فيها تبين الحق من الباطل.
(حُنَفَاءَ): مائلين عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق.
(دِينُ الْقَيِّمَةِ) أَي: دين الملة المستقيمة.
التفسير
1 -
3 (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ):
أَي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أَهل الكتاب -اليهود والنصارى والمشركين وهم عبدة الأَصنام والنيران من مشركي العرب والعجم، لم يكونوا منتهين ولا مفارقين ما عاهدوا الله عليه من الوعد باتياع الحق والإِيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان، والعزم على إِنجاز هذا الوعد (حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ) أَي: إِلى أَن تأْتيهم الحجة الواضحة، والمراد بها محمد صلى الله عليه وسلم أَي: إِنهم جعلوا إتيان البينة ميقاتًا لتنفيذ وعدهم بالإِيمان بالنبي الذي تحدثت عن بعثته كتبهم، وكان مقتضى ذلك أَن يؤمنوا به إِذا بعث فيهم مؤيدًا بالقرآن، ولكنهم افترقوا في أَمره، وجعلوا إِتيانه ميقاتًا للانفكاك والاقتران واختلاف الوعد. فآمن بعضهم بنبوته وأَنكرها بعضهم بغيًا وحسدًا.
وكان أَهل الكتاب يستفتحون على المشركين، ويقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، وذلك لما يجدونه في التوراة والإِنجيل من نعوته وأَمارات بعثه، وكان المشركون يسمعون ذلك منهم فاعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصر الله لهم على أَعدائهم، وكانوا يسألون اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو النبي المذكور في كتبهم، وإِيراد الصلة فعلا في قوله تعالى "الَّذِينَ كَفَرُوا" للإِشارة إِلى أَن كفرهم حادث بعد أَنبيائهم بإِلحادهم في صفات الله عز وجل (رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) بيان للبينة، وأَن المراد منها محمد صلى الله عليه وسلم وتنوينه للإِيذان بغاية ظهور أَمره، وأَنه حقيق بالتفخيم والتعظيم، وفي وصفه بأَنه (من الله) تأْكيد لما أَفاده التنوين في (رسول) من الفخامة الذاتية وذلك بالفخامة الإضافية إِلى الله تعالى، أَي: رسول وأَي رسول كائن من الله تعالى يتلو عليهم صفحا من القرآن مما حفظه عند التلقي من جبريل عليه السلام منزهة عن الباطل، أَو المراد بتطهيرها: تطهير من يمسها كأَنه قيل: "لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ"(1).
(1) سورة الواقعة، آية 79.
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أَي: وفي تلك الصحف أَحكام مكتوبة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل وقيل: المراد بالكتب التي فيها، هي كُتُب الأَنبياء السابقين، لأَن القرآن مصدق لها. فكأَنَّها فيه لا سيما وأَنه قد جمع ثمرتها.
4 -
(وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ):
هذا ظاهر في أن كفرهم قد زاد، فمنهم من أَنكر نبوته صلى الله عليه وسلم ظلمًا وحسدًا، ومنهم من آمن وأَطاع. قال جار الله: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل البعث: لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإِنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم أي: إِنهم كانوا يعدون باتفاق الكلمة، والاجتماع على الحق إِذا جاءَهم صلى الله عليه وسلم ثم ما فرقهم عن الحق، وأَقر بعضهم على الكفر إلا مجيؤه، والآية كلام مسوق لمزيد التشنيع على أَهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم ببيان أَن ما نسب إِليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه ما في الأَمر، بل كان بعد وضوح الحق، وانقطاع الأَعذار بالكلية، وهو السر في وصفهم بإِيتاءِ الكتاب المنبِئ عن كمال تمكنهم منه بمطالعته والإِحاطة بكل ما فيه من الأَحكام والأَخبار التي من جملتها نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كقوله تعالى:"وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ"(1).
وإِنما أَفرد هنا أَهل الكتاب، بعد ما جمع بينهم وبين المشركين أَولا، وإِن كان التفرق من الفريقين، لأَن أَهل الكتاب كانوا على علم بأَمر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوده في كتبهم فإِذا وصف بالتفرق من له كتاب كان من لا كتاب له أَدخل في الوصف بذلك وقد اختلف أَهل الكتاب اختلافًا كثيرًا، كما جاءَ في الحديث المروي من طرق عن أَبي داود وابن ماجه ومسند أَحمد عن أَبي هريرة الذي يقول فيه:"إِنِّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ النَصَارَى اخْتَلَفُوا عَلى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" إِلى آخر الحديث.
(1) سورة آل عمران، من الآية:105.
(إِلَاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ) أَي: وما تفرقوا في وقت من الأَوقات إِلا من بعد ما تبينوا الحجة الواضحة الدالة على أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الموعود به في كتبهم دلالة جلية لا شك فيها.
وحاصل المعنى مختصرا: أَن أَهل الكتاب والمشركين ظلوا مستمسكين بما وعدوا به، وتعاهدوا عليه من الإِيمان بالنبي الموعود به في التوراة والإِنجيل لغاية هي بعثته صلى الله عليه وسلم التي جعلوها ميقاتًا للإِيمان به، واتباع النور الذي أَنزل معه تنفيذًا لما وعدوا به، وتعاهدوا عليه، وكان مقتضى ذلك أَن يؤمنوا به بعد بعثه، وينصروه نصرًا مؤزرًا، ولكنهم تفرقوا واختلفوا فمنهم من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم وهدي إِلى صرط مستقيم، منهم من أَعرض وجحد وأَنكرها طغيانًا وحسدًا.
5 -
(وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ):
إِشارة لغاية قبح ما فعل اليهود والنصارى من تفرق في الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مع أَنهم ما كلفوا بما كلفوا به في كتابهم لشيءٍ من الأَشياءِ إِلا بأَن يعبدوا الله، فتكون عبادة الله هي المأْمور بها فحسب (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أَي: جاعلين دينهم خالصًا له تعالى، منزوهًا عن الشرك والنفاق (حُنَفَاءَ): مائلين عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق، مؤمنين بالرسل جميعًا، إِذ كانت ملتهم عليه السلام هي التوحيد، وهي الملة الحنيفية الحقة.
(وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) كما أُمروا بالصلاة والزكاةِ في شريعتهم، وعليه فالأَمر بهما ظاهر، وإِن أُريد ما في شريعتنا فمعنى أَمرهم بها في كتابهم: أَن أَمرهم باتباع شريعتنا أَمر لهم بجميع أَحكامها التي هما من جملتها.
(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) إشارة إِلى ما ذكر من عبادة الله بالإِخلاص له، وإِقامة الشرائع
التي أُمروا بها، والميل عن الأَديان الباطلة إِلى الدين الحق مع الإِيمان بجميع الرسل، أَي: ذلك هو دين الملة المستقيمة، أَو ذلك هو دين الحجج المستقيمة، أَو دين الكتب التي لا يأْتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، التي بعث بها -سبحانه- رسله.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8))
المفردات:
(كَفَرُوا): الكافر: هو من أعرض عن دين محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤْمن به.
(وَالْمُشْرِكِينَ): هم الذين أَشركوا مع الله غيره في العبادة.
(الْبَرِيَّةِ): الخليقة، من براه الله يبروه: خلقه، والمعنى لا يختلف عما في قراءَة من قرأَ بالهمز (البَرِيئَةِ).
(عَدْنٍ) أَي: إِقامة.
(وَرَضُوا عَنْهُ): فرحوا بما أَعطاهم.
التفسير
6 -
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ):
بيان الحال الفريقين -أَهل الكتاب والمشركين- في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا.
أَي: إِنهم في الآخرة في جهنم، بمعنى: يصيرون إِليها يوم القيامة، أَو إِنهم فيها الآن على معنى أَن ملابستهم لما يوجبها منزل منزلة ملابستهم لها أو يعذبون في قبورهم (خَالِدِينَ فِيهَا) أَي: إِن عذابهم فيها لا ينقطع وسيبقى أبدَ الآبدين، واشتراك الفريقين في الخلود لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية، فإِن جهنم دركات وعذابها أَلوان، فيُعذب أَهل الكتاب بنوع من العذاب في درك منها، ويُعذب المشركون في درك أَسفل منه بعذاب أَشد، لأَن الشرك ظلم عظيم، وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقًا في النار.
(أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ): أَشير إِليهم باعتبار اتصافهم بما اقترفوه من القبائح المذكورة فهم بذلك شر الخليفة، والمراد أَنهم شر الناس أَعمالا لكفرهم مع علمهم بصحة رسالته صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم لمعجزاته الذاتية والخارجية، ولما أَقدموا عليه من تحريف الكلم عن مواضعه، وصد الناس عنه صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم له. فتكون الجملة في حيز التعليل لخلودهم في النار.
7 -
8 - (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8))
بيان لمحاسن أَحوال المؤمنين إِثر بيان سوءِ حال الكافرين وفق المتبع في السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب، أَي: إِن الذين آمنوا إِيمانًا يقينيًا، قارن فيه التصديق القلبي العمل الصالح بالجوارح (أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أَي: هؤلاء المؤمنون المنعوتون ببلوغ الغاية من الشرف والفضيلة في الإِيمان والطاعة هم خير الناس ثوابًا حيث يكون (جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) أَي: إِن جزاءَهم في الآخرة بمقابلة مالهم من الإِيمان الصادق، والعمل الطيب جنات إِقامة تجري من تحت أَشجارها الملتفة، وأَغصانها المتشابكة، وبين قصورها العالية أَنهار صافية رقراقة لزيادة المتعة، وكمال النعيم، يتمتعون فيها بفنون النعم الجسمانية والروحانية، لا يموتون ولا يخرجون منها، فهم في نعيم دائم لا ينقطع، والتعرض في قوله -سبحانه-:(جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والبلوغ بهم إِلى الكمال مع الإِضافة
إِلى ضميرهم، وجمع الجنات وتقييدها بالإِضافة إِلى عدن، وتأْبيد الخلود فيه من الدلالة الواضحة على حسن حالهم وعلو منزلتهم ما لا يخفي.
رضي الله عنهم استئناف بياني وقع جوابًا لمن يقول: هل لهم بعد ذلك جزاءٌ، فأُجيب بالجملة السابقة، أَي: رضي الله عنهم بقبول أَعمالهم ومكافأَتهم عليها.
(وَرَضُوا عَنْهُ) أَي: فرحوا بما أَعطاهم من الكرامة والنعيم الدائم، حيث بلغوا من المطالب قاصبها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأَتيح لهم ما لا عين رأَت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
(ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أَي: ما ذكر من الجزاءِ، والإِنعام لمن اتصف بخشية الله، وحسن مراقبته، فإِن الخشية التي هي من خصائص العلماءِ بشئون الله عز وجل مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية، ولولاها لم تترك المناهي والمعاصي، ولما كان الاستعداد ليوم يؤْخذ فيه بالنواصي والأَقدام.
وفي ذلك إشارة إِلى مجرد الإِيمان والعمل الصالح ليس موصلا إِلى أَقصى المراتب، بل الموصل إِلى ذلك خشية الله عز وجل:"إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ"(1).
(1) سورة فاطر، من الآية:28.