المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض مقاصد السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌بعض مقاصد السورة:

‌سورة البلد

هذه السورة مكية، وآياتها عشرون

‌صلتها بما قبلها:

لَمَّا ذم الله سبحانه وتعالى في السورة التي قبلها - وهي (سورة الفجر) - ونعى على من أَحب المال حبا جما وأَكل التراث أَكلًا لَمًّا جمع فيه بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد، ولم يخص ويحث على إِطعام المسكين، ذكر هنا - جل شأْنه - الخصال التي تطلب من صاحب المال لينجومن العذاب الأَليم ويقي نفسه من غضب ربه، وهذه الخصال هي تخليص العبيد من الرقّ، وإِطعام ذوي الفاقة والحاجة.

وكذا لَمَّا ذكر هنا النفس المطمئنة ذكر هنا بعض ما يحصل به اطمئنان نفس الرسول والمؤمنين، حيث وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدخول مكة وفتحها.

‌بعض مقاصد السورة:

1 -

بدأَت السورة الكريمة بالقَسَم بمكة لحرمتها وشرفها؛ لأَن فيها أَول بيت وضعه الله لعبادته - تعالى - ولأَنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وموطن آبائه من لدن إِسماعيل - عيله السلام - إِيماءً إِلى شرف رسوله، وتعظيمًا لمنزلته ومكانته عند ربه.

2 -

أَبانت السورة أَن الإِنسان قد جعله الله في مكابدة ومشقة من يوم ولادته إِلى يوم القيامة، إشارة إِلى أَن العاقل ينبغي أَن يؤمن ويعمل صالحًا كي يدخل الجنة فيحسن ماله وينعم في أُخراه؛ فيستريح من معاناة الشدائد، ولا تسلمه أَعماله القبيحة إِلى النار وبئس المصير (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ).

3 -

جاءَت السورة بنعم جليلة امتن الله بها على عباده؛ حثًّا لهم على أَن يؤدوا شكرها ويقوموا بحقها ويجاهدوا في تحقيقها؛ حتى يجتازوا العقبة الكثود التي تعترض طريقهم إِلى الجنة، وذلك بإِنفاق المال في فك إِسار الأَرقاءِ من قيد العبودية، وفي إِطعام الفقراءِ واليتامى والمساكين، وذلك بعد أَن يكون الإِيمان قد تمكن من قلوبهم: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ

) إِلى قوله تعالى -: (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

ص: 1910

ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أَن الناس يوم القيامة صنفان: أَهل اليمين والبركة أَوأَصحاب الجنة: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) وصنف الشؤْم والبوار، أَو أَهل النار:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ).

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4))

المفردات:

(حِلٌّ): حلال، أَي: يحل لك أَن تقاتل فيها، وقيل غير ذلك وسيأْتي.

(فِي كَبَدٍ): في مشقة وشدة، وأَصله: من كبد الشخص كبدًا: إِذا وجعه كبده، ثم استعمل في كل تعب ومشقة.

التفسير

1 -

(لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ):

المراد بالبلد هنا: مكة المكرامة - زادها الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا - وفضلها معروف ومعلوم؛ حيث جعلها الله - تعالى - حرمًا آمنًا، وجعل مسجدها قبلة لأَهل الأَرض جميعًا "وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ"(1)، وجعل من دخله كان آمنًا، وشرف مقام إِبراهيم فقال -سبحانه-:"وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"(2) وأَمر الناس بحج هذا البيت

(1) سورة البقرة: من الآية 144.

(2)

سورة البقرة: من الآية 125.

ص: 1911

"وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ"(1) كما قال في حقه -تعظيمًا له-: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأَمْنًا"(2) وقد حرام -سبحانه- صيد هذا المكان المبارك، وقطع شجرة، وجعله بإِزاءِ البيت المعمور في السماءِ، إِلى غير ذلك من الفضائل والمزايا التي لا تتأَتى لغيره من الأَمكنة في الأَرض سوي البقعة الطيبة المباركة التي دفن فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي أَفضل مكان في الأَرض وفي السماءِ؛ لأَنها تضم جسده الشريف.

هذا، وفي رحاب مكة المكرمة يكون التلاقي حيث البيت العتيق في ابتداءِ الأَمر أَول بيت وضع للناس، ثم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تأْتى في النهاية خاتمة للرسالات، فيجمع الله لتلك البقعة المباركة بين عظيم البدءِ وكريم النهاية.

ولَمَّا اجتمعت هذه الفضائل لمكة أَقسم الله بها، وله -سبحانه- أَن يقسم بما شاءَ على ما شاء، قال تعالى:(لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) أَي: أُقسم بهذا البلد لشرف مكانته وسموّ منزلته وحرف (لا) هنا لتأْكيد القسم وتقويته، وهذا كثير ومأْلوف في اللغة العربية.

2 -

(وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ):

هذا وعد من الله لرسوله بأَنه سينزله ويمكنه من البلد الحرام (مكة) ويحلها له فيفتحها ويقاتل بها ويقتل من شاءَ ويترك من شاءَ، وقد جعل الله له ذلك يوم الفتح، فقد أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن خطل، ومقيس بن صبابة يوم الفتح، قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الله - تعالى - حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَات وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، لَم تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْليِ، وَلَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَاّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُخْتَلى خَلاهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تَحِلُّ لُقْطَتُهَا إِلَاّ لِمُنْشِدٍ"(3)، فقال العباس: إِلَاّ الإِذخِر (4)؛ فإِنها لقيوننا (5) وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِلَاّ الْإِذْخِر".

(1) سورة آل عمران: من الآية 97.

(2)

سورة البقرة، من الآية:125.

(3)

(يعضد): يقطع: (لا يختلى خلالها) الخلا: الحشيش الرطب، ولا يختلى: ولا يقطع. (اللقطة): هي الشيء الذي تجده ملقى في الطريق فتأخذه (المنشد): هو الذي يُعَرِّفَ اللقطة بأوصافها.

(4)

(الإِذخر): نبت.

(5)

القيون: جمع قين، وهو الحداد.

ص: 1912

وقيل في قوله تعالى: (وأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ): إِنَّ الكفار كانوا يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه الحرمات، ولكنهم كانوا يستحلون إِيذاءَك، ولو تمكنوا منك لقتلوك، فأَنت حل في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك مع إِكرام الله - تعالى - إِياك بالنبوة، فعن شرحبيل: يحرمون أَن يقتلوا بها صيدًا أَو بعضدوا بها شجرة ويستحلون إِخراجك وقتلك، وعلى هذا فيكون المقام تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث له على احتمال ما كان يكابد ويعاني في أَهل مكة، المقام تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث له على احتمال ما كان يكابد ويعاني من أَهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوتهم له.

وقيل المعنى: وأَنت مقيم وحالٌ بها، فكأَنه - تعالى - عظَّم مكة من جهة أَنه صلى الله عليه وسلم مقيم بها، إِلى غير ذلك من الأَقوال، والآية الكريمة تتسع لكل هذه المعاني.

3 -

(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ):

هذا عطف على قوله - تعالى -: (بِهَذَا الْبَلَدِ) وداخل في المقسم به، أَي: وأُقسم بوالد وبما ولد، والمراد بالوالد هو آدم عليه السلام وبما ولد: هم جميع ذريته، أَقسم بهم -سبحانه- إِذْ إِنهم أَعجب ما خلق الله على وجه الأَرض لما منحهم -جل شأْنه- من البيان والنطق والتدبير، واستخراج المعلوم، واستعمار الأَرض، وفيهم الأَنبياء، والدعاة إِلى الله، والأَنصار لدينه، بل إِن كل ما في الأَرض مخلوق لهم، قال تعالى:"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا"(1).

وأَمر الملائكة بالسجود لآدم، وعلَّمه الأَسماءَ كلها، قال -سبحانه-:"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"(2)، وقيل: أَقسم -جل شأْنه- بآدم والصالحين من ذريته بناءً على أَن الصالحين والمفسدين كأَنهم ليسوا من أَولاده، أَو أَراد بالوالد إِبراهيم وإِسماعيل عليهما السلام وما ولد: محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأَن إِبراهيم وإِسماعيل قد أقاما البيت في مكة، ومحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون سكانها.

(1) سورة البقرة: من الآية 29.

(2)

سورة الإِسراء: من الآية 70.

ص: 1913

ويحتمل أَن الوالد: النبيّ صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بقوله تعالى: "وَأَنتَ حِلٌّ) وما ولد: أُمته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إِنَّما أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدهِ" (1) فأَقسم به وبأُمته بعد أَن أَقسم ببلده مبالغة في تشريفه عليه الصلاة والسلام.

4 -

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ):

هذا جوب القسم، أَي: أَقسم بالبلد الحرام ووالد وما ولد لقد أَوجدنا الإِنسان محاطًا بتعب ومشقة وعناءٍ، فإِنه لا يزال يقاسي ضروب الشدائد وفنون المتاعب من وقت نفخ الروح فيه إِلى حين نزعها منه وما وراء ذلك؛ فقد خلقه الله أَطوارًا كلها شدة ومشقة، تارة في بطن أُمه، ثم زمان الإِرضاع، ثم إِذا بلغ يكون الكد والتعب في تحصيل المعاش، ويكابد كذلك في أَمر دينه وذلك بالشكر على السَّرَّاءِ والصبر على الضَّرَّاءِ، ويعاني ويُكابد المشاق في أداءِ العبادات، ثم الموت ومساءَلة الملك وظلمة القبر، ثم البعث والعرض على الله إِلى أَن يستقر به القرار إِماَّ في الجنة وإِمَّا في الجنة وإِمَّا في النار.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))

المفردات:

(لُبَدًا): جمَّا كثيرًا.

(النَّجْدَيْنِ): طريقي الخير والشر، أَو الثديين.

(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان.

ص: 1914

التفسير

5 -

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ):

أَي: أَيظن هذا الشقي الذي يؤدى ويناوئ الرسول ويصد عن سبيل الله ويستذل المؤمنين ويستضعفهم، أَيظن أَلَاّ يقدر أَحد على أَن ينال منه أَو يصيبه بالأَذى والضرر، ويخال ويظن أَنه يقونه وجبروته وماله وسلطانه لا يقدر أَحد على الانتقام منه ومكافأَته على سوءِ صنيعه؟ إِن الله خلقه في المشاق والشدائد والمكابدة التي لا يستطيع منها فكاكًا ولا تحولًا إِنه - سبحانه- قادر عليه لا يفلت من قبضته ولا يهرب من سلطانه، فهو وغيره من المخلوفات كلها تحت قهر عظمته ورهن قدرته ووفق مشيئته وإِرادته، ولو كان الأَمر للإِنسان لما اختار هذه الشدائد.

والاستفهام هنا جاءَ إِنكارًا وتهديدًا لكل إِنسان بدر منه ذلك، وإِن قيل: إِن الآية نزلت في أَشخاص بأَعيانهم كأَبي الأَشد أُسيد بن كلدة الجمحي، أَو الوليد بن المغيرة، أَو أَبي جهل عمرو بن هشام، أَو الحارث بن عامر.

6 -

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا):

أَي: يقول هذا الصِّنف من الناس -افتخارًا واعتزازًا بما لديه من طريف المال وتليده- يقول: أَهلكت وأَنفقت مالًا كثيرًا في المفاجر والعظائم والمعالي والمكارم، فمن الذي يحاسبني عليه، وفي الحق أَن الأَمر ليس كما يزعم هذا السفيه، بل إِن الأَموال التي أَهلكها كانت معول هدم وأَداة تخريب وتسلُّط. وانتهاكًا للحرمات، وترويعًا للآمنين، وتعبيدًا للأَحرار وهتكًا للأَعراض، وسفكًا للدماءٍ، وتضييعًا للعقول، وكانت عاقبة أَمرها سوءًا وذلك باستعمالها للصدّ عن سبيل الله وإِيذاءِ رسوله صلى الله عليه وسلم والتنكيل بمن آمن به وصدق، وهذا السفيه وأَمثاله مع ذلك يحسبون أَنهم يحسنون صنعًا، وأَنهم إِذا رجعوا إِلى ربهم يوم القيامة ستكون لهم العاقبة الحسنى، وقد حكى الله عنهم ذلك بقوله:"وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى"(1) وكَذَبُوا؛ فقد خيَّب الله ظنهم ورد عليهم بقوله: "فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

(1) سورة فصلت: من الآية 50.

ص: 1915

بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ" (1)، ويقول: "وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا" (2). هذا وإِن الله سيحاسبهم على أَموالهم من أَين اكتسبوها وقيم أَنفقوها، ولا تزول أَقدامهم يوم القيامة حتى يسأَلوا عن ذلك.

هذا وقد عبر عن الإِنفاق في هذه الوجوه السيئة بالإِهلاك إِظهارًا لعدم المبالاة، وأَنه لم يفعل ذلك رجاءَ نفع، أَو أَنه إِشارة إِلى أَنه مال ضائع لا خير فيه، أَو يقول ذلك إِعلانًا عن شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

7 -

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ):

أَي: أَيظن ذلك المغرور الأَحمق أَن أَحداً لم يره حين أَنفق وأَهلك هذا المال في تلك الموبقات والمهالك والسفاهات، أَيظن أَن ذلك يخفى على الله الرقيب العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء؟! إِنه -سبحانه - مطلع عليه، وسيحاسبه يوم القيامة ويجازيه على ما قدم.

8 -

10 - (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ):

جاءَت هذه الآيات البينات تذكيرًا لذلك المشرك بنعم الله عليه ليتغظ ويعتبر ويرجع إِلى ربه، أَي: أَلم نجعل ونخلق له عينين يبصر بهما، وينظر ويتصرف على ما ينفعه وما يضره، ويتفكر بعد النظر في ملكوت السموات والأَرض، ويرى من بديع صنع الله وكمال إبداعه ما يدلَّه على ربه، وأَلم نجعل له لسانًا لافِظاً ينطق به ويكون ترجمانًا عماً يختلج به فؤاده، وما يتردد في صدره، ويكون لسانه أَداة للتآلف والتعارف بينه وبين بني البشر جميعًا؛ اقتدار لهم على إِعمار الأَرض واستقرار الحياة فيها، وأَلم نجعل له شفتين يطبقهما على فمه منعا من تناثر الطعام، وتمكينًا له من نطق سديد لتقيم التفاهم بين الناس، كما وأَن الشفتين للإِنسان مظهر من مظاهر تناسق خلقته وكمالها، فهما آية وعلامة على تكريم

(1) سورة فصلت، من الآية:50.

(2)

سورة الفرقان، الآية 23.

ص: 1916

الله له وكمال عنايته به، روى الحافظ ابن عساكر عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الله تعالى: يَابْنَ آدَمَ: قَدْ أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ نِعمًا لا تُحْصِي عَدَدَهَا، وَلا تُطِيقُ شُكْرَهَا وَإِنَّ مِمَّا أَنعَمْتَ بهِ عَليْكَ أَنْ جَعَلْتُ لَكَ عَيْنَيْن تَنْظُرُ بِهمَا، وَجَعَلْتُ لَهُمَا غِطَاءً فَانْظُرْ بعَيْنَيْكَ إِلى مَا أَحْلَلْتُ لَك، وإِنْ رأَيْتَ مَا حَرَّمْتُ عَلَيْكَ فأَطْبِقْ عَلَيْهِمَا غِطَاءَهُمَا، وَجَعَلُتْ لَكَ لِسَانًا، وَجَعَلْتُ لَكَ غِلاقًا فَانْطِقْ بِمَا أَمَرْتُكَ وأَحْلَلْتُ لَك، وَإِنْ عُرضَ عَليْكَ مَا حَرَّمتُ عَليْكَ فأَغْلِقْ عَليْكَ لِسَانَكَ، وَجَعَلْتُ لَكَ فَرْجًا، وَجَعَلْت لَهُ سِتْرًا، فأَصِبْ بفَرْجكَ مَا أَحْلَلْتُ لَكَ، فَإِنْ عُرضَ عَلَيْكَ مَا حَرَّمْتُ عَليْكَ فأَرْخ عَلَيْكَ سِتْرَك، ابْنَ آدَمَ: إِنَّكَ لا تَحْمِلُ سُخْطِي وَلا تُطِيق انْتِقَامِي".

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ):

أَي: وأَرشدناه إِلى طريق الخير ليسلكه فينجو ويفلح، وبينا له طريق الشر لينأَى عنه ويتجنبه كيلا يهلك، وذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة. روي عن قتادة قال: ذُكر لنا أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا هُمَا النَّجْدانِ: نَجْدُ الْخَيْرِ، ونَجْدُ الشَّرِّ، فَلِمَ تَجْعَلُ نَجْدَ الشَّرِّ أَحبَّ إِليْكَ مِنْ نَجِدِ الْخَيْرِ؟ ".

وروى عن عكرمة قال: النجدان: الثديان، وهو مروي عن ابن عباس وعلى رضي الله عنهما لأَنَّهُما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، أَي: إِن الله يهدي ويرشد الرضيع إِليهما دون إِرشاد أَو دلالة من أَحد.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16))

ص: 1917

المفردات:

(اقْتَحَمَ): الاقتحام؛ الدخول في الشيء بسرعة وشدة من غير روية.

(الْعَقَبَةُ): الطريق الوعر في الجبل، والمراد بها هنا: الأَعمال الصالحة لما في القيام بها من المعاناة والمشقة ومجاهدة النفس.

(فَكُّ رَقَبَةٍ): الفك: تخليص شيءٍ من شيءٍ، والمراد تخليص رقبة العبد بالإِعتاق.

(مَسْغَبَةٍ): مجاعة، قال الراغب: الجوع من التعب.

(مَقْرَبَةٍ): قرابة.

(مَتْرَبَةٍ): افتقار، يقال: ترب: إِذا افتقر، فكأَنه قد لصق بالتراب من الفقر.

التفسير

11 -

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ):

أَي: فهلا أَنفق ماله الذي يزعم أَنه أَهلكه في المكام والمفاخرة، أَو في عداوة النبي صلي الله عيله وسلم هلَاّ أَنفقه في شكر الله على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة؟: لم يفعل ذلك، بل قصر فجحد النعمة وكفر بالنعم، واتبع هوى نفسه، وكان الأُولى به أَن يكون عارفًا الفضل ربه، متعرفًا عليه في الرخاءٍ ليعرفه في الشدة، حاملا نفسه على اقتحام الشدائد والدخول في الصالحات بمسارعة ومسابقة، والقيام بمشاق الأَعمال وأَكثرها تعبًا وعناءً ومجاهدة لنفسه حتى يجتاز العقبة الكئود والحاجز الصعب الذي يحول بين المرءِ ورحمة ربه ورضوانه في الجنة، ولا يجتازه إِلا بقهر النفس ورياضتها على المكاره، وحملها على أَن تكون تابعة لما جاءَ به الله، الجنة قد حفت بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.

وقيل: هذا دعاءٌ على هذا الكافر أَلَاّ يرزقه الله الخير أَي: فلا نجا ولا سلم من لم ينفق ماله في فك الرقاب وإِطعام الجياع.

ص: 1918

12 -

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ):

أَي: وما أَعلمك وأَخبرك ما اقتحام العقبة ومجاوزتها وتخطيها؛ وهذا ينبئُ عن عظيم شأْنها وكبير خطرها، وقد أَبانها الله لرسوله بقوله بعد:(فَكُّ رَقَبَةٍ) إِلخ.

قال سفيان بن عيينة: كل شيءٍ قال فيه: (وَمَا أَدْرَاكَ) فإِنه أَخبر به، وكل شيءٍ قال فيه:(وَمَا يُدْرِيكَ) فإِنه لم يخبر به.

13 -

(فَكُّ رَقَبَةٍ):

أَي: الإِسهام والمساعدة في تحرير الرقيق من إِسار الرق، وتخليصه من ربقة العبودية بأَن يعطيه بعض ماله ليكون ذلك عونًا له على فكاك نفسه من ذل الرق، لينعم بالحرية، ولله -سبحانه - قد خفف على هؤُلاءِ المترفين ذوي النعم الكثيرة فلم يأْمرهم بعتق الرقبة كلها حتى لا يشق عليهم ذلك، وإِنما حثهم على إِعطاءِ الرقيق المكاتب ما يساعده على تحرير رقبته وتخليصها من الرق، فقد ورد أَن أَعرابيًّا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال: "عِتْقُ النَّسمَةِ، وفَكُّ الرَقَبَةِ" قال: أَو ليستا بواحدة، قال صلى الله عليه وسلم:"لا، إِنَّ عِتق النَّسمَةِ أَنْ تَنَفَردَ بعِتْقِهَا، وفَكُّ الرَقَبَةِ أَن تُعِين فِي عِتْقِهَا".

هذا، وإِن عتق الرقبة كلها فضلا كبيرًا وثوابًا عظيمًا بيّنه صلى الله عليه وسلم بقوله:"أَيُّمَا امرئٍ مُسْلمٍ أَعتقَ امرأً مسلمًا كانَ فِكَاكَهُ مِنَ النارِ يجزي كلُّ عضوٍ منهُ عضوًا منه، وأَيما امرأةٍ مسلمةٍ أعتقت امرأةً مسلمةً كانت فِكاكَهَا مِنَ النارِ يجْزي كلُّ عضوٍ منهَا عضوًا مِنهَا"(1).

14 -

(أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ):

إِطعام الطعام فضيلة، رغب فيه الإِسلام ودعا إليه الرسول الكريم وحث عليه، غير أَنه مع السغب وفي يوم المجاعة والجوع العام يكون أَفضل وأزكى وأنمى في أَعمال البر، روي عنه صلى الله عليه وسلم أَنه قال:"مِنْ مُوجباتِ الرَّحمةِ إِطعامُ المُسلمِ السَّغْبَانِ"(2). أَي: إِنه قام بالإِطعام

(1) الترمذي عن أَبي أمامة.

(2)

رواه الحاكم وصححه، والبيهقي متصلا، ومرسلا.

ص: 1919

في وقت اشتدت بالناس الحاجة، وعمتهم الفاقة، وأَصابهم الجهد، وعز فيه القوت وقل الطعام، وقال الراغب في المسغبة: الجوع مع التعب.

15 -

(يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ):

أَي: قات وأَطعم هذا الغنى صغيرًا ضعيفًا فُقد أَبوه ومات عائله، وهو لا يملك مالا ولا يجد قوتًا ولا يقدر على كسب، فضلا على أَن هذا اليتيم له بذلك الغنيّ قرابة وصلة، وفي إِطعامه يكون قد جمع بيْن الصدقة وصلة الرحم، وفيهما من الثواب ما فيهما. وقيل لا يخص القريب نسبًا بل يشمل من له قرب بالجوار.

16 -

(أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ):

أَي: أَو أَطعم من أَسكنته الحاجة، وقعد به الفقر، وهدّه العوز؛ فلم يملك ما يسد به خَلَّته، أَو يقضي به حاجته، بل صار في حالة لا يقيه من التراب شيءٌ فهو كما يقولون يفترش الغبراءَ، ويلتحف بالسماءِ. وقيل: هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.

هذا، وإِن ذلك الغني الفاجر الذي عناه القرآن سواءً أَكان شخصًا بعينه أَم هو كل من كان على هذا النحو من الغلظة والشدة والقسوة، إِن هذا الفاجر الذي تكبر بماله وتجبر بسلطانه قد ترك ما هو أَحق بالإِنفاق وأَولى بالبذل والإِعطاءِ: من رفيق ذليل، إِلى يتيم قريب فقير إِلى مسكين معدم مجهود، ترك ذلك وتجاوزه إِلى السفه وإِهلاك المال في غير ما نفع أَو خير بل أَهلكه فيما يرديه ولا ينجيه من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله.

(ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20))

ص: 1920

المفردات:

(تَوَاصَوْا): أَوصى بعضهم بعضًا.

(أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ): أَهل اليمين، وهي الجهة التي فيها السعداء، أَو أَصحاب الْيُمْنِ؛ لأَنهم ميامين ومباركون على أَنفسهم وعلى غيرهم.

(أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ): هم أَهل جهة الشمال التي فيها الأَشقياءُ، أَو أَصحاب الشؤم الشر على أنفسهم وعلى غيرهم.

(مُؤْصَدَةٌ) مغلقة ومطبقة.

التفسير

17 -

(ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ):

كلمة (ثُمَّ) هنا تفيد التراخي والتباعد في الرتبة والفضيلة، أَي: إِن مرتبة الإِيمان ومنزلته فوق جميع ما سبقه من فك الرقبة وما عطف عليه؛ لأَن الإِيمان وحده يكون سببًا للنجاة بدون أَعمال، وذلك فيمن آمن إِيمانًا كاملا تامًّا ومات في يومه قبل أَن يتمكن من عمل شيءٍ من التكاليفَ؛ فإِن ذلك ينفعه ويخلصه من النار، بخلاف الأَعمال فإِنه لا يتعد بها بدون الإِيمان.

والمعنى: ثم لا يكون مقتحَمًا للعقبة إلا إِذا كان من الذين اتصفوا بالإِيمان وتحلوا به وماتوا على ذلك؛ إِذ كل عمل لا يكون معه إِيمان بالله لا يعتد به ولا ينظر إِليه، قال تعالى في حق غير المؤْمنين:"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءًا مَنْثُورًا"(1) وقال: "وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ"(2) وقيل: إِذا فعل الطاعات لوجه الله وهو غير مؤمن ثم آمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومات على الإِيمان فإِنها تنفعه، فقد ورد أَن حكيم بن حزام قال -بعد ما أَسلم-: يا رسول الله: إِنَّا كنا نتحنث (ننعبد) بأَعمال في الجاهلية، فهل لنا فيها من شيءٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنَ الْخَيْرِ".

(1) سورة الفرقان، الآية:23.

(2)

سورة التوبة، من الآية:54.

ص: 1921

(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

أَي: يوصي بعضهم بعضًا بالصبر وحبس النفس ورياضتها على تحمل تبعات الطاعات ومشاقها، ومغالبة شهوات المعاصي وسورتها وغلوائها، والبعد عن بطر النعمة والفتنة بها وأَشرها، والتَّجَافِي من الجزع في المصائب والنوازل وأَهوالها.

(وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ):

أَي: يحث بعضهم بعضًا على الأَخذ بأَسباب الرحمة، وذلك بأَن يرحم المظلوم فيعينه على أَخذ حقه، ويشفق على الفقير فيعطيه مما أَفاءَ الله عليه، ويمنع المقدم على المنكر من مقارفته، وأَن يدل غيره على طريق الخير والحق، ويمنعه من سلوك طريق الشر والباطل ما وسعه ذلك، وفي الجملة يكونون محل رحمة ومكان شفقة: يعاونون غيرهم من أَرباب الحاجات وأَصحاب الكربات حتى يكون الله في عونهم ويعمهم برحمته.

وفي قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) إِشارة إِلى تعظيم أَمر الله بالصبر على شدائد التكاليف الشرعية، وبذل الجهد والوسع فيها، وفي قوله:(وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) إِشارة إِلى الشفقة على خلق الله، هذا وإِن الطاعات لا تقوم إِلَاّ على هذين الأَصلين صدق مع الحق سبحانه، وخُلق مع الخلق وشفقة بهم.

18 -

(أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ):

أَي: أَولئك الذين علت منزلتهم وارتفعت مكانتهم باتصافهم بالصفات الجليلة والنعوت العظيمة أَصحاب اليمين والبركة، فهم مباركون وميادمين على أَنفسهم وعلى غيرهم ممن يعاشرونهم ويخالطونهم، أَو هم أَهل الجنة السعداءُ.

19، 20 - (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ):

أَي: والذي كذبوا بآياتنا وأَنكروها ولم يؤمنوا بها مع كمال ظهورها ووضوح حجتها هم -دون غيرهم- أَرباب الشؤْم والشر، وأَهل الشقاءِ والبؤس، تتسلط عليهم نار شديدة الإِحراق، مطبقة ومغلقة عليهم لا يفتح لهم منها باب، ولا يخرجون منها من غم أُصيبوا به، ولا يخفف عنهم من عذابها، فهم فيها أَبد الآباد، لا تنفك عنهم، وما هم منها بمخرجين.

ص: 1922