الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الزلزلة
هذه السورة مدنية، وعدد آياتها ثمان آيات، وسميت بذلك لافتتاحها بها
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر - سبحانه- في السورة السابقة جزاءَ الفريقين - المؤمنين خير البرية، والكافرين شر البرية، كان ذلك كالمحرك عن السؤال عن وقت ذلك الجزاء، فبينه عز وجل في هذه السورة.
أَهم مقاصدها:
تحدثت عن أحوال القيامة، وأَهوالها الشديدة بذكر الزلزال الشديد الذي يقع، بين يدي الساعة، فيحصل بسببه أُمور عجيبة، يندهش لها الإِنسان بما يرى من انهيار كل راسخ * وزوال كل شامخ، وإِخراج الأَرض لما فيها من موتى، وإِلقاءِ ما في بطنها من كنوز ودقائق، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها فتقول له: عملت يوم كذا كذا وذلك بإِيحاءِ ربك لها: (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا
…
) الآيات.
كما تحدثت أَيضًا عن خروج النَّاس من قبورهم وانصرافهم إِلى موقف الحساب، ليروا جزاءَ الطاعة، وعقوبة المعصية اللتين قدرتا التقدير العادل، وضبطتا الضبط الدقيق، ليتبينوا مصيرهم، هل هو إِلي الجنة أَو إِلى السعير؟ جزاءً وفاقا لما عملوا: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
…
) الآيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))
المفردات:
(زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا): أَي: حركت تحريكًا عنيفا بالغ الغاية في الشدة.
(أَثْقَالَهَا) أَي: كنوزها وموتاها وكل ما في بطنها، جمع ثِقْل -بكسر وإِسكان- وهو الحمل الثقيل: وقيل: جمع ثقل -بالتحريك- وهو كل نفيس مصون.
(يَصْدُرُ) ينصرف، يقال: صدر الناس عن الوِرد، أَي: انصرفوا عنه.
(أَشْتَاتًا): متفرقين، جمع شتيت، أَي: متفرق.
(مِثْقَالَ ذَرَّةٍ): أي: مقدار وزن نملة صغيرة، أَو مقدار وزن ذرة مما يرى في شعاع الشمس الداخل من الكوة، وهو الهباء.
التفسير
1 -
3 - (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا):
أَي: إِذا حركت الأَرض تحريكًا عنيفًا ليس له ما يشبهه أَو يدانيه في الهول والشدة، إِذ هو مخصوص بها حسبما تقتضيه المشيئة الإِلهية المنبئة على الحكم البالغة.
أَو المعنى: إذا حركت تحريكًا عجبيًا لا يقادر قدره، ولا يستبان كنهه. وذلك عند نفخة البعث؛ لقوله تعالى:(وأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا) أَي: لفظت بسبب الزلزال كنوزها وموتاها أَحياءً للحساب والجزاءِ. روي ذلك عن النقاش، والزجاج، منذر بن سعيد، واقتصر بعضهم على تفسير الأَثقال بالكنوز وقال: تخرج الأَرض كنوزها يوم القيامة ليراها أَهل الموقف، فيتحسر العصاة إِذا نظروا إِليها، حيث عصوا الله فيها، ثم تركوها لا تغني عنهم شيئًا، وعليه فالأَثقال جمع ثقل -بالتحريك- وهو كل نفيس مصون. (وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا) أَي: ما بالها زلزلت هذه الشدة، ولفظت ما في بطنها، قال ذلك كل فرد من أَفراد الإِنسان عند الزلزلة والعودة إِلى الحياة، لما شاهدوا من الأَمر الهائل الذي بهرهم لفظاعته، حيث سيرت الجبال في الجو، وصيرت هباءً، على أَن المؤْمن يقول ذلك بطريق الاستعظام، والكافر يقوله بطريق التعجب، وقيل: هذا قول الكافر؛ لأَنه كان لا يؤمن بالبعث، وأَما المؤمن فيقول:"هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ"(1).
4، 5 - (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا):
أَي: يوم إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا الشديد المتكرر تحدث الخلق أخبارها.
قيل: ينطقها الله حقيقة، فتخبر بطريق المقال بما عُمِلَ عليها من خير وشر، وتشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها، ويشهد لذلك ما أَخرجه الإِمام أَحمد والترمذي عن أَبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ثم قال: "أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارَهَا"؟ قالوا: اللهُ وَرسولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلى كل عَبْد وأَمَة
(1) سورة يس، من الآية:52.
بِمَا عَمِلَ ظَهْرِهَا فَتَقُولُ: عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أَخرجت من أَثقالها، ويشهد له ما في حديث ابن ماجه في سننه:"تَقُولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَارَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي" وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إِذا قال الإِنسان: ما لها، فتخبر أَن أَمر الدنيا قد انقضى وأَمر الآخرة قد أَتى. فيكون ذلك جوابًا عند سؤَالهم، إِلى غير ذلك مما قيل.
وقيل: يكون تحديثها بطريق الحال، حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأَجله وقع زلزالها وإِخراج أَثقالها، وذلك بما يخلق الله فيها من الأَحوال التي تقوم مقام الحديث باللسان، حتى ينظر من يقول: ما لها؟ إِلى تلك الأَحوال، فيعلم لِمَ زلزلت؟ ولم لفظت أَثقالها (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (بمعنى أَنها تحدث أَخبارها بسبب إِيحاءِ الله لها، وأَمره - سبحانه- إِياها بالتحدث عن أَخبارها، فالمراد من الوحي: الإِيحاءِ والإِلهام، كما أَوحى الله إِلى أُم موسى، وقيل: الوحي إِليها: وحي إِرسال، بأَن يرسل إِليها عز وجل رسولا من الملائكة بذلك فتعيه وتعمل بمقتضاه وفق تقدير العزيز العليم.
6 -
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ):
أَي: يوم إِن يقع ما ذكر يخرج الناس من قبورهم، وينصرفون إِلى موقف الحساب متفرقين بحسب أَعمالهم، بيض الوجوه فزعين، ومقيدين بالسلاسل، وغير مقيدين، ليبصروا أَجزية أَعمالهم خيرًا كانت أَو شرًا، وتجسم لهم الأَعمال نورانية وظلمانية كما قيل، وقيل: ليعرفوا أَعمالهم، ويقفوا عليها تفصيلا عند الحساب، وعليه فلا حاجة إِلى تجسيمها؛ لأَن الرؤية علمية، وليست بصرية.
وقيل: ينصرفون من موقف الحساب متفرقين؛ فآخذ جهة اليمين إِلى الجنة، وآخذ جهة الشمال إلى النار، وعن ابن عباس: أَهل الإِيمان على حدة، وأَهل كل دين على حدة.
7، 8 - (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه):
تفصيل للرائين وما يرونه من الأَعمال خيرها وشرها. وسبب النزول -على ما أَخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن جبير- أَنه لما نزل "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلى حُبِّه" كان المسلمون
يرون أَنهم لا يؤْجرون على الشيءِ القليل إِذا أَعطوه، فيجيءُ المسكين إِلى أَبوابهم، فيستقلون أَن يعطوه التمرة والبسرة، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيءٍ، إِنما نؤْجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان آخرون يرون أَنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأَشباه ذلك، ويقولون: إِنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآيتان ترغبانهم في القليل من الخير أَن يعلموه، وتحذرانهم اليسير من الشر أَن يأْتوا به ويعملوه.
وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يتصدقون بعد نزول الآيتين بالقليل والكثير وبما عزَّ وهان، لا يدخرون في ذلك وسعًا، أُسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد، أَخرج الزجاجي في أَماليه عن أَنس بن مالك أَن سائلا أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فأَعطاه تمرة، فقال السائل: نبي من الأَنبياء يتصدق بتمرة؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ كَثِيرَةٍ) وجاءَ أَنه عليه الصلاة والسلام قال: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة).
والمعنى: فمن يعمل -من مؤْمن أَو كافر- خيرًا أَو شرًّا يَرَ جزاءَ عمله يوم الحساب، ولو كان ما عمله يعادل في القلة وزن ذرة أي: أَقل شيءٍ يعرفونه، قيل: هي النملة الصغيرة وقيل: هي واحدة الذر، وهو الهباءَ الذي يُرى في شعاع الشمس الداخل من كوة، وروى عن ابن عباس أَنه أَدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها، وقال: كل من هؤلاء مثقال ذرة، كما روي عنه أَيضًا في شرح الآية أَنه قال: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرًا أَو شرًّا في الدنيا إلَاّ أراه الله إِيَّاه يوم القيامة، فأَما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر الله له سيئاته -أَي: إذا كان مجتنبًا للكبائر- ويثيبه على حسناته، وأَما الكافر فيرى كذلك حسناته وسيئاته، فيرد الله حسناته، ويعذبه بسيئاته.
وقيل في معنى رد حسناته: إِنه لا يثاب عليها لكفره، وهو محبط للعمل، لكنه يخفف عنه العذاب؛ للأَحاديث الصحيحة، فقد ورد أَن حاتمًا يخفف عنه العذاب لكرمه، وأَن أَبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وإعتاقه جاريته "ثويبة" حين بشرته بذلك، والحديث في تخفيف عذاب أَبي طالب مشهور كما قالوا، ويشيرون إِلى الحديث الذي روي بطرق في البخاري: حدثنا مسدد بسنده عن العباس بن عبد المطلب
- رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أَغنيت عن عمك؟ فإِنه كان يحوطك ويغضب لك قال: "هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"، وفي البخاري أيضًا عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري أَنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه:(لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ) وتحدث مسلم عن ذلك في باب الشفاعة من صحيحة.
وقيل في معنى إِحباط عمل الكفار: إِنه لا ينجيهم من العذاب المخلد كأَعمال غيرهم، وهو معنى (هباء) في الآية الكريمة:"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"(1) وبظاهرها استدل قوم على حبوط جميع أَعمال الكافر لكفره، فلا ينتفع منها بشيءٍ، وادُّعي في شرح المقاصد الإِجماع على ذلك، ورده الآلوسي فقال: ودعوى الإِجماع على إِحباطها بالكلية غير تامة، كيف وهم مطالبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقًا، ولا شك أَنه لا معنى للخطاب بها إِلَّا عقاب تاركها، وثواب فاعلها، وأَقله التخفيف، وإِلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الخفاجي عليه الرحمة أ. هـ
ونقل عن التبصرة في شرح المشارق، وتفسير الثعلبي: أَن أَعمال الكفرة الحسنة التي لا تحتاج إِلى اشتراط الإِيمان: كإِنحاءِ الغريق، وإِطفاءِ الحريق، وإِطعام ابن السبيل، يُجْزَون عليها في الدنيا، ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإِجماع للتصريح به في الأَحاديث وعليه فالكافر يرى جزاءَ خيره في الدنيا في نفسه وماله وأَهله، ويعذب بِشَرِّه في الآخرة، والمؤمن يرى جزاءَ شرِّه في الدنيا بما يبتلى به ممَّا يكره، ويرى جزاءَ خيره في الآخرة، روي عن أَبي أَيوب أَنه صلى الله عليه وسلم قال له إِذ رفع يده:(مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ خَيرًا فجَزَاؤُه في الآخِرَةِ، ومَنْ عَمِلَ مِنكُمْ شَرًّا يَرَهُ فِي الدُّنْيَا مُصِيبَاتٍ وَأَمْرَاضًا، وَمن يكن فِيهِ مِثْقَالُ ذرةٍ من خَيرٍ دَخَلَ الْجَنَّة) وتقديم عمل الخير في الآية لأَنه أشرف القسمين والمقصود بالأَصالة، وليس في الآية تكرار؛ لأَن الأَول متصل بقوله:(خَيْرًا يَرَه) والثاني متصل بقوله: (شَرًّا يَرَه) والله أعلم.
(1) سورة الفرقان، الآية رقم:23.