المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهم أغراض السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌أهم أغراض السورة:

‌سورة الطلاق

‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

وتسمى سورة النساء القُصْرى. كذا سماها ابن مسعود كما أَخرجه البخاري وغيره

‌مناسبتها لما قبلها:

لمَّا ذكر - سبحانه - في السورة السابقة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ)، وكانت العداوة قد تفضي إِلى الطلاق ذكر - جل شأنه - هذا الطلاق، وأَرشد إِلى الانفصال منهن على الوجه الجميل ببيان الطلاق السني وكيف يكون؟ وذكر أَيضًا ما يتعلق بالأَولاد في الجملة.

‌أَهم أغراض السورة:

دعت الأَزواج إِذا تعذر استمرار العلاقة الزوجية إِلى سلوك أَفضل الطرق في الطلاق وذلك بأَن يكون عند استقبالهن العدة، وهو الطلاق السني الذي يكون في طهر لا جماع فيه كما دعت إِلى ضبط العدة بدءًا ونهاية، وحذرت من إِخراج المطلقات في بيوتهن أَو أَن يخرجن بدون سبب يدعو إِلي ذلك، وتوعدت من يتعدَّى شرائع الله ويستهين بها:(وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

ثم تناولت الأَحكام التي تترتب على قرب انتهاءِ العدة من إِمساكهن بمعروف أَو مفارقتهن بمعروف مع إِشهاد ذوي عدل منكم شهادة خالصة لوجه الله في حالتي الفرقة والإِمساك: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ .... ) الآية.

وبينت العدة لمن لم تحض لصغرها أَو انقطع الحيض عنها لكبرها. كما بينت العدة لأُولَات الأَحمال: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِسَائِكُمْ

) الآية.

وأَبرزت الأَمر بسكني المطلقات والنهي عن الإِضرار بهن، وأَكدت على وجوب نفقتهن حال الحمل، ووجوب أَجر الرضاع مع المسامحة والرفق والإِحسان:(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ..... ) الآية.

ص: 1457

وجهت النظر إِلى أَن تكون النفقة على قدر الطاقة سعة وضيقًا مع الرجاءِ في فضل الله "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ" الآية.

وفي خلال تلك الأَحكام التشريعية كما هي سنة القرآن دعت المؤمنين إِلى تقوى الله، وذكرتهم بإِرسال رسول يتلو عليهم آياته؛ ليدخلهم جنات تجري من تحتها الأَنهار، وحذرتهم من تعدي حدود الله، والتهاون فيها، وأَشارت أَن لأُولئك عقابا شديدًا، وعذابًا نكرًا.

وختمت السورة بضرب الأَمثلة بالأُمم الباغية التي عتت عن أَمر ربها فذاقت الوبال، والدَّمار، وببيان قدرة الله العظيمة التي تجلَّت في خلق سَبْع سموات طِباق ومن الأَرض مثلهن. وكلها براهين وحدانيته - جل وعلا - تبارك الله أَحسن الخالقين.

ص: 1458

(بسم الله الرحمن الرحيم)

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)}

المفردات:

(إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ): أَي: إِذا أَردتم تطليقهن.

(لِعِدَّتِهِنَّ): أَي: لاستقبالهن العدة بالابتداءِ فيها.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ): أَي: من مساكنهن إلي أَن تنقضي العدة.

(وَلا يَخْرُجْنَ): بإِذن أَو بدونه في مدة العدة.

(إِلا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): وتشمل الفاحشة المبينة كما قيل: النشوز والبذاء على الزوج والأَحماء، كما تشمل الزنا والسرقة وغيرهما.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): أَي: محارمه وشرائعه التي عينها لعباده.

ص: 1459

التفسير

1 -

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} :

نزلت حينما طلق ابن عمر امرأَته حائضًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأَل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابن عمر طلق امرأَته وهي حائض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليراجعها وقال: "إِذا طهرت فليطلق أَو يمسك" وقرأَ الآية.

وتخصيص النداء به صلى الله عليه وسلم في الآية مع أَن الخطاب بالحكم عام؛ لكونه عليه الصلاة والسلام إِمام الأُمة ونظير ذلك ما يقال لرئيس القوم كبيرهم: يا فلان افعلوا كذا وكذا إِظهارًا لتقدمه عليهم واعتبارًا لترؤسه فيهم، وأَنه المتكلم عنهم، يصدرون عن رأَيه، ولا يستبدون بأَمر دونه لعلو قدره، وجلالة منصبه.

وقيل: إِنه بعد أَن خاطبه الله - سبحانه - بالنداء، صرف عنه الخطاب لأُمته تكريمًا له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة، والكلام على هذا على تقدير القول، أَي: قل لأُمتك (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ).

فمعنى الآية: إِذا أَردتم تطليق النساء (1) وعزمتم عليه بتنزيل المشارف للأَمر منزلة الشارع فيه (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أَي: مستقبلات لها بالدخول فيها، فإِن المرأَة إِذا طلقت في طهر، فإِنه يعقبه القرءُ الأَول من أَقراءِ عِدتها على رأَي من يرى أَن العدة بالحيض (2)، وهي القروء المذكورة في سورة البقرة (3) وبذلك تكون قد طلقت مستقبلة لعدتها.

(1) المراد بالنساء المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف وغيره.

(2)

كأبي حنيفة وكثير من علماء السلف والخلف، وقال ابن القيم: لم يستعمل في كلام الشارع إِلا للحيض.

(3)

من الآية 258.

ص: 1460

وفي الكشاف أن المراد من الآية أَن يطلقن في طهر لم يجامَعْن فيه حتى لا تطول العدة عليهن إِذا حصل لهن حمل، وهذا هو أَحسن الطلاق، وأَدخله في باب السنة حتى عرف بالطلاق السني.

أَما تطليقهن في الحيض فهو الطلاق البدعي، وهو محرم، والآية تنهى عنه لما فيه من الإِضرار بالمرأَة لتطويل العدة عليها إِذ أَن الحيض الذي طلقت فيه لا يحتسب باتفاق، وتفصيل تلك الأَحكام تكفل بها علم الفقه.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(1) أَي اضبطوها بحفظ الوقت الذي جرى فيه الطلاق، وأَكملوها ثلاثة قروء كوامل.

(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ): أَي: خافوه وابتعدوا عن الإِضرار بهن بتطويل العدة عليهن حين تختارون تطليقهن في حيض أَو في طهر وقع فيه وطء.

وفي صفة تعالى بربوبيته لهم تأكيد للأَمر ومبالغة في وجوب الاتقاءِ له - تعالى.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) من مساكنهن عند الفراق حتى تنقضي العدة، وإِضافة البيوت إِليهن مع أَنها للأَزواج لتأكيد النهي عن إِخراجهن ولبيان كمال استحقاقهن لسكناها كأَنها مملوكة لهن وعدم العطف في قوله:(لا تُخْرِجُوهُنَّ) للإيذان باستقلال النهي عن الإِخراج اعتناءَ به، والنهي عنه يتناول كل أَسبابه من إِكراه لهن على ترك المساكن أَو لحاجة الأَزواج إِلى المساكن أو لغير ذلك (لا تُخْرِجُوهُنَّ) من تلك المساكن التي كن فيها بإِذن أو بدونه، فكأَنه قيل: لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج ولا يخرجن بأَنفسهن إِن أَردن ذلك (2)، وقيل: المعنى ولا يخرجن باستبدادهن أَما إِذا اتفقا عليه جاز إِذ الحق لا يعدوهما.

(1) المراد بقوله: "وأَحصوا" الأزواج أو الزوجات أو المسلمون، والصحيح أَنهم الأَزواج؛ لأَن الضمائر كلها لهم.

(2)

هذا في الرجعة؛ لأَنها بصدد أَن يحدث لمطلقها رأى في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج كل وقت، وأَما البائن فليس لها شيء من ذلك فيجوز لها أن تخرج إِذا دعتها إلى ذلك ضرورة.

ص: 1461

(إِلا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ): استثناء من لا تخرجوهن أَي: إِلَّا أَن يأتين بأَمر ظاهر القبح وهو ما يوجب حدًّا كالزنى والسرقة نحوهما فيُخرجن لإِقامة الحد، وكذلك إِذا طالت أَلسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أَزواجهن أَو أَحمائهن، وأَيد بما ورد عن أَبي إِلَاّ أن يفحش عليكم بفتح الياء وضم الحاء كما أَخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس وعن ابن عمر والسُّدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة.

ويرى الآلوسي أَن المعنى: لا يطلق لهن في الخروج إِلَاّ في الخروج الذي هو فاحشة ومن المعلوم أَنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا للخروج على أبلغ وجه وامتدح هذا الوجه الإمام ابن الهمام وقال إنه ونظائره بديع جدًّا نحو لا تزن إِلَاّ أَن تكون فاسقا.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ): إِشارة إِلى ما ذكر من الأَحكام التي عينها لعباده، وأُشير إِليها بإِشارة البعيد مع قرب العهد بها للإِيذان بعلو درجتها، وبعد منزلتها (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ) بالاستهانة بها، والإِخلال بشيءٍ منها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) عرضها للضرر الشديد. وهذا تقبيح لمن تعدي حدود الله (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا

) خطاب للتعدِّي بطريق الالتفات للزجر عن التعدي كأَنه قبل: ومن يتعد حدود الله فقد أَضر بنفسه فإنك لا تدري أَيها المتعدي عاقبة الأَمر لعلَّ الله يُحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أَمرًا يقتضي خلاف ما فعلت فيكون بدل بغضها محبة، وبدل الانصراف عنها إِقبالٌ عليها وبدل عزيمة الطلاق نَدَمٌ عليه ولا يتسنى تلافية برجعة أَو استئناف نكاح كأَنه قيل: التزموا حدود الله فطلقوهن لعدتهن، وأَحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن لعلكم تندمون، فتراجعون وإِبقاء المطلقة في منزل الزوج يساعد على ذلك ويجعل المراجعة أَيسر وأَسهل.

ص: 1462

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}

المفردات:

(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): شارفن وقاربن آخر عدتهن.

(وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ): عند الحاجة إِليها واجعلوا رسالتكم خالصة لوجه الله.

(يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا): خلاصًا ممَّا عسى يصيب الأَزواج من الغموم والمضايق.

(مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ): من حيث لا يخطر بباله.

(فَهُوَ حَسْبُهُ): كافيه ومعينه في كل أُموره.

(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ): يبلغ ما يريد ولا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب.

(لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا): تقديرًا وتوقيتًا.

التفسير:

3،2 - {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ

ص: 1463

اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}:

المعنى: فإِذا شارف المطلقات آخر العدة، وأَصبحن على وشك الانتهاءِ منها فأَنتم معهن بالخيار فيما بقى من زمن العدة إِن شئتم فأَمسكوهن بحسن معاشرة واتفاق لائق وود خالص وإِن شئتم ففارقوهن بإِيفاءِ الحق، واتقاءِ الضرر مثل أَن يراجعها المراجعة ثم يطلقها تطويلًا للعدة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند المراجعة أَو الفرقة قطعًا للتنازع، ومنعًا للشقاق. وهذا الأَمر للندب نظير وقوله تعالى:(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) ويروى عن الشافعي وغيره أَن قال بالوجوب عند الرجعة: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ) بأَن تجعلوها لوجهه خالصة لا للمشهود عليه ولا لغرض من الأَغراض سوى إِقامة الحق، ونصره العدل، ودفع الضرر.

(ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) الإِشارة على ما اختاره الكشاف للحث على إِقامة الشهادة لله تعالى والأَولى كما في الكشاف أَن تكون الإِشارة إِلى جميع ما ذكر من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإِحصاءِ العدة، والكف عن الإِخراج والخروج، وإِقامة الشهادة للرجعة أَو الفرقة، وفي ذلك ملازمة قوية لقوله تعالى:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فإِنه اعتراض مؤكد لِمَا سبق في الأَحكام التي تتمثل في أَمر إِجراءِ الطلاق على السنة ووجوب مراعاة حدود الله باتقائه في تعديها، فلم يضار المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأَشهد على كل عمله، ومن التزم بذلك يجعل الله له مخرجًا ممَّا عسى أن يقع في شأَن الأزواج من الهموم والغموم ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب في الدنيا والآخرة، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يتوقع أَن تتفتح عنه أَبواب الخير وتتيسر به أَسباب الرزق، وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أَكثر من الاستغفار جعل الله له من كل همٍّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)(1) وروي أَيضا عن ابن عباس قال: إِن عوف بن مالك الأَشجعي أَسر المشركون ابنه سالمًا فأَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أُسر ابني وشكا إِليه الفاقة فقال عليه الصلاة والسلام: (اتق الله وأَكثر من قول لا حول ولا قوة إِلا بالله العظيم) ففعل، فبينما هو في بيته إِذ قرع ابنه

(1) رواه الحاكم 4 - 262.

ص: 1464

الباب ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) بأَن يكل أَمره إِليه تعالى مؤثرًا له على الطمع في غيره، وعن تدبير نفسه، إِن فعل ذلك وتخلق به كان الله له معينًا وكافيًا في الدنيا والآخرة (1).

أَخرج أَحمد في الزهد عن وهب قال: يقول الرب تبارك وتعالى: (إِذا توكل علي عبدي لو كادته السموات والأَرض جعلت له من بين ذلك المخرج).

(إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) بمعنى منفذ أَمره في كل ما كان وما يكون يبلغ ما يريد، ولا يفوته مراد، ولا يعجزة مطلوب (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) تقديرًا قبل وجوده أَو مقدارًا من الزمان ينتهي إِليه، ويشير التعميم في الجملة إِلى وجوب التوكل عليه تعالى، وتفويض الأَمر إِليه؛ لأَنه إِذا عُلم أَن كل شيءٍ من الرزق وغيره لا يكون إِلا بتقديره سبحانه، لا يبقى إِلَاّ التسليم للقدر، والتوكل على الله تعالى:

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}

المفردات:

(وَاللَائِي يَئِسْنَ): أَي: انقطع عنهن الحيض لكبر سنهن، وقدر بستين أَو خمس وخمسين سنة.

(إِنْ ارْتَبْتُمْ): إِن شككتم وجهلتم كيف تكون عدة اليائس.

(1) رواه السيوطي في الدار المنثور 8 - 197 وعزاه لابن مردويه.

ص: 1465

(يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ): يذهبها.

(وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا): بالمضاعفة.

التفسير

4 -

{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} :

روى أَن أُناسا قالوا: قد عرفنا عدة ذات الأَقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت عدة الآيسة واللَّائي لم يحضن وأُولات الأحمال، فتذكر أَن عدة اليائسة التي بلغت سن اليأس من الحيض وهي تقدر بستين سنة أَو بخمس وخمسين، ثلاثة أَشهر. إِن ارتبتم وأُشكل عليكم حكمهن، وجهلتم كيف يعتدون؟ وكذلك تكون عدة الصغيرات اللَّاتي لم تحضن ثلاثة أَشهر (1)، وحذف بيان العدة في النص الكريم مع اللاتي لم تحضن ثقة بدلالة ما قبله عليه.

وعدة أُولات الأَحمال أَن يضعن حملهن سواء كن مطلقات أَو متوفى عنهن أَزواجهن فقد أَخرج جماعة عن ابن عمر أَنه سئل عن المرأَة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إِن وضعت حملها حلت فأخبره رجل من الأَنصار أَن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلَّت.

وذهب علي - كرم الله وجهه - وابن عباس رضي الله عنهما إِن الآية في المطلقات، وأَما المتوفى عنها زوجها فعدتها آخر الأَجلين أَي: الأَشهر أَو وضع الحمل وهو مذهب الإِمامية كما في مجمع البيان، وقوله:

(وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) خصص به عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) لتراخي نزوله عن ذلك لما هو المشهور من قول ابن مسعود رضي الله عنه من شاءَ باهلته أَن سورة النساءِ القصرى

(1) فإِذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء، انتقلت إلي الدم لوجود الأَصل كما أن السنة إِذا اعتدت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر وهذا إِجماع كما قال القرطبي.

ص: 1466

نزلت بعد التي في سورة البقرة، وقد صح أَن سبيعة بنت الحارث الأَسلميةَ ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها:(قد حللت فتزوجي).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) أَي: ومن اتقاه - سبحانه - في شأن أَحكامه ومراعاة حقوقها يسهل عليه أَمره، يوفقه للخير، ولكل عمل نافع وقيل: يجعل له يسرًا أَي ثوابا.

5 -

{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} :

إِشارة إِلى ما علم من حكم المعتدات، وما في الإِشارة من معنى البعد عن قرب العهد بالمشار إِليه للإِيذان ببعد منزلته في الفضل، وقد أَنزله إِليكم من اللَّوح المحفوظ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في تلك الأَحكام بالمحافظة عليها (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) فإِن الحسنات يذهبن السيئات، وفي الحديث:(وأَتْبعِ السَّيَّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا)(1).

(وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) بالمضاعفة، (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)(2).

(1) رواه أحمد عن أبي ذر: 5 - 153.

(2)

سورة الأنعام: من الآية 160.

ص: 1467

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}

المفردات:

(مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ): الوجد مثلثة الواو الوسع والطاقة أَي: أَسكنوهن مكانًا من سكنكم وفق وسعكم وطاقتكم.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لكم): أَي المطلقات.

(وَأئتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ): أَي تشاوروا وأَن يأمر بعضكم بعضًا باليسر والتسامح في الأُجرة.

(وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ): بأَن كان من الأَب مضايقة أَو من الأُم ممانعة.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ): ضيق عليه في رزقه.

التفسير

6 -

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)} :

ص: 1468

استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأَ عمَّا قبله من الحث على التقوى كأَنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات، فأُجيب عن ذلك بقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ .... ) الآية.

أَي: أَسكنوا المعتدات مكانًا من مسكنكم الذي تسكنونه حسبما تطيقونه مع وسع وقدرة، وقد روي عن قتادة ما يؤيد ذلك حيث قال: ولتسْكُن إِذا لم يكن إِلا بيت واحد في بعض نواحيه، وهي واجبة باتفاق مع النفقة لكل مطلقة رجعية حاملًا كانت أَو حائلًا، أَما المبتوتة وهي التي طلقت ثلاثًا، وليست ذات حمل، فقد اختلف في شأنها العلماء، فعند ابن المسيب ومالك والأَوزاعي والشافعي وغيرهم ليس لها إِلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن، وحماد وأَحمد وغيرهم لا نفقة لها ولا سكنى لحديث فاطمة بنت قيس قالت: إِن زوجها أَبتّ طلاقها فخاصمته إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: لا سكنى لك ولا نفقة، وأَمرها أَن تعتدّ في بيت ابن أَم مكتوم، ثم أَنكحها أُسامة بن زيد.

وعن عمر رضي الله عنه أَنه طعن في هذا الحديث، فقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأَة لعلها نسيت أَو شبه لها، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: السكنى والنفقة، وقد طعن في حديث فاطمة أَيضًا عائشة وسليمان بن يسار وأُبو سلمة وغيرهم.

وقال أَبو حنيفة والثوري: لها السكني والنفقة، بدليل قول عمر رضي الله عنه وقال ابن نافع: قال مالك في قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ) يعني المطلقات اللَّاتي بنَّ أَزواجهن ولا رجعة لهم عليهن، ولسن ذوات حمل، فلكل منهن السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة؛ لأَنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها.

فأَما من لم تَبن منهن، فإِنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إِلا أن يأذن لهن أَزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن؛ لأَن ذلك لازم على أَزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن حوامل كن أَو غير حامل.

(وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ): أَي: تجنبوا الإِضرار بالمعتدات، فلا تستعملوا معهن ما يؤديهن لإِلجائهن إِلى الخروج كأَن تنزلوا معهن من لا يوافقهن في الجوار، أو تشغلوا المكان بغيرهن أَو نحو ذلك.

ص: 1469

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ): وبوضع الحمل يخرجن من العدة.

قال كثيرٌ من العلماءِ منهم ابن عباس، وطائفة من السلف، وجماعات من الخلف: هذا الحكم في البائن - إِن كانت حاملًا أَنفق الزوج عليها مع السكنى حتى تضع حملها قالوا: بدليل أَن الرجعية تجب نفقتها حاملًا كانت أَو حائلًا.

وقال آخرون: بل السياق كله في الرجعيات، وإِنما نص على الإنفاق على الحامل، وإِن كانت رجعية؛ لأَن الحمل تطول مدته غالبا، فاحتيج إِلى النص على وجوب الإنفاق عليها إِلى الوضع؛ لئلا يتوهم أَنها لا نفقة لها نظرًا لذلك وليعلم حكم غيرها بالطريق الأَولى.

أَما أُولات الحمل المتوفى عنهن أَزواجهن فلا نفقة لهن عند أَكثر العلماءِ، ويرى علي - كرم الله وجهه - وابن مسعود وجوب نفقتهن في التركة من جميع المال حتى يضعن، وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك الشافعي وأَبو حنيفة لا ينفق عليها إِلَاّ من نصيبها.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) بعد انقطاع عصمة الزوجية بوضع حملهن (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) على ما قمن به من إِرضاع ثم خاطب - سبحانه - الآباء والأمهات، ودعاهم إِلى أَن يتشاوروا، فيأمر بعضهم بعضًا بمعروف أَي: بجميل في الأُجرة والإِرضاع، وذلك بحديث سمح بعيد عن المماكسة من الأَب والمعاشرة من الأُم فقال تعالى:(وَأئتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، وقيل: المعروف الكسوة والدثار (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) أَي: وإِن ضيق أَحدكم على الآخر بالمشاحة والمبالغة في الزيادة أَو النقص في الأُجرة، فسترضعه مرضعة أُخرى غير الأُم، على معنى فليطلب الأَب هذه المرضعة، فإِن لم يقبل الولد ثديها، أُجبرت الأُم على الإِرضاع بأَجر المثل، وفيه معاتبة للأُم على المعاشرة كقولك لمن تستقضيه حاجة، فيتوانى سيقضيها غيرك، بمعنى ستقضي وأَنت ملوم.

وخصت الأُم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير، لأَن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصًا من الأُم على الولد، ولا كذلك المبذول من

ص: 1470

الأَب فإِنه المال المضمون عادة، فالأُم إِذن أَحق باللوم، وأَولى بالعتب خصوصًا وهي أَكثر حنوا وشفقة على الوليد، ولذلك لو رضيت الأُم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أَحق بولدها.

7 -

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} :

المعنى: لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه وفق ما أَمر به من الإِنفاق على المطلقات والمرضعات (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) أَي: بقدر ما أَعطاها من الطاقة والقوة، وقيل: بقدر ما آتاها من الأَرزاق قلت أَو كثرت، وفيه تطييب واستمالة لقلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعد للفقراءِ بفتح أَبواب الرزق عليهم عاجلا أو آجلا أَو لفقراءِ الأَزواج إِن أَنفقوا ما قدروا عليه، ولم يقع منهم تقصير وهو على كلا الوجهين لتأكيد المعنى المراد من الترغيب في الإِنفاق قل مال المنفق أَو كثر.

ص: 1471

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}

المفردات:

(عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا): استكبرت وطغت وعتا من باب قعد.

(عَذَابًا نُكْرًا): منكرا شديدا والمراد عذاب الآخرة.

(فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا): أَي فتجرعت وخامة وسوءَ عاقبتها.

(خُسْرًا): خسارا هائلا.

(قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا): جبريل أَو النبي أَو القرآن.

التفسير

8 -

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)} :

ص: 1472

يتوعد الله - سبحانه - من خالف أَمره، وكذب رسله، ويخبر عما حل بالأُمم السابقة بسب ذلك فيقول تعالى:(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ) أَي: كثير من أَهل قرية تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أَمر الله، ومتابعة رسله (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا) بالاستقضاءِ والمناقشة لأَهلها في كل نقير (1) من الذنوب وقطمير (2) مما اقترفته جوارحهم فلا تجاوز لهم عن شيءٍ مهما قل (وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أَي: منكرًا عظيمًا يفوق التصور حيث لم تخطر ببالهم شدته، وتعدت الاحتمال قسوته، والمراد حساب الآخرة مع ما عجل لهم في الدنيا من العذاب بالجوع، والقحط، وسائر المصائب والبلايا.

والتعبير بالماضي في قوله: (فَحَاسَبْنَاهَا) وفي قوله (وَعَذَّبْنَاهَا) للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى: (وَنَادَي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ).

ويجوز أَن يراد بالحساب إِحصاء جميع ذنوبهم وكتابتها في صحائف أَعمالهم لدى الحفظة، وبالعذاب ما أَصابهم عاجلا في الدنيا من العقاب، ويكون الإِتيان بالماضي في (فَحَاسَبْنَاهَا) وفي (وَعَذَّبْنَاهَا) على الحقيقة لوقوع الحساب والعقاب في دنياهم.

9 -

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)} :

أَي: فذاقت عقوبة عتوها وكفرها وتمردها على أَوامر الله، وكانت نتيجة ذلك خسارًا شديدًا لا خسار وراءَه، والمراد عقوبة الآخرة، وجيءَ بلفظ الماضي؛ لأَن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقي وواقع في الحقيقة فكأَنه قد كان.

10 -

{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)} :

تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ).

(1) النقير: النكتة في ظهر النواة.

(2)

القطمير: القشرة الرقيقة التي على النواة كاللفافة.

ص: 1473

كأَنه قيل: أَعد الله لهم هذا العذاب المترقب فليكن ذلك يا أُولي الأَلباب داعيًا لكم لتقوى الله - تعالى - وحذر عقابه، وجملة (أَعَدَّ اللَّهُ) إِلخ استئناف يشير إِلى أَن عذابهم ليس منحصرًا فيما ذكر من الحساب الشديد والعذاب النكر بل لهم بعدهما عذاب شديد آخر مُعدّ لمزيد عقابهم، وقوله:(الَّذِينَ آمَنُوا) بيان لأُولي الأَلباب (قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا).

وقيل: هو جبريل عليه السلام سمي ذكرًا لكثرة ذكره أَو لنزوله بالذكر الذي هو القرآن:

كما ينبيءُ عنه إِنزال قوله تعالى (رَسُولًا) منه.

وقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه الأَكثر، وإِطلاق الذكر عليه لمواظبته عليه الصلاة والسلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر، وتبليغه والتذكير به - وعبر عن إِرساله بالإِنزال؛ لأَن الإِرسال سبب عن إِنزال بالوحي عليه صلى الله عليه وسلم على سبيل المجاز.

11 -

{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)} :

(رَسُولًا): بدل جاءَ للبيان من قوله: (ذِكْرًا) قال ابن جرير: الصواب أَن الرسول ترجمة عن المذكر وتبيين له وقال أَبو حبان: الظاهر أَن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي توجيه هذا الرأي أَقوال: أَشهرها أن رسولا منصوب بفعل محذوف تقديره أَرسل دل عليه أَنزل أَي: أَنزل لكم ذكرا، وأَرسل إِليكم رسولا ونحا إِلى هذا السّدي، واختاره ابن عطية.

(يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ) نعت لقوله: "رَسُولًا" أَي: أَنه صلى الله عليه وسلم يقرأُ عليكم أَو حال من اسم الله في قوله تعالى: (قَدْ أَنزَلَ اللهُ

).

ص: 1474

أَي: أَن الله تعالى يأمر أَمين وحيه جبريل عليه السلام أَن يقرأَ على رسوله آياتِ الله. القرآن. واضحات جليات تبين لكم الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من أَحكام دينكم (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور) المراد من الذين آمنوا المؤمنون بعد إِنزال الذكر، وقبل نزول هذه الآية، أَو من علم سبحانه وقدر أَنهم سيؤمنون، وعلى ذلك يكون المعنى على الأَول، ليخرج الله أَو الرسول (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أَي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإِيمان والعمل الصالح، وعلى الثاني ليخرج من علم الله وقدر أَنه يؤمن (مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أَي: من أَنواع الضلالات إلى الهدى، ومن ظلمات الكفر والجهل إلي نور الإِيمان والعلم والتعبير بالماضي في قوله سبحانه:(الَّذِينَ آمَنُوا) عمن سيؤمن، باعتبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأَزلي، أَو باعتبار نزول هذه الآية (1) (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا) وفق ما بُيِّن في تضاعيف ما أَنزل من الآيات الواضحات التي ورد بها بالذكر الحكيم (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) أَي: تنساب من بين قصورها الأَنهار الصافية؛ ليكمل لهم النعيم العظيم في دار البقاءِ (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) بمعنى أَن مكثهم في تلك الجنات دائم حيث لا يخرجون منها ولا يموتون (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا) فيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزقه الله - تعالى - المؤمنين من الثواب وسائر المطاعم والمشارب، وكل ما لذ وطاب مما تقر به الأَعين، وتطمئن إِليه النفوس، وإِلا لم يكن في الإِخبار بما ذكر ههنا كثير فائدة.

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)}

(1) إِذا أريد بالذين آمنوا المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية.

ص: 1475

المفردات:

(يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ): أَي: يجري أَمر الله وقضاؤُه وقدره بينهن، وينفذ حكمه فيهن.

(قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا): أي: أَنه سبحانه لا تخفى عليه خافية لإِحاطة علمه بكل شيء لاستحالة صدور هذه الكائنات العظيمة ممن ليس كذلك.

التفسير

12 -

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} :

إِخبار من الله تعالى - عن قدرته التامة، وسلطانه العظيم؛ ليكون ذلك باعثًا وحافزا على تعظيم ما شرع الله من الدين القويم، وما خلق من مخلوقات كونية على أَقصى درجة من الإِحكام والكمال، لا تحيط بعظمتها منطقة الفكر ولا دائرة العقل، ويضيق عنها نطاق الحصر، ولا أَدل على ذلك من أَنه سبحانه هو الذي خلق سبع سموات طباقًا ومن الأَرض مثلهن في العدد بمعنى أَنها طبقات سبع بعضها فوق بعض وهو رأَي الجمهور وقد وصفه القرطبي بأَنه أَصح الأَقوال وطبقات الأَرض هي الصينية والصخرية والمائية والمعدنية ونحو ذلك. وقيل: المثلية بين السموات والأَرض في الخلق لا في العدد ولا في غيره فهي أَرض واحدة مخلوقة كالسموات السبع، وأُيِّد بأَن الأَرض لم تذكر في القرآن إِلا موحَّدة، ورُد بأَنه صح في رواية البخاري وغيره "اللهم رب السموات السبع وما أَقللن ورب الأَرضين السبع وما أَظللن" الحديث كما ردُ بما ثبت في الصحيحين "من ظلم قيد شبر من الأَرض طوقه من سبع أَرضين" وعن ابن عباس رضي الله عنهما أَن نافع بن الأَزرق سأَله هل تحت الأَرض خلق؟ قال نعم قال: فما الخلق؟ قال: إِما ملائكة أَو جن.

وأَخيرا لعل القول بالتعدد هو المتبادر من الآية وتقتضيه الأَخبار.

ويقول روح المعاني: ومع هذا هو ليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أَو المتردد فيه

ص: 1476

وقد ذكروا تفضيلات عن جوهر كل سماء وعن المسافة بين كل سماء وأُخرى وبين كل أَرض وأُخرى.

وهذا ونحوه حقيق بأَن نكل أَمره إلى الله عالم الغيب والشهادة.

(يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) أَي: يجري أَمر الله - تعالى - وقضاؤُه وقدره عز وجل بينهن، وينفذ حكمه فيهن، وعن قتادة في كل سماءِ وفي كل أَرض خلق من خلقه وقضاء من قضائه عز وجل وقيل:(يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) بحياة وموت وغنى وفقر.

وقال مقاتل: (الأَمْرُ) هنا الوحي و (بَيْنَهُنَّ) إِشارة إِلى ما بين هذه الأَرض السفلى التي هي أَدناها وبين السماءِ السابعة التي هي أَقصاها (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَي: أَعلمتكم وأَخبرتكم بذلك من خلق سبع سموات بعضها فوق بعض ومن الأَرض مثلهن: لتعلموا أَن الله قادر على كل شيءٍ (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) لاستحالة صدور هذه المخلوقات العظيمة ممن ليس كذلك، بل هي شواهد ناطقة، ودلالات بينة.

على أَن علمه الواسع قد أَحاط بكل شيء - عز أَو دقّ - وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية يعلم خائنة الأَعين وما تخفي الصدور.

ص: 1477