الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفجر
هذه السورة مكية، وآياتها ثلاثون
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر -سبحانه- في السورة السابقة "وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ خَاشِعةٌ" و"وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاعِمَةٌ" أَتبعه - تعالى- في هذه السورة بذكر طوائف المكذبين والمتجبرين كقوم عاد وثمود، وقوم فرعون، وهؤُلاءِ وجوههم خاشعة ذليلة، وأَشار -سبحانه- إِلى الصنف الآخر الذين اتصفوا بأَن وجوههم ناعمة بقوله - تعالى - (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ" وتلك مناسبة واضحة لمجيءِ هذه السورة بعد السورة السابقة وأَيضًا فيها مما يتعلق بأَمر الغاشية وما فيها.
أَهم مقاصدها:
1 -
ذكرت السورة قصص بعض المكذبين لرسل الله، وبينت ما حل بهم من تنكيل، وتدمير (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) الآيات.
2 -
أَبرزت ما بدر من الإِنسان حينما اختبره ربه في هذه الحياة بالخير والشر، والغنى والفقر، وأَشارت إِلى طبيعته في حبه لشديد للمال، والرغبة في الاستزادة منه، ولا يسأَلون أَهو من حلال أَم من حرام؟! (فأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) الآيات.
3 -
تحدثت عن الآخرة وأَهوالها وشدائدها، وعن مجيءِ ربك لفصل القضاءِ والملائكة صفًّا صفًّا، وإِحضار جهنم، وانقسام الناس إِلى سعداءَ، وأَشقياءَ (كَلَاّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) الآيات.
4 -
لفتت الأَنظار إِلى ندم المفرطين والعصاة، وأَسفهم في وقت لا ينفع فيه الندم، ولا يجدي الأَسف، بل هم يومئذ يعذبون عذابًا لا مثيل له، ويوثقون وثاقًا بلغ الغاية في الضبط والإِحكام (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) الآيات.
5 -
ختمت السورة ببيان أَن مرجع المؤمن عند الموت إلى الرحمة والرضوان، ونعيم الجنان (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14))
المفردات:
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ): الزوج والفرد من كل شيءٍ.
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أَي: يمضي بحركة الكون العجيبة، أَو أَقسم بالليل وقت أَن يُسْرَى فيه، وإِسناد السرى إِليه مجاز على حد (ليل نائم) أَي: ينام فيه.
(لِذِي حِجْرٍ) أَي: لذي عقل، سمي به لأَنه يحجر صاحبه ويمنعه عن التهافت فيما لا ينبغي.
(إِرَمَ): هي عاد الأُولى؛ تسمية لهم باسم جدهم، وقيل: إِرم: بلدتهم وأَرضهم التي كانوا عليها.
(ذَاتِ الْعِمَادِ) أَي: أَن قدودهم وقاماتهم كالأَعمدة في الطول.
(جَابُوا الصَّخْرَ) أَي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتًا، ومنه: يجوب فلان البلاد، أَي: يقطعها.
(ذِي الأَوْتَادِ) أَي: الجنود الكثيرة، وكانت لهم مضارب كثيرة، يشدون خيامها إِذا نزلوا بالأَوتاد.
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ): الصب: التتابع، والسوط: الجلد المضفور، أَي: المجدول، وذلك مجاز عن إِيقاع العذاب بهم على أَبلغ الوجوه؛ إِذ الصب يشعر بالدوام، والوسط بزيادة الإِيلام، بمعنى أَنهم عذبوا عذابًا مؤلمًا دائمًا.
(لَبِالْمِرْصَادِ): وهو المكان الذي يقوم فيه الرصد، وهذا مثل لإِرصاده العباد، وأَنهم لا يفوتونه، وأَنه عالم بما يصدر عنهم، فيجازيهم عليه.
التفسير:
1 -
5 - (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ):
أَقسم الله -سبحانه- بهذه الأَقسام الخمسة لشرفها وعظمها، ولما فيها من الفوائد الدينية والدنوينة، فأَقسم بالفجر -وهو الصبح- لما يحصل به من ظهور الضوءِ، وانتشار الناس لتحصيل الرزق، وقيل: هو صلاة الفجر؛ لأَنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وعن مسروق، ومجاهد، ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر، كما أَقسم بالليالي العشر لشرفها بما يقع فيها، والمراد بها: عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعًا: "مَا مِنْ أَيَّام الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلى الله فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّام) يعني عشر ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبيل الله إِلَاّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسَهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيْءٍ)، وقيل: المراد العشر الأَول من المحرم وفيها يوم عاشوراء، وقد ورد في فضله ما ورد. وروي
عن ابن عباس أَنهن العشر الأَواخر من رمضان، واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته؛ قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها-:"كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذاَ دَخَلَ الْعَشْرُ -تعني العشر الأَواخر من رمضان- شَدَّ مِئْزَرَهُ وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهله" وأَيًّا ما كان فتنكير ليالٍ للتعظيم، وقيل: للتبعيض، لأَنها بعض ليالي السنة أَو الشهر. وكونه للتعظيم والتفخيم أَولى.
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أَي: أَقسم -سبحانه- بشفع الأَشياءٍ ووترها، أَو بشفع هذه الليالي وترها، أَو بشفع الصلاة وترها، أَو بيوم النحر وهو شفع، وبيوم عرفة وهو وتر، وقد كثرت فيها الأَقوال، والله أَعلم بحقيقة الحال.
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أَي: أَقسم بالليل وقت أَن يسري فيه، وإِسناد السُّرى إليه مجاز، على حد "ليل نائم" أَي: يُنام فيه: أَو المراد: أَقسم بالليل إِذ يمضي بقدرة الله العجيبة، كقوله تعالى:"وَاللَّيْلِ إِذَا أَدْبَرَ" والقسم بالليل لما فيه من الستر الذي قد يقتضيه الحال، وجواب هذا القَسَم والأَقسام السابقة محذوف يدل عليه قوله تعالى "أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ" إِلى قوله:"فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ" أَي: ليعذبن الذين كفروا بالله، وأَنكروا البعث أَشد العذاب وأَقساه (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر) المشار إِليه بـ (ذَلِكَ) هو الأَمور الخمسة المقسم بها، والاستفهام للتقرير، أَي: إِن في هذه الأُمور المشتملة على باهر الحكمة وعجيب الصنعة قسمًا مقنعًا لذي عقل ولب فضلا على أَنها مستحقة لأَن يقسم بها تنبيهًا على شأْنها، وفخامة قدرها لإِشارتها إِلى الخالق العظيم.
6، 8 - (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ):
استشهاد بعلمه عليه الصلاة والسلام بما يدل عليه من تعذيب عاد وأَضرابهم المشاركين لقومه صلى الله عليه وسلم في الطغيان والفساد، كأَنه قيل: أَلم تعلم علمًا يوازي العيان في الإِيقان كيف عذب ربك عادًا ونظائرهم؟! فيعذب هؤُلاءِ أَيضًا لاشتراكم فيما يوجبه
الكفر والمعاصي؟! والاستفهام للتقرير، والمراد بعاد: أَولاد عاد بن إِرم بن عوص بن سام ابن نوح عليه السلام وهم قوم هود عليه السلام سُمُّوا باسم أَبيهم، كما سمى بنو هاشم هاشمًا.
وقيل لأَوائلهم: عاد الأُولى، ولأَواخرهم: عاد الآخرة، وإِطلاق اسم الأَب على نسله مجاز شائع حتى أُلحق بعضه بالحقيقة.
(إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ): إِرم عطف بيان لعاد زيادة في التعريف بهم، وللإِيذان بأَنهم عاد الأُولى، وهو تسمية لهم باسم جدهم، والأَكثرون على أَنها اسم مدينة عظيمة باليمن، والوصفان لها، والمراد: ذات البناءِ الرفيع، ولقد أَرسل الله إِلى عاد هودًا عليه السلام فكذبوه وخالفوه فنجاه الله ونجى من آمن معه منهم، وأَهلكهم بريح صرصر عاتية "سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا"(1) وذكرت قصتهم في القرآن في غير موضع، وكانوا يسكنون خيام الشعر ذات الأَعمدة التي ترفع عليها -عن قتادة وابن عباس في رواية عطاءِ: المراد: ذات الخيام والأَعمدة.
وقد يراد بذات العماد الوصف لإِرم نفسها، بمعنى أَنها ذات القدود الطويلة، على تشبيه قاماتهم بالأَعمدة، واشتهر أَنه كان طول أَحدهم اثني عشر ذراعًا وأَكثر، وقيل غير ذلك.
(الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ): صفة أُخرى لإِرم، أَي: ليس لهم مثيل في عظم الأَجرام، وقوة البطش في بلاد الدنيا، حتى قيل: كان الرجل منهم يحمل الصخرة، ويلقيها على الحي فيهلك كل من فيه، وهم الذين قالوا؛ "مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً"(2) وكانوا يسكنون عُمَان وحضرموت من بلاد الأَحقاف (3).
(1) سورة الحاقة من الآية رقم 7.
(2)
سورة فصلت، من الآية:15.
(3)
يقال للرمل المعوج: حقف، والجمع: أحقاف.
قال تعالى: "وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ) (1) وقد امتن عليهم -سبحانه- بقوله: "وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً" (2).
9 -
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ):
عطف على عاد، وثمود: قبيلة مشهورة، سميت باسم جدهم (ثمود) أَخي جديس، وهما ابنا عامر بن إِرم بن سام بن نوح عليه السلام كانوا عربًا من العارية يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأَصنام، وقد جابوا صخر الجبال أَي: قطعوه، واتخذوا فيها بيوتًا نحتوها من الصخر، كما قال تعالى:"وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ"(3) وهم أَول من نحت الجبال، والصخور، والرخام، وقيل: إِنهم بنوا أَلفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة بوادي القرى.
10 -
12 - (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ):
أَي: وفرعون ذي الجنود الكثيرة، وكانت لهم مضارب متعددة يضربون أَوتادها إِذا نزلوا حتى تستوعب تلك الأَعداد الموفورة، وقيل: إِنه كان يدق للمعذب أَربعة أَوتاد، ويشده مبطوحًا على الأَرض فيعذبه بما يريد من ضرب أَو إِحراق أَو غيرهما.
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ): صفة للمذكورين: عاد، وثمود، وفرعون، أَي: وعتوا في البلاد التي كانت لهم وتجاوزوا الحد في الظلم والطغيان: (فأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) أَي: بالكفر بالله، واقتراف سائر المعاصي.
13 -
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ):
المراد: إِيقاع العذاب بهم على أَبلغ الوجوه وأَشدها، إِذ الصب لشيءٍ مائع يشعر بالتتابع والسوط بشعر بزيادة الإِيلام، حيث إِنه شاع استعماله في الجلد المضفور الذي يتخذ عادة للمبالغة في العقاب، أَي: عذبوا عذابًا دائمًا مؤلمًا.
(1) سورة الأحقاف، الآية:21.
(2)
سورة الأَعراف، من الآية:69.
(3)
سورة الشعراء الآية: 149.
14 -
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ):
تعليل لما قبله، والأَصل في المرصاد المكان الذي يقوم فيه الرصد للمراقبة والاستطلاع. والمراد أَنه - تعالى - يرقب عمل كل إِنسان، ويحصيه عليه، ويجازي بالخير خيرًا، وبالشر شرًّا، ولا يفوته من الخلق أَحد، ولا من أَعمالهم شيءٌ، ومنهم أُولئك الجبابرة الطُّغاة الذين عاثوا في الأَرض فسادًا، واتخذوا الله أَندادًا وشركاء، وأَضرابهم ككفار مكة.
(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20))
المفردات:
(إِذَا مَا ابْتَلاهُ): عامله معاملة المختبر.
(فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ): أَي ضيقه عليه.
(التُّرَاثَ): المال الموروث.
(أَكْلًا لَمًّا) أَي: شديدًا لا تتركون منه شيئًا، واللَّمُّ: الجمع.
(جَمًّا): كثيرًا مع حرص يقال: جم الماءُ في الحوض: إِذا كثر واجتمع.
التفسير
15 -
(فأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ):
هذه الآية وما بعدها كلام متصل بما قبله، أَي: الواجب لمن علم أَن ربه بالمرصاد أَن يسعى للعاقبة ولا يصرف كل همه للعاجلة، كأَنه قيل: إِنه - تعالى - لبالمرصاد من أَجل الآخرة لمراقبة أَحوال عباده ومجازاتهم على أَعمالهم خيرًا كانت أَو شرًّا، فهو - سبحانه- لا يطلب إلا السعي لها، أَما الإِنسان فقد عكس، وأَصبح كل همه الدنيا ولذائذها (إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) أَي: عامله معاملة المختبر بالغنى واليسار (فأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) بالمال الوفير، والجاه العريض، وأَسباب القوة والعزة (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أَي: أَكرمني بذلك لمزيد استحقاقي له، فيرى أَن الإِكرام في كثرة الحظ من الدنيا، ولم يخطر بباله أَنه فضل تفضل الله به عليه في دنياه ليختبره هل يشكر أَو يكفر؟! كما قال الله - تعالى-:"أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ"(1).
16 -
(وأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ):
وأَما هو -أَي: هذا الإِنسان- إِذا ما اختبره ربه (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أَي: إِنه يرى الهوان والمذلة في الفقر، وقلة الحظ من الدنيا التي هي كل همه، وغفل عن أَن التقتير قد يؤَدي إِلى كرامة الدارين، وأَن التوسعة قد تفضي إِلى خسرانهما، وأَن كل ما يقع قد اقتضته الحكم البالغة لله - تعالى - فإِن الله يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب، فقد يوسع على الكافر وهو مهان، ويضيق على المؤمن وهو مكرم، وإِنما المدار في ذلك على طاعة الله في الحالين؛ بأَن يشكر الله إِذا كان غنيًا، وأَن يصبر إِذا كان فقيرًا.
(1) سورة المؤمنون، الآيتان: 55: 56.
17 -
(كَلَاّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ):
بدئت الآية بقوله سبحانه (كَلَاّ) لردع الإِنسان عن قوليه المحكيين في الآيات السابقة والتكذيب له فيهما، وقال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى: لم أَبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أَبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك لمحض القضاءِ والقدر، قوله -سبحانه- (بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) إِلى آخره، انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إِلى الأَقبح من الفِعْلِ، وتوجيه الخطاب إِلى كفار مكة الداخلين فيما سبق دخولا أَوليًا لتشديد التقريع أَي: بل لكم أَفعال وأَحوال أَشد شرًا مما ذكر، وأَدل على تهالككم على المال الذي أَكرمكم الله بكثرته فتبخلون به، وتحرمون اليتيم الذي هو أَهل له، وأَحق بالبر به والإِحسان إليه كما جاءَ في الحديث الذي رواه ابن ماجة عن أَبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يَتَيمٌ يُحْسَنُ إِلَيْهِ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ بَيْتٌ فِيهِ يتَيِمٌ يُسَاءُ إِلَيْهِ" وورد أَيضًا: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وقرن بين أُصبعيه: الوسطى والتي تلي الإِبهام) كما رواه البخاري ومسلم.
18 -
(وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ):
أَي: لا يحض بعضكم بعضًا على إِطعام المساكين، ولا تأْمرون به، والمراد من المسكين، ما يعم الفقير.
19 -
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا):
أَي: وتأْكلون المال الموروث أَكلا ذا كمٍّ وجمع من أَي جهة حصل لكم من حلال أَو حرام، وكانوا لا يورثون النساء والصبيان، ويأْكلون أَنصباءَهم ويقولون: لا يأْكل الميراث إِلا من يقاتل ويحمي الحوزة، أَو يأْكلون ما تركه المورث سواء أَجَمَعَه من حلال أَم من حرام عالمين بذلك.
وفي الكشاف: يجوز أَن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أَن يفرق في جمعه فيسرف في إِنفاقه، ويأْكله أَكلا واسعًا جامعًا.
20 -
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا):
أَي: كثيرًا، كما قال ابن عباس. وزاد بعضهم: فاحشا، والمراد: أَنكم تحبونه مع حرص وشره، والْجَمُّ: الكثير.
(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26))
المفردات:
(دَكًّا دَكًّا) الدك: الهدم وكسر الحائط، والجبل، أَي: دكت الأَرض مرة بعد أُخرى حتى صارت هباءً منشورًا.
(وَجَاءَ رَبُّكَ) أَي: أَمره وقضاؤُه.
(وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى): ومن أَين له التذكر؟! استفهام إنكاري لتحقيق أَنه ليس يتذكر لعدم جدواه ولوقوعه بعد أَوانه.
التفسير:
21 -
(كَلَاّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا):
يخبر - تعالى - عما يقع يوم القيامة من الأَهوال العظيمة، والشدائد المذهلة فيقول:(كَلَاّ) وهي ردع وزجر لهم عن أَفعالهم القبيحة، وقد يكون معناها "حقًّا" وقوله
- سبحانه-: (إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) إِلى آخره استئناف جيءَ به بطريق الوعيد تعليلا للردع.
أَي: إِذا هدم كل ما على الأَرض بالدك والزلزلة مرة بعد أُخرى حتى انكسر وتفتت، وأَصبح كل ما على وجهها من جبال، وقصور وأَبنية وحصون هباءً منشورًا، وتكرير الدك للاستيعاب، بمعنى أَنها دكت دكا متتابعًا، وقال المبرد: الدك: حط المرتفع بالبسط والتسوية، وعليه فالمعنى: إِذا سويت الأَرض تسوية بعد تسوية، ولم يبق على وجهها شيءٌ حتى صارت كالصخرة الملساءِ، ، وأَيا ما كان فهو عبارة عمَّا عرض لها عند النفخة الثانية.
22 -
(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا):
أَي: وجاءَ أَمر ربك وقضاؤُه بحذف المضاف للتهويل، واختار جماعة أَنه تمثيل لظهور آيات اقتداره، ووضوح آثار قدرته وسلطانه عز وجل ورأَي السلف رضي الله عنهم أَنه مجيء من غير تكييف ولا تمثيل نؤمن به ولا نطلب معناه.
(وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أَي: جنسهم، فيشمل ملائكة السموات والأَرض جميعًا، يجيئون بين يدي ربهم مصطفين، أَو ذوي صفوف، فإِنه قيل: ينزل ملائكة كل سماءٍ فيصطفون صفا بحسب مراتبهم ومنازلهم محدقين بالإِنس والجن. وروي أَن ملائكة كل سماءٍ تكون صفا حول الأَرض، فالصوف سبعة على ما هو الظاهر، والآية تصور لنا الهيبة والعظمة، وظهور السلطان الإِلهي في ذلك اليوم.
23 -
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى):
أَي: وكشفت جهنم يوم القيامة للناظرين بعد أَن كانت غائبة عنهم، فالمجيء متجوز فيه كما في قوله تعالى:"وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى"(1)، وقوله سبحانه:"وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ"(2) والأَرجح أَن يكون المجيءُ على حقيقته، فقد أَخرج مسلم والترمذي
(1) سورة النازعات، الآية:36.
(2)
سورة الشعراء: 91.
وابن جرير وغيرهم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون أَلف زمام، مع كل زمام سبعونه أَلف ملك يجرونها)، وفي رواية بزيادة (حتى تُنصب على يسار العرش لها تَغَيّظ وزفير).
قال الآلوسي: وحمله على المجاز لا يدعو إِليه إِلَاّ استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي، وهو لعمري غير مستحيل، فيجوز أَن تخرج وتنتقل من محلها في الحشر ثم تعود إِليه، والحال في ذلك اليوم وراءَ ما تتخيله الأَذهان. أهـ.
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ) أَي: في ذلك اليوم العصيب؛ والموقف الرهيب تذهب الغفلة ويتذكر الإِنسان عمله الذي نسيه، وفرط فيه، وذلك بمشاهدة آثاره وأَحكامه، أَو بمشاهدة عينه، بناءً على أَن الأَعمال تتجسم في النشأَة الآخرة، فتبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة أَو القبيحة أَو (يتذكر) من التذكر بمعنى الاتعاظ، أَي: يتعظ بما ترى من آثار قدرة الله عز وجل وبالغ عظمته، وقوله - سبحانه -:(وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) اعتراض جيءَ به لتحقيق أَن ما وقع منه ليس بتذكر حقيقة لخلوه عن الفائدة؛ لكونه وقع في غير أَوانه، أَي: ومن أَين تكون له منفعة الذكرى وقد فات وقتها بمضي الحياة التي أَضاعها بغفلته؟! ولو كان على بصيرة من أَمره لعلم أَن الحياة هي دار العمل ولا جزاءَ فيها، وأَن الآخرة التي تذكر فيها هي دار الجزاءِ ولا عمل فيها.
24 -
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي):
استئناف وقع جوابًا عن سؤال مقدر، كأَنه قيل: ماذا يكون عند تذكره؟ فقيل: (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) أَي: يدفعه ما يقبض به نفسه من الندم والحسرة إِلى أَن يقول: يا ليتني قدمت عملًا صالحًا ينفعني في آخرتي فهي حياتي في الباقية، أَو يا ليتني قدمت وعملت أَعمالًا نافعة وقت حياتي في الدنيا لأَنتفع بها اليوم.
25، 26 - (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ):
ففي ذلك اليوم الذي ذكر فيه ما سبق من الأَحوال والأَقوال كدك الأَرض، ومجيء ربك والملائكة صَفًّا صَفًّا، وكشف جهنم للناظرين أَو الإتيان بها، وتذكر الإِنسان لما نسيه في
ذلك اليوم (لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) الهاءُ إِما لله، أَي: لا يتولى عذاب الكافر ووثاقه بتقييده بالسلاسل والأَغلال لا يتولى ذلك أَحد ولا يباشره أَحد إِلَاّ الله، إِذ الأَمر كله له - تعالى - في ذلك اليوم، والمراد أَنه ليس أَحد أَشد عذابًا من تعذيب الله لذلك الكافر وإِما أَن تكون الهاء للإِنسان الموصوف، أَي: لا يُعَذَّب ولا يوثق أَحد من الزبانية أَحدًا من أَهل النار مثل ما يعذبون ذلك الكافر ويوثقونه، كأَنه أَشدهم عذابًا ووثاقًا. لأَنه أَكثرهم سيئات وقبائح، وبعد أَن ذكر الأَلوسي هذا الوجه قال: وهو وجه حسن، بل هو أَرجح من الأَول، وقيل: إِن الضمير يراد به أُبي بن خلف، أَي: لا يعذب أَحدًا أَبدًا مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده أَحد.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))
المفردات:
(رَاضِيَةً): بما أَعطاها الله من النعم الكثيرة.
(مَرْضِيَّةً): يرضى الله عنها بما قدمت من عمل صالح.
(فِي عِبَادِي) أَي: في زمرة عبادي الصالحين.
التفسير
27، 28 - (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً):
الآيتان وما بعدهما حكاية لأَحوال من اطمأَن بذكر الله عز وجل وطاعته من النفوس الزكية المطمئنة إِثر حكاية من اطمأَن إِلى الدنيا وسكن إِليها من المجرمين الظالمين.
والمعنى: ينادي الله النفس المطمئنة، أَي: يقول الله لها (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) الآية إِما دون واسطة إِكرامًا لها كما كلم موسى، وإِمَّا على لسان ملك، واستظهر أَن ذلك القول عند تمام الحساب، وقيل: عند البعث، وقيل: عند دخول الجنة، ويراد بها النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا فزع يوم القيامة، المتوفاة على الإِيمان، المطمئنة إِلى الحق الواصلة إِلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك، ولا يمازجها سخونة اضطرب القلب في الحق أَصلا، لأَنها إِذا وصلت إِلى معرفته - تعالى - حق المعرفةى اطمأَنت واستغنت به -سبحانه- عن وجودها، وسائر شئونها، ولم تلتفت إِلى ما سواه - جل وعلا - وذلك أَعلى مراتب الاطمئنان.
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) أَي: إِلى محل عنايته - تعالى - وموقف كرامته عز وجل وإِلى ما أَعد لعباده في جنته، ولا يخفى ما في قوله -سبحانه-:(إِلَى رَبِّكِ) من مزيد اللطف (رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) أَي: راضية بما تعطاه من النعم الكثيرة، ومرضية عند الله بما عملت رضي عنها وأَرضاها.
29،30 - (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي):
أَي: فادخلي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين وانتظمي في سلكهم، واستضيئي بضوئهم.
(وَادْخُلِي جَنَّتِي) أَي: مع عبادي، ويراد بهم الخواص كما قال تعالى:"وأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ"(1) وكان الأَمر بالدخول في جملة عباد الله الصالحين إِشارة إِلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح. والأَمر بدخول الجنة إِشارة إِلى السعادة الجسمانية.
(1) سورة النمل، من الآية:19.
ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت الآيات، فروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أَنها نزلت في عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس، وقيل: نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أَهل مكة، وجعلوا وجهه إِلى المدينة فقال: اللهم إِن كان لي عندك خير، فحول وجهي نحو قبلتك، فحول الله وجهه نحوها. فلم يستطيع أَحد أَن يحوله بعدُ، وقيل: هي عامة في المؤمنين؛ إِذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والله أَعلم.