الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومريم ابنة عمران، ولم يضر الأُولى كفر زوجها، كما لم يضر الثانية كون أَكثر قومها كفارًا، افتتح هذه السورة بما يدل على تصرفه الكامل في ملكه فقال - سبحانه:(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) إلي غير ذلك من الأُمور المشتركة بينهما.
أسماء السورة وفضلها:
جاءَ في تعدد أَسمائها أَحاديث يؤْخذ منها أَنها تسمى "تبارك" و"المانعة" و"المنجية"و "المجادلة" كما تسمى سورة "الملك"، وقد ذكر هذه الأَحاديث الآلوسي في مستهل كلامه عنها، ولم نذكرها تجنبًا للإِطالة.
وقد جاءَ في فضلها حديث أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إِن سورة من كتاب الله ما هي إِلا ثلاثون آية، شفعت لرجل حتى غفر له:(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
وفي حديث رواه الطبراني، وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود "مَنْ قرأَها في ليلة فقد أَكثر وأَطيب". إِلى غير ذلك من الأحاديث.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(تَبَارَكَ): تعالى وتقدس.
(بِيَدِهِ الْمُلْكُ): تحت قدرته وطوع أَمره ملك السموات السموات والأَرض.
(لِيَبْلُوَكُمْ): ليختبركم.
(سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا): بعضها فوق بعض، جمع طبق أَو طبقة.
(فُطُورٍ): شقوق وخروق.
(كَرَّتَيْنِ): أَي: رجعة بعد أُخرى، فالمراد من الرجعتين التكرار بكثرة.
(خَاسِئًا): صاغرًا متباعدًا عن أَن يرى شيئًا من ذلك.
(وَهُوَ حَسِيرٌ): حسير بمعنى حاسِر، وهو من الحسور بمعنى الإِعياءِ والتعب.
التفسير
1 -
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} :
أَي: تعالى الله الذي تحت قدرته وطوع مشيئته ملك السموات والأَرض، يدبره ويزيد فيه بحكمته وتعاظم عن كل ما سواه في ذاته وفي صفاته وفي أَفعاله، وتقدس وتنزه عن الشريك والنظر في إِبداع هذا الملك العظيم، فكل ما سوى الله مخلوق له - جل وعلا -، وهو على كل شيءٍ لم يوجد من الممكنات عظيم القدرة على إِيجاده وتحقيقه (1).
2 -
هذه الآية استئناف لتفصيل بعض أَحكام الملك وآثار القدرة، وبيان ابتنائهما على قوانين الحِكَم واستتباعهما لغايات جليلة.
والموصول هنا (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) بدل من الموصول السابق (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)، وصلته كصلته في الشهادة بتعالية عز وجل.
وجوز الطبرسي كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، أَي: هو الذي.
وبين الله - تعالى - الحكمة في خلقهما بقوله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أَي: ليعاملكم معاملة المختبر ليظهر أَيكم أَصواب عملًا وأَخلصه، فيجازيكم بمراتب مختلفة من الجزاءِ حسب تفاوت أَعمالكم، وهو عليم أَزلا بما سوف يحصل منكم باختياركم: والمراد من العمل ما يشمل عمل القلب والجوارح، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الآية:(أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وأَورعكم عن محارم لله - تعالى - وأَسرع في طاعة الله عز وجل.
وعلق عليه الآلوسي بقوله: أَي: أَيكم أَتم فهما لما يصدر عن جنات الله - تعالى - وأَكمل لما يؤخذ من خطابه - سبحانه -.
وأَجيب بأَن المقصد الأَصلي للابتلاءِ هو ظهور كمال إِحسان المحسنين مع تحقيق أَصل الإِيمان والطاعة في الباقين أَيضًا -، لكمال تعاضد الموجبات له، وأَما العمل القبيح فبِمعْزل
(1) هكذا فسر صاحب الكشاف جملة: (وهو على كل شيء قدير) لتتضمن معنى جديدا غير ما تضمنه صدر الآية.
عن الاندماج تحت الوقوع، فضلًا عن الانتظام في سلك الغاية أَو الغَرضِ - عند من يراه لأَفعال الله عز وجل وإِنما هو عمل يصدر عن عامله لسوءِ اختياره من غير مصحح له، وفيه من الترغيب في الترقي إِلى معارج إِلى العلوم ومدارك الطاعات ما لا يخفى.
انتهى من الآلوسي بتصرف يسير.
وختم الله بقوله: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ):
أَي: الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أَساء، الغفور لمن أَساءَ منهم أَو تاب.
3 -
كل ما علاك سماء، من السمو بمعنى الرفعة، ولهذا يطلق لفظ السماءِ على الغلاف الجوي الأَزرق الذي يعلو الأَرض، ويحيط بها، ويطلق أَيضًا على السحب الممطرة أو غيرها، بل يطلق على المطر نفسه مجازًا، لأنه نزل من السماء بمعنى السحاب، يقول بعض العرب: ما زلنا نطأُ السماءَ حتى أَتيناكم، أَي نطأ المطر الذي فوق الأَرض، وكذلك يطلق على النجوم والكواكب لارتفاعها.
والمراد من السموات السبع غير هذا كله فهي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وهي التي عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إِليها.
ولا سبيل إِلى أَن يراد منها النجوم والكواكب، لأَنها زينة للسماءِ الدنيا - أَي: الأُولى - لقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ)(2) وقوله: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)(3).
ولا شك أَن زينة الشيءِ غير هذا الشيءِ، فمثلا زينة الفتاة غير الفتاة نفسها، والله - تعالى - يقول في سورة الكهف الآية 7:(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا) فالأَشجار والزروع والجبال ونحوها زينة للأَرض وليست هي الأَرض.
(1) لفظ (الذي) نعت للعزيز الغفور، أو بيان، أو بدل، ولفظ (طباقا) صفة لسبع.
(2)
من الآية الخامسة لهذه السورة.
(3)
الآية السادسة من سورة الصافات.
كما أَن النجوم والجبال ليست سبعًا، لا في نفسها ولا في المجرات التي تتبعها، فهي ملايين الملايين التي لا يحصيها إِلَاّ الله - تعالى -، كما أَن عدد المجرات وعدد طبقاتها لا يحصيه إِلَاّ الله - تعالى - وليست سبعًا.
وهذه الآية من أَعظم الآيات على تعاليه - سبحانه - فوق كل شيء.
والمراد من التفاوت في قوله - سبحانه -: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)(1) المراد منه الاختلاف وعدم التناسب، وفسره السُّدِّي بالعيب، وإِليه يرجع قول من قال: أَي: من تَفَاوُتٍ يورث نقصًا، والفطور هي الشقوق، جمع فَطْرٍ بمعنى شقٍّ يقال: فطره فانفطر أَي: شقه فانشق، والمراد نفي الجلل والعيب في خلقها، والخطاب في الآية لكل من يصلح له من المكلفين.
والمعنى الإِجمالي للآية: الذي خلق سبع سموات بعضها فوق بعض طباقًا، ما ترى فيها أَيها الناظر من عيب أَو اختلاف في درجات الإِتقان والإِبداع، فإِن كنت في شك من ذلك فردِّدْ طرفك في نواحيها وقلبه في أَرجائها فانظر هل ترى في خلق الرحمن من عيوب؟
والتعبير بلفظ (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) بدلًا من أَن يقال: مَا تَرَى فيِ خَلْقِ القادر، للإِيذان بأَنه - تعالى - خلقها بقدرته رحمة بعباده.
4 -
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} :
أَي: ثم ردِّد البصر وقلبه في أَرجاءِ السماءِ، يرجع إِليك بصرك بعدهما بالصغار وعدم إِصابة الغرض من رؤْية خلل أو عيب فيها، كأَنما طردته السماءُ عن أَن يعود إِلى البحث عن عيب فيها، من خسأَ الكلب أَي: طرده.
وفسر بعض اللغويين لفظ (خَاسِئًا) بـ "متحيرًا".
(1) هذه الجملة نعت ثان للعزيز الغفور.
وليس المقصود من الكرتين المرتين فقط، بل المراد منه كثرة التكرير، أَي: رجعات كثيرة بعضها في إِثر بعض، كما قالوا في لبيك وسعديك: أَي إِجابات كثيرة لك يا الله لدعوتك إِيانا للحج إِلى بيتك المحرم، ومن تفسير المثنى بالكثير قول الشاعر:
لو عُدَّ قَبرٌ وقبرٌ كان أَكرمَهُم
…
بيتًا وأَبعدهم عن منزل الذَّامِ
لأَنه يريد: عُدَّت قبور كثيرة.
المفردات:
(السَّمَاءَ الدُّنْيَا): السماء القربى منكم وهي الأُولى.
(بِمَصَابِيحَ): جمع مصباح وهو السراج، والمراد منها النجوم، سميت بذلك لإِضاءَتها.
(وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا): رجوما جمع رجْم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به، أَي: وجعلنا شهبها التي هي مصدرها.
(وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ): أَي: وأَعددنا للشياطين أَشد الحريق، يقال: سعرت النار فهي مسعورة وسعيرة أَي: أَوقدتها فهي موقدة.
التفسير:
5 -
دلت الآية السابقة على أَن هذه المصابيح زينة للسماءِ الدنيا وليست هي السماء الدنيا كلها تقدم بيانه.
وكلها تدور بقدرة الله في الفضاءِ على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة، ومجاريها فيه هي أفلاكها، وقد ارتبط بعضها ببعض برباط الجاذبية، ولكل منها حركات حول نفسها وحركات غير ذلك، وهي متفاوتة قربًا وبعدًا تفاوتًا لا حد له، وإن منها ما لا يصل شعاعة إِلينا إِلا بعد عدة سنين، في حين أَن شعاع شمسنا يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية، مع أَن بيننا وبينها أَربعة وثلاثين مليونًا من الفراسخ (1) فما أَعظم قدرة الله وحكمته في إِبداع هذا الكون العظيم.
وجاءَ في الآية أَن الله تعالى جعل هذه المصابيح رجومًا للشياطين، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به - كما تقدم في بيان المفردات - والمقصود أَنها مصدر رجم الشياطين، للحيلولة بينهم وبين استراق السمع من الملائكة الذين حول الأَرض، وهم يتحدثون في بعض أَمور الغيب التي وكلت إِليهم، ولكن هذه المصابيح لا تترك مدارها، فهي باقية فيه حتى تنفطر السماءُ وتنتشر الكواكب، وتبدل الأَرض غير الأَرض، والسماوات غير السموات، وفي كون الرجم بأَجزاء صغيرة جدًّا من تلك الكواكب وتسمي شهبًا يقول الله - تعالى - في سورة الصافات:(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (2) وفي سورة الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا
(1) هذه المعلومات عزاها الآلوسي لعلماء الهيئة وقد نقلناها عنه. بتصرف يسير.
(2)
الآيات من 6 - 10.
مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (1). والمقصود من السماءِ التي كانوا يقصدونها الجو الذي يعلو الأَرض، فإِنه يسمى سماء لغة، لِسُمُوِّهِ، أَي: لارتفاعه.
وقد عرفنا من هاتين الآيتين وغيرهما من الأَحاديث أَن الجن كانوا يسترقون السمع قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الملائكة في جو الأَرض، وينقلون ما يسمعون من الغيب إِلى كهان الأَصنام من أَجواف هذه الأَصنام، فيستغله الكهان ويضيفون إِليه ما شاءُوا من الأَكاذيب تقوية لزعامتهم الدينية.
وقد دلت الآيتان على أَن السماءَ - أَي: الجو الذي حول الأَرض - ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا وأَن من يستمع الآن يجد له شهابًا يرصده فيقتله، وذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يسلم الوحي من أَراجيف الشياطين، كما دل عليه قوله تعالى:(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)) (2) وكما دلت عليه السنة.
وهذه الظاهرة التي وجدوها في حراسة السماءِ جعلتهم يبحثون عن سببها حتى سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ القرآن، ويدعو إِلى عبادة الله - تعالى - وحده فآمن منهم من آمن، وفي ذلك يقول الله - تعالى - حكاية عن هؤُلاء الجن:(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) (3).
ونزول الشهب المضيئة المحرقة ظاهرة كونية قديمة ناشئة عن انفصال أَجزاء صغيرة من هذه الكواكب وجذب الأَرض لها فتشتغل من سرعة وقوة احتكاكها بالهواءِ، والله - تعالى -
(1) سورة الجن الآيتان 8، 9.
(2)
سورة الجن من الآية 26 إلي آخر السورة.
(3)
سورة الجن الآيات من 13 - 15.
هو الذي يعلم لماذا كانت تنزل قبل البعثة المحمدية ويعلم مختلف مصادرها، وقيل في معنى الآية: وجعلناها ظنونًا ورجومًا لشياطين الإِنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولكن الآلوسي رفض هذا الرأي، ونحن كذلك نرفضه لأَنه مخالف للنصوص الأُخرى التي مرّ ذكرها.
وقد ذكر القرطبي ردًّا على ذلك قول محمد بن كعب: والله ما لأَحد من أَهل الأَرض في السماءِ نجم، ولكنهم يتخذون الكهانة سبيلا، ويتخذون الكهانة سبيلا، ويتخذون النجوم عِلَّة، ونقل أَيضا عن قتادة تعليقًا على الآية قوله: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماءِ، ورجومًا للشياطين وعلامات يهتدى بها في البر والبحر والأَوقات، فمن تأَول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
وتعقيبًا على ما قاله قتادة نقول: إِن هذه الأُمور الثلاثة مأخوذة من نصوص في القرآن الكريم، ولكنها لا تمنع أَن تكون لها غايات أَعظم غير هذه الأُمور الثلاثة، ولكن الله - تعالى - لم يصرح بها لأَنها من شئون الغيب الذي استأثر الله بالعلم به لأَن البشر ليسوا بحاجة إِلى علمها، ولأَنها فوق مستوى عقولهم.
والمعنى الإِجمالي للآية: ولقد زينا السماءَ الأُولى بأَجرام شبه المصابيح في إضاءَتها فتخفف ظلام الليل، وجعلنا المصابيح مصادر للشهب التي يرجم بها الشياطين الذين يحاولون استماع الغيب من الملائكة الذين يوجدون في سماءٍ هي جوّ الأَرض إِذا لا قدرة لهم على الوصول إِلى أَي كوكب من كواكبها، فضلا عن استحالة وصولهم إِلى السماءِ نفسها. وأَعْددْنا لهؤْلاءِ الشياطين ولأَمثالهم في الكفر عذاب النار المشتعلة في الآخرة بعد الإِحراق في الدنيا لمسترقي السمع منهم بالشهب، فإن قيل: إِن الشياطين خلقوا من النَّار فكيف يعذبون بها؟ قلنا: إِن النَّار هي مادة خلقهم، ولكنهم تحولوا إِلى أَجسام أخرى قابلة للاحتراق بها، كما تحول بنو آدم من الطين إِلى أَجسام خالية من الطين.
6 -
أَي: وللكافرين بربهم من الإِنس عذاب جهنم مثل ما للجن من عذاب، وبئس المآل والمرجع لكليهما جهنم، إذا طرح فيها هؤُلاءِ الكافرون، سمعوا لها وهي تغلي وتفور - سمعوا لها - صوتًا منكرًا يشبه في فظاعته ونكره صوت الحمير.
وكما يعذب الكافرون بالنَّار يعذب عصاة المؤمنين بها، كما تدل عليه النصوص الواردة بشأنهم في آيات أُخرى، فلا حُجَّةَ للمرجئة في الاستدلال بالآية الأُولى على أَن التعذيب بالنَّار خاص بالكفرة دون عصاة المؤمنين.
المفردات:
(تَمَيَّزُ (1) مِنْ الْغَيْظِ): تتقطع وينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ على أَعداءِ الله وفي هذه الجملة استعارة تصريحية أَو مكنية تخييلية، وقيل: إِنه حقيقة، وذلك بأَن يخلق الله فيها إِدراكًا فتغتاظ.
(فَوْجٌ): جماعة من الكفار، (خَزَنَتُهَا): حراسها من الملائكة.
(نَذِيرٌ): رسول ينذركم.
(بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ): نعم قد جاءَنا نبي ينذرنا سوءَ عاقبة الكفر.
(فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ): فبعدًا لهم عن رحمة الله.
(1) أصله تتميز فحذفت التاء الأولى تخفيفا وهي تاء المضارعة.
التفسير:
8، 9 - {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}:
استئناف لبيان أَحوال أَهل النَّار بعد بيان حال النَّار نفسها.
والمعنى: تكاد جهنم تتقطع من شدة غضبها على الكفار، كلما أُلقي في النَّار جماعة منهم سأَلهم حراسها - وهم مالك وأَعوانه من الملائكةِ - سألوهم - موبخين قائلين: أَلم يأتكم رسول يتلو عليكم آيات الله، وينذركم لقاءَ يومكم هذا؟ أَجابوا معترفين قائلين: نعم قد جاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا فيما جاءَنَا به من الآيات: ما أَنزل الله على بشر من شيءٍ وكما قلنا لهؤُلاءِ الرسل: ما أَنتم في ادعاءِ رسالتكم عن الله إِلا في ضلالٍ وبعد كبير عن الحق والصواب، وجوز الزمخشري أَن يكون هذا من كلام خزنة النَّار للكفار.
11،10 - {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}:
هذا اعتراف آخر من أَهل النَّار، وكأَن خزنة النَّار قالوا لهم، أَلم تسمعوا آيات ربكم وتعقلوها؟ فقالوا معترفين: لو كنا نسمع كلام الرسل سماع فهم وتدبر أَو نعقله، ما كنا في أَصحاب النار، أَي: في عدادهم ومن جملتهم، فكلام الرسل كان أَولى بتصديقنا لكونه جاريًا على سُنَّة الحجة، ومبنيًّا على البرهان، فكان هذا اعترافًا من الكفار بذنبهم في الإعراض عن الحق المبين، فبُعْدًا لهم عن رحمة الله.
المفردات:
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ): عليم بما انطوت عليه الصدور من الخير والشر.
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ): أَلا يعلم الله من خلقه ذاتًا وأَحوالًا.
(وَهُوَ اللَّطِيفُ): العالم بالخفيات.
(الْخَبِيرُ): العالم بما يكون قبل أَن يكون.
التفسير:
12 -
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} :
بعد أَن ذكرت الآيات السابقة أَحوال أَهل النَّار من الكفرة، جاءَت هذه الآية لتبشر المتقين بأَن لهم في الآخرة مغفرة وأَجرًا كبيرًا.
والمعنى: إِن الذين يخافون عذاب ربهم غائبًا عنهم أَو غائبين عنه لأَنه مستقبل وغيب لا سبيل إِلى رؤْيته، أَو غائبين عن أَعين النَّاس غير مرائين بخشيتهم لربهم، أَو يخشونه بما خفي منهم وهو قلوبهم، لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم، وثواب كبير لا حد لكبره.
13 -
الخطاب هنا لجميع عباد الله لتعريفهم سعة علمه - تعالى - من غير حدود، وأَنه لا فرق عنده - سبحانه - بين السر والجهر، فهما عنده على سواء.
ومعني الآيتين: وأَسروا يا عباد الله قولكم واجعلوه خفيًّا أو اجهروا به وأَعلنوه فإِن الله تعالى بكليهما عليم؛ فهو - سبحانه - واسع العلم بمضمرات جميع الخلائق وأَسرارهم المستكنة في صدورهم لا تفارقها، فكيف تخفى أَعمالكم وأَقوالكم التي يجازيكم عليها.
أَلا يعلم ذلك من أَوجد بحكمته جميع الأَشياءِ التي هي من جملتها، والحال أنه تعالى هو العالم بخفايا الأُمور، الخبير بما يستجد منها.
المفردات:
(ذَلُولًا): سهلة تستقرون عليها، والذلول: المنقاد الذي يذل ويخضع لك، والمصدر الذُّل وهو اللين والانقياد.
(فِي مَنَاكِبِهَا): في جبالها كما قاله ابن عباس، أَو طرقها وفجاجها كما قاله الحسن، قال القرطبي: وأَصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، والريح النكباءُ، وتنكب فلان عن فلان - أَي: اجتنبه - والأَمر بالمشي فيها للإرشاد والطلب.
التفسير:
15 -
والمراد من هذه الآية - على تفسير ابن عباس للمناكب - أَنه تعالى جعل الأَرض كلها سهلة السلوك لطلب الرزق سهولًا وجبالا.
والمعنى عليه: هو الله وحده الذي جمل الأَرض حين خلقها سهلة منقادة للإِنسان في إِقامته وفي مشيه لطلب الرزق وسواه من الأَغراض، فلا يمتنع عليه شيء فيها حتى جبالها، فقد أَوجد فيها مسالك للمشي فيها، فامشوا في مناكبها وجبالها، وكلوا من رزقه بسعيكم إِليه في إِقامتكم وفي أَسفارهم، وإِليه تعالى رجوعكم بعد بعثكم فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأَرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ليحسن ثوابكم على شكركم، وتفسير الآية على رأي الحسن: فامشوا في طرقها وفجاجها
…
إِلخ.
المفردات:
(يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ): يهبطها بكم إِلى أَسفل مما جاورَها.
(تَمُورُ): ترتج وتهتزا اهتزازًا شديدًا، وأَصل المور: التردد في المجيءِ والذهاب.
(حَاصِبًا): ريحًا تحمل الحصباءَ تقذفون بها.
(نَكِيرِ): إِنكاري عليهم بإِنزال العذاب.
التفسير:
16 -
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} :
الخطاب هنا لأَهل مكة، فالسورة مكية، وهم الذين كانوا يحاربون الإِسلام، والاستفهام توبيخي يقصد به النهي، كأَنه قيل لهم: لا تأَمنوا عقاب من في السماءِ.
وظاهر الآية يدل على أَنه تعالى في السماءِ مع أَنه سبحانه موجود قبل خلقها، وللعلماءِ في هذا وأَمثاله مذهبان: أَحدهما (مذهب السلف) وهم يسلمون بدلالة النص (1)، وعليه أَئمة السلف، والآية عندهم من المتشابه، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم:"آمنوا بمتشابهه" ولم يقل أَوّلوه، فهم مؤمنون بأَنه عز وجل في السماءِ على المعنى الذي أَراده الله سبحانه مع كمال
(1) مع تنزيهه عن مشابهة الحوادث.
التنزيه، أَسند البيهقي بسند صحيح عن أَحمد بن أَبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه.
وهذه طريقة الشافعي وأَحمد بن حنبل، ويقول الآلوسي: إِن هذا هو رأَي العصر الثالث، وهم فقهاءُ الأَمصار، كالثوري والأَوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم .... الخ.
(المذهب الثاني) مذهب الخلف، وهم يؤولون فيقولون: من في السماء أَمره وقضاؤه فالسماء مصدر أَوامره إِلى ملائكته، ومنها يصدر قضاؤه، فكأَنه قيل: أَأَمنتم من ملكوته ومصدر أَحكامه في السماءِ، والذي دفعهم إِلى التأَويل هو تنزيهه سبحانه عن المكان.
ومعني الآية إِجمالًا: هل أَمنتم يا كفار مكة مَنْ عزه ومصدر قضائه في السماءِ أَن يخسف بمن الأَرض ويهبطها وأَنتم فوقها لتهلكوا في جوفها، فإِذا هي حين الخسف ترتج وتهتز اهتزازًا شديدًا.
17 -
بل أَأَمنتم مَنْ ملكوته في السماءِ أَن يرسل عليكم ريحًا تحصبكم بالحجارة كقوم لوط، فستعلمون ما حال إِنذاري وقدرتي على إِيقاع العذاب بكم عند مشاهدتكم للمنذر به، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ، وقد نجاهم الله من هذا والذي قبله بإِيمانهم جميعًا في السنة الثامنة من الهجرة.
18 -
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)} (1):
ولقد كذب الذين من قبل كفار مكة مثل قوم نوح وعاد، فكيف كان إِنكاري عليهم بإِنزال العذاب بهم؟! أَي: كان في غاية الهول والفظاعة، وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى.
(1) الاستفهام في (كيف) للتهويل.
المفردات
(صَافَّاتٍ): باسطات أَجنحتهن.
(وَيَقْبِضْنَ): ويضممنها إِلى جنوبهن.
(مَا يُمْسِكُهُنَّ): ما يحفظهن من الوقوع.
التفسير:
19 -
أَغفلت قريش التي عبدت الأَصنام، وتركت عبادة القادر الرحمن - أَغفلت ولم تنظر إِلى الطير فوقهم باسطات أَجنحتهن صافات ريشهن ويضممنها (1) إِلى جنونهن للاستظهار بهذا القبض على التحرك، ما يحفظهن من الوقوع عند البسط والقبض إِلا الله الواسع الرحمة حيث خلقهن على أَشكال وخصائص، وأَلهمهن حركات مكنَّتْهنَّ من السباحة في الهواءِ، إِنه تعالى بكل شيءٍ دقيق العلم، فيعلم سبحانه كيفية إِبداع مخلوقاته حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها، وفي هذا المعنى يقول موسى لفرعون وقد سأَله:(فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَي) يقول له: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) كما حكاه الله تعالى في سورة (طه).
ولو شاءَ الله أَن يسقطهن على الأَرض، لعطل أَجنحتهن فيسقطهن فإِن الأَرض تجذب
(1) مرة بعد أخرى.
ما فوقها إِليها، ولو شاءَ أَن يبقيهن سابحات في الجو بدون أَجنحة لفعل ومنع الأَرض من جذبها، كما منع النَّار من إِحراق إِبراهيم عليه السلام، ولكنه تعالى علمنا ربط المسبَّبات بأَسبابها كما يفعل الله بمصنوعاته.
المفردات:
(جُندٌ): حزب ومنعة، ولفظه مفرد ومعناه جمع، فيصح عود الضمير عليه منفردًا باعتبار لفظه كما في الآية كما يصح عوده عليه جمعًا (1).
(يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ): من غير الرحمن.
(إِنْ الْكَافِرُونَ إِلا فِي غُرُورٍ): ما الكافرون إِلَاّ في خداع وضلال فاحش.
(إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ): إن حبسه عنكم.
(لَجُّوا): تمادوا وأَصروا.
(عُتُوٍّ): طغيان وعناد.
(وَنُفُورٍ): شراد عن الحق وشدة بعد عنه.
(مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ): منكسًا رأسه لا ينظر أَمامه ولا يمينه ولا شماله.
(سَوِيًّا): معتدلا.
(1) كأن يقال في غير القرآن: جند لكم ينصرونكم.
التفسير
20 -
هذه الآية تبكيت لقريش على عبادتهم مَن لا يقدر على نصرهم إِن حاربهم غيرهم، و (أَم) في قوله (أَم من) بمعنى بل، وذلك للانتقال من توبيخهم على ترك التأَمل فيما يشاهدونه من أَحوال الطير المنبئة عن عجيب آثار قدرته عز وجل إِلى التبكيت بما ذكر، والانتقال من الغيبة إِلى الخطاب للتشديد في ذلك.
والمعنى: بل من هذا الحقير الذي - هو في زعمكم - ينصركم متجاوزًا نصر الرحمن؟! ما الكافرون في زعمهم أَنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم، لا بحفظه تعالى وحده لا شريك له - ما الكافرون في زعمهم هذا - إِلا في غرور وخداع فاحش من جهة الشيطان، وليس لهم من نصيب في الحق فيما يزعمون.
21 -
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)} :
بل من هذا الرازق المزعوم الذي يرزقكم إِن حبس الله رزقه عنكم؟! إِن هؤُلاءِ الكافرين لم يتأَثروا بآيات الله الَّذِي لا يرزقهم سواه، بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق.
22 -
هذا مثل ضرب للمؤمن والكافر في الدنيا توضيحًا لحاليهما، والفاءُ في قوله "أَفَمَنْ" لترتيب ما بعدها على ما قبلها والهمزة للإِنكار: والمعنى: ليس الكافر والمؤمن متساويين في حاليهما في الدنيا، أَهما متساويان فيها؟ ليس الأَمر كذلك؛ فمن يمشي منكسًا رأَسه لا ينظر أَمامه ولا يمينه ولا شماله لا يأمن من العثار والانكباب على وجهه فهو ليس كالرجل الذي يمشي سويًّا معتدلا ناظرًا ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله، فإِنه يأمن العثار، وقال قتادة: هو الكافر أَكب على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه.
المفردات:
(وَالأَفْئِدَةَ): القلوب.
(ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ): خلقكم ونشركم فيها.
التفسير:
23، 24 - {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}:
قل لهم أَيها الرسول: هو الله الذي أَنشأَكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأَصوات، والبصر لتنظروا به المرئيات، والقلوب لتعقلوا وتفهموا بها الأصوات والمرئيات فهلا استعملتموها وانتفعتم بها في إِدراك الآيات الدالة على صاحب تلك النعم؟ إِنكم تشكرون الله على ذلك شكرًا قليلًا مع اعترافكم بأَنه تعالى هو الذي خلقها لكم.
وقيل المعنى: لا تشكرون هذا النعم أَبدًا كقولهم: قلما أَفعل كذا، أَي: لا أَفعله، قل لهم أَيها الرسول: الله هو الذي خلقكم في الأَرض ونشركم فيها وإِليه تحشرون بعد البعث للجزاء لا إِلى غيره، فلماذا لا تعتبرون؟
المفردات:
(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ): في أَي وقت يتحقق الوعد بالحشر.
(نَذِيرٌ مُبِينٌ): منذر ومخوف لكم من سوءِ العاقبة واضح الإِنذار، من أَبان بمعنى أَوضَحَ.
(زُلْفَةً): قريبًا.
(سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا): أَصابها السوءُ بأَن علتها الكآبة والذلة.
(تَدَّعُونَ): تتمنونه وتطلبونه في الدنيا وتستعجلون أَن يأتيكم.
التفسير
25 -
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} :
ويقول الكافرون من فرط عتوهم وتكذيبهم: متى يحدث ويتحقق الموعد بالحشر، أَخبرونا بزمانه أَيها المؤمنون إِن كنتم صادقين في دعوى البعث والحشر.
26 -
{قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)} :
قل لهم أَيها الرسول جوابًا على سؤالهم: ما العلم بوقت القيامة إِلا عند الله تعالى، فهو من الغيب الذي استأثر الله به، لأَن الحكمة تقتضي ذلك، وليس من وظائف النبوة إِلَاّ الإِنذار بتحققه دون بيان وقته.
27 -
أَي فلما رأَى الكفار الحشر بعد البعث قريبًا منهم ظهرت الذلة والكآبة على وجوههم، لأَنهم أَدركوا ما ينتظرهم من العذاب، وقيل لهم - على سبيل التبكيت والتوبيخ -: هذا العذاب الذي يلي الحشر هو الذي كنتم به في الدنيا تطلبون كقولكم ساخرين: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)(1) أَي: عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة، وكقولهم:(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(2).
والتعبير عن العذاب الذي سوف يرونه بأَنهم رأَوه فعلًا، لتنزيل وعد الله لهم بالعذاب المحقق منزلة الذي تحقق فعلًا.
المفردات:
(أَوْ رَحِمَنَا): بالنصر عليكم.
(فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ): فمن يحميكم منه.
(غَوْرًا): غائرًا ذاهبًا في الأَرض.
(بِمَاءٍ مَعِينٍ): بماءٍ جار، أَو صاف، فهو بوزن فاعل مِنْ مَعَنَ الماءُ، أَي: جرى، أَو صفا، أَو بوزن مفعول - وأَصله معيون - من عين الماء: استنبطه واستخرجه.
(1) من الآية 16 من سورة (ص).
(2)
من الآية 32 من سورة الأنفال.
التفسير
28 -
قل أَيها الرسول لقريش: أَخبروني إِن أَماتني الله كما قلتم كذبًا: (شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنوُنَ) أَو أَهلك من معي من المؤمنين كما تمنيتم، أَو رحمنا فأَبقانا ونصرنا عليكم، فمن هذا الذي يجيركم ويحميكم من عذاب شديد الإِيلام في الآخرة؟!
وحاصل المعنى: لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم إِن انقلبنا إِلى رحمة الله بالهلاك كما تمنيتم، لأَن فيه الفوز لنا بنعيم الآخرة، أَو بالنضرة عليكم وإِعزاز الإِسلام كما نرجو، لأَن فيه الظفر بالحسنيين، ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص من الكفر بالإِيمان.
29 -
قل لهم أَيها الرسول - جوابًا لتمنيهم هلاكك -: هو الله الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيجيرنا برحمته من عذاب الآخرة، ولم نكفر مثلكم حتى تمتنع إِجارته لنا، فستعلمون بعد البعث من هو مِنَّا في الدنيا والآخرة في بعد واضح عن الحق.
30 -
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)} :
قل لهم: أَخبروني إِن أَصبح ماؤكم الذي تشربون منه وتسقون غائرًا في الأَرض واغلًا في جوفها، فمن الذي يأتيكم بماءٍ جار أَو ظاهر للعيون سهل المأخذ، لا تستطيع أَصنامكم الإِتيان به أَو بمثله، والآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي، أَنها نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي. والله تعالى أَعلم.