الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التحريم
مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية
وكما تسمى سورة التحريم تسمى المتحرم، ولم تحرم؛ وسورة النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن الزبير سورة النساءِ.
مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:
أَنها متواخية معها في الافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَن السابقة مشتملة على طلاق النساءِ، وهذه على تحريم الإماء وبينهما من الملابسة ما لا يخفى.
ولما كانت السابقة في خصام وطلاق نساء الأُمة ذكر في هذه خصومة نساء النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إِعظامًا لهن أَن يذكرون مع سائر النسوة فأُفردن بسورة خاصة، ولذلك ختمت بذكر آسية امرأَة فرعون، ومريم ابنة عمران. قاله السيوطي عليه الرحمة.
أغراض السورة:
عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم عتابًا رقيقًا لطيفًا في التحريم والتحليل قبل ورود وحي سماوي (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) الآية.
تناولت أَمرا على جانب من الخطورة أَلا وهو إفشاء السر الذي يكون بين الزوجين والذي يهدد الحياة الزوجية بالتردي والتوقف، وضربت المثل برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أَسَرَّ إِلى حفصة حديثًا، واستكتمها إِياه فأَفشته إِلى عائشة حتى شاع وذاع مما أَغضبه صلى الله عليه وسلم حتى هم بتطليق أَزواجه (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا .. ) الآية.
حملت على أَزواجه - صلوات الله عليه - حملة عنيفة حين حدث ما حدث بينهن من التنافس (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ
…
) الآية.
أَبرزت الأمر بالابتعاد عن جهنم، وخوفت من عذابها بأَشد أَنواع الوعيد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا .... ) الآية.
دعت دعوة قوية إِلى التوبة النصوح، وأَظهرت وعد المؤمنين بإِتمام نورهم في القيامة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا .. ) الآية.
رسمت الطريق لجهاد الكفار والمنافقين حيث يكون بطريق السيف في الكفار، وبالبرهان والحجة مع المنافقين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
…
) الآية.
بينت أَن القرابة غير نافعة بدون الإِيمان والمعرفة، وأَن القرب من المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإِخلاص (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا
…
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ .. ) الآيتين.
ختمت السورة بذكر تصديق مريم ابنة عمران وما اتصفت به من عفة وتصون فكان لها من الله أَعظم الجزاءِ (وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
…
) الآية.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ): أَي شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقدته
الأَيمان، وذلك بالكفارة أَو بالاستثناء متصلا حتى لا يحنث، وتحلة أَصلها تحللة قبل الإِدغام مصدر حلل المضعف كتكرمة من كرم.
(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ): أَخبرت.
(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا): أَي: فقد مالت قلوبكما عن الحق، يقال صغت الشمس مالت للغروب:
(وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ): أَي: وإِن تتعاونا بما يسوؤُه من الإِفراط في الغيره، والوقيعة بينه وبين نسائه بإِفشاء سره.
(بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ): أَي: فوج مظاهر له كأَنهم يد واحدة على من يعاديه.
(قَانِتَاتٍ): مُطِيعات من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخضوع.
(سَائِحَاتٍ): أَي: صائمات، وسمي الصائم سائحًا؛ لأَنه يسبح في النهار بلا زاد أَو مهاجرات.
التفسير
1 -
روي في سبب النزول أَن النبي صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة، فقال لها اكتمي عَلَيّ فقد حرمت مارية على نفسي، وأُبشرك أَن أَبا بكر وعمر يملكان من بعدي أَمر أُمتي، فأخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين. كما في رواية الكشاف وقيل: خلا بها في يوم حفصة وكانت قد استأذنته صلى الله عليه وسلم في زيادة أَبويها فأَذن لها فلما علمت قالت: في بيتي وعلى فراشي فأَرضاها بما حدثها به من تحريم مارية على نفسه وبما بشرها به من إِمامة الشيخين أَبي بكر وعمر واستكتمها ذلك فلم تكتمه فطلقها واعتزل نساءَه فنزل جبريل عليه السلام فقال: راجعها فإِنها صوامة قوامة وإِنها لمن نسائك في الجنة.
وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح أَن الآية نزلت في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين ولم تأت في طريق صحيح، وشرب العسل كان عند زينب بنت جحش فقد روي أَنه صلى الله عليه وسلم كان يمكث عندها ويشرب عسلا فتواصت عائشة وحفصة لما وقع في نفسهما من الغيرة من ضرتهما أَن أَيَّتهما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له: إِني أَجد منك
ريح مغافير (1)، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب، ويكره الرائحة الكريهة، للطافة نفسه الشريفة فحرم العسل على نفسه وقد حلف وقال: لن أَعود فنزلت.
والمعنى: لم تحرم أَيها النبي ما أَحل الله لك من ملك اليمين أَو شرب العسل، وفي ندائه صلى الله عليه وسلم أَيها النبي في مفتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه ما لا يخفى حيث خوطب غيره باسمه من سائر الرسل، والاستفهام ليس على حقيقته بل هو معاتبة.
والمراد من التحريم الامتناع، وبما أَحل الله لك العسل على ما صححه النووي أو وطءَ سريته على ما في بعض الروايات (تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) استئناف لبيان أَن الداعي إِلى التحريم مؤذن بعدم صلاحيته لذلك كأَنه قيل: إِن الذي فُعل زلة؛ لأَنه ليس لأَحد أَن يحرم ما أَحل الله ابتغاءَ مرضاة أَزواجه على أَن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بالغ الغاية في الغفران والرحمة فقد غفر الله لك ما بدر منك، وفيه تعظيم له صلى الله عليه وسلم بأَن ترك الأَولى بالنسبة إِلى مقدامه السامي الكريم يعد كالذنب وإِن لم يكن كذلك في نفسه. وأَن عتابه صلى الله عليه وسلم لم يكن إِلا لمزيد العناية به.
هذا وإِن تحريم الحلال على وجهين، الأَول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام وهو محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره عن المعصوم أَصلا، والثاني: الامتناع عن الحلال مطلقًا أَو مؤكدًا باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض.
وما وقع منه صلى الله عليه وسلم كان من هذا النوع وإِنما عاتبه تعالى على ما بدر منه رفقًا به، وتنويهًا بقدره. وإِجلالا لمنصبه صلى الله عليه وسلم أَن يراعي مرضاة أَزواجه بما يشق عليه مع أَنه أَلف لطف الله به.
2 -
(1) المغافير بفتح الميم والغين جمع مغفور بضم الميم صمغ ينضحه شجر العرفط يؤخذ ثم ينضج بالماء فيشرب وله رائحة كريهة. والعرفط شجر أو نبت له ورق عريض.
أَي: قد شرع لكم سبحانه تحليل (1) أَيمانكم بالكفارة أَو بالاستثناء المتصل الذي يأتي به الحالف حتى لا يحنث، والتحليل من الحل ضد العقد فكأَنه باليمين على الشيءِ عقد عليه لالتزامه، وبالكفارة يحل ذلك.
وعلى القول بأَنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاءَ في بعض الروايات وهو ظاهر الآية.
اختلف هل أَعطي صلى الله عليه وسلم الكفارة لمستحقيها أَو لا، فعن الحسن أَنه لم يعط؛ لأَنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر، وإِنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل أَنه صلى الله عليه وسلم أَعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أَسلم أَنه صلى الله عليه وسلم أَعطى الكفارة في تحريمه أَم ولده حيث حلف أَلا يقربها، ونقل مثله عن الشعبي.
(وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ): أَي: والله سيدكم ومتولي أُموركم، هو جل شأنه عظيم العلم بما يصلح لكم فيشرعه لخيركم بالغ الحكمة والإِتقان في أَفعاله وأَحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إِلا بما فيه الاستقامة والصلاح فيما أَحل وحرم.
3 -
المراد من بعض أزواجه على المشهور حفصة لا عائشة كما زَعم بعض الشيعة أَي: واذكر حديثًا أَسرَّه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أَزواجه، وهو ما روي عنه صلى الله عليه وسلم "ولكني كنت أَشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أَعود إِليه وقد حلفت لا تخبري بذلك أَحدا" أَو هو حديث مارية أَو حديث الإِمامة كما قيل (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أَي: أَخبرت بالحديث عائشة، وكانتا متصادقتين، وتناولتا نقصان حظ ضرتهما زينب من جيبهما صلى الله عليه وسلم حيث إِنه كما في البخاري وغيره: كان يمكث عندها يشرب العسل، وقد اتخذ ذلك عادة وقد استخفها السرور فنبأَت به (2)، (وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) أَي: جعل سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهرًا على
(1) تحليل وتحلة مصدران: الأَول قياسي والثاني سماعي لحلل المضعف العين، وأَصل تحلة تحللة قبل الإِدغام للمثلين.
(2)
حيث إِن وجوده عندها ليس لمودة قلبية كما تقصدان.
الحديث، مطلعًا عليه بواسطة جبريل عليه السلام أَو جعل الله الحديث ظاهرا على النبي صلى الله عليه وسلم يتبينه ويدرك كنهه.
ولما أَظهر الله نبيه على الحديث أَعلم صلى الله عليه وسلم حفصة بنصه الذي أَفشته وهو قوله لها: "كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أَعود "وأَعرض عن بعضه فلم يخبرها به وهو قوله: "وَقَدْ حلفت" تكرمًا من مزيد خجلها، وهذا منه صلى الله عليه وسلم اهتمام بمرضاة أَزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك عنهن رعاية لحقهن وأَخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن أَبي حاتم عن مجاهد أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَسر إِلى حفصة تحريم مارية، وأَن أَبا بكر وعمر يليان أَمر الناس بعده فأَسرت ذلك إِلى عائشة فعرف صلى الله عليه وسلم بعضه، وهو أَمر الإِمامة. روي عن علي - كرم الله وجهه - وابن عباس قالا: إِن إِمامة أَبي بكر وعمر لفي كتاب الله: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا).
وقيل: عرف أمر مارية، وأَعرض عن أَمر الإِمامة مخافة أَن يفشو. روى أَنه صلى الله عليه وسلم قال لحفصة: أَلم أَقل لك اكتمي عليّ قالت: والذي بعثك ما ملكت نفسي فرحًا بالكرامة التي خص بها أَبي.
وحين نبأَها بما أَفشته لتعرف هل التي كشفت الحديث عائشة أَو لا (مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا) قال صلى الله عليه وسلم: (نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الذي لا تخفى عليه خافية لإِحاطته بخطرات النفوس ومكنونات الضمائر، فإِنه لذلك أَوفق للإِعلام (1).
قال الآلوسي: وقصارى ما يمكن أَن يقال: يحتمل أَن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شرب عسلًا عند زينب كما هي عادته وجاءَ إِلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق - له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أَو بعيده أَن وطيءَ جاريته مارية في بيت حفصة وفي يومها وعلى فراشها، فوجدت فحرم صلى الله عليه وسلم مارية وقال لحفصه ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إِحداهما وبعضهم
(1) واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل دلالة على أنه يحسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإِعراض عن استقضاء الذنب.
على نقل الأُخرى وهو كلام صادق إِذ ليس فيه دعوى كلٍّ حصر سبب النزول فإِن صح هذا هان أَمر الاختلاف أ. هـ بتصرف.
4 -
ومما يدل على أَن المرأَتين اللتين وقع منها التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عائشة وحفصة ما رواه الإِمام أَحمد بسنده عن ابن عباس (1) قال: لم أَزل حريصًا على أَن أَسأَل عمر عن المرأَتين من أَزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله فيهما: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإِداوة، فتبرز ثم أَتاني فسكبت على يديه فتوضأَ فقلت: يا أَمير المؤمنين من المرأتان من أَزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) فقال عمر: واعجبا لك يا بن عباس هما عائشة وحفصة ثم أَنشأَ يحدثني الحديث بطوله.
والآية خطاب لهما على الالتفات من الغيبة إِلى الخطاب للمبالغة في العتاب، فإِن المبالغ في العتاب يصير المعاتب بعيدًا أَولا عن ساحة الحضور، ثم إِذا اشتد غضبه توجه إِليه وعاتبه بما يريد، وإِلي ذلك يشير قوله تعالى:(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) أَي: مالت عما يجب عليكما من مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه إِلى مخالفته. وجملة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) تعليل لجواب الشرط ودليل عليه، والتقدير إِن تتوبا إلي الله فلتوبتكما موجب وسبب؛ لأَنه قد صدر عنكما ما يقتضيها من ميل قلوبكما عنه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الجواب محذوف والتقدير إِن تتوبا إِلى الله يمح إِثمكما وقوله: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) بيان لسبب التوبة وقيل: غير ذلك.
والجمع في قلوبكما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد، وهو في مثل ذلك أَكثر من التثنية والإِفراد (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) أَي: فلن تتعاونا عليه بما يسؤوه من الإِفراط في الغيرة وإِفشاء سره (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) بمعنى أَنه لا يعدم من بظاهره؛ فإِن الله مؤَيده وناصره، وجبريل رئيس الكروبيين (2) قرينه، وكل من آمن وعمل صالحًا أَتباعه وأَعوانه.
(1) وقد أَخرجه أَيضا البخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس.
(2)
الكروبيون بالتخفيف سادة الملائكة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما أَراد بصالح المؤمنين أَبا بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال عكرمة ومقاتل وهو اللائق بتوسطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام وقيل: أريد به من بريء من النفاق، وقيل الصحابة، (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) بمعنى أَن الملائكة على كثرة عددهم، وامتلاء السماءِ بهم فوج مظاهر بعد ذلك له قدره وشأَنه ما فيهم جبريل عليه السلام وإِن كانت نصرتهم من نصرة الله فيما يبلغ تظاهر امرأَتين على من هؤُلاءِ ظهراؤُه وأَعظم جل جلالة شأن النصرة لرسوله صلى الله عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إِما للإِشارة إِلى عظم مكر النساءِ، أَو للمبالغة في قطع حبال طمعها لعظم مكانتها عند النبي وعند المؤمنين لأُمومتهما لهم، وكرامة له صلى الله عليه وسلم ورعاية لأَبويهما في أَن تظاهر هما يجديهما نفعًا، فكأَنه قبل: فإِن تظاهرا عليه فلا يضره ذلك فإِن الله تعالى هو مولاه وناصره في أَمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه (وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ) مظاهِرُون له ومعينون إِياه كذلك.
5 -
أَي: إِن تحقق طلاقكن فحق وواجب أَن يبدل الله رسوله أَزواجًا خيرًا منكن، والخطاب لهن جميعًا على سبيل الالتفات، وأَصله لاثنتين، ولكنه ورد عاما: لأَنهن في منزل الوحي أَو على التغليب أَو لاجتماعهن في الغيرة عليه صلى الله عليه وسلم لما أَخرجه البخاري عن أَنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عسى ربه إِن طلقهن أَن يبدله خيرًا منهن فنزلت هذه الآية وفق قول عمر.
وكون المبدلات خيرًا منهن مع أَن أُمهات المؤمنين خير نساء على وجه الأَرض؛ لأَنه إِن طلقهن لإِيذانهن إِياه لم يبقين كذلك، وكان غيرهن من الموصوفات في الآية بالصفات الكاملة خَيْرًا منهن إِن تزوجهن الرسول، وهذا وعد من الله لرسوله لو طلقهن في الدنيا أَن يزوجه نساءً خيرًا منهن تخويفًا لهن كما في القرطبي.
وليس في الآية ما يدل على أَنه لم يطلق حفصة ولا ما يدل على أَن في النساءِ خيرا منهن فإِن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة، والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه.
وقد روي أَنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع.
وقد وصف الله هؤلاءِ الزوجات اللاتي سيبدل رسوله صلى الله عليه وسلم بهن فقال: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) مقرات مخلصات أَو منقادات مصدقات (قَانِتَاتٍ) مواظبات على الطاعة - أَو مصليات (تَائِبَاتٍ) مقلعات عن الذنب (عَابِدَاتٍ) متذللات لأَمر الرسول صلى الله عليه وسلم متعبدات (سَائِحَاتٍ) صائِمَاتٍ. سمي الصائم سائحا؛ لأَنه يسبح في النهار بلا زاد، وإِنما يأكل حيث يجد الطعام أَو مهاجرات قال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إِلَاّ الهجرة، قيل: ذاهبات في طاعة الله كل مذهب (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) والثيبات جمع ثيب وهي التي زالت عذرتها وسميت بذلك؛ لأَنها ترجع إِلى الزوج بعد زوال عذرتها.
والأَبكار جمع بكر وهي التي لم تفتض ووسط العاطف بينهما لتنافيهما ولو سقط لاختل المعنى. إِن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، وترك العطف في الصفات السابقة؛ لأَنها صفات تجتمع في شخص واحد، وبينهما شدة اتصال يقتضي ترك العطف.
وذُكِرَ الجنسان؛ لأَن في أَزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها ثيبا، وفيهن من تزوجها بكرا وجاءَ أَنه لم يتزوج بكرا إِلا السيدة عائشة رضي الله عنها.
المفردات:
(قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ): وقاية النفس بترك المعاصي، ولزوم الطاعات ووقاية الأَهل بحملهم على ذلك بالنصح والتوجيه، ويراد بالحجارة الأَصنام.
(غِلاظٌ شِدَادٌ): أَي: غلاظ الأَقوال شداد الأَفعال أَو الخَلق والخُلُق.
(تَوْبَةً نَصُوحًا): بمعنى بالغة الغاية في النصح وقيل: هي من نصاحة الثوب أَي: خياطته بمعنى أَنها توبة قوية ترفو خروقك في دينك، وترم خللك.
(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ): يقال: أَخزى الله - تعالى - فلانًا فضحه وقال الراغب: يقال: خزى الرجل لحقه انكسار إِما من نفسه وهو الحياءُ المفرط ومصدره الخزاية وإِما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي.
التفسير
6 -
ينادي الله المؤمنين فيدعوهم إِلى الابتعاد عن نار لا تشبه نيران الدنيا في اتقادها وقسوة أَثرها، بل تربو وتزيد على ذلك حيث إِنها تتقد بالناس والحجارة كما يقول سبحانه:(قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وذلك بأَن تأخذوا أَنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات وتأخذوا أَهليكم بما تأخذون به أَنفسكم بجعلهم موضع عنايتكم بما تولونهم من نصح وإِرشاد حتى لا تكونوا في أَشد العذاب كما قيل: من أَشد الناس عذابًا يوم القيامة من جهل أَهلة، روي أَن عمر رضي الله عنه قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أَنفسنا فكيف لنا بأَهلينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "تنهوهن عمَّا نهاكم الله عنه، وتأمروهن بما أَمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار" والمراد بالأَهل كما قيل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأَمة، وأَدخل بعضهم الولد في الأَنفس؛ لأَنه بعض أَبيه واستدل بالآية على أَنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاءِ ويشير قوله تعالى:(وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) إِلى أَن أَمر تلك النار يدعو إِلى العجب والاهتمام لأَنها لا تتقد بالحطب كما هو شأن نيران الدنيا وإِنما تتقد بالأَجساد والأَحجار.
قيل: المراد بها الأَصنام التي كانت تعبد من دون الله لقوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(1). وقال ابن مسعود وغيره: هي حجارة من كبريت زاد مجاهد أَنتن من الجيفة، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنم أَعظم من جبال الدنيا كلها" وقد أُمر المؤمنون باتقائها؛ لأَنها معدة للكافرين.
(عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) أَي: أَنه موكل عليها ملائكة يلون أَمرها وتعذيب أَهلها.
قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله، وفي أَجسامهم غلظة وشدة (لا يَعْصُونَ اللَّهَ
(1) سورة الأنبياء: من الآية 98.
مَا أَمَرَهُمْ) بمعنى أَنهم لا يمتنعون من الأَمر، ويلتزمونه (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فيؤدونه، ويبادرون إِليه من غير تثاقل فيه ولا توان عنه طرفة عين، وهم قادرون على فعله في شدة وقوة وهؤلاءِ هم الزبانية، والجملتان ليستا في معنى واحد، إِذ الأولى:(لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) لنفي المعاندة والاستكبار عنهم، والثانية (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) لنفي الكسل والتثاقل عنهم وأَنهم يفعلون الأَمر في وقته فلا يقدمون ولا يؤخرون وعلى ذلك فلا تكرار.
وفي المحصول المعنى لا يعصون الله فيما مضى والإِتيان بالمضارع لحكاية الحال الماضية، ويفعلون ما يؤمرون في الآتي.
7 -
أَي: يقال لهم ذلك عند إِدخال الملائكة إِيَّاهم النار حسبما أُمروا به من الله تعالى ويراد من اليوم، اليوم المعهود وهو يوم الجزاء، ونهيهم عن الاعتذار؛ لأَنهم لا عذر لهم أَو لأَن العذر منهم يذهب سدي ولا ينفعهم إِذ ذاك، يوم لا ينفع المرءَ حينئذ إِلا ما قدمت يداه.
وهذا النهي لإِدخال اليأْس في قلوبهم (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أَي: تجزون وتعاقبون على الكفر والمعاصي التي اقترفتموها في الدنيا بعد ما نهيتم عنها نهيًا شديدا زاجرا وأُمرتم بالإِيمان والطاعة أَمرًا كاملًا فلم تنتفعوا بترك ما حذرتم منه وفعل ما وجهتم إِليه، بل استمرأتم الضلال، وتمسكتم بالعصيان.
8 -
أَي: توبوا معشر الذين انقادت قلوبهم إِلى توبة بالغة الغاية في النصح وقد وصفت التوبة بذلك على المجاز؛ لأَن النصح وصف التائبين، وهو أَن ينصحوا أَنفسهم بالتوبة، فيأتوا بها على طريقها المرسوم، وذلك بأَن يتوبوا عن القبائح لقبحها نادمين على فعلها مغتمين أَشد الاغتمام لارتكابها عازمين على أَنهم لا يعودون إِليها، موطنين أَنفسهم على ذلك
بحيث لا يصرفهم عنه صارف أَصلًا، ويؤيد ذلك ما أَخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: (أَن يندم على الذنب الذي أَصاب فيعتذر إِلى الله تعالى ثم لا يعود إِليه كما لا يعود اللبن إِلى الضرع).
وروى تفسيرها بما ذكر عن عمر وابن مسعود وأُبيّ والحسن وغيرهم، وعن عمرو بن العلاء قال: سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح أَن تبغض الذنب كما أَحببته، وتستغفر منه إِذا ذكرته.
وقال الإِمام النووي: التوبة ما استجمعت ثلاثة أُمور: أَن يقلع عن المعصية، وأَن يندم على فعلها، وأَن يعزم عزمًا جازما أَلا يعود إِلى مثلها أَبدا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدمي لزم أَمر رابع وهو رد الظلامة إِلى صاحبها أَو وارثه أَو تحصيل البراءَة منه، وركنها الأَعظم الندم، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف، وانسكاب الدمع.
وفي شرح المقاصد قالوا: إِن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفرها الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف، وترك الأَمر بالمعروف، وقد تفتقر إِلى أَمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة.
وظاهر الأَخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت، ويتحقق أمره عادة، ومقتضى كلام النووي والمازني وغيرهما وجوبها عند التلبس بالمعصية ولا يجوز تأخيرها سواءٌ أَكانت صغيرة أَم كبيرة. وقيل: المراد توبوا إِلى الله توبة ترفو خروقك في دينك، وترم خللك من نصاحة الثوب أَي: خياطته، وقيل: توبة خالصة من الذنوب من قولهم: عسل ناصح إِذا خلص من الشمع.
قيل: إِن المراد أنه سبحانه بفعل ذلك على التحقيق، ووروده بتلك الصيغة للإِطماع جريا على سنن الملوك من الإِجابة بعسى ولعل ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت، وللإِشعار بأَن تكفير الذنوب تفضُّل والتوبة غير موجبة، وأَن العبد ينبغي أَن يكون في خوف ورجاءٍ وإِن بالغ في وظائف العبادة.
وقبول توبة غير الكافر مسأَلة خلافية بين المعتزلة القائلين: بأَنه يجب على الله قبولها عقلًا، وبين إِمام الحرمين والقاضي أَبي بكر حيث يقولان: بأَنه يجب اعتقاد قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إِذ لم يثبت في ذلك نص قاطع في غفران ذنوب المسلم بالتوبة لا يقبل التأويل والدليل الظني كقوله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (1)، وأَما حديث التوبة تجبُّ ما قبلها فليس بمتواتر، وقيل غير ذلك، والتفصيل تكفل به علم الكلام.
وأَما توبة الكافر فالإِجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص كقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)(2) ولأَنه إِذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإِيمان، وسوقًا إِليه، وإِذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدًّا لباب العصيان ومنعا منه.
وبالتوبة النصوح يدخلكم الله - جل شأنه - جنات تجري من تحت قصورها وبين أَشجارها أَنهار تجد فيها النفس ما تهواه وما تشتهيه وذلك (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
والمراد بنفي الإِخزاء إِثبات الكرامة والعز، وفيه تعريض بمن أَخزاهم الله من أَهل الكفر والفسوق، وحث للمؤمنين على مضاعفة الحمد والثناءِ على الله حيث عصمهم من مثل حال الكفار، ويقصد بالإِيمان نوره الكامل على ما ذكره الخفاجي (نُورُهُم سْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) جملة مستأنفة لبيان حال المؤمنين عند مرورهم على الصراط. قال الضحاك: ما من أَحد إِلَاّ يُعطى نورا يوم القيامة، فإِذا انتهوا إِلى الصراط طفيء نور المنافقين، فلما رأَى ذلك المؤمنون أَشفقوا أَن يطفأ نورهم كما طفيءَ نور المنافقين فقالوا:(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا)، وكون هذا القول يقوله المؤمنون إِذا طفيءَ نور المنافقين نقل أَيضا عن مجاهد وابن عباس وغيرهما، وعن الحسن أَنهم يقولون ذلك تقربا إِلى الله مع تمام نورهم، وقيل: تتفاوت أَنوارهم بحسب أَعمالهم فيسأَلون إِتمامها تفضلًا، وقيل: السابقون إِلى الجنة
(1) سورة الزمر: من الآية 53.
(2)
سورة الأنفال: من الآية 38.
يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا وأُولئك هم الذين يقولون:(رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا).
(إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أَي: إِنك البالغ القدرة على كُل شيءٍ من المغفرة والعذاب، والرحمة والعقاب واستجابة الدعاء وتحقيق الرجاء.
المفردات:
(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ): من الغلظة وهي الشدة أَي: واستعمل الشدة والخشونة مع الفريقين في جهادهما.
(وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ): المأوى المسكن أَي: ومسكنهم جهنم.
(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): جهنم أَو مأواهم.
التفسير
9 -
المعنى: جاهد أَيها النبي الكفار بالقتال، والمنافقين بالحجة وإِقامة الحدود، واستعمل مع الفريقين الشدة والخشونة فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة، وعن الحسن أَكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان من صيغ المنافقين، فأَمر عليه الصلاة والسلام أَن يغلظ عليهم في إِقامة الحدود.
(وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ): بمعنى أَن مسكنهم الذي يرجعون إِليه في الآخرة جهنم التي سيذوقون فيها أَشد العذاب، وأَقساه، وقبح ذلك المسكن الذي كبكبوا فيه هم والغاوون لما اشتمل عليه من شدائد وأَهوال تجعل الوالدن شيبا.
المفردات:
(فَخَانَتَاهُمَا): من الخيانة وهي مخالفة الحق نقضا للعهد بما صدر عنهما من كفر وعصيان، ونقيضها الأَمانة. ولا تفسر الخيانة بالفجور لما يأتي في الشرح.
(فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا): أَي: من عذابه شيئا من الإِغناءِ.
(ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ): أَي: مع سائر الداخلين الذين لا صلة لهم بالأَنبياء.
(أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا): أَي صانته عن دنس المعصية.
التفسير
10 -
ضرب المثل في مثل هذا عبارة عن إيراد حالة غريبة لتُعرف بها حالة أُخرى مشاكلة لها في الغرابة.
والمعنى: مثَّل الله عز وجل حال الكافرين في أَنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة، ولا يجديهم نفعًا مع عداوتهم لهم، ما كان بينهم من المنسب والمصاهرة، وإِن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيًّا. مثل الله ذلك بحال امرأَة لوط حالًا ومآلًا (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ) أَي: في عصمة نبيين عظيمي الشأن رفيعي القدر عندهما ليلًا ونهارًا يواكلَانهما ويعاشرانهما متمكنين من تحصيل خيري الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما (فَخَانَتَاهُمَا) بما صدر عنهما من كفر وعصيان مع تحقيق ما ينافيهما من مرافقة كلتيهما لنبي كريم، أَما خيانة امرأَة نوح فكانت تقول للناس عنه: إِنه مجنون، وأَما خيانة امرأَة لوط فكانت تدل على ضيف زوجها إِذا نزل به.
رُوي ذلك عن جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس.
وأَخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن الضحاك أَنه قال: خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية أُخرى كانتا إِذا أَوحى الله تعالى بشيءٍ أَفشتاه للمشركين. ولا تفسر الخيانة بالفجور لما أَخرج غير واحد عن ابن عباس ما زنت امرأَة نبي قط ورفعه أَشرس إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال صاحب الكشاف: لا يجوز أَن يراد بالخيانة الفجور؛ لأَنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أَحد.
وفي هذا تصوير لحال المرأَتين المماثلة لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإِيمان والطاعة.
وقوله تعالى (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا) بيان لما أَدى إِليه خيانتهما أَي: فلم يغن الرسولان الكريمان عن المرأَتين بحق ما بينهما وبينهما من صلة الزواج إِغناءً مَا من عذاب
الله لكفرهما بالرسولين وإِفشاءِ أَسرارهما، وقيل لهما عند موتهما أَو يوم القيامَة: ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا صلة بينهم وبين الأَنبياء أَو مع داخليها من إِخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.
11 -
المعنى: مثَّل الله حال المؤمنين في أَن وصلة الكفار لا تضرهم، ولا تنقص شيئًا من أجورهم وزلفاهم عند الله؛ بحال مرأَة فرعون، منزلتها العظيمة، ومكانتها الرفيعة عند الله ولم ينقضها أَنها كانت تحت أَعدى أَعداءِ الله وذلك (إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) أَي: قريبًا من رحمتك: لأَنه تعالى منزه عن المكان، وجوز أَن يكون المراد بعندك أعلى درجات المقربين؛ لأَن ما عند الله خير لإِرادة القرب من العرش، قالت ذلك وهي تعذب بالأَوتاد الأَربعة.
أَخرج أَبو يعلى والبيقهي بسند صحيح عن أَبي هريرة أَن فرعون أَوتد لإمرأَته أَربعة أَوتاد في يديها ورجليها. فكانت إِذا تفرقوا عنها أَظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
وفي رواية عبد بن حميد عن أَبي هريرة عنه أَنه قال: إِنه وتد لها أَربعة أَوتاد وأَضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إِلى السماءِ فقالت:(رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
روى أَنها لَمَّا قالت ذلك رأَيت بيتها في الجنة درة، وانتزعت روحها، وهي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى عليه السلام.
(وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ): أَي: من نفسه الخبيثة؛ لأَنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه ثم طلبت ثانيًا النجاة من عمله تنبيهًا على أَنه الطامة الكبرى فهو الكفر،
والظلم والتعذيب، وغير ذلك من القبائح (وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) من القبط كلهم فهم تابعون له في الظلم قاله مقاتل وهم أَهل مصر إِذ ذاك.
12 -
عطف قوله - سبحانه -: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) على امرأَة فرعون أَي: ضرب الله مثلًا للذين آمنوا حالها وما أُوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاءِ على نساءِ عالمي زمانها مع أَن أَكثر قومها كانوا كافرين، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأَرامل وتطبيقًا لقلوبهن كما قيل وهي من أَعقاب هارون أَخي موسى عليهما السلام وقد صانت فرجها وحفظته من الرجال أَو من دنس المعصية (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا) المخلوقة لنا بلا توسط أَصل، والنافخ جبريل عليه السلام وإِسناده إِليه - تعالى - على المجاز أَو على حذف مضاف بمعنى فنفخ رسولنا فيه أَي في الفرج. والذي اشتهر بين العلماءِ أَن جبريل نفخ في جيبها (1) فوصل أَثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى عليه السلام، وقد روي عن قتادة وقال الفراءُ: ذكر المفسرون أَن الفرج جيب درعها (2) وهو محتمل لأَن الفرج في اللغة فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأَة مشقوق فهو فرج، وهذا أَبلغ في مدحها والثناءِ عليها؛ لأَنها إِن منعت جيب درعها فهي للنفس أَمنع وفي ذلك من الوصف بالعفة ما فيه وفي مجمع البيان عن الفراءِ أَنها منعت جيب درعها عن جبريل عليه السلام لَمَّا تمثل لها بشرًا سويًّا وكان ذلك على ما قيل: قولها: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا)(3).
(وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ): أَي: آمنت بصحفه المنزلة على إِدريس وغيره، أَو بما أَوحي منها إلى أَنبيائه، وسماها كلمات لقصرها وصدقت كذلك بجميع كتبه والمراد بما ما عدا الصحف مما فيه طول أَو يراد بها جميع ما كتب ممَّا يشمل اللوح وغيره، وكما قيل
(1) جيب القميص ما ينفخ على النحر أهـ مصباح.
(2)
الدرع القميص.
(3)
سورة مريم: من الآية 18.
يجوز أَن يراد بالكلمات وعده - تعالى - ووعيده أَو ذلك وأمره عز وجل ونهيه إِلى غير ذلك من أَقوال.
(وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ). من عدا المواظبين على الطاعة المؤثرين لها، والتذكير على التغليب حيث لم يقل من القانتات، والإِشعار بأَن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم وهذا أَبلغ من التأنيث، وجوز أَن يكون المعنى وكانت من نسل القانتين لأَنها من سلالة هارون أَخي موسى عليهما السلام (وعليه تكون مِنْ لابتداءِ الغاية لا للتبعيض) ومدحها بذلك لما أَن الغالب أَن الفرع يتبع أَصله، وهي على ما في بعض الأَخبار سيدة النساء ومن أَكملهن.
روي أَحمد في مسنده سيدة نساءِ أَهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة، وفي الصحيح كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساءِ إِلَاّ أَربع: آسية بنت مزاحم امرأَة فرعون، ومريم ابنه عمران، وخديجة بنت خلويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة على النساءِ كفضل الثريد على سائر الطعام، وهي حَرِيَّة بمزيد من الفضل.
وحسبك أَنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت عنه ما لم يرو مثلها أَحد من الرجال.
ثم لا يخفى أَن فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها في الفضل أَحد.