الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة البروج
وهي مكية، وآياتها ثنتان وعشرون آية، نزلت بعد الشمس
مناسبتها لما قبلها:
اشتمالها - كالسورة التي قبلها (سورة الانشقاق) على وعد المؤْمنين، ووعيد الكافرين. والتنويه بشأن القرآن ورفعة شأْنه.
كما اشتملت أَيضًا -كالسورة التي قبلها- على بيان أَن العاقبة والغلبة والظفر للمؤمنين الصابرين مهما لاقوا من عذاب وأَهوال، وأَن الهزيمة والخيبة في الدنيا والعذاب في الآخرة للكافرين المكذبين مهما اشتد بطشهم وعظم سلطانهم.
هذه السورة عظة وتحذير لكفار قريش وغيرهم، وتثبيت لمن يعذبون من المؤمنين.
أَهم مقاصد السورة:
1 -
أَقسم الله -سبحانه- في أَول السورة ببعض مظاهر قدرته على أَن الكافرين الذين يؤذون المؤمنين ليردوهم عن دينهم مطرودون كما طرد من سلك مسلكهم ممن سبقهم: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) إِلى قوله تعالى: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ).
2 -
بينت السورة أَن الصامدين من المؤمنين الذين عُذبوا ما كان ذنبهم إِلا إِيمانهم بالله، وذكرت الوعيد للكافرين، والوعد للمؤمنين الصابرين:(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) إِلى قوله تعالى: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ).
3 -
ذكرت السورة بعض صفاته - تعالى - كقُوَّته وبطشه بالجبابرة، وبالجموع الطاغية من قوم فرعون وثمود وغيرهم من المكذبين، وأَن قوم الرسول يكذبونه والله من ورائهم محيط:(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) إِلى قوله: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِهِمْ مُحِيطٌ).
4 -
وخُتِمت السورة ببيان عظمة القرآن وأَنه في لوح محفوظ لا تصل إِليه يدٌ بتحريف، ولا قوة بتغير:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(الْبُرُوجِ): منازل الشمس والقمر سائر الكواكب.
(الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ): يوم القيامة.
(وَشَاهِدٍ): ومن يشهد يوم القيامة ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه.
(وَمَشْهُودٍ): وما يحضر ويشاهد في ذلك اليوم من العجائب.
(قُتِلَ): لُعِن أَشد اللعن.
(الأُخْدُودِ): الشق المستطيل في الأَرض، ويجمع على أَخاديد.
(إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ): إِذ هم على حَافَّةِ النار وحولها قعود.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ): وما عابوا عليهم وأَنكروا منهم - وفي مفردات الراغب: يقال: تقمت الشيءَ: إِذا أَنكرته بلسانك أَو بعقوبة.
التفسير
1 -
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ):
أَقسم الله تعالى - بالسماءِ ذات البروج، أَي: ذات المنازل التي تنزلها الكواكب من شمس وقمر وغيرهما من أَثناءٍ سيرها، وقيل: البروج: الكواكب العظام.
2 -
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ):
وأَقسم -سبحانه- باليوم الموعود، أَي: الموعود به للحساب والجزاءِ، وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، وقيل لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم، فقد قال سبحانه:"يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ"(1).
أَو يوم طي السماءِ كطي السجل للكتب، وقيل: يمكن أَن يراد به يوم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم على ما أَشار إِليه قوله تعالى: "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا"(2). ولا يخفى أَن جميع ذلك دخل في يوم القيامة.
3 -
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ):
وأَقسم سبحانه وتعالى بشاهد، أَي: بمن يشهد ذلك اليوم -وهو يوم القيامة- ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه. (وَمَشْهُودٍ) أَي: وبما يحضر فيه من الأهوال والعجائب، وهكذا يقسم الله عز وجل بيوم القيامة وما يكون فيه؛ تعظيمًا لذلك اليوم وإِرهابًا لمنكريه.
أَخرج الترمذي وجماعة عن أَبي هريرة مرفوعًا: "الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوه عرفة" وعن ابن عباس: الشاهد: محمد عليه الصلاة والسلام مستدلا بقوله
(1) سورة المعارج، الآيتان: 43، 44.
(2)
سورة الإِسراء، من الآية 79.
تعالى: "وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا"(1)(والمشهود) يوم القيامة مستدلا بقوله تعالى: "ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ"(2). قال الزمخشري: قد اضطربت أَقوال المفسرين في المراد بهما.
وقال الآلوسي: جميع الأَقوال في ذلك -على ما وقفت عليه- نحو من ثلاثين قولا، وأَختار القول الأَول وهو أَن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.
4 -
(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ):
هذه الجملة جواب القسم أَو دليله، كأَنه قيل: أَقسم بهذه الأَشياءِ: بالسماءِ ذات البروج، وباليوم الموعد وبشاهد ومشهود أَن كفار قريش المعذبين للمؤمنين لَمَلْعُونُونَ كما لعن أَصحاب الأُخدود الذين أَلقوا المؤمنين والمؤْمنات فيه.
وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أَذى أَهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من مؤمني الأُمم السابقة -من التعذيب على الإِيمان وإِلحاق أَنواع الأَذى بهم، ولكنهم صبروا، وذلك لكي يقتدوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، وليعلموا أَن كفارهم عند الله بمنزلة أُولئك المُعَذَّبين الْمُحْرِقين بالنار، وهم ملعونون مطرودون من رحمة الله، فالقتل هنا عبارة عن أَشد اللعن والطرد والسخط.
وقال بعضهم: الأَظهر أَن يقدر: إِنهم لمقتولون -أَي: كفار قريش- كما قتل أَصحاب الأُخدود، فيكون وَعْدًا له صلى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتمردين -لإِعلاءِ دينه- ويكون معجزة بقتل رءُوسهم في غزوة بدر.
قال ابن كثير: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ): أَي؛ لعن أَصحاب الأُخدود - وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إِلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل فقهروهم وأَرادوهم أَن يرجعوا عن دينهم، فأَبوا عليهم، فحفروا لهم في الأَرض أُخدودًا وأَجّجوا فيه نارًا وأعدوا له وقودًا يسعرونها به، ثم أَرادوهم على الكفر فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها.
(1) سورة النساء، من الآية:41.
(2)
سورة هود، من الآية:103.
5 -
(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ):
(النَّارِ): بدل اشتمال من الأُخدود، أَي: أَصحاب النار (ذَاتِ الْوَقُودِ)، وصف لها بأَنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأَبدان الناس، وهي تلك النار التي أضرمها الكفار وسعروها لعذاب المؤمنين.
6 -
(إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ):
أَي: لُعِن الكفار الذين صنعوا الأخاديد حين أَحرقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأُخدود وجوانبه.
فـ (عليها): بمعنى (حولها) كقول الأعشى.
وبات على النار الندي والمحلق.
7 -
(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ):
(وَهُمْ) أَي: الكفار على ما يفعلون بالمؤمنين من تعذبيهم بالإِلقاءِ في النار إِن لم يرجعوا عن دينهم (شُهُودٌ) أَي: حضور لا يَرقُّونَ لهم؛ لشدة قسوة قلوبهم، وقيل:(شُهُودٌ) أَي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أَحدًا لم يقصر في أَداءِ ما أَمر به، أَو يشهدون على أَنفسهم بذلك يوم القيامة: يوم تشهد عليهم جوارحهم بأَعمالهم.
8 -
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ):
أَي: وما أَنكروا منهم وما عابوا عليهم وما كان ذنبهم عندهم إِلا إِيمانهم بالله، إِنْ عُدَّ ذلك ذنبًا وجرمًا يستحق الإِنسان عليه العقاب والمؤاخذة، وهو من باب تأْكيد المدح بما يشبه الذم، على منهاج قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أَن سيوفهم
…
بهن فلوا من قراع الكتائب
(الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): ذكر -سبحانه - الأَوصاف التي يستحق الله بها أَن يُؤمَن به وأَن يُعْبَد، وهو كونه عزيزًا غالبًا قادرًا يُخْشَى عقابه، حميدًا مُنْعِمًا يجب له الحمد على نعمته ويُرْجَى ثوابه.
9 -
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ):
الله الذي له -وحده- ملك السموات والأَرض، فكل ما فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له -سبحانه- وما نقموه منهم هو الحق الذي لا ينقمه إِلا مبطل منغمس في الغي، وأَن الناقمين أَهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يَعْدِلُه عذاب.
(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): هذا وعد المؤمنين، ووعيد لمعذبيهم، فإِن علم الله -جل شأْنه- الجامع لصفات الجلال والجمال شامل ومحيط بجميع الأَشياءِ التي من جملتها أَعمال الفريقين، وسيجازي كلا منهما على عمله.
10 -
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ):
المعنى: إِن الذين ابتلوا المؤمنين والمؤمنات في دينهم بالأَذى والإِحراق بالنار لِيرتدوا عن دينهم ثم لم يرجع هؤُلاءِ عن فتنة المؤمنين وتعذبيهم، ولم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أَسلفوا فلهم في الآخرة عذاب جهنم جزاء كفرهم، ولهم عذاب الحريق جزاء إِحراقهم المؤمنين.
قيل: يجوز أَن يكون المراد بـ (الَّذِينَ فَتَنُوا) أَصحاب الأُخدود خاصة، وبـ (الَّذِين آمَنُوا) المطروحين في الأُخدود.
وقال بعضهم، المراد بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات بكل أَنواع العذاب كعمار وياسر وبلال، والأَصواب العموم، ليشمل كل من صد عن سبيل الله وعذب المؤمنين ليرجعوا عن دينهم.
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22))
المفردات:
(بَطْشَ رَبِّكَ) البطش: الأَخذ بالعنف، فإِذا وصف بالشدة فقد تَضَاعف وتفاقم.
(هُوَ يُبْدِئُ): إِنه وحده يخلق ابتداءً بقوته.
(وَيُعِيدُ): يبعث الموتى يوم القيامة بقدرته.
(الْوَدُودُ): المحب كثيرًا لمن أَطاعه.
(ذُو الْعَرْشِ): صاحب العرش وخالقه ومالكه.
(الْمَجِيدُ): العظيم المستحق لكل صفات العلو والكمال.
(مُحِيطٌ): عالم بأَحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه.
التفسير
11 -
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ):
المعنى: إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأَنهار لجمعهم بين الإِيمان والعمل الصالح، وذلك النعيم الذي جُوزُوا وكُوفِئوا به من دخولهم الجنات وتمتعهم بما فيها هو الفوز الكبير الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الْمُتَع والرغائب، وكيف لا وقد ظفروا بكل خير ونجوا وسلموا من كل شر!
12 -
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ):
استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إِيذانًا بأَن لكفار قومه نصيبًا موفورًا منه؛ كما ينبئ عنه ذكر الرب مع الإِضافة إِلى ضميره عليه الصلاة والسلام أَي: إِن أَخذ ربك الجبابرة والظَّلَمَةَ بالعذاب بالغ الغاية في الشدة والقوة والعنف والبطش؛ لأَنه بطش ربك القادر على كل شيءِ.
13 -
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ):
أي: أَنه عز وجل وحده - هو الذي يُبْدِئ الخلق بالإِنشاءِ، وهو -سبحانه - يعيده بإِحيائه يوم القيامة للحشر والجزاءِ، ودل باقتداره على البدءِ والإِعادة على شدة بطشه. أَو بيدئُ البطش بالكفرة في الدنيا، ثم يعيده في الآخرة.
14 -
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ):
وهو -سبحانه- الغفور لذنوب من يشاءُ من عباده المؤمنين، وقيل: لمن تاب إِليه وأَطاع أَمره. (الْوَدُودُ): أَي، كثير المحبة لمن أَطاعه وأَحبه، وعن ابن عباس: المتودد إِلى عباده بالمغفرة.
15 -
(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ):
(ذُو الْعَرْشِ) أَي: صاحب العرش، والمراد: مالكه أَو خالقه، والعرش أَعظم المخلوقات،
وجاءَ في الأَخبار عن عظمه ما يبهر العقول، وقال القفال: ذو العرش: ذو الملك والسلطان. (الْمَجِيدُ): العظيم في ذاته وصفاته سبحانه وتعالى فإِنه - جلّ شأَنه - واجب الوجود، تام القدرة، كامل الحكمة.
16 -
(فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ):
لأَن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى، أي: أَنه -سبحانه- لا يعجزه شيءٌ، ولا معقب لحكمه، ولا يسأَل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته كما روي عن أَبي بكر الصديق أَنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إِليك الطبيب؟ قال: نعم، قالوا فما قال لك؟ قال: قال لي: إِني فَعَّال لما أُريد -يريد أَن الطبيب على الحقيقة هو الله- فهو سبحانه فعال لما يريد؛ لا يتخلف عن قدرته مراد.
17 -
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ):
تقرير لكونه سبحانه وتعالى فعالا لما يريد، وكذلك لشدة بطشه بالظَّلَمَةِ والعصاة والكفرة الْعُتاة، وتسلية له صلى الله عليه وسلم بالإِشعار بأَنه سيصيب كفار قومه ما أَصاب الجنود، والمراد بالجنود هنا: الأَقوام والجماعات الذين تجندوا على أَنبياءِ الله واجتمعوا على أَذاهم.
والمعنى: هل بلغك يا محمد ما أَحلّ الله بهم من البأْس وأَنزل عليهم من النقمة التي لم يردّها عنهم رَادٌّ ولم يدفعها عنهم دافع؟ وهذا تقرير لقوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أَي: إِذَا أَخذ الظالم أَخذه أَخذًا أَليمًا شديدًا: أَخذ عزيز مقتدر، عن عمر ابن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأُ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) فقال: "نَعَمْ جَاءَني".
18 -
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ):
قوم فرعون وثمود (بدل من الجنود) والمراد بحديثهم: ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.
والمعنى: قد أَتاك حديث قوم فرعون وثمود، وعرفت ما فعلوا وما فُعِلَ بهم، وما حل بهم من جزاءِ تماديهم في الباطل، فَذَكر قومك بأَيام الله وأَنذرهم أَن يصيبهم مثل ما أَصاب
أَمثالهم ممن خرجوا عن طاعته، وحاربوا رسله، وكذبوا بأنبيائه، وهذا تنبيه لمن كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذَّب بالقرآن ليتعظ.
19 -
(بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ):
أَي: بل الذين كفروا من قومك في تكذيب، وهذا إِضراب انتقالي عن مماثلة كفار قريش لمن سبقهم من الأُمم المكذبة، وبيان لكونهم أَشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبئُ عنه العدول عن (يكذبون) إِلى قوله تعالى:(بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) المفيد لإِحاطة التكذيب بهم في كل جانب، مع ما في تنكير (تكذيب) من الدلالة على تعظيمه وتهويله، فكأَنه قيل: ليس قومك مثلهم، بل هم أَشد منهم فإِنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم، فهم أَدنى منهم في استحقاق العذاب.
20 -
(وَاللَّهُ مِنْ وَرَاءِهِمْ مُحِيطٌ):
أَي: والله - سبحانه تعالى - متمكن منهم، عالم بهم، قادر عليهم، قاهر لهم لا يفوتونه ولا يعجزونه، والإِحاطة بهم من ورائهم قيل: لأَنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشَّيءُ من الشَّيءِ المحيط به، فالكلام تصوير لعدم نجاتهم من بأْس الله.
21 -
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ):
هذا رد لكفرهم، وإِبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أَي: بل هذا الذي جئتهم فكذبوا به كتاب شريف عالي المنزلة في الكتب السماوية في نظمه وإِعجازه، فلا يحق تكذيبه والكفر به.
22 -
(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ):
المعنى: أَن القرآن محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، كما قال تعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"(1) وقيل: مكتوب ومحفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إِليه، واللوح المحفوظ نحن نؤمن به، ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وحقيقته وكيفية كتابته ونحو ذلك. والله أَعلم.
(1) سورة الحجر، الآية 9.