الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الطارق
وهي مكية، وآياتها سبع عشرة آية، نزلت بعد سورة البلد
صلتها بما قبلها:
لما ذكر سبحانه وتعالى تكذيب الكفار للقرآن في السورة السابقة (سورة البروج) في قوله تعالى: "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ"(1) نبّه سبحانه وتعالى في هذه السورة: (سورة الطارق) على نشأة الإِنسان وبدءِ خلقه، ثم ذكر قدر هذا القرآن وعلو شأنه الذي كذَّب به هذا الإِنسان الضعيف.
أَهم مقاصد السورة:
1 -
بُدئَت السورة الكريمة بالقسم السماءِ وما حوت من نجم وكواكب على أَن كلَّ نفس عليها رقيب يحصى أَعمالها (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) إِلى قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ).
2 -
دعت السورة الإِنسان أَن يفكر وينظر في نشأته ومم خلق؟ ليعلم أَن الذي أَنشأه بقدرته قوي قادر على إِعادته بعد موته للحساب (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) إِلى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ).
3 -
في السورة قسم آخر بالسماءِ ذات المطر، والأَرض التي تنشق عن النبات على أَن القرآن فاصل بين الحق والباطل وهو خير كله، ومن حقه -وقد وصفه الله بهذا- أَن يكون معظَّما يترفع به قارئه وسامعه عن أَن يلم بهزل أَو يتفكه بمزاج، ومع ذلك فقد اشتد الكفار في عداوته وإِنكاره والكيد له، وقد رَدَّ الله كيدهم بكيد أَشد لا يقدرون على دفعه (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) إِلى قوله تعالى:(وَأَكِيدُ كَيْدًا).
4 -
ختمت السورة بطلب إِمهال الكافرين حتى يأَتيهم العذاب: (فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا).
(1) سورة البروج الآية: 19
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10))
المفردات:
(الطَّارِقُ): كل آت ليلا، ومنه النجوم؛ لطلوعها ليلا، والطارق في الأَصل: اسم فاعل من الطَّرق بمعنى الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت.
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ): النجم المضيءُ.
(حَافِظٌ): رقيب ومحاسب.
(دَافِقٍ): مدفوق ومصبوب بدفع وسرعة.
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ): الصلب: الظهر.
(وَالتَّرَائِبِ): جمع تَرِيبة، وهي عظام الصدر أَو الأَطراف.
(رَجْعِهِ): إِعادة خلقه بعد فنائه وموته.
(تُبْلَى السَّرَائِرُ): تكشف وتظهر مكنونات القلوب، وأَصل الابتلاء: الاختبار.
التفسير:
1 -
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ):
أَقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب التي تضيءُ عند طلوعها ليلا، وتختفي نهارًا.
2 -
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ):
هذا الأَسلوب للتنويه بشأن الطارق بعد تفخيمه وتعظيمه، بالإِقسام به، وتنبيه على أَن رفعة قدره وعلو شأنه مرتبة لا ينالها ولا يصل إِلى معرفتها عقول الخلق؛ فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم.
والمعنى: وأَي شيء أَعلمك بالطارق وما حقيقة هذا الكوكب؟
3 -
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ):
أَي: النجم المضيءُ كأنه يثقب الظلام بضوئه وينفذ فيه، وروى لأَنه يدرأُ الظلام، أَي: يدفعه، وقال الغراءُ: الثاقب: المرتفع.
4 -
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ):
المعنى: ما كل نفس إِلا عليها حافظ، أَي: مهيمن ورقيب وهو الله سبحانه وتعالى كما في قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا)(1).
وقيل: معنى (حَافِظٌ): من يحفظ عملها من الملائكة ويحصى عليها ما تكسب من خير أَو شر، كما في قوله تعالى:(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ)(2) وروى ذلك عن ابن سيرين وقتادة.
(1) سورة الأحزاب، من الآية: 52
(2)
سورة الانفطار، الآيتان: 10، 11.
وقيل: (حَافِظٌ) أَي: عقل يرشده إِلى مصالحه ويكفه عمَّا يضره.
والجملة جواب القسم.
5 -
(فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ):
لَمَّا أَثبت -سبحانه- أَن على الإِنسان حافظًا ورقيبًا منه -تعالى - أو من ملائكته، حثه على النظر في نشأته الأُولى حتى يعلم أَن من أَنشأهُ على هذه النشأة قادر على إِعادته وجزائه، فليعمل ليوم الإِعادة والجزاء، وليُرْضِ ربه ولا يُملى على حفظته إِلا ما يسره في آخرته وعاقبة أَمره.
وأَما على تقدير أَن المراد بالحافظ العقل، فلأنه لَمَّا أَثبت -سبحانه- أَن للإِنسان عقلًا يرشده إِلى مصالحه ويكفه عن مضاره، حثه على استعماله فيما ينفعه، وعدم تعطيله وإِلغائه، كأَنه قيل: فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأَ خلقه حتى تتضح له قدرة واهبه - سبحانه - وأَنه إِذا قدر على إِنشائه من مواد ليس فيها حياة ظاهرة فهو -سبحانه- على إِعادته أَقدر وأَقدر، فليعمل بما يُسَر به حين الإِعادة والرجوع إِلى مولاه.
6 -
(خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ):
أَي: خُلق الإِنسان من ماءٍ دافق مصبوب بدفع وسرعة في الرحم، والمراد بالماءٍ الدافق: التي الذي يحمل الحيوانات المنوية التي تلقح بويضة المرأَة ويتكون الجنين.
7 -
(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ):
أَي: يخرج هذا الماءُ (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) وهو الظهر.
(وَالتَّرَائِبِ): وهي عظام الصدر. قال الآلوسي: لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد.
ولعلماءٍ العصر كلام في ذلك يمكن الرجوع إليه لمعرفة الاجتهادات القديمة والحديثة ولا يجوز تفسير القرآن بما لا يصل إِلى حد العلم القطعي، مع الدعوة إِلى الفكر والنظر ومداومة البحث الذي قد يوصل إِلى الحقيقة التي لا تقبل الشك وذلك ممكن غير مستحيل. قال تعالى:"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"(1).
8 -
(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ):
أَي: إِن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإِنسان ممَّا ذكر لقادر على إِعادته بعد موته، وبعثه بعد هلاكه، لا يصعب عليه ذلك ولا يعجز عنه سبحانه.
9 -
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ):
في يوم القيامة تبلي السرائر، أَي: تظهر وتبدو، ويصير السر علانية والمكنون، مشهودًا، وسواءٌ منه ما أَسِرَّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أَخفي من الأَعمال، حيث يميز بين ما طاب منها وما خبث.
10 -
(فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ):
المعنى: فما للإِنسان المنكر للبعث من قوة في نفسه يمتنع بها من العذاب، ولا ناصر يمنعه ويحميه فيدفع العذاب عنه.
(1) سورة فصلت من الآية: 53
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))
المفردات:
(ذَاتِ الرَّجْعِ): ذات المطر لرجوعه كل حين، أَو لرجوعه إِلى المصدر الذي تبخر منه وتكاثف ونزل ماء.
(ذَاتِ الصَّدْعِ): ذات الانشقاق عن النبات.
(إِنَّهُ) أَي: إِن القرآن.
(لَقَوْلٌ فَصْلٌ): لقول فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له: فرقان.
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) أَي: وما القرآن باللعب والباطل.
(يَكِيدُونَ كَيْدًا): يمكرون مكرًا بالغ الغاية لصد الناس عن القرآن.
(وَأَكِيدُ كَيْدًا): أُجازيهم على فعلهم بالاستدراج لهم.
التفسير:
11 -
(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ):
أَقسم سبحانه وتعالى بالسماء التي ينزل منها المطر، وسمي المطر رجعًا لأن العرب كانوا يرون أَن السحاب يحمل بخار الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إِلى الأَرض، أَو سموا
المطر بذلك تفاؤلا ليرجع، أَو لأَن الله يرجعه بين الفينة والفينة ليشرب الناس ويسقوا زرعهم ودوابهم، ولولا ذلك لهلك الجميع، وعن مجاهد: تفسير السماء بالسحاب، والراجع بالمطر، وقيل: الرجع: الملائكة عليهم السلام سُمُّوا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد.
12 -
(وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ):
وأَقسم -سبحانه- بالأَرض ذات الصدع، أَي: ذات الانشقاق عن النبات الذي يخرج منها.
13 -
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ):
المعنى: إِن القرآن الذي أُنزل على الرسول لقول فاصل بين الحق والباطل، والهدي والضلال، قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأَنه نفس الفصل.
14 -
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ):
أَي: ليس في القرآن شائبة لعب ولا باطل، بل كله جد محض، فمن حقه أَن يهتدى به الغُوَاة، وتخضع له رقاب العُتَاة، ومن الواجب نحو القرآن -وقد وصفه الله بذلك- أَن يكون مَهِبيًا في الصدور، مُعَظمًا في القلوب، ويترفع به قارئه وسامعه أَن يُلِم بهزل -أَو يتفكه بمزاح، وأَن يلقى ذهنه إِلى أَن جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويقف عند وعده ووعيده، حتى إِنه إِن لم يخف من الله ولم يخش عذابه فالأَولى به أَن يكون جادًّا غير هازل وفي الحكم على القرآن بأنه فصل أَخرج الترمذي وغيره عن على - كرم الله وجهه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنها ستكونُ فتنةُ، قلتُ: فمَا المخْرجُ
منها يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: كتابُ اللهِ؛ فيه نبأُ مَن قبلكمُ، وخَبرُ ما بعدكمُ، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصلُ ليسَ بالهزلِ .. " إِلخ الحديث.
15 -
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا):
ثم أَخبر -سبحانه- عن الكافرين المكذبين بالقرآن الذين يصدون عن سبيل الله وعن الحق فقال: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ) أَي: يمكرون بالناس في دعوتهم إِلى مخالفة القرآن والإِعراض عنه، ويُعْمِلُونَ المكايد في إِبطال أَمره وإِطفاءِ نوره ويبذلون جهدًا كبيرًا في هذا الكيد، وهم وإِن بلغوا الغاية في كيدهم فقدرتهم ضعيفة، وقوتهم محدودة.
16 -
(وَأَكِيدُ كَيْدًا):
أَي: أَقابل كيدهم بتدبير قوى لا يمكن رده ولا يستطاع دفعه وذلك بمثل إِملائهم -واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وانتظار الميقات الذي وقَّته للبطش بهم والانتقام منهم، وإِعلاءِ شأن القرآن وانتشار الدين ورفعة قدر الرسول صلى الله عليه وسلم.
17 -
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)(1):
(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) أَي: فَتَأَنَّ وانتظر الانتقام منهم، ولا تستعجل به ولا تدع عليهم بالهلاك، ولا تيأَس من عقابهم، والفاء في قوله تعالى:(فَمَهِّلِ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أَي: أَن الله هو الذي سيتولى كيدهم ولن يهملهم، فلا تشغل نفسك بالتصدي والتعرض لمكايدهم، وذِكْرُ (الْكَافِرِينَ) وعدم الاكتفاءِ بضميرهم لذمهم ونعتهم بأَبي الخبائث وأَساس جميع الشرور وهو الكفر.
(1)(روايدا): مصدر مؤكد لمعنى العامل -وهو في الأَصل مصغر (رود) أي: مهل- أو (إرواد) على الترخيم -أي: أمهلهم إمهالا قربيا، أو قليلا. أهـ.
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا): بدل من (مَهِّل) والمعنى: أَمهل الكافرين إِمهالا رويدًا، أَي: قليلا، أَو قريبًا.
وعن السدي أَنه قال: أَمهلهم حتى آمر بالقتال، وآتيك فيهم بأمر حاسم، أَي: أَمهل الذين كفروا بدعوتك التي واجهتهم بها، ولعله المراد بالإِمهال القريب أَو القليل، واختار بعضهم أَن يكون المراد الإِمهال إِلى يوم القيامة ليعم من واجههم بالدعوة ومن كفروا بها بعد، لأَن ما وقع بعد الأَمر بالقتال -كالذي وقع بالكفار يوم بدر وفي سائر الغزوات- لم يعم جميع الكفار، وما يكون يوم القيامة يعمهم جميعًا، والتقريب يكون باعتبار أَن كل آت قريب.
والظاهر ما قاله السدي، وقد أَصابهم بعد الأَمر بالقتال ما أَصابهم من قتل أَبطالهم وقهرهم وإِذلالهم، وظاهر كلام أَبي حيان أَن الأَمر الثاني (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) تأَكيد للأَمر الأَول (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) والمخالفة بين اللفظين بين "مَهِّل" و"أَمْهِل" لزيادة تثبيته صلى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام ودلت الزيادة المشعرة بالتغاير على أن كلاًّ من اللفظين كلام مستقل بالأمر بالثاني فهو أَوكد من مجرد التكرار، والله أَعلم.