الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 -
(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ):
أَي: أَنهم لا يؤذن لهم في العذر والتنصل ممَّا أَتوا به من جرائم وقبائح (فَيَعْتَذِرُونَ) وهم أَيضًا لم يعتذروا؛ وكونهم لهم يعتذروا ليس راجعًا إِلى عدم الإذن لهم في الاعتذار، ولكنه راجع إِلى عدم العذر في نفسه، أي أَنه لا عذر لديهم يعتذرون ويحتجون به، ويستندون إِليه. وقال الزمخشري:(فَيَعْتَذِرُونَ) عطف على (يُؤْذَنُ) منخرط في سلك النفي. أَي: أَن النفي يشملهما وينصب عليهما معًا.
37 -
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ):
أَي: هوان لهم، وخزي يلحقهم من انقطاع عذرهم وافتضاح أَمرهم على رءُوس الأَشهاد يوم القيامة، بالإِضافة إِلى رؤيتهم المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا، وقد فازوا بالثواب العظيم من رب العالمين، أَما هم فقد باءُوا بالنكال والذل بمشاهدتهم النار وأَهوالها التي هي مشواهم وبئس المصير.
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))
المفردات:
(وَالأَوَّلِينَ): السابقين لكم.
(كَيْدٌ): حيلة ومكر تمكرون به.
التفسير:
38 -
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ):
أَي: هذا يوم يفصل الله فيه بين الخلائق، فيتبين المحق من البطل، ويفضل بين الرسل وأُممهم؛ كيَلا يكون لأَحد حُجَّة.
(جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ): أَي: جمع الذين كذبوا محمدًا والذين كذبوا النبيين من قبله.
39 -
(فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ):
هذا تهديد شديد ووعيد أَكيد، أَي: فإِن قدرتم على الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا، وأَنَّي لكم ذلك؛ فإِن الحيل والمخادعة في هذا اليوم قد انقطعت وأَصبحت غير ممكنة أَو فإِن تمكنتم من أَن تتخلصوا من قبضي وتنجوا من حكمي فافعلوا، ولكنكم لا تقدرون، وذلك كقوله تعالى:"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَاّ بِسُلْطَانٍ"(1)، وقوله -سبحانه- في الحديث القدسي:"يَا عبادِي إِنكمْ لَنْ تَبْلُغوا نَفْعِي فَتنفعونِي، ولَن تَبلغوا ضُري فَتَضرونِي". فخطاب الله لهم في هذه الحالة نهاية في تخجيلهم وتقريعهم وتوبيخهم، لذا جاءَ عقيبه قوله تعالى:
40 -
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ):
أَي: هوان وإِيلام لهم، لأَن التوبيخ لهم في هذا الموطن ضرب ولون من أَلوان العذاب
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45))
المفردات:
(مِمَّا يَشْتَهُونَ): ممَّا يتمنون.
(هَنِيئًا): لا يشوبه سقم ولا تنغيص.
التفسير:
بعد أَن أَبان -سبحانه- ما ينتظر الكفار والعصاة من بعثهم ودفعهم (إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبِ * لا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ
…
) إِلخ ما جاءَ في تهديدهم ووعيدهم، أَخبر
(1) الآية 33 من سورة الرحمن.
-جل شأْنه- بما يصير إِليه المتقون وينعمون به، فبيَّن أَنه -سبحانه- قد أَعدًّ وهيأَ لهم أَنواعًا من نعمة فقال:
41، 42 - (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ):
كأَنه قيل: ظلال الكافرين ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية لهم عن اللهب والعطش أَما المتقون فظلالهم ظليلة؛ لأَنهم في ظلال الأَشجار وظلال القصور في الجنة وفيها عيون عذبة مغنية لهم من العطش، ومانعة وحاجزة بينهم وبين اللهب، ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها.
43 -
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ):
أَمرهم -جل شأْنه- أَمر تكريم وإِعزاز فقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أَي: كلوأَكلًا، واشربوا شربًا خالص اللَّذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص وذلك جزاءِ عملكم الحسن وطاعتهم لله في الدنيا دار التكليف، وفي هذا من إِدخال السرور والرضا على نفوس المؤمنين، وفيه من التبكيت والتحسير للمكذبين؛ لأَنه يذكِّرُهم بما فاتهم من النعم العظيمة ليعلموا أَنهم لو كانوا من المتقين المحنسين لفازوا وظفروا بمثل تلك الخبرات، ونالوا عظيم الدرجات، ولكنهم كانوا في سخط الله وغضبه وعظيم عذابه؛ بسبب كفرهم وتكذيبهم.
44 -
(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ):
أَي: مثل هذا الجزاء الحسن العظيم نكافئ ونجزي المحسنين لا بخس ولا نقض. والمحسنون: هم الذين أَحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأَحسنوا في أَعمالهم في الدنيا.
45 -
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ):
أَي: نكال وخزي على الكافرين حيث يرون السعادة للمؤمنين، أَما هم ففي العذاب خالدون.
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47))
المفردات:
(مُجْرِمُونَ): كافرون أَو عاصون.
التفسير
46 -
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ):
أَي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك يوم القيامة؛ تذكيرًا لما كان يقال لهم في الدنيا وتحسيرًا وتخسيرًا لهم؛ وهم جديرون أَن يخاطبوا بذلك حيث تركوا الحظ الوفير، والنصيب الجليل الكثير الدائم، إِلى القليل الحقير، والنزر اليسير، وآثروه وهو الزائل الفاني على الدائم الباقي، و (المجرمون) هم الكافرون، وقيل: كل مكتسب فعلًا يضره في الآخرة من الشرك والمعاصي، وفيه دلالة على أَن كل مجرم نهايته تمتع أَيام قليلة ثم يبقى عذاب وهلاك أَبدًا.
47 -
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ):
أَي: هلاك لهم يوم القيامة بسبب أَكلهم وتمتعهم في الدنيا بطعام وشهوات ذهبت لذاتها، ويذوقون الآن حسراتها وشدائدها.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50))
المفردات:
(ارْكَعُوا): صلوا، وقيل: غير ذلك.
التفسير:
48 -
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ):
أَي: وإِذا قيل لهؤلاءِ المشركين: أَطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا له عز وجل وذلك بقبول وحيه -تعالى- واتباع دينه، وارفضوا الاستكبار وحمية الجاهلية، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويصرون على ما هم عليه من التولي والإِعراض والاستكبار، وهذه حكاية
عمَّا كانوا عليه في الدنيا يذكرون بها في الآخرة؛ ليشتد ندمهم وتزيد حسرتهم وأَلهم، وقيل: وإِذا قبل لهم: صلوا لا يصلون؛ إِذا المراد من الركوع هو الصلاة؛ لأَنه من أَهم أَركانها، ويطلق عليها -كثيرًا- في لسان الشرع.
روي عن مقاتل: أَن الآية نزلت في ثقيف، فقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: حط عنا الصلاة فإِننا لا ننحني؛ فإِنها مسبّة علينا، فقال عليه الصلاة والسلام:"لَا خَيْرَ في دينٍ لَيْسَ فيهِ ركوعٌ ولا سجودٌ"، وعن ابن عباس أَنه قال: هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أَجل أَنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا.
ويذكر أَن الإِمام مالكًا - رحمة الله - دخل المسجد بعد صلاة العصر -وهو ممن لا يدري الركوع بعد العصر- فجلس ولم يركع، فقال له صبيٌّ: يا شيخ قم فاركع، فقام فركع ولم يحاجّه بما يراه مذهبًا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أَن أَكون من الذين (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ).
49 -
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ):
أَي: ويل وثبور لمن يكذب هؤلاءٍ الأَنبياءَ الذين يرشدونهم إِلى ما يجمع لهم من خيرات الدنيا والآخرة.
50 -
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ):
أَي: إِن لم يصدقوا بهذا القرآن العظيم الذي جاءَ بلغتهم وتحداهم أَن يأْتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم هاجهم وأَثارهم بقوله تعالى:(قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(1) ولكنهم أَصابهم العي والحصر، وعمهم وشملهم العجز، أَي: إِن لم يصدقوا ويؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليتها ووضوحها فبأَي شيءٍ يصدقون ويذعنون له بعد ذلك؟! إِنه العمى في أَبصارهم، والرَّان والطمس على قلوبهم، والجحد والحسد في نفوسهم، وصدق الله العظيم:"فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ"(2).
والله أَعلم.
(1) الآية 88 من سورة الإسراء.
(2)
من الآية 33 من سورة الأنعام.