الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأعلى
وتسمى سورة سبح، وهي مكية، وآياتها تسع عشرة آية
مناسبتها لما قبلها:
لما ذُكر في سورة طارق خلق الإِنسان، وأُشير إِلى خلق النبات في قوله تعالى:(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) وذُكر هاهنا خلق الإِنسان في قوله تعالى: (خَلَقَ فَسَوَّى) وخلق النبات في قوله تعالى: (أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) ناسب أَن يقرن بينهما.
مقاصد السورة:
1 -
تنزيه ذات الله الأَعلى، وصفاته، عما لا يليق بها (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى).
2 -
بيان الإِبداع فيما خلق -سبحانه- فجعله مستويًا في إِحكام وإِتقان، وقدر لكل شيءٍ خلَقه ما يصلحه، فهداه إِليه:(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).
3 -
توجيه العقول والأَبصار إِلى صنيع القدرة في إِخراج النبات من الأَرض التي تنشق عنه وتدُرجه من أَخضر نافع إِلى أَن يصير يابسًا أَسود وجعله رعيًا للدواب: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى).
4 -
إِخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأَن الله سيقرئه القرآن فيحفظه ولا ينسى منه شيئًا إِلا ما شاءَ الله، وأَنه صلى الله عليه وسلم ميسر لليسرى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ
…
) الآيات.
5 -
أَمْرٌ للرسول صلى الله عليه وسلم أَن يُذَكِّر بالقرآن وبما يوحَى إِليه ليذَّكر من يخاف الله ويرجو ثوابه:
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى).
6 -
إِعلامه صلى الله عليه وسلم بأَن الأَشقى المصر على العناد والكفر سيرفض دعوتك، ويعرض عنك فلا تحزن، وسيصلى النَّار الشديدة، فلا يستريح من العذاب بالموت، ولا يحيا حياة نافعة: (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى
…
) الآيات.
7 -
تأْكيد حصول الفلاح، والظَّفَرَ بالنجاة لمن تطهر من الشرك والمعاصي وذكر اسم خالقه بقلبه ولسانه، فصلى في خشوع وامتثال:
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).
8 -
التنصيص على أَن الذي ذكَّر به، ودعا إِليه صلى الله عليه وسلم ثابت في الصحف الأُولى صحف إِبراهيم وموسى. فهو مما توافقت عليه الأَديان، وسجلته الكتب السماوية:
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13))
المفردات:
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى): التسبيح؛ التنزيه، أَي: نزه اسمه عز وجل عن الإِلحاد فيه بالتأويلات الزائفة، وعن كل ما لا يليق به.
(فَسَوَّى) أَي: فجعل المخلوقات كلها سواء في الإِحكام والإِتقان.
(وَالَّذِي قَدَّرَ) أَي: جعل الأشياء كلها على مقادير مخصوصة.
(الْمَرْعَى): ما ترعاه الدواب أَخضر غَضًّا.
(فَجَعَلَهُ غُثَاءً) أي: جافًّا يابسًا، وأصل الغشاء: الهالك البالي من ورق الشجر، ومنه غثاء السيل.
(حْوَى): أسود من القدم.
(وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) أَي: يبتعد عنها ولا ينتفع بها الكافر فكان أَشقى الناس.
(يَصْلَى النَّارَ): يدخلها ويذوق حرها.
التفسير
1 -
(سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى):
أَي: جعل أَسماءَه - جل شأْنه - منزهة عن كل ما لا يليق بها فلا تطلقها على غيره على وجه يشعر بتشاركهما فيها، كأَن تقول لمن أَعطاك شيئًا: إِنه رزقني على وجه يشعر بالتشارك، ولا تسم بها غيره - تعالى - إِذا كانت متخصصة به كلفظ الجلالة "الله" والرحمن، ولا تذكرها في موضع لا يليق بها، أَو على وجه ينافي التعظيم والإِجلال، وهذا الوجه من التفسير مبني على الظاهر من أَن لفظ (اسم) غير زائد وذهب كثير إِلى أَنه زائد أَي: ذكر تأْكيدًا لضرب من التعظيم على سبيل الكناية.
وعليه فالمعنى: نزه ربك عما لا يليق به من الأَوصاف في ذاته وأَفعاله وأَسمائه، واستدل لهذا الرأْي بما أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، وابن ماجه وغيرهم عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ"(1) قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: اجعلوها في سجودكم، ومن المعلوم أَن المجعول
(1) سورة الواقعة، آية:74.
فيهما: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأَعلى دون ذكر لفظ (اسم) كما استدل أَيضًا على أَن (اسم) زائد بما أَخرجه الإِمام أَحمد وأَبو داود، والطبراني، والبيهقي في سننه عن ابن عباس: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذا قرأَ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأَعلى.
وقوله -سبحانه - (الأَعْلَى) صفة للرب، وهو الأَظهر، وأُريد بالعلو: أَنه -سبحانه- يعلو بقدره واقتداره لا بالمكان؛ لاستحالته عليه، ويجوز أَن يكون لفظ الأَعلى صفة للفظ (اسم) والمراد بعلوه حينئذ: تَرَفُّعُهُ عن أَن يشاركه اسم في حقيقته.
2 -
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى):
صفة ثانية، وحذف مفعول (خلق) لقصد التعميم. أَي: خلق كل شيءٍ فجعل خلقه متساويًا كما تقتضيه حكمته وإِتقانه. ويتنسى لهذا المخلوق أَن يؤدي ما خلق له على أَكمل وجه، وقال في البحر، خلق كل شيء فسواه بحيث لم يأْت متفاوتًا بل مناسبًا في إِحكام وإِتقان للدلالة على أَنه من عالم حكيم.
3 -
(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى):
صفة أُخرى، وكذا حال ما بعده، أَي: جعل الأَشياءَ مقدرة على مقادير مخصوصة في أَجناسها، وأفرادها، وأَفعالها، وآجالها، وهدى كلا منها إِلى ما يصدر عنه، وينبغي له طبعًا واختيارًا، ويسره لما خلق له بخلق الإِلهامات، ونصب الدلالات، وإِنزال الآيات، ولو تأَملت في خلق الإِنسان وأَحوال النباتات والحيوانات لرأَيت عجبًا مما تحار فيه العقول، وتعجز عن إِدراك الأَلباب، وحسبك أَنه -سبحانه - وأَدع في الإِنسان عقلًا يميز به بين الخير والشر، والضار والنافع، وسخر له كنوز الأَرض وخيراتها وجعل كل ما عليها طيِّعا له منقادًا، ووجه الحيوانات إِلى مراتعها، والطيور إِلى مآكلها، والهوام إِلى حاجاتها، وأَما فنون هداياته في غير ذلك فمما لا يعلمه إلَاّ العليم الخبير. وعن السدي: قدر للولد في البطن تسعة أَشهر أَو أَقل أَو أَكثر، وهداه للخروج منه للتمام.
4، 5 - (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى):
أَي: أَنَّه - جل وعلا - أَنبت ما ترعاه الدواب أَخضر غضًّا يكاد يبرق ويتلأْلأُ من طراوته، ثم جعله بعد ذلك (غُثَاءً) أَحوى: يابسًا جافًّا كأَوراق الشجر البالية، والحشائش والأَخلاط مما يقذف به السيل على جانب الوادي، ومنه: غثاء السيل. والعرب تسمي القوم إِذا اجتمعوا من قبائل شتى أَخلاطًا وغثاءً (أَحْوَى): من الحوة: وهي سواد يضرب إِلى الخضرة؛ إِشارة إِلى بلوغه الغاية في القدم، فهو صفة مؤكدة للغثاءِ لأَن الغثاءَ إِذا قدم وأَصابته المياه حتى اسود وتعفن صار أَحوى.
وتفسر الحُوَّة بشدة الخضرة، ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد، لأَن شدة الخضرة ترى في بدءِ النظر إِليها كالسواد، والمعنى: أَخرج المرعى حال كونه أَحوى من شدة الخضرة، فجعله غثاءً بعد ذلك.
6، 7 - (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى):
بيان لهداية الله - تعالى - الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم إِثر بيان هدايته -تعالى- العامة لسائر مخلوقاته، وهي هدايته - علية الصلاة والسلام - لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الكريم الذي هو هدى للعالمين، وتوفيقه لهداية الناس أَجمعين.
والسين إِما للتأْكيد، وإِما لأَن المراد: إِقراءُ ما أَوحَي إِليه حينئذ، وما سيوحي إِليه بعد ذلك.
والمعنى. ستقرئك ما أُوحي إِليك الآن، وما يوحى إِليك بعد ذلك على لسان جبريل عليه السلام وذلك بأَن يقرأَ جبريل عليه السلام ما يقرأُ على الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وهو أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأُ فيحفظه ولا ينساه في وقت من الأوقات: لفترة الحفظ والإِتقان، ليكون ذلك آية أُخرى للرسول صلى الله عليه وسلم وجُوِّزَ أَن يكون المعنى: سنجعلك قارئًا بإِلهام القراءَة بدون تعليم أَحد إِياك كما هي العادة، ولما كان الوعد بعدم الإِنساءِ على وجه
قد يشعر بالتأييد واللزوم وربما يوهم استحالة نسيانه، جاءَ نسيانه، جاءَ الاستثناءُ في قوله تعالى:(إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ) أَي: إِنه -سبحانه- إِذا أَراد نسيانك شيئًا لم يعجزه ذلك وهو لم يشأْ أَن ينسيه شيئًا فيكون القصد نفي نسيانه رأْسًا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أَسقط آية في قراءَته في الصلاة فحسب أُبيٌّ أَنها نسخت، فسأله، فقال عليه الصلاة والسلام: نسيتها. والذي ذكره أُبيُّ عن نسيانه صلى الله عليه وسلم إِن صح ذلك فهو في غير ما يتعلق بالأَحكام التي أُمر بتبليغها، وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين التي جازت على عقول الغافلين.
والاستثناءُ بشارة من الله لنبيه، وبالجملة: ففائدة هذا الاستثناءِ أَن يعرِّف الله -تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم قدرته حتى يعلم -صلوات الله وسلامه عليه- أَن عدم نسيانه من فضله وإِحسانه - تعالى.
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى): تأْكيد لوعده - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم أَي: إِن الذي وعدك بأَنه سيقرئك، وأَنه سيحفِّظك ما تقرأُ عالم بالسر والجهر فلا يفوته شيءٌ مما يكون في نفسك، وهو مالك قلبك وعقلك، وخافي سرك.
وفي قدرته أَن يحفظ عليك ما وهبك، ولو شاءَ لسلبه، ولن تستطيع دفعه لأَنك لا تستطيع أَن تخفى عنه شيئًا.
وقيل: إِن الآية تعليل للآية السابقة: أَي: لأَنه يعلم ما ظهر وما بطن من الأُمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إِليك بأَسره، فينسيك ما شاءَ إِنساءَه، ويبقى لك محفوظًا ما شاءَ إِبقاءَه لما يناط ويتعلق بكل منهما من المصالح والحكم التشريعية.
8 -
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى):
عطف على قوله -تعالى-: (سَنُقْرِئُكَ) الآية، أَي: نوفقك توفيقًا مستمرًّا للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها، وعلى العقول فهمها في كل باب من أَبواب الدين علمًا وتعليمًا واهتداءً وهداية مما يتعلق بتكميل نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره، فيندمج فيه تيسير الطريق إِلى تلقي الوحي، والإِحاطه بما فيه.
وتعليق التيسير به صلوات الله وسلامه عليه -مع أَن الشائع تعليقه بالأُمور المسخرة للفاعل- كما في قوله تعالى: "وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي"(1). للإِيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأَنه صلى الله عليه وسلم فطر عليها. كما في قوله - صلوات الله عليه:(اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ).
وبعد ما وعد الله سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم أَخذ يأْمره بتذكير عباده وتنبيههم من غفلاتهم، وتوجيههم إِلى ما هو خير لهم من تنزيه اسم الله تعالى والاستعداد لامتثال أَوامره، والتزام أَحكامه فقال - سبحانه:
9 -
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى):
أَي: فذكِّر الناس بما يوحى إِليك من القرآن الكريم وغيره من الوحي، واهدهم إِلى ما في ثناياه وتضاعيفه من الأَحكام الشرعية ودم على ما تفعله، وأَشار -سبحانه- بقوله:(إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى) إِلى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُذَكِّرُ أَهل الباطل ويفرغ في تذكيرهم غاية الجهد، ويتجاوز فيه كل حدٍّ معهود حرصًا على الإِيمان وتوحيدًا للملك الديان، وما كان ذلك يزيد بعضهم إِلَاّ كفرًا وعنادًا وتمردًا وفسادًا، فأُمِرَ عليه الصلاة والسلام، تخفيًا عليه- بأَن يخص التذكير بتوقع النفع في الجملة، وذلك بأَن يكون من يذكِّره كلا أَو بعضًا ممن يرجى منه الاستجابة والانتفاع، ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إِلا عُتُوًّا ونفورًا، من الذين طبع الله على قلوبهم، وتمسكوا بما ورثوا عن آبائهم من جهل وجحود، كما في قوله -تعالى -:"فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ"(2) وقوله تعالى: "فَأَعْرِضْ عَمَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا"(3) وقد أَعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمن طبع على قلبه فلم تنفذ إِليه الهداية.
(1) سورة طه، الآية:26.
(2)
سورة (ق) من الآية: 45.
(3)
سورة النجم، من الآية:29.
وقيل: إِن المعنى ليس كما ذكرنا، وإِنما هو استبعاد النفع بالنسبة إِلى هؤُلاءِ المذكورين والمطلوب تذكير الجميع سواء انتفعوا بالذكرى أو لم ينتفعوا كأَنه قيل: افعل ما أُمرت به لتؤجر وإِن لم ينتفعوا به، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم.
10 -
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى):
أَي إِن الذكرى نافعة حتمًا في فريق من الناس، وهو من يخشى الله -تعالى - حق خشيته فيتفكر في شأْن ما تُذَكِّرُهُ به، وتوجهه إِليه فيقف على حقيقته، فيؤمن به وبكل ما تدعوه إِليه، وترشده إشل اتباعه.
11 -
(وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى):
أَي: يتجنب الذكرى ويتحاماها، ولا ينتفع بها الكافر المصر على كفره، وهو الذي غلبه شقاؤُه، فأَعرض عن النور الساطع، والبرهان القاطع، وخلا قلبه، من خشية الله. فكان أَشقى أنواع الكفرة.
وقيل: المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وقيل: إِن الآية نزلت فيهما. والمتوغل في عداوة الرسول أَشقى من غير المتوغل فيها.
12 -
(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى):
أَي: إِن هذا الكافر الذي هو أَشقى أَنواع الكفرة: جزاؤُه أَن يعذَّب بالنَّار الكبرى التي هي الطبقة السفلى من أَطباق النار، كما قال الفراء، ولا بُعْد في تفاوت نار الآخرة وفي أَن بعضها أَكبر من بعض، وأشد حرارة، والنار الكبرى هي نار الآخرة، والصغرى هي نار الدنيا ولا شك في أَن نار الآخرة أَقوى أَثرًا وأَشد إِيلامًا لمن يعذبون بها من هذه النار التي نعرفها، ففي الصحيحين عن أَبي هريرة مرفوعًا "ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم".
ثم إِن من شقى وذاق عذابه بتلك النَّار الكبرى يخلد فيها ولا ينقطع عذابه عند غاية، ولا يجد لآلامه نهاية، كما قال تعالى:
13 -
(ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا):
أَي: لا يموت الأَشقى في نار جهنم فيستريح من العذاب، ولا يحيا فيها حياة طيبة تنفعه كما قال - تعالى-:"لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا"(1).
و (ثم) للتراخي في مراتب الشدة؛ لأَن التردد في النار بين الموت والحياة، الذي أُشير به إِلى الخلود في النار الكبرى أَفظع من نفس الصلى وهو دخول النار، فهو متراخ عنه أَي: عن الصلى في مراتب الشدة، ونفي الحياة في الآية لا يناقض نفي الموت، لأَن الحياة المنفية هي الحياة التي يرغب فيها، ويتمنى صاحبها أَن تدوم، وحياة المعذب بتلك النار الكبرى ممقوتة عنده، يتمنى في كل لحظة تمر عليه لو فقدها، فكأَنها ليست بحياة.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17))
المفردات:
(قَدْ أَفْلَحَ) أَي: نجا من المكروه، وفاز بالمطلوب.
(مَنْ تَزَكَّى) أَي: تطهر من الشرك واتعظ بالذكرى.
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أَي: كبر لافتتاح الصلوات الخمس، أَو هي وما يتيسر من النوافل.
التفسير
14، 15 - (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى):
أَي: قد فاز بالمطلوب، وظفر بكل ما يرجوه في دينه ودنياه مَنْ تطهر من الكفر والشرك بتذكره وامتثاله، وحمْلُه على ذلك مروي عن أَبي عباس وغيره، وأَخرج البزار وابن مردويه
(1) سورة فاطر، من الآية:36.
عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال في ذلك:"من شهد أَن لا إِله إِلا الله، وخلع الأَنداد، وشهد أَني رسول الله". واعتبر بعضهم في التزكي أَمرين، فقال: أَي تطهر من الشرك والمعصية.
وقيل: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أَي: تكثَّر من التقوى والخشية، من الزكاء: وهو النماءُ، وقيل: تطهر للصلاة، وقيل: أَتى الزكاة، وروى هذا عن جماعة منهم أَبو الأَحوص وقتادة.
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أَي: ذكر اسمه تعالى بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب، وقيل: المراد بهذا الذكر تكبيرة الإِحرام (فَصَلَّى) أَي: الصلوات الخمس كما أَخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس، وقيل: الصلوات الخمس وما تيسر من النوافل، وإِنما اقتصر على ذكر الصلاة، لأَن الفرائض والواجبات الدينية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أَهم ما نزل -إِن كان نزل غيرها- كذا قيل وعن على - كرم الله وجهه- (تَزَكَّى): تصدق صدقة الفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ): كبَّر يوم العيد فصلى العيد، وقال أَبو الأَحوص: إِذا أَتى أَحدهم سائل وهو يريد الصلاة فليقدم بين يدي صلاته زكاة. فإن الله يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).
16، 17 - (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى):
الخطاب لكفار مكة، كأَنه قيل لهم: أَنتم الأَشقياءُ لا تفعلون ذلك من التطهر من الشرك وذكر اسم الله تعالى، بل تفضلون الحياة الفانية وترضون بها وتطمئنون إِليها، وتعرضون عن الآخرة إِعراضًا كليًا كما في قوله تعالى:"إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا"(1) ويحتمل أَن يكون الخطاب لجميع الناس، والمراد بإيثارها ما هو أَعم مما ذكر، ومما لا يخلو عنه الناس غالبًا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي والإِقبال عليها، وعن ابن مسعود ما يؤيد ذلك، والالتفات من الغيبة حسبما يقتضيه السياق -إِلى الخطاب لتشديد التوبيخ للأَشقياءِ الذين وبخوا فيما سبق بقوله
(1) سورة يونس من الآية: 7.
- تعالى -: (وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى) على أَن الخطاب خاص بهم، أَما إِذا أُريد بالخطاب ما يعم ويشمل الكفار والمسلمين، فيكون في حق الكفار لتشديد التوبيخ كما سبق، وفي حق المسلمين لتشديد العقاب.
(وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أَي: تؤْثرون الدنيا على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها، فتعيمها مع كونه في غاية اللذة وأَنه خالص عن شائبة ما يكدر صفوه، أَبَديٌّ لا انصرام له، والدنيا مع ذلك فانية لا بقاءَ لها، فكيف يؤْثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبًا، ويترك الاهتمام بدار البقاءِ والخلد؟! قال ابن جرير في روايته عن ابن مسعود أَنه استقرئ (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) فلما بلغ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ترك القراءَة، وأَقبل على أَصحابه فقال: آثرنا الدنيا على الآخرة؟! فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا رأَينا زينتها، ونساءَها، وطعامها، وشرابها، وزُويت عنا الآخرة، فاخترنا هذا العاجل، وتركنا الآجل. وقال الإِمام أحمد بسنده عن أَبي موسى الأَشعري: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَحب دنياه، أَضَرَّ بآخرتهِ، ومَن أَحبَّ آخرتَه أَضَرَّ بدنياه، فآثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى".
(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19))
التفسير
18، 19 - (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)): الإشارة إلى السورة كلها، عن ابن عباس: لما نزلت (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) قال: كلها في صحف إِبراهيم وموسى، وقيل: الإِشارة إِلى قوله - تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) حتى قوله - تعالى-: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وروي ذلك عن قتادة. والإِشارة إِلى ما في السورة كلها، أي: إِلى مضمونها ومقاصدها؛ فإِن ذلك ثابت في الصحف الأُولى التي هي صحف إِبراهيم وموسى، وفي إِبهامها ووصفها بالأُولى ثم بيانها بقوله - سبحانه-:(صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) إِشارة إِلى أَنها قد بلغت الغاية في التفخيم، وعلو الشأْن، وكانت صحف إِبراهيم عشرة، وكذا صحف موسى عليه السلام أُنزلت عليه قبل التوراة وكانت عبرًا ومواعظ، روي عن أَبي ذر أَنه قال: قلت: يا رسول الله: فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبرًا كلها. قلت: فما كانت صحف إِبراهيم؟ قال: أَمثال كلها. والله أَعلم.