المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهم مقاصد السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌أهم مقاصد السورة:

‌سورة عبس

مكية وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية وتسمى أيضا الصاخة، والسفرة

‌صلتها لما قبلها:

لما ذكر سبحانه في السورة التي قبلها (سورة النازعات) "إِنَّما أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ذكر عز وجل في هذه مَنْ ينفعه الإِنذار.

‌أهم مقاصد السورة:

بدأَت السورة بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان منه من إِعراضه عن ابن أُم مكتوم وعبوسه في وجهه حين جاءَه راغبًا في العلم والهداية، وكان -صلوات الله عليه- مشغولا بدعوة سادات قريش إِلى الإسلام رجاءَ أَن يسلموا، فيسلم بإسلامهم خلق كثير. (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى) الآيات.

ثم ذكرت شرف القرآن وأَنه محفوظ مصون من عبث العابثين، وتطاول المفتوتين (كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) الآيات.

ثم أَظهرت جحود الإنسان وإنكاره البعث والقيامة، وأنه بذلك أَهل لأَن يلعن ويطرد من رحمة الله لشدة كفره بربه الذي خلقه، وتفضل عليه بنعمه التي لا تعد ولا تحصى:(قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) الآيات.

ثم أَقامت البرهان من حال النبات على البعث وإِحياءِ الموتى، وتناولت دلائل القدرة في هذا الكون حيث يسر الله للخلق سبيل العيش في هذه الحياة بما أَخرجه لهم من زروع وفواكه وأَعشاب متاعًا لأَنفسهم ودوابهم:(فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) الآيات.

ثم تحدثت عن أَهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من فزع شديد يحمل المرءَ على أن يتنكر لأحب الناس إليه وأَقربهم من:(فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات.

ص: 1781

وخُتمت ببيان حال المؤمنين وحال الكافرين في هذا اليوم العصيب، وما بينهما من تفاوت: فأَهل الدرجات يعلو وجوههم النور والسرور والبشر بنعيم الله، وأهل الدركات تغشى وجوهم الظلمة والسواد من غضب ربهم، وهم الكفرة الفجرة:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ .... ) الآيات.

(بسم الله الرحمن الرحيم)

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)}

المفردات:

(عَبَسَ): قطَب، من باب ضرب، أي: جمع بين عينيه.

(يَزَّكَّى): يتطهر بما يتلقاه عنك من العلم والمعرفة.

(أَوْ يَذَّكَّرُ): يتعظ بنصائحك.

(تَصَدَّى): تعرض له مقبلا عليه مهتمًا به.

ص: 1782

(وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى): أَي: مسرعًا يبتغي ما عندك من الهدى.

(تَلَهَّى): تُعرض وتتشاغل، يقال: لهى عنه كرضى ورمى، والْتهى وتَلَهَّى: تشاغل.

(إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ): أَي إِن آيات القران الكريم موعظة يجب أن يتعظ بها.

(ذَكَرَهُ): أَي: حفظ القرآن الكريم فاتعظ به.

(مَرْفُوعَةٍ): عالية القدر، أَو مرفوعة إِلى السماء.

(سَفَرَةٍ): أَي: كَتَبَةٍ، جمع سافر بمعنى كاتب، وهم الملائكة الكرام الكاتبون، أَو هم السفراءُ بين الله ورسله، جمع سافر بمعنى سفير.

التفسير

1 -

4 - (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى):

روي أَن ابن أُم مكتوم -واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرون- وينتهي نسبه إلى لؤي القرشي، وقيل: هو عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري، وقيل غير ذلك، والأول هو المشهور كما يقول الآلوسي.

وأُم مكتوم كنية أُمه، واسمها: عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وقد أَسلم بمكة قديمًا وكان أعمى، وقد عمي بعد إبصار، وقيل، ولد أَعمى، أَتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش وأشرافها: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأُمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وكان مجتمعًا بهم يدعوهم إلى الإسلام -رجاءَ أن يسلم بإسلامهم خلق كثير- فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِهَ -صلوات الله عليه وسلامه- قطْعَهُ لكلامه، وظهرت الكراهيةُ في وجهه، فعبس وأَعرض عنه، فنزلت هذه الآيات عتابًا

ص: 1783

للرسول صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء حديثه معهم، وذهابه إلى أهله. وقيل: نزلت في أَثنانه فكان الرسول بعد ذلك يكرمه إذا رآه، ويقول له:"مرحبا بمن عاتبنى فيه ربي" ويبسط له رداءَه ويقول: "هل لك من حاجة؟ " واستخلفه على المدينة مرتين، فكان يصلي الناس، وهو من المهاجرين الأَولين. هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم ومات شهيدًا بالقادسية يوم فتح المدائن في عهد عمر - رضى الله عنه - وقيل: رجع إلى المدينة فمات بها.

والمعنى: قطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وأَعراض عن ابن أُم مكتوم بجسمه أَو بترك الإصغاء إليه حينما جاءَه يطلب منه أَن يقرئه، ويعلمه مما علمه الله ليزداد هداية، فقطع بطلبه كلامه صلى الله عليه وسلم أَثناء تشاغله مع أشراف قريش، والتعبير عنه بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم مع القوم، وفي ذلك عتاب له صلى الله عليه وسلم مع أَن الالتفات إلى الخطاب في قوله -سبحانه-:(وَمَا يُدْرِيكَ) إيناس بعد إيجاش، وإقبال بعد إعراض، أَي: ولو كنت درايًا بحاله لما بدر منك من عبوس وإعراض، ولعلمت بما هم مترقب منه من ترَكٍّ وتذكر، والتعبير عنه بالأَعمى مقترنًا بأَل الجنسية دفع لتوهم الاختصاص بالأَعمى المعين، وإيماءً إلى أَن كل ضعيف من مثله يستحق الإقبال عليه والرأْفة به (لَعَلَّهُ يزَّكَّى) أي: يتطهر من أَوضار الإثم بما يسمع منك من نصح وإرشاد، وعلم ومعرفة (أَو يَذَّكر فَتَنفعَهُ الذِّكرَى) أي: يتعظ بتذكيرك إياه فتنفعه ذكراك وموعظتك وإن لم تبلغ إلى درجة التزكى التام.

والترجى في الآية للدلالة على أَن رجاءَ تزكيه أَو كونه ممن يرجى منه ذلك كافٍ في الامتناع عن العبوس له، والإعراض عنه، فكيف وقد كان تطهره محققًا لأَنه من السابقين إلى الإسلام؟

وفي الآية تعريض وإشعار بأَن من تعرض صلى الله عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من أَشراف قريش لا يرجى منهم التزكى والتذكر أصلا.

5 -

7 - (أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَاّ يَزَّكَّى):

تفصيل لما وقع منه صلى الله عليه وسلم أي: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) بماله وقوته عن سماع القرآن، والاتعاظ به، وعما عندك من العلوم والمعارف التي تهدي إلى خيري الدارين (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى)

ص: 1784

أَي: تتعرض بالإِقبال عليه، والاهتمام بإصلاحه وإِرشاده مع أنه معرض عن دعوتك، وفي ذلك مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبة هؤلاء:(وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أَي: ليس عليك بأس في ألا يتطهر بالإسلام، حتى تحرص على الاهتمام بأمره، والاعتراض عمن أَسلم وتطهر، مع أن المستغني قد رضي لنفسه دنس الكفر والعصيان ظَانًّا في ماله غنى عن هداية لله وطاعته، ويقول الآلوسي:"والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإِقبال على غيره، والاهتمام بأَمره حرصًا على إسلامه".

8 -

10 - (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى):

أَي: وأَما الذي جاءَك مسرعًا يبتغي عندك ما تتوق إليه نفسه، ويتعلق به قبله من أحكام الدين، وخصال الخير (وَهُوَ يَخْشَى) الله تعالى، ويخاف الغواية، وما دفعه إليك إلا حبه لأن يتطهر من الجهل، وخوف الوقوع في ظلمات الضلال، وقيل: يخشى أذي الكفار في إتيانه إليك. وقيل: يخشى العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي: تتشاغل -عن إجابته إلى طلبه- بصناديد قريش، بمعنى: لا ينبغي أن تتصدى للمستغني عما عندك من الحكمة، والموعظة الحسنة، وتتلهى به عن الفقير الطالب للخير.

وفي تقديم ضمير صلى الله عليه وسلم وهو "أنت" على الفعلين: (تَصَدَّي) و (تَلَهَّى) تنبيه على أن مناط العتاب خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم (لَهُ) و (عَنْهُ) على الفعلين أَيضًا للعناية والاهتمام بمضمونهما: لأَنهما منشآ العتاب له صلى الله عليه وسلم روى أَنه -صلوات الله عليه-: ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني.

وبعد أن فصَّل -سبحانه- في الآيات السابقة حاله صلى الله عليه وسلم مع المستهدي والمستغني أتبعها بقوله جل شأنه.

11 -

12 - (كَلَاّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ):

المعنى: كلمة "كَلَاّ" للردع والزجر، أتى بها للمبالغة في إرشادة صلى الله عليه وسلم إلى عدم العودة. إلى ما عوتب عليه من الاهتمام بمن استغني عما دعوته إليه من الإيمان والطاعة،

ص: 1785

وما يوجبها من القرآن الكريم، والإعراض عمن جاءَك مستهديًا ومسترشدًا، أي: لا تعد إلى مثل ما وقع منك.

(إنَّها تَذكِرَةٌ) أي: القرآن الكريم تذكرة وموعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها، وأنث الضمير العائد عليه لتأنيث الخبر، وقيل: الضمير المؤنث يراد به الهداية المودعة في سائر الكتب السماوية وأَجلُّها القرآن جعلها الله تذكرة وإرشادًا إلى الطريق المستقيم.

وهذه الجملة المؤكدة تعليل للردع (بكلَّا) عما ذكر، ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى صلى الله عليه وسلم له، وتحقيق أن شأنه أن يكون موعظة حقيقة بالاتعاظ، فمن رغب فيها اتعظ بها كما نطق به قوله تعالى:"فمن شاء ذكره" أي: حفظه واتعظ به، ومن رغب عن حفظه والاتعاظ به -كما فعل المستغني- فلا حاجة لك إلى الاهتمام بأمره، وذكَّر الضمير لكونه عائدًا على القرآن أو على التذكرة لأنها بمعنى التذكير والوعظ، والجملة جيءَ بها للترغيب في القرآن، والحث على حفظه والاتعاظ به.

13 -

16 - (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ):

أي: إن آيات القرآن مثبتة في صحف منتسخة من اللوح المحفوظ مكرمة عند الله -جل وعلا- وقيل: مثبتة في صحف الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى: "وإنَّه لَفِي زُبُرِ الأوَّلِين" هذه الصحف (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) أي: عالية القدر شريفة، وقيل: مرفوعة في السماء السابعة منزهة عن مساس أيدي الشياطين، أو من كل دنس، كما روي عن الحسن، أو عن الشُّبه والنقص (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) وهم الملائكة عليهم السلام ومعنى كونها بأيديهم أن الله -سبحانه- جعلهم سفراءَ بينه وبين رسله يحملون إليهم الكتب المنزلة عليهم، جمع سافر بمعنى سفير، أو هي بأَيدي الأنبياء عليهم السلام لأنها تنزيل عليهم الوحي، وهم يبلغونها للناس. فكل من الملائكة والأنبياء يصح إطلاق السفير عليه، كما يصح إطلاق الرسول على كل منها، أو السفرة: الكتبة من الملائكة، قال مجاهد وجماعة: فإنهم ينسخون الكتب في اللوح المحفوظ، جمع سافر، أي: كاتب. (كِرَامٍ بَرَرَةٍ) أي: مكرمين معظَّمين عند الله -تعالى- من الكرامة بمعنى التوقير، أو أنهم

ص: 1786

متعطفون على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى الخير والكرامة، وهم كذلك متصفون يصنع المكارم، أتقياء أو مطيعون لله تعالى، من قولهم: فلان يبر خالفه، أي: يطيعه.

{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)}

المفردات:

(قُتِلَ الإِنْسَانُ) أي: لعن وطرد.

(مَا أَكْفَرَهُ): ما أشد كفره، وهو تعجيب من إفراطه في الكفران، وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه.

(فَقَدَّرَهُ): أي فهيأَه لما يصلح له ويليق به، أو فقدره أطوارًا من حال إلى حال.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي: سهل له طريق الخير، وطريق الشر، وأقدره على اختيار أيهما.

(فَأَقْبَرَهُ) أي: جعله ذا قبر يُوارَى فيه، ويقال: قَبَرَ الميتَ يَقْبُرُهُ وَيَقْبِرُهُ من بابي: نصر وضرب: إذا دفنه بيده، ويقال: أقبره: إذا أمر بدفنه أو مكَّن منه.

(أَنْشَرَهُ) أحياه بعد موته للحساب والجزاء.

التفسير

17 -

(قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ):

دعاء عليه بأشنع دعواتهم على ما هو المعروف في لسانهم، وهو كناية عن قبح حاله وأنه قد بلغ منه مبلغًا لا يستحق معه أن يبقي حيا. (ما أكفره): تعجيب من إفراطه في الكفر

ص: 1787

والتكذيب بالمعاد، وبيان لاستحقاقة الدعاء عليه، أي: ما أشد كفره الذي حمله على نسيانه لما يتقلب فيه من النعم، وذهوله عن مسديها ومانحها حتى إذا ذكر به، فهو يعرض عن الذكرى، والمراد بالإنسان إما أَن يكون استغنى عن القرآن العظيم، فكفر بربه الذي نُعت بالصفات الجليلة التي تستوجب الإقبال عليه بالإيمان به، وإما أن يكون للجنس باعتبار انتظامه واشتماله على من استغنى وعلى أمثاله من أقرانه، ويرجح هذا أن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة: في عتبة بن أبي لهب: غاضب أَباه فأَسلم ثم استصلحه أبوه، وأعطاه مالًا، وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إلى آخر القصة، وقد تحقق فيه الدعاء.

ويقول الآلوسي: ثم إنَّ هذا كلام في غاية الإيجاز إشارة إلى الآية، وقال جار الله: لا ترى أُسلوبًا أغلظ منه، ولا أَدل على سخطه، ولا أَبعد شوطًا في المذلة مع تقارب طرفيه، ولا أَجمع للأَئمة على قصر متنه، وقال الإمام: إن الجملة الأولى (قُتِل الإنسانُ) تدل على استحقاقهم أَعظم أنواع العقاب عرفًا، والثانية (مَا أكفَرَهُ) تدل على أَنهم اتصفوا بأَعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعًا.

18 -

20 - (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ):

شروع في بيان إفراطه في الكفران؛ ببيان ما أفاض الله عليه وتفصيله من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة، بدل ما تمسك به هذا الإنسان من الإمعان في الكفر والتكذيب، وفي الاستفهام التقريري عن مبدأ خلقه ثم بيانه بقوله تعالى:(من نطفة خلقه) تحقير له وتوبيخ، أي: من أي شيءٍ حقير مهين خلق الله ذلك الكافر الجحود الذي يتكبر ويتعظم على ربه بترك الإقرار بتوحيده؟ خلقه من نطفة قذرة (فَقَدَّرَه) أي: فهيأَه لما يصلح له ويليق به من الأَعضاء والأشكال، أو فقدره أطوارًا من حال إلى حال إلى أن تم خلقه واكتمل تكوينه بأعضاء متناسبة تلائم حاجاته مدة بقائه، وأَودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت له، وجعل كل ذلك بمقدار محدود على ما يقتضيه كمال نوعه. (ثُم السَّبيل يَسَّره) أي: ثم سهل له

ص: 1788

مخرجه من البطن بأن فتح له رحم أُمه، وألهمه أن ينتكس فتكون رأسه إلى أسفل، وأحاطه بكل أنواع الرعاية، أو ثم سهل له طريق الخير والشر، ومكنه من السلوك فيها بأن أقدره عز وجل على كلٍّ ومكَّنَهُ منه. والإقدارُ على ما يريده الإنسان نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خبريته وشريته في ذاته وبهذا الاعتبار كان تيسير السبيل إليهما نعمة من نعمة -جل وعلا- وهذا مثل قوله تعالى:"إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا"(1).

21 -

23 - (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَاّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ):

أي: جعله ذا قبر يواري فيه بعد موته تكرمة له، حتى لا يبقى مطروحًا على وجه الأرض، فيصير جيفة يستقذرها كل من يراها، ويتأذى مما ينبعث منها من روائح كريهة، ويكون نهيًا للسباع والطير وغيرهما.

والمراد من جعله ذا قبر أنه عز وجل أمر بدفنه ومكَّن منه، كما ينطق به معنى (فَأَقْبَرَهُ).

وفي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الميت من الآناسي بلا خوف، أما حرقه -كما يفعل بعض الوثنيين- فمناف للتكرمة، ومجافٍ للسنة الإسلامية، على ما فيه من البشاعة والشناعة، وأما دفن غير الإنسان والحيوانات فقيل: هو مباح، وقد يطلب على سبيل الوجوب لأَمر مشروع يقتضيه، وذلك لدفع الأذى البالغ الذي يترتب على ترك جيفها مطروحة، فتفسد الجو بروائحها الكريهة، وتتكاثر عليها الجراثيم الضارة التي تفتك بصحة الإنسان، وتودي بحياته.

والإتيان بالفاءِ في قوله تعالى: (فَأَقْبَرَهُ) للإشارة بتعجيل دفن الميت عقب موته فهي في موضعها، وَعُدَّتِ الإمانة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم.

(ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ):

أي: إن الله تعالى ينشره ويبعثه بعد موته وإقباره في الوقت الذي تتعلق به مشيئته، وفي تعلق الإنشار بالمشيئة إيذان بأن وقته غير معين أصلا، بل هو راجع للمشيئة، بخلاف

(1) سورة الإنسان الآية 3

ص: 1789

الإمانة فإن وقتها فيه نوع تعيين في الجملة على ما هو المعهود في متوسط الأعمار الطبيعية. (كلا لما يقض ما أمره):

(كلا) ردع للإنسان الكافر عما هو عليه من الطغيان البالغ، أي: ليس الأمر كما يقول من أنه أدى حق الله عليه في نفسه وماله (لما يقض ما أمره) بيان بسبب الردع، أي: أنه لم يؤَد شيئًا مما أمره به ربه من ترك الكبر المفرط، ومن ترك التأمل في الآيات، والإيمان بالله مع ما يتقلب فيه من النعم العظيمة.

روي عن مجاهد وقتادة أن المراد أنه لم يقض جميع ما أمره الله به من أَول زمان تكليفه إلى زمان إماتته وإقباره.

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)}

المفردات:

(صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا): أنزلناه من السماءِ إنزالا عجيبًا كأَنه مراق من إناءٍ، يقال: صب الماء يصبه، أي: أراقه، من باب قتل.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا) أي: ثم شققناها بالنبات شقًّا بديعًا ملائمًا له في حجمه.

(قَضْبًا) أي: علفًا رطبًا، وسمى قضبًا لأنه يقضب بعد نموه، أي: يقطع مرة بعد أخرى كالبرسيم مثلا.

(غُلْبًا): كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان، جمع غلباء.

ص: 1790

(وَأَبًّا) الأبُّ: الكلأُ والمرعى، وهو ما تأْكله البهائم، من أبَّهُ: إذا أمَّه، وقصده، أو مِن أبَّ لكذا: تهيأ له.

التفسير

24، 25 - (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا):

بعد أن ذكر -سبحانه- الأمور المتعلقة بخلق الإنسان امتنَّ عليه بذكر الأُمور المتعلقة ببقائه في الدنيا ليعتبر ويقابل النعمة بالشكر، فقال سبحانه:(فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) بمعنى: إذا كان حاله وهو أنه لا يزال إلى الآن سادرًا في غيه، لم يؤد شيئًا مما أمر به مع أن النعم السابقة من أقوى الدوافع إلى الامتثال والاستجابة، فحتم عليه أن ينظر نظر تفكير وإمعان إلى طعامه الذي عليه يدور أمر بقائه كيف دبرناه وهيأْنا له أسباب وجوده وعددنا أنواعه ليكون متاعًا له ولأَنعامه، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) أي: أنزلناه من السماء إنزالا عجيبًا، ينبئُ بقدرة القادر العظيم، وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس، وجوز بعضهم الأعم كماء العيون وتحوه وتأْكيد الجملة للاهتمام بمضمونها، والظاهر أن المراد من الطعام: المطعوم بجميع أنواعه، واقتصر عليه، ولم يذكر المشروب، لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب.

26 -

(ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا):

أي: شققناها شقًّا بديعًا لائقًا بما يشقها من النبات: صغرًا وكبرًا، وشكلا وهيئة، وشق الأَرض بالنبات بعد نزول المطر يكون على التراخي المعهود كما يتضح ذلك من التعبير بـ (ثم).

27 -

32 - (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ):

هذا استمرار في تعداد النعم التي أفاضها الله -سبحانه- على وجه بديع خارج عن العادات امتنانًا على هذا الكافر الذي بالغ في الإعراض والجحود، وأهمل ما تستدعيه تلك

ص: 1791

النعم من الامتثال والإقبال على خالفه الذي أَنزل الغيث من السماء، فصبه صَبًّا على الأَرض التي انشقت بالنبات المتنوع، فنما وترعرع، فكان منه كما يقول تعالى:(فَأَنْبَتْنَا فيها حَبًّا) يقتاب به الناس ويدخرونه، ومن نحو القمح والشعير (وَعِنَبًا وَقَضْبًا) أَي: عنبا يتفكه به، وقضبا، أَي: علفا رطبا للدواب، وقيده بذلك الخليل وقال: إذا جف فهو التبن، وسمى قضبا، لأَنه يقضب، ويقطع مرة بعد أُخْرى كالبرسيم ونحوه. وقيل: هو ما يقضب ليأْكله ابن آدم غضا كالبقول وبعض الخضروات. (وزَيْتُونًا وَنَخْلًا) الزيتون معروف ويؤكل بكل أنواعه، ويؤتدم بعصيره، ويستشفى به، والنخل تؤكل تمرته بلحًا كانت أو يسرًا أو رطبًا أو تمرًا.

(وحَدَائِقَ غُلْبًا) وهي الأشجار المثمرة التي أُحيطت بسور يجمع بين أجزائها. فإن لم تحط به، فليست بحدائق بل هي بساتين، ومنه قيل: أحدقوا به، أي: أحاطوا ووصف الحدائق بقوله تعالى: (غُلْبًا) لتكاثفها، وكثرة أشجارها، وتشابك أغصانها، أو لأنها ذات أشجار ضخمة عظيمة، وكونها كذلك للإشعار بأَن النعمة في جملتها لا في ثمرتها فحسب، فمن أخشابها ما ينتفع به في الإحراق والصناعة، ومن أوراقها ما تأكله الحيوانات حفاظاً على حياتها، وهذا أكمل في الانتفاع بها. (وفاكهة وأبًّا) ذكرت الفاكهة مع أنها تدخل في الامتنان بالحدائق؛ للاعتناء بشأْن ما يتفكه به من ثمارها المتنوعة، من كل ما حسن مذاقه، وطاب ريحه، وكبر حجمه، ولا شك أن ذلك أَدْخَلُ في الامتنان.

والأَبُّ: كما نقل عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى، وسمي بذلك لأنه يُؤَمُّ ويُقصد، والأَبّ: القصد، وقيل: هو ما أنبتته الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الإنسان، وقال الضحاك: كل شيءٍ أنبتته الأرض سوى الفاكهة.

روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سئل عن الأّبِّ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تلقني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به؟! وفي صحيح البخاري في رواية

ص: 1792

عن أَنس أَن عمر رضي الله عنه قرأَ هذه الآية وقال: فما الأَبُّ؟ ثم قال: ما أُمرنا بهذا، أَو ما كلفنا بهذا، أي: بتتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته، بمعنى: لا تتشاغلوا عن أَعمالكم بطلب معنى الأَبِّ والبحث عنه، ومعرفة النبات الخاص به إِلى أَن يبين لكم في غير هذا الوقت، واكتفوا بالمعرفة الجملية (1)، ثم وصى الناس أَن يجروا على هذا السنن فيما أَشبه ذلك من مشكلات القرآن، ليكون أكبر همهم ما هو أَهم: من الشكر له عز وجل على نعمه العظيمة (مَتَاعًا لَكُم ولأنْعَامِكُم): فعل ذلك تمتيعًا لكم ولأنعامكم، فاشكروه على آلائه، وجزيل عطائه فقد ضمن لكم ولأنعامكم الحياة والمتاع.

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)}

المفردات:

(الصَّاخَّةُ): هي الداهية العظيمة التي يصخ لها الخلائق، من صخ لحديثه: إذا أصاخ واستمع لشدة صوت ذي النطق كما يقول الراغب.

(وَصَاحِبَتِهِ): أي وزوجته.

(شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي: له شأْن يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره.

التفسير

33 -

(فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّة):

شروع في بيان معادهم إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم، أي: إذا جاءَ وقت الصاخة،

(1) ليس في ذلك نهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على ذلك.

ص: 1793

وهي صيحة القيامة سميت بذلك لأَنها تصخ الأَسماع، أَي: تبالغ في إِسماعها حتى تكاد تصمها، وقال الخليل: هي صيحة تضخ الآذان صخا لشدة وقعها، وأَيًّا ما كان فهم اسم من أَسماءِ يوم القيامة كما يقول ابن عباس: الصاخة اسم من أَسماءِ يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده، وقد وصفت بها النفخة الثانية لأَن النَّاس يصيخون لها، أَي: يستمعون، تدفعهم شدتها إِلى أَن يسرعوا قيامًا ينظرون، وجواب (إِذا) مقدر، والمعنى: فإِذا صخت الصاخة شغل كل إِنسان بنفسه.

34 -

36 - (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ):

يوم: تفسير للصاخة، أَي: في هذا اليوم الذي ذهبت فيه هذه الحياة الدنيا، وجاءَت الصاخة يكون شأْن ذلك الإِنسان مع المذكورين في الآيات، أَنه يعرض عنهم حينما يراهم، ويفر منهم ولا يسأَل عنهم كما في الدنيا؛ لأَن الهول وعظيم والخطب جسيم. قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أَي بعل كنتُ لك؟ فتقول: نِعْمَ البعل كنتَ، وتشنى بخير ما استطاعت، فيقول لها، فإِني أَطلب إِليكِ اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أَنجو مما ترَيْنَ. فتقول له: ما أَيسر ما طلبت، ولكني لا أُطيق أَن أُعطيك شيئًا؛ فإِني أَتخوف مثل الذي تخاف. وإِن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني أَي والد كنتُ لك؟ فيشني بخير، فيقول له: يا بني إِني احتجت إِلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أَنجو مما تري، فيقول ولده: يا أَبت ما أَيسر ما طلبت، ولكني أَتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أَستطيع أَن أُعطيك شيئًا. يقول الله تعالى. (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ

) الآيات.

وفي الحديث الصحيح: "إِذا طلب إِلى كلٍّ من أُولي العزم أَن يشفع عند الله في الخلائق يقول: نفسي نفسي، لا أَسأَلك اليوم إِلا نفسي

إِلى آخر الحديث" قال في التسهيل: ذكر تعالى فرار الإِنسان من أَحبابه ورتبهم على مراتبهم في الحنو والشفقة، فبدأَ بالأَقل وختم بالأَكبر، وذلك بذكر الأَخ والأَبوين لأَنهما أَقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأَنهما أَحب.

قيل: أَول من يفر من أَخيه هابيل، ومن أَبويه إِبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط،

ص: 1794

ومن ابنه نوح عليه السلام وفرار هؤُلاءِ ليس من قبيل هذا الفرار؛ لأَنه وقع بغضا لهم وحذار من لقائهم، كما يروي عن ابن عباس.

37 -

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ):

استئناف لبيان سبب الفرار. أَي: لكل ممن ذكروا في الآيات السابقة شغل شاغل، وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به، ويصرفه عن غيره، أَخرج الطبراني وابن مردويه والبيقهي والحاكم وصححه عن أُم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر النَّاس يوم القيامة حفاة عراة غرلًا (1)، قد أَلجمهم العرق، وبلغ تخوم الآذان، قلت: يا رسول الله واسوأتاه!! ينظر بعضهم إِلى بعض؟ قال: شُغل النَّاس عن ذلك، وتلا: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ .. ) الآية وفي حديث آخر: "ما أَشغل النَّاس عن النظر" وهناك أَحاديث أُخرى تدور حول هذا المعنى فمن أَرادها فليرجع إِلى تفسير ابن كثير وغيره.

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} :

المفردات:

(مُسْفِرَةٌ): مشرقة مضيئة.

(غَبَرَةٌ): عليها غبار ودخان.

(تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ): تغشاها ظلمة وسواد.

(1)(جمع (أغرل) وهو غير المختون.

ص: 1795

التفسير

38، 39 - (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ):

الآيات الخاتمة للسورة تبين حال الناس يوم يقفون بين يدي رب الأَرباب، وأَنهم ينقسمون إِلى السعداءِ والأَشقياءِ، وقد بدأَت بالقسم الأَول الذي آثر الحياة الباقية فعمل لها وأَقبل عليها، ورغب فيها رغبة الحريص عليها، فقال سبحانه:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أَي: مضيئة متهللة من البهجة والسرور، وعن ابن عباس: إِن ذلك من قيام الليل، وعن الضحاك: من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأُمة نظرًا لأَن الوضوءَ من خواصها بالنسبة إِلى الأُمم السابقة، وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة جزاءَ إِيمانها، وما قدمت من صالح أَعمال، وشكر آلاءِ ونعم.

40 -

42 (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ):

بيان الحال القسم الثاني الذي أَهمل عقله، وشغل نفسه بالأَهواء والأَباطِيل فرضي جَهْلَه، واتبع حُمْقَه، واختار الفانية، وأَفرغ جهده في الإِقبال عليها، والتمسك بها، حتى كان شأْنه ما يفصح عنه قوله تعالى:(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) أَي: يعلوها غبار ودخان ويكون ذلك على الحقيقة، أَو يراد المجاز، أَي: مذلة وهوان: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ) أَي: يعلوها سواد وظلمة على الحقيقية، أَو غم وحزن على المجاز، وقيل: لا تري أَقبح من اجتماع الغبار والسواد في الوجه، بمعنى أَن على وجوههم غبارًا وكدورة فوق غبار وكدورة: إِظهارا لشدة القبح (أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أَي: أَولئك المتصفون بالكدورة والسواد الجامعون بين الكفر والفجور.

ص: 1796