الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة العلق
تسمى سورة (اقرأ) وهي مكية، وآياتها تسع عشرة آية وهي أَول ما نزل من القرآن
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر -سبحانه- في سورة التين والزيتون خلق الإِنسان في أَحسن تقويم، بين عز وجل هنا أَنه تعالى خلقه من علق، فكان ما تقدم كالبيان لكمال تصويره، وهنا كالبيان للمادة التي خلق منها وذكر -سبحانه- هنا أَيضًا من أَحواله في الآخرة ما هو أَبسط وأَكثر مما ذكره عز وجل هناك.
أَهم مقاصدها:
ابتدأَت السورة بالدعوة إِلى القراءَة والتعليم، وأَشارت إِلى بعض المراحل في خلق الإِنسان، وبينت فضل الله على رسوله الكريم بإِنزال القرآن، وتذكيره بأَول النعماءِ وهو يتعبد ربه بغار حراءَ حيث تنزل عليه الوحي بآيات الذكر الحكيم:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ) الآيات.
ثم تحدثت عن طغيان الإِنسان في هذه الحياة مغترًّا بما أُوتي من قوة وثراءٍ، وعن تمرده على أَوامر ربه بسبب ما أَولاه، وهددته بالعودة إِلى خالقه لينال الجزاءَ: (كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى
…
) الآيات.
ثم تناولت قصة أَبي جهل الذي كان يتوعد الرسول وينهاه عن الصلاة انتصارًا لعبادة الأَوثان: (أَرأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى). الآيات.
ثم أَبرزت تهديد ذلك الشقي، وزجره بأَقصى العقوبات إِذا استمر على بغيه وضلاله:(كَلَاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) إِلخ الآيتين.
وكان ختام السورة: الإِشارة إِلى عجز ذلك الشقي عن تنفيذ تهديده للرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة عشيرته ووفرة أَنصاره حين أَغلَظ صلى الله عليه وسلم له القول لردعه: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) الآيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))
المفردات:
(بِاسْمِ رَبِّكَ): أَي؛ سمّ باسم ربك قائلًا: باسم الله، ثم اقرأْ.
(مِنْ عَلَقٍ): أَي؛ دم جامد، جمع علقة.
التفسير
1، 2 - (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ):
عن ابن عباس ومجاهد: هذه أَول سورة نزلت، والجمهور على أَن الفاتحة أَول سورة نزلت، ثم سورة (ن) وفي شرح صحيح مسلم الصحيح أَن أَول ما نزل اقرأْ، أَي: مطلقًا، وأَول ما نزل بعد فترة الوحي (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وجزم جابر بن زيد بأَن أَول ما نزل (اقْرَأْ) ثم (ن) ثم (يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ) ثم (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ثم (الفاتحة) وقيل: أَول ما نزل صدرها إِلى قوله تعالى: (عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) وكان ذلك في غار حراءَ، ثم نزل آخرها حين شاءَ الله تعالى، وهو ظاهر ما أَخرجه الإِمام أَحمد والشيخان وعبد بن حميد عبد الرزاق وغيرهم عن طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدءِ الوحي، وفيه: أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَول ما تمثل له الملك الذي يتلقى عنه الوحي، وهو يتحنث في غار حراءَ، في شهر رمضان، قال له الملك: اقرأْ، قال رسول الله: فقلت: ما أَنا بقارئٍ
قال: فأَخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أَرسلني، فقال: اقرأْ فقلت: ما أَنا بقاري، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أَرسلني، فقال: اقرأْ، فقلت: ما أَنا بقارئ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، فقال:"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" حتى بلغ " عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" فرجع بها رسول الله ترتجف بوادره (1) حتى دخل على خديجة فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال:"يا خديجة مالي"؟! وأَخبرها الخبر. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.
والمعنى: اقرأْ ما يوحى إِليك من القرآن الكريم، فإِن الأَمر بالقراءَة يقتضي مقروءًا قطعًا، أَي: اقرأْ ملتبسًا باسم ربك، أَعني مبتدئًا به، لتتحقق مقارنته لجميع أَجزاء المقروءِ، كأَنه قيل: سمّ باسم ربك ثم اقرأْ، وهو ظاهر في أَنه لو افتتح بغير اسمه عز وجل لم يكن ممتثلًا، وهذا أَول خطاب إلهي وجه إِلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الآلوسي: والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إِلى الكمال اللائق شيئًا فشيئًا مع الإِضافة إِلى ضميره عليه السلام للإِشعار بتبليغه عليه الصلاة والسلام إِلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإِنزال الوحي المتواتر. أهـ.
ووصف الرب بقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ) لتذكير رسوله صلى الله عليه وسلم أَول النعماءِ الفائضة عليه، -صلوات الله وسلامه عليه- منه تعالى -وهي الخلق- مع ما في ذلك من التنبيه على أَنه تعالى قادر على تعليم القراءَة بأَلطف وجه، إِذ القادر على الخلق والإِيجاد لا يعجزه قطعًا تعليم القراءَة.
وقيل: أُريد بوصف الرب بالذي خلق في قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" تأكيد عدم إِرادة غيره تعالى من الأَرباب، فإِن العرب كانت تسمى الأَصنام أَربابًا لكنهم لا ينسبون الخلق إِليها.
ولم يذكر مفعول خلق، لأَنه في معنى فِعْل لازم، أَي: الذي حصل منه الخلق، واستأَثر به، أَو أَنه لم يذكر لأَنه أُريد تقديره بأَمر عام، كأَن يقال: الذي خلق كل شيءٍ، فيتناول كل مخلوق لأَنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أَولى بتقديره من بعض (خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ).
(1) البادرة من الإِنسان: لحمتان فوق عرق في الثدي، أو عصبة تحته، والجمع: بوادر.
تخصيص الإِنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه، وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه، مع أَن الله قد خص الإِنسان بالرسالة إِلى الثقلين، وعن الزمخشري: أَن المناسب أَن يراد خلق الإِنسان بعد الأَمر بقراءَة القرآن تنبيهًا على أَن خلقه للقراءَة، والدراية، وعلى هذا يكون عدم ذكره في الجملة الأُولى، وذكره في الثانية قصدًا لتفخيمه بالإِيهام ثم التفسير، ودلالة على عجيب فطرته، وكان خلقه من دم جامد، لبيان كمال قدرته تعالى؛ بإِظهار ما بين حالتيه الأُولى والآخرة من التباين البيِّن، وللتنبيه على أَن الذي خلقه من هذه المادة ثم سواه بشرًا سويًّا في أَحسن تقويم، قادر على كل شيءٍ، ولما كان الإِنسان مرادًا به الجمع قيل:"علق" ولم يقل: من علقة.
3 -
5 - (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ):
أَي: امض لما أَمرتك به من القراءَة (وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) استئناف وارد لإِزاحة ما أَبداه صلى الله عليه وسلم من العذر بقوله -صلوات الله وسلامه عليه- لجبريل عليه السلام: ما أَنا بقارئ، حين قال له: اقرأْ. يريد صلى الله عليه وسلم أَن القراءَة شأْن من يكتب ويقرأَ، وأَنا أُمّيّ، فقيل له: وربك العظيم الكريم الذي أَمرك بالقراءَة، لا يدانيه كريم.
(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أَي: علَّم -سبحانه- وحده بواسطة الكتابة بالقلم وليس ذلك لغيره، علَّمه، وكما عَلَّم -سبحانه- القاري بواسطة الكتابة بالقلم يُعلِّمك القراءَة بدونها وإِن كنت أُميًّا، وحقيقة الكرم كما قيل: إِعطاءَ ما ينبغي لا لغرض، فهو صفة لا يشاركه تعالى في إِطلاقها أَحد.
(عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أَي: علمه بالقلم وبدونه من الأُمور الكلية والجزئية، والجلية، والخفية ما لم يخطر بباله، فدل على كمال كرمه - تعالى - حيث علم - سبحانه- عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إِلى نور العلم، قال القرطبي: نبه - سبحانه- على فضل علم الكتابة لما فيه من الفوائد العظيمة التي لا يحيط بها إِنسان، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أَخبار الأَولين ومقالتهم، ولا كتب الله المنزلة إِلَاّ بالكتابة، ولولاها ما استقامت أُمور الدين والدنيا وهذه الآيات الخمس أَول ما تنزل من القرآن كما ثبت في الصحاح، وقد فصل ذلك أَول السورة.
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))
المفردات:
(لَيَطْغَى): ليتجاوز الحد في المعصية وفي الاستكبار على ربه.
(الرُّجْعَى): مصدر بمعنى الرجوع، أَي: إِلى ربك رجوع هذا الطاغي.
(وَتَوَلَّى): أَعرض عن الإِيمان.
(لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) أَي: لنأْخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع: القبض على الشيءِ وجذبه بشدة. والناصية: شعر مقدم الرأْس.
(نَادِيَهُ): أَي: أَهله وعشيرته، والنادي والنَّدِي: المجلس الذي يجتمعون فيه، والإِسناد مجازي.
(الزَّبَانِيَةَ): مأْخوذ من الزبن، وهو الدفع، ويراد الملائكة الشداد الغلاظ.
التفسير
6 -
8 - (كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رآهُ اسْتَغْنَى* إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى):
روي أَن هذه الآيات وما بعدها إِلى آخر السورة نزلت في أَبي جهل بعد زمن من نزول ما قبلها، وكان طاغيًا متكبرًا فخورًا بكثرة ماله، مبالغًا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث الصحيح: أَن أَبا جهل حلف باللات والعزى لئن أَتى محمدًا صلى الله عليه وسلم يصلي، ليطأَن على رقبته، وليعفرن وجهه، فأَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليفعل، فما فاجأَهم منه إِلَاّ وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟ فقال: إِن بيني وبينه خندقًا من نار، وهولًا، وأَجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، والآيات وإِن نزلت في أَبي جهل إِلَاّ أَن الحكم عام في كل طاغ متكبر، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
والمعنى: ابتدأَت الآيات بكلمة (كَلَاّ) ردعًا وزجرًا لهذا الإِنسان الذي كفر نعمة ربه بطغيانه واستكباره، ووُجِّه إِليه الردع وإِن لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه، حيث إِن الآيات من مفتتح السورة إِلى هذا المقطع تدل على أَن الله تفضل على الإِنسان بأَعظم المنن التي كرمه بها، فكان بشرًا سويًّا، وذلك يستدعي الشكر والعرفان، لكنه كما قال سبحانه:"إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى" أَي: ليتجاوز الحد في الطغيان والاستكبار على عبادة الله، واتباع هوى النفس فيما يفعل وما يدع (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) أَي: بالغ في الطغيان لأَنه رأَى نفسه ذا مال وثروة، وبطش قوة (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) تهديد لهذا الإِنسان الطاغي، وتحذير له من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات؛ للتشديد في العقوبة، أَي: إِلى ربك وحده أَيها الإِنسان، لا إِلى غيره -استقلالًا أَم اشتراكًا- المرجع والمصير بالموت والبعث، فيجازيك على أَعمالك التي اقترفتها بما تستحق من تعذيب وتنكيل.
9، 10 - (أَرأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى):
ذكر لبعض آثار الطغيان، ووعيد عليها، وتعجيب منها؛ وتعجيب منها؛ للإِيذان بأَنها من الشناعة والغرابة بمكان بحيث يجب أَن يراها كل من تتأَتى منه الرؤية، ويقضي منها العجب العجاب
ولا خلاف بين المفسرين كما قال ابن عطية في أَن المصلي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والناهي هو أَبو جهل.
والإِتيان بلفظ (العبد) منكرًا لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام النهي، وتأكيد التعجيب منه، وكلمة (أَرأَيت) صارت تستعمل في معنى (أَخبروني) على أَنها لا يقصد بها في مثل هذه الآية الاستخبار الحقيقي، ولكن يقصد بها إنكار الحالة المستخبر عنها وتقبيحها.
ولَمَّا كانت الرؤية سببًا للإِخبار عن المرئي، أَجري الاستفهام عنها مجرى الاستخبار.
11 -
14 - (أَرأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى* أَرأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى):
أَي: أَخبرني يا من له أَدنى تمييز عن هذا الذي ينهى بعض عباد الله فضلًا عن النبي المجتبي، ينهاه عن الصلاة، إِن كان على طريقة سوية فيما ينهي عنه من عبادة الله تعالى:(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أَو كان آمرًا بالمعروف والتقوى فيما يدعو إِليه من عبادة الأَصنام كما يزعم، أَو كان على التكذيب للحق، والتولي عن الدين الصحيح.
(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) أَي: أَلم يعلم هذا الطاغي الفاجر بأَنَّ الله يراه؟! أَي: يطلع على أَحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك، أَلم يعلم ذلك حتى اجترأَ على ما فعل من إِفك وطغيان، وهذا وعيد له، وتهديد على ما وقع منه.
وقيل المعنى: أَخبرني إِن كان هذا العبد المصلي وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي تنهاه عن الصلاة صالحًا مهتديًا في قوله وفعله (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) أَي: أَو كان آمرًا بالإِخلاص والتوحيد، داعيًا إِلى الهدى والرشاد، كيف تزجره وتنهاه، فما أَبلهك أَيها الغبي الذي تنهى مَنْ هذه أَوصافه عن الصلاة، ثم عاد الخطاب إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أَرأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى" أَي: أَخبرني يا محمد إِن كذب بالقرآن، وأَعرض عن الإِيمان.
(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) أَي: أَلم يعلم ذلك الشقي أَن الله مطلع على أَحواله، مراقب لأَفعاله، وسيجازيه -سبحانه- عليها يوم الدين، ويله ما أَجهله وأَغباه.
15 -
16 - (كَلَاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ):
بدئت الآية بكلمة (كَلَاّ) لوعيد ذلك الناهي -وهو أَبو جهل- وزجره حيث إِنه سبحانه له بالرصاد، كما قال تعالى:"لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ" أَي: والله لئن لم ينته عمَّا هو عليه بتركه والابتعاد عنه (لَنَسْفَعًا بالنَّاصِيَةِ) أَي: لنأْخذن بناصيته ولَنَسْحَبَنَّهُ بها إِلى النار، لنذلنه بذلك الإِذلال الشديد. يقال: سفعت بالشيءٍ: إِذا قبضت عليه وجذبته بشدة، والمراد بالناصية: شعر مقدم الرأْس، وقيل: المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر، وفيه بشارة بأَنه تعالى يمكِّن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إِن لم ينته، وقد فعل عز وجل
(نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) بدل من الناصية، أَي: هي ناصية وصفت بالكذب وبتعمد الخطإِ على الإِسناد المجازي، وهما لصاحبها حقيقة، وذلك يفيد المبالغة، حيث يدل على وصفه بذلك بطريق الأولى، ويفيد أَنه لشدة كذبه وخطئه، كأَنَّ كل جزء من أَجزائه يكذب ويخطي، وفي هذا الإِسناد من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصيةُ كاذب خاطئ.
17، 18 - (فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ):
هذا إِشارة إِلى ما صح من أَن أَبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي فقال: أَلم أَنهك، فأَغلظ عليه الصلاة والسلام له. فقال: أَتهددني، وأَنا أَكثر أَهل الوادي ناديًا، فنزل (فَلْيَدْعُ نَادِيَه) فالأَمر للتعجيز، إِشارة إِلى أَنه لا يقدر على ذلك، ولا يستطيعه، أَي: فليدع أَهله وعشيرته لنصرته في إِيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومنعه من الصلاة في المسجد إِن قدروا على ذلك، والنادي وكذلك الندي: المكان الذي ينتدى فيه القوم، أَي يجتمعون للحديث، والإِسناد مجازي (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) أَي: ملائكة العذاب، وهم غلاظ شداد، ليجروه إلى النار، ويلقوه فيها، والزنانية في الأَصل عند العرب: الشُّرَط، واحدها: شَرْطي،
وهم أَعوان الأَمير من الزبن وهو الدفع، وسميت ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إِلى النار.
قال ابن عباس: لو دعا نادية، لأَخذته ملائكة العذاب من ساعته.
19 -
(كَلَاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ):
(كَلَاّ) ردع لذلك اللَّعين بعد ردع، وزجر له إِثر زجر (لا تُطِعْهُ) فيما دعاك إِليه من ترك العبادة، ودُمْ على ما أَنت عليه من معاصاته والإِعراض عنه (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أَي: وصل لله تعالى، وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث بما صدر عنه من تهديد ووعِيد، وتقرب إِلى ربك بطاعته، والامتثال إِلى أَمره ونهيه، وفي الحديث الذي خرجه مسلم وغيره ما يشير إِلى فضل السجود إِذ يقول صلى الله عليه وسلم:"أَقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" والله أَعلم.