الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الممتحنة
مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية
وهي إِحدي سور ثلاث بدأَت بقوله تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} المائدة والحجرات وهذه السورة، والصحيح المشهور في ضبطها أَنها بفتح الحاءِ صفة للمرأَة التي نزلت بسببها، وقد تكسر الحاء على أَنها صفة للسورة، كما قيل في سورة براءَة: الفاضحة.
مناسبتها لما قبلها:
وترتبط بالسورة قبلها بتقارب الهدف، وتلاؤم الغرض، فقد نعت السورة قبلها على المنافقين سلوكهم المهين وتظاهرهم لليهود، وإِخوانهم الكافرين، وجاءَ في هذه السورة نهي المؤمنين من اتخاذ الكفار أَعدائهم أولياءَ يلقون إِليهم بالمودة، على أَن مضمون سورة الممتحنة يعتبر تقريرًا وتأكيدًا لما جاءَ في سورة الحشر قبلها حتى كأنها من تمامها، ولهذا استحقت أَن توضع بين سور التسابيح أَو ذوات سبح مع اختلاف مفتتحها.
مقاصد هذه السورة الكريمة:
بدأَت سورة الممتحنة بنهي المؤمنين على اتخاذ أَعداءِ الله وأَعدائهم من الكفار والمشركين أَولياءَ يُصَافونهم، ويصلونهم بالمودة والتعاون، كأَن ذلك ارتباط بما سبق من التعجب من أَحوال المنافقين وموالاتهم لليهود ممَّا يشير إِلي الربط بين السورتين، وهي إِذ تنهي المؤمنين عن ذلك تنبه إِلي كفر المشركين والمنافقين بما جاءَ به الرسول وكيدهم له وللمؤمنين، ليلجئوهم إِلي الخروج عن وطنهم، ويتابعون إِيذاءَهم لمجرد أَنهم آمنوا حملًا لهم على الخروج وهذا سلوك يقتضي الحذر منهم ومقاطعتهم وذلك لأَنه إِن كان الإِيمان عن صدق وعقيدة ورغبة صادقة في الانتصار للدعوة ونصرة الرسول، فإِن هولاءِ الأَعداء لا خير فيهم ولا يجدي فيهم معروف، ولا يبقون على مودة إِلَّا ضعفًا وخديعة فإِن أَمكنتهم الأَيام من المؤمنين طالت أَيديهم بالإِيذاءِ، وبسطوها بالسوءِ مع ترقب أَن يرجع المؤمنون عن دينهم، ورغبتهم أَن يعودوا كافرين.
وتقرر الآيات أَن القرابات وصلات البنوة وغيرها لا تنفع مع كفر، ويوم القيامة يفصل بين المؤمنين والكافرين يوم يفر المرءُ من أَخيه وأُمه وأُبيه، ولن ينفع المؤمن فيه إِلا عمله:(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).
ثم تلمح الآيات إِلي أَن اختلاف الدين يقطع الأَنساب ويميت الصلات بين الأَهل والأَقارب، وتسوق طرفًا من أَخبار إِبراهيم عليه السلام مع قومه وبراءَته من أَبيه ليكون ذلك هدايا لكل مؤمن وحافزًا له على الاقتداءِ بأَبيه إِبراهيم (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) الخ.
ثم تخصص الآيات النهي بالذين تمادوا في العناد، وأَمعنوا في الفساد، وتورطوا في موالاة الإِيذاءِ من المشركين، فأَما الذين سالموا وأَمسكوا عن الشر، وحبسوا أذاهم عن المؤمنين فلا بأس من التعامل معهم، والعدل في معاملتهم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الخ.
ثم أَشارت الآيات إِلى قصة امتحان المؤمنات اللائي جئن إِلي الرسول مهاجرات من مكة إِلي المدينة للتأكد من صدق إِيمانهن، وحسن قصدهن. ودعت إِلى التمسك بهن والإِحسان إِليهن، والتعايش معهن بالنكاح حتى ظهر صدقهن، ثم تناولت بيعة النساءِ للرسول، ومشروعيتها وإِمضاءها والدعاء لهن.
وختمت السورة بمثل ما بدئت به من النهي عن موالاة المشركين المغضوب عليهم، واتخاذهم أَولياء، فإِن الله قد غضب عليهم حتى تمكن فيهم اليأس، وانقطع الرجاءُ.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
(أَوْلِيَاءَ): أَصدقاءَ أَحباءَ جمع ولي وهو الصديق.
(بِالْمَوَدَّةِ): بالمحبة والإِخلاص.
(يَثْقَفُوكُمْ): يتمكنوا منكم ويظفروا بكم.
(يَبْسُطُوا): يمدوا ويسرفوا في مساءَتكم.
(يَفْصِلُ): يقضي ويحكم.
التفسير:
1 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
…
} الآية.
نزلت هذه الآية في حاطب بن أَبي بلتعة - وذلك أَنه لَمَّا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة كتب حاطب إِلي أَهلها أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وأَرسله مع امرأة تدعي ساَرة مولاة بني المطلب، فنزل جبريل عليه السلام إِلي الرسول بخبر ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وعمارًا وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإِن بها ظعينة معها كتاب حاطب إِلي أَهل مكة فخذوه منها وخلوها فإِن أبتْ فاضربوا عنقها. فأَدركوها ثمة فجحدت فسل على سيفه فأَخرجته من عقاصها - واستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا وقال له: ما حملك على هذا؟ فقال يا رسول الله ما كفرت مذ أَسلمت ولا غششتك منذ نصحتك، ولكني كنت امرأً ملصقًا في قريش وليس لي فيهم من يحمي أَهلي وأردت أن آخذ عندهم يدًا، وقد علمت أَن كتابي هذا لن يغني عنهم شيئًا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل عذره فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أَضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد أطلع على أَهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزلت.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمن جميع الناس يوم فتح مكة إِلا أَربعة: هذه المرأَة أَحدهم.
والمعنى: يا أَيها الذين شرُفوا بالإِيمان ورفعوا مكانتهم به، وعَزُّوا بأَعماله الصالحة، وسلوكه الطيّب: لا تركنوا إِلي هؤلاءِ الراكسين في الكفر المنغمسين في الرذائل وقبح السلوك أَعدائي وأَعدائكم ولا تطمئنوا إِليهم، وتصافوهم فتتخذوهم أَولياءَ وأَصحابا تصلون إِليهم بالمحبة وتتقربون منهم وتلقون إِليهم أَسرار النبي وأَخبار المؤمنين، وهم قد كفروا بدينكم، وعارضوا دعوة رسولكم وأَنكروا ما نزل عليه من أَخبار الوحي وآيات القرآن، وجاوزوا ذلك إلي الكيد لكم وإيذائكم والإِصرار على إِخراج الرسول وإِخراجكم من وطنكم وإِجلائكم عن بلدكم؛ لأَنكم آمنتم بربكم، واتبعوا هدي نبيكم وتركتم ضلالهم وجهلهم، وقوله تعالى:(إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي) مرتب على قوله - تعالى -: (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء).
والمعنى: إِن كان خروجكم عن صدق إِيمان ورسوخ عقيدة ورغبة في دين الله وابتغاءِ مرضاته فلا تتخذوا أَعدائي وأَعداءَكم أولياءَ تفضون إِليهم بالمحبة، وتهمسون لهم بأَسراركم وأَخبار تظنون أَنها خافية وقد علمتم أَن الإِخفاء والإِعلان سيَّان في علمي، وأَنا مطلع على ما أَخفيتم وأَظهرتم، ومن يفعل هذا الفعل من موالاة المشركين، وإِلقاءِ الأَسرار إِليهم فقد أَخطأَ طريق الحق والصواب، وفي الآية إِشارات منها:
1 -
تقديم الرسول على المؤمنين في الإِخراج للإِشارة إِلي أَن في إِخراج الرسول قضاء على الإِسلام.
2 -
من كان عدوًّا للرسول فهو عدوٌّ لجماعة المسلمين.
3 -
تقديم الإِخفاء على الإِعلان في العلم مشعر بإِحاطة علم الله وكمال قدرته.
4 -
أَن صدق الإِيمان يتنافى مع قبح العمل، والمعصية لا تقدح في أَصل الإِيمان.
2 -
تمضي الآيات في التحذير من موالاة المشركين والتودد إِليهم فتكشف خبث طويتهم ودخلية كيدهم وعداوتهم.
والمعنى: لو يتمكن هؤلاءِ المشركون منكم ويظفرون بكم تتجلى عداوتهم ويفضح غدرهم وخيانتهم ويظهرون على حقيقتهم ويرتبون على ذلك أَحكامهم ويشبعون غيظهم وتمتد أَيديهم وتطول أَلسنتهم إِليكم بالإِيذاء ضربا وشتما وتعذبيا وقتلًا، وكل ما يقدرون على عمله، مما يسيئكم، ويوقع العذاب بكم يفعلونه معكم، وتمنوا لو ترتدون كفارا عن دينكم، فهم يريدون أَن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من الشتم والقتل والتمزيق. وردكم كفارا أَسبق المضار عندهم، وأَول أَمانيهم.
3 -
كان اعتذار حاطب ابن أَبي بلتعة عن عمله الإِشفاق على أَهله وقرابته في مكة فعقبت هذه الآية بيان أَن الأَحارم القرابات لا تعود بالنفع على أَهلها إِذا لم تعصمها عقيدة، ويوثقها دين.
والمعنى: لن تنفعكم قراباتكم ولا أَولادكم الذين توالون من أَجلهم أَعداءَكم إِشفاقا على الرحم والولد وتلقون إِلى هؤلاءِ الأَعداءِ بالمودة لأَجلهم مراعاة لهم وحبًّا فيهم فإِن الكفر يقطع الأَنساب، يورث العداوة بين الأَهل والأَقارب والأَصحاب، فإِذا كان يوم القيامة يوم الفصل يقضي بينكم وبين أقاربكم وأَولادكم ويحكم بينكم يوم يفرُّ المرءُ من أَخيه وأَمه وأَبيه، والله مطلع وبصير بكل ما تعملونه فيجازيكم على أَعمالكم.
المفردات:
(أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ): قدوة طيبة وخصلة حميدة.
(أَنَبْنَا): رجعنا.
(فِتْنَةً): معذبين بهم.
(يَتَوَلَّ): يُعرض.
التفسير
4 -
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ
…
) الآية إِلي قوله: (وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ):
تسوق هذه الآية طرفًا من أَخبار سيدنا إِبراهيم عليه السلام مع أَبيه وقومه تأكيدًا لأَمر الإِنكار والتخطئة في موالاة الكفار؛ ليعلم أن الحب في الله والبغض في الله من أَوثق عرى الإيمان وأَقدس روابط المودة فلا ينبغي أَن يغفل عنهما.
والمعنى: لقد كان لكم أيها المؤمنون فيما تعلمون من أَخبار أَبيكم إِبراهيم عليه السلام وأَصحابه الذين آمنوا به وكانوا معه وما تقرءُونه عنه وعنهم قدوة صالحة وخصلة حميدة من خصال الخير إذ قالوا لقومهم الذين كفروا بالدعوة، وأَنكروا الرسالة وآذوا رسول الله وخليله إِبراهيم - قالوا لهم -: إنا برآء منكم قاطعون لمودتكم وقرابتكم، بعيدون عن معايشتكم ومعاملاتكم منكرون لكم ولِما تعبدون من دون الله من الأَصنام والتماثيل - كفرنا بكم قرابة وأَهلا، وكفرنا بآلهتكم ومعبوداتكم واستحكمت بيننا وبينكم العداوة والبغضاءُ وبدت القطيعة والجفاءُ، وكان هذا شأننا معكم ودأَبنا في معاملتكم لا نتركه ولا نحيد عنه، فسيروا على سيرة أَبيكم إِبراهيم، والتزموا منهجة في معاداة أَعدائكم، وخذوا منه القدوة الحسنة، والأَسوة الصالحة ولا تستغفروا لهؤلاء الكفار، واعلموا أَن استغفار إِبراهيم لأَبيه ما كان إِلا عن عدة وعده إِيَّاها فوفَّى له بها طمعًا في أَن يسلم ورجاءَ أَن يهتدي فلمَّا تبين له أَنه عدو الله تبرأَ منه وأَعلن أَنه لا يملك له من الله شيئا يجلب له نفعا أَو يدفع عنه ضرًّا.
(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ): يحتمل أَن يكون من تمام ما نقل عن إِبراهيم عليه السلام ومن معه من جملة التأَسي، وأَن علينا أَن نقتدي به دائما في التوكل على الله، والإِنابة إِليه وتفويض المصير والأمور كلها الله.
وتقديم المجرور لإِفادة قصر التوكل والإِنابة إِلي الله على الله وحده.
ويحتمل أَن يكون كلاما مستأنفا، لبيان مجاهدتهم لأَعداءِ الله والالتجاءِ إِليه في جميع أمورهم لا سيما في مدافعة الكفرة، وكفاية شرورهم كما ينطق بذلك قوله - تعالى:(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً .... ) الآية.
5 -
أَي: نسأَلك يا ربنا وندعوك ضارعين أَلَّا تسلط علينا الذين كفروا فيفتنونا بإغراءات أَو عذاب لا نطيقه يقهرنا، واغفر لنا ما فرط منا، ربنا إِنك أَنت العزيز الغالب الذي لا يذل من التجأَ إِليه، ولا يخيب رجاءُ من توكل عليه، الحكيم الذي يضع الأُمور في مواقعها، ولا يفعل إِلا عن حكمة بالغة.
6 -
أُعيد طلب التأَسي للمبالغة في الحث على الاقتداءِ به عليه السلام والتأَسي بمناقبه وبيان أَنه السلوك المستقيم، ولذلك صدر بالقسم وذيل بقوله:(لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) بدل (لكم) للإِيذان بأَن من يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك هذا الاقتداء، وأَن ترك الاقتداء بهم من مخايل عدم الإِيمان بهما - كما ينبيء عن ذلك قوله - تعالى -:(وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي: ومن يعرض عن الاقتداءِ والتأَسي بهم فقد باعد بينه وبين الله، وحرم نفسه فضله ورحمته والله هو الغني عن كل شيء، المحمود بكل لسان، والله أَعلم.
المفردات:
(وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ): وتقضوا إِليهم بالقسط والعدل.
(الْمُقْسِطِينَ): العادلين.
(وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ): وعاونوا الذين قاتلوكم وأَخرجوكم.
التفسير:
7 -
بعد أَن أَمر الله المؤمنين بعداوة الكفار في الآيات السابقة وامتثلوا الأَمر وتشددوا في عداوة ومقاطعة آبائِهم وأَبنائهم وجميع أقربائِهم من المشركين، وظهر منهم الجد فيه، والصِّدق والصبر والرغبة في وصل ما انقطع بينهم وبين أَقربائِهم لكفرهم رحمهم ووعدهم بتيسير ما تمنَّوه، وتذليل ما رغبوا فيه فقال - سبحانه -:
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً): هذا وعد من الله أَن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم من الكفار مودة بأَن يهديهم للإِيمان ويوفقهم إِليه فيكونوا لكم أَولياءَ وتوجد المحبة بعد البِغضة، والأُلفة بعد الفرقة، والله تام القدرة على ما يشاءُ من الجمع بين الأَشياءِ المتنافرة فيؤَلف بين القلوب المتعادية القاسية لتصبح مجتمعة متفقة قال تعالى:(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(1).
فلما يسّر الله فتح مكة أَظْفَرهم بأُمنيتهم فأَسلم قومهم وتمّ بينهم من التَّحابِّ والتصافي ما تم ويدخل في ذلك أَبو سفيان وأَحزابه من مسلمي الفتح.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَي: والله واسع المغفرة يغفر الكافرين كفرهم إِذا أَسلموا وتابوا وأَنابوا إِلي ربهم والله كثير الرحمة بعباده المخلصين، روي ابن أَبي حاتم أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أَبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن فلمَّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَقبل فلقي ذا الخِمار مرتدا فقاتله، فكان أَوَّل من قاتل في الرّدة وجاهد عن الدين، قال ابن شهاب: وهو ممَّن أَنزل الله فيه: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً).
8 -
أَي: لا ينهاكم الله عن الذين لم يُقاتلوكم في الدِّين من الكفار ولم يُخرجوكم من دياركم أَن تُحسنوا إِليهم وتكرموهم وتمنحوهم صِلَتكم وتعدلوا بينهم، إِنَّ الله يُحب أَهل البر، والتَّواصل والحق والعدل. جاءَ في الحديث الصحيح:(المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش: الذين يعدلون في حُكمهم وأَهاليهم وما وَلُوا)، وأَخرج البخاري وغيره عن أَسماءَ بنت أَبي بكر رضي الله عنهما قالت: (أَتتني أُمِّي راغبة - وهي مشركة في عهد قريش، إِذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأَلت رسول الله أأصلها؟ فأَنزل الله - تعالى -:
(1) سورة الأنفال: الآية 63.
(لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ
…
) الآية، فقال عليه الصلاة والسلام:(نعم صِلِي أُمَّك)، وقال الحسن: نزلت الآية في خُزاعة وغيرها من قبائل العرب كانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه وأَلا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس، وعن عبد الله بن الزبير: نزلت في النساءِ والصبيان من الكفرة.
والأَكثرون على أَنها نزلت في كفرة اتصفوا بما في الآية أَي: (لَمْ يُقَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَألَمْ يُخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ).
9 -
أَي: إِنما ينهاكم الله عن الذين حاربوكم في الدين ليصدُّوكم عنه وأَجبروكم على الخروج من دياركم وعاونوا على إِخراجكم كمشركي مكة، فإِن بعضهم سعوا في إِخراج المؤْمنين وبعضهم أَعانوا من أَخرجوهم، وإِنما ينهاكم الله عن موالاتهم وأَن تتخذوهم أَنصارا لكم وأَعوانا ويأمركم بمعاداتهم، ثم أَكدَّ الوعيد على موالاتهم فقال:(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) أَي: ومن يتخذوهم أَولياءَ لهم وأَعوانًا فأُولئك الظالمون المتجاوزون الحد لوضعهم الولاية موضع العداوة أَو هم الظالمون لأَنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي أَسلوب القصر من المبالغة ما لا يخفى.
المفردات:
(فَامْتَحِنُوهُنَّ): فاختبروهن وابتلوهن.
(أُجُورَهُنَّ): مهورهن.
(وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ): العصم: جمع عصمة، وهو ما يعتصم به من عقد وسبب.
(فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ): سبقكم.
(فَعَاقَبْتُمْ): فكانت العقبى والنصر والغلبة لكم.
التفسير
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ
مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)}:
تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله وبين كفار قريش فكان فيه: على أَلا يأتيك منا رجل وإِن كان على دينك إِلا رددته إِلينا، وفي رواية على أَلا يأتيك منا أَحدٌ وإِن كان على دينك إِلا رددته إِلينا وهذا قول عُروة والضحاك وغيرهما.
وفي هذه الآية أمر الل عز وجل عباده المؤمنين إِذا جاءَهم النساءُ مهاجرات من دار الشرك أَن يختبروهن لعلموا صدق إِيمانهن ومبلغ يقينهن والله أَعلم بذلك فإِنه - سبحانه - هو لمطلع على ما في قلوبهن، فإِن علموهن مؤْمنات فلا يردوهن إِلي أَزواجهن الكفار لئلا يفتنوهن عن دينهن.
روِي أَنَّ أُم كلثوم بنت عُقبة بن أَبي معيط كانت أَول المهاجرات فخرج أَخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله فكلَّماه فيها أَن يردها إِليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساءِ خاصة فمنعهم الله أَن يردُّوهن إِلي المشركين وأَنزل الله آية الامتحان.
قال ابن جرير: سئل ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء؟ فقال: كان يمتحنهن بأَن يقلن: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت عن أَرض إِلي أَرض وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إِلا حبًّا لله ولرسوله، ثم رواه من وجه آخر وذكر فيه أَن الذي كان يحلفهن - عن أمر رسول الله له - عمر بن الخطاب.
(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ): تعليل للنهي عن إِرجاعهن إِليهم.
والمعنى: لا المؤْمنات حلال للكافرين حلال للمؤْمنات، الجملة الأُولي:(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأَول، والثانية (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد، والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة.
قال ابن كثير: وهذه الآية هي التي حرَّمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداءِ الإِسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان حال أَبي العاص بن الربيع زوج ابنه النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها وقد كانت مسلمه وهو على دين قومه، فلما وقع في الأُسارى يوم بدر بعث امرأَته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأُمها خديجة، فلما رآها الرسول رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين:(إِن رأَيتم أَن تطلقوا لها أَسيرها فافعلوا). ففعلوا فأَطلقه رسول الله على أَن يبعث ابنته إِليه، فوق له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إِلي رسول الله مع زيد بن حارثة رضي الله عنها فأَقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر وكانت سنة اثنتين، وإِلى أَن أَسلم زوجها أَبو العاص بين الربيع سنة ثمان فردَّها عليه بالكناح الأَوَّل ولم يُحدث لها صداقا.
(وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا) أَي: وأَعطوا أَزواج المهاجرات من المشركين مثل ما دفعوا إِليهن من المهور.
(وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ): أَي: ولا حرج عليكم أَن تتزوجوا هؤلاءِ المهاجرات إِذا أَعطيتموهن صداقهن.
(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) أَي: ولا تتمسكوا بعقد زوجية الكافرات الباقيات في دار الشرك أَو اللاحقات بها، والمراد نهي المؤمنين أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقيات في دار الحرب عُلْقة من عُلق الزوجية أَصلًا، قال ابن عباس: من كانت له امرأَة كافرة بمكة فلا يعتد بها من نسائه (أَي لا يعتبرها من نسائه) لأَن اختلاف الدينين والدارين قطعا عصمتها منه، وأَخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن إِبراهيم النخعي أَنه قال: نزل قوله - تعالى -: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) في المرأَة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها.
وتحقيقا لأَمر الله بمفارقة الكافرات نقل محمد ابن إسحاق عن الزهري: طلَّق عمر لذلك فاطمة بنت أَبي أُمية بن المغيرة فتزوجها معاوية، وأُم كلثوم الخزاعية فتزوجها أَبو جهم.
(وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا) أَي: واطلبوا من الكفار ما أَنفقتم من صداق على اللاحقات بدار الشرك، وليطلبوا هم ما أَنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إِلي المسلمين.
(ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ): أَي: ذلك الحكم السابق والتشريع الرباني العادل في صلح الحديبية واستثناء النساء منه والأَمر بما سبق ذكره هو حكم الله يفصل به بينكم ويحكم به بين خلقه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أَي: والله عليم بمصالح عباده حكيم في تشريعة يشرع ما تقتضيه الحكمة، روي أَنه لمَا نزل هذا الحكم أدى المؤمنون ما أُمِروُا به من مهور المهاجرات إِلي أزواجهن وأَبي المشركون أَن يردُّوا شيئا من مُهور الكَوافر إِلي أَزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى:
11 -
(وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ): أَي: وإِن لحق أَحد من أَزواجكم بالكفار أَو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أَداءُ المهر كما لزم الكفار.
(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا): أَي: فآتوا الذين ذهبت زوجاتهم مثل ما أَنفقوا عليهن من صداق وهذا على أَن معنى (فَعَاقَبْتُمْ) من العقبة لا من العقاب (وهي في الأَصل: التوبة في ركوب أَحد الرفيقين على دابة لهما والآخرة بعده): أَي: فجاءَت عقبتكم أَي: نوبتكم من أَداءِ المهر.
وجمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أَنه قال: يُعْطَى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم!
وعن الزجاج أَن معنى (فَعَاقَبْتُمْ): فغنمتم، وحقيقته: فأَصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأَنه قيل: وإِن فاتكم شيءٌ من أَزواجكم إِلي الكفار ولم يؤدُّوا إِليكم مهورهن فغتمتم منهم فآتوا الذين ذهبت أَزواجهم مثل ما أَنفقوا من الغنيمة.
وهذا هو الوجه دون ما سبق، ولقد كان صلى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس - يعطي المهر الذي ذهبت زوجته من الغنيمة (قبل أَن تُخمَّس) وَلا ينقص من حقه شيئا، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فإِن الإِيمان به عز وجل يقتضي تقواه والعمل بأَحكامه، والتزام شريعته.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
المفردات:
(يُبَايِعْنَكَ) يعاهدنك.
(بِبُهْتَانٍ): يزور وكذب بإِلصاق اللقطاءِ بالأَزواج.
(يَفْتَرِينَهُ): يختلقنه.
التفسير:
12 -
أَي: يا أَيها النبي إِذا جاءك المؤمنات مبايعات لك ومعاهدات على هذه الأمور (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) أَي: على أَلا يشركن بالله شيئا من الأَشياءِ أَو شيئا من الإِشراك، (وَلا يَسْرِقْنَ) أَي: ولا يسرقن أَموال الناس الأَجانب، فأَما إِن كان الزوج مقصرا في نفقتها فلما أَن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أَمثالها وإِن كان من غير علمه عملًا بحديث هند بنت عتبة وسيأتي، (وَلا يَزْنِينَ) ولقد ذكر في حديث رسول الله عقوبة الزنا بالعذاب الأَليم في نار جهنم، ولقد روي الإِمام أَحمد عن عائشة قالت: جاءَت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله فأَخذ عليها (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) الآية - قال: فوضعت يدها على رأسها حياءً، فأَعجبه ما رآه منها، فقالت عائشة: أَقري أَيتها المرأَة فوالله ما بايعنا إِلا على هذا. قالت: نعم إِذن فبايعها بالآية (ابن كثير).
(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ): وهذا يشمل قتلهم بعد وجودهم كما كان أَهل الجاهلية يقتلون أَولادهم خشية الإِملاق، وقتلهم وهم أَجنة كما يفعله بعض الجهلة من النساءِ.
(ولا يأتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) قال الفراءُ: كانت المرأَة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أَيديهن وأَرجلهن وذلك أَن الولد إِذا وضعته الأُم سقط بين يديهما ورجليها.
وفي الكشاف ما يؤيد هذا المعنى.
وحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إِليه الأَكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس وقال بعض الأَجلة: معناه لا يأتين ببهتان، أَي: يكذب وزور من قبل أَنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأَن معظم الأَفعال بهما، وقيل البهتان: السحر، وللنساءِ ميل شديد إِليه فنهين عن ذلك وليس بشيءٍ. (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أَي: ولا يعصينك فيما يأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أَن رسول الله لا يأمر إِلَاّ به للتنبيه على أَنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أَن طاعة أُولي الأَمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف يترك النياحة لما أَخرج الإِمام أَحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم عن أُم سلمة الأَنصارية؛ قالت امرأة من هذه السورة: ما هذا النسوة: ما هذا المعروف الذي ينبغي لنا أَلا نعصيك فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لَا تَنُحْنَ
…
" الحديث، ونحوه من الأَخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأَخبار من باب الاقتصار على بعض أَفراد العام لنكته، ويشهد للعموم قوم ابن عباس وأَنس وزيد بن أَسلم: هو النوح، وشق الجيوب ووشم الوجوه، ووصل الشعر وغير ذلك من أَوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأُمور المعدودة بما ذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن (فَبَايِعْهُنَّ) أَي: فعاهدهن بضمان الثواب على الوفاءِ بهذه الأَشياءِ، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إِليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إِليها (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ) واطلب لهن المغفرة من الله زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أَي: واسع المغفرة عظيم الرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إِذا وفين بما بايعن عليه.
وهذه الآية نزلت على ما أَخرج ابن أَبي حاتم عن مقاتل يوم الفتح، فبايع رسول الله الرجال على الصفا وعمر رضي الله عنه يُبايع النِّساءَ تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءَ أَنَّه عليه الصلاة والسلام بايع النساء أَيضا بنفسه الكريمة، أَخرج الإِمام أَحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه وغيرهم عن أُميمة بنت رُقيْقة قالت: أَتيت النبي صلى الله عليه وسلم لنبايعه فأَخذ علينا ما في القرآن (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) حتى بلغ (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقال: (فيما استطعن وأَطقن) قلنا: الله ورسوله أَرحم بنا من أَنفسنا يا رسول الله أَلا تصافحنا فقال: إِني لا أُصافح النساء، إِنما قوليِ لمائة امرأَة كقولي لامرأَة واحدة.
والمبايعة وقعت غير مرة، ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة.
وممن بايعه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أَبي سفيان ففي حديث أَسماءَ بنت يزيد بن السكن: كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت بنت عتبة في النساءِ فقرأَ صلى الله عليه وسلم الآية فلما قال: (عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) قالت هند: وكيف نطمع أَن يقبل منَّا ما لم يقبل من الرجال، يعني أن هذا بين لزومه، فلما قال:(وَلا يَسْرِقْنَ) قالت: والله إِنِّي لأُصيب الهنة من مال أَبي سفيان لا يُدري أَيحل لي ذلك، فقال أَبوسفيان: ما أَصبت من شيءٍ فيما مضي وفيما نجد فهو لك حلال فضحك رسول الله وعرفها فقال لها: (وإنك لهند بنت عتبة) قالت: نعم فاعف عمَّا سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال:(وَلا يَزْنِينَ)، فقالت: أَوتزني الحرة؟ فقال: (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ)، فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا - تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أَبي سفيان فإِنه قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقي، وتبسم رسول الله، وفي رواية أَنها قالت: قتلت الآباءَ وتوصينا بالأَولاد؟ فضحك رسول الله فقال: (وَلا يَأتِينَ بِبُهْتَانٍ)، فقالت: والله إِنَّ البهتان لأَمر قبيح ولا يأمر الله إِلا بالرشد ومكارم الأَخلاق، فقال:(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)، فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أَنفسنا أَن نعصيك في شيءٍ، وكان هذا منها دون غيرها لمكان أَم حبيبة رضي الله عنها من رسول الله مع أَنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أَن أَول من بايع من النساءِ أُم سعيد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أُخري رضي الله عنهن -
التفسير
13 -
ينهي تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهي عنها في أَولها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود والنصاري وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإِبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أَصدقاءَ وأَخلاءَ. (قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ) أَي: يئسوا من خيرها وثوابها لعنادهم الرسول المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات.
(كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) قال ابن كثير: - فيه ابن كثير: فيه قولان:
أحدهما: كما يئس الكفار الأَحياءُ من أَقربائهم الذين في القبور - أَن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأَنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا فقد انقطع رجاؤُهم في لقائهم وذلك حسب اعتقادهم وبهذا القول قال ابن عباس، وقال قتادة: كما يئس الكفار أَن يرجع إِليهم أَصحاب القبور الذين ماتوا، وكذا قال الضحاك.
والقول الثاني معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير ينالهم في الآخرة فقوله - تعالى -: (مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) بيان للكفار. قال الأَعمش عن أَبي الضحى عن ابن مسعود (كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ) قال: كما يئس هذا الكافر إِذا مات وعاين عقابه واطلع عليه، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وهو اختيار ابن جرير. أ. هـ ابن كثير بتصرف.
وقال الزمخشري: روي أَن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزل قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ..... ) الآية.