الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة التكاثر
مكية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الكوثر
مناسبتها لما قبلها:
في السورة السابقة (سورة القارعة) جاءَ ذكر بعض أَهوال يوم القيامة وجزاءَ الأَخيار والأَشرار، وفي هذه السورة جاءَ ذكر الجحيم وهي الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، كما جاءَ السؤال عما قدم المرءُ من أَعمال وهذه بعض أَحوال الآخرة.
مقاصد السورة:
1 -
بدئت السورة الكريمة بتوبيخ النَّاس لأنهم شغلوا بالتكاثر في أُمور الدنيا عن العمل للآخرة حتى دهمتهم المنايا: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ).
2 -
ثم أنذرتهم بما سيلقون يوم القيامة من معاينة النار: (كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) إلخ.
3 -
ثم أنذرتهم بما يكون من سؤالهم عما كذبوا فيه من النعيم في الدنيا، وهل أَدوا حق شكره لواهب النعم:(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ).
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))
المفردات:
(أَلْهَاكُمْ): شغلكم عن طاعة ربكم، من اللهو: وهو الغفلة، ثم شاع في كل شاغل، وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرءَ، وهو قريب من اللعب، ولذا ورد بمعناه كثيرًا، وقال الراغب: اللهو: ما يشغلك عما يعني ويهم.
(التَّكَاثُرُ): التباري في الكثرة والتباهي بكثرة العدد والأَموال والأَولاد.
(زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ): مُتُّم ودفنتم في القبور، أَو عددتم الموتى تكاثرًا.
(كَلَاّ): كلمة ردع، أو بمعني حقًّا.
(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ): لو تعلمون مآلكم علمًا يقينًا لما أَلهاكم التكاثر.
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أَي: والله لتشاهدُنَّ النار الموقدة: (دار العذاب).
(ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) أَي: ثم لترونها رؤية يقينية مبعثها المشاهدة والمعاينة.
(النَّعِيمِ): كل ما يتلذذ من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وغير ذلك.
التفسير
1 -
2 - (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ):
أي: شغلكم عن الجد والاجتهاد وصرفكم عن العمل للآخرة تَبَاهِيكم بالأَنصار والأَولاد وتفاخركم بالأموال والأحساب والأنساب، والتَّبَارِي في كثرة العدد، بأَن يقول هؤُلاء: نحن أكثر هؤُلاءِ: نحن أكثر، حتى إذا استدعيتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر مَن فيها فتكاثرتم بالأموات.
أَخراج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأَنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟! وقال الآخرون مثل ذلك -تفاخروا بالأحياءِ- ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثلا فلان تشير إلى القبر ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأَنزل الله
تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) وزيادة المقابر على ما تقدم على ظاهرها، وقيل المراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت وأنتم لاهون عن العمل لآخرتكم، وزيادة القبور على هذا عبارة عن الموت.
قال الآلوسي: وفي هذا إشارة إلى تحقق البعث، يحكى أن أعرابيًّا سمع ذلك فقال: بعث القوم ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم، وعن عمر بن عبد العزيز أَنه قال: لا بد لمن زار أن يراجع إلى جنة أو نار، وفيه أيضًا إشارة إلى قصر زمن اللبث في المقابر، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، قال ابن كثير: والصحيح أَن المراد بقوله تعالى: (زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) أَي: صرتم إليها ودفنتم فيها -روى أسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) في الأموال والأولاد عن الطاعة (حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ) أي: حَتَّى يَأْتِيكُمُ المَوتُ، ثم نبههم إلى خطأ ما هم فيه، وزجرهم عن البقاءِ على تلك الحال التي تنتهي إلى وخيم العاقبة فقال:
3 -
(كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ):
كَلَاّ: أَي؛ ارتدعوا عن الاشتغال بما لا يعينكم وانتبهوا إلى ما وقعتم فيه من خطأ. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ): وتعرفون سوءَ مغبة ما أَنتم عليه إذا عاينتم عاقبته وشاهدتم جزاءَه، ونزل بكم عقابة، وهذا إنذار لهم ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم، ثم أَكد هذا وزاد في التهديد فقال:
4 -
(ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ):
وعيد بعد وعيد والتكوير تأْكيد للردع والإنذار لهم، و (ثُمَّ) للدلالة على أن الإنذار الثاني أَبلغ من الأَول وأَشد كما يقول العظيم لعبده: أَقول لك ثم أَقول لك: لا تفعل.
والمعنى: سوف تعلمون خطأَ ما أَنتم عليه إذا عاينتم ما قُدَّامكم من أهوال الآخرة، وإِن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة بكم، وقال على كرم الله وجهه: الزجر الأَول في القبور،
والثاني في النشور، فلا تكرار، فالتراخي على ظاهره، وقال الضَّحاك: الزجر الأَول للكافرين والثاني للمؤْمنين، ثم كرّر التنبيه أيضًا فقال:
5 -
(كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ):
أي: ارتدعوا عن تغريركم بأَنفسكم فإنكم لو تعلمون يقينًا سوءَ مصيركم وعاقبة أمركم وما يُفْضِي إليه حالكم لفزعتم من تكاثركم وَلَشَغَلَكم هذا عن افتخاركم بأموالكم وأولادكم، وتزودتم بالعمل الصالح لآخرتكم ومآلكم.
وإنما ذكر - سبحانه تعالى - هذا زيادة في زجرهم لتغريريهم بأَنفسهم، وخداعهم لها فقد جرت عادة الغافلين أنهم يدعون اليقظة والمعرفة إذا ذكِّروا بغفلتهم، ثم ذكر لهم بعض ما يفضي إليه هذا اللهو وهو عذاب الآخرة بعد خزي الدنيا فقال:
6 -
(لَتَرَوْنَّ الْجَحِيمَ):
أي: أُقسم لكم وأُؤَكد -أيها الناس- أنكم ستشاهدون النار الموقدة، وهي دار العذاب التي أُعدت لمن يلهو وينصرف عن الحق، والجملة جواب قسم مضمر، أَكد به الوعيد وشدد به التهديد، وأَوضح به ما أُنذروا به بعد إبهامه تفيخمًا لشأْنه، وإعظامًا لقدره، وما هددوا به سابقًا هو قوله تعالى:(كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ) فتوعدهم بهذه الحال وهي رؤْية النار التي إذا زفرت زفرة واحدة خَر كل رسول مقرب وكل ولي عابد على ركبتيه من المهابة والمعاينة؛ لرؤْية ما فيها من الأَهوال على ما جاءَت به الآثار، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة في أذهانكم.
وقيل: المراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع في الكتاب الكريم، ثم كرر ذلك للتأكيد فقال:
7 -
(ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ):
أي: ثم أقسم وأُؤكد أنكم ستشاهدونها عيانًا ويقينًا قال الآلوسي: أي الرؤْية التي هي نفس اليقين، فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات، فهو أَحق
بأَن يكون عين اليقين، واليقين (1) في اللغة - على ما قيل: العلم الذي لا شك فيه، ثم شدد عليهم وزاد في تأْنيبهم فقال:
8 -
(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ):
أَي: ثم لتسأَلن يومئذ عن شكر ما أَنعم الله به عليكم من الصحة والأَمن والرزق وغير ذلك أَي: ماذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته؟!
قيل: الخطاب في (لَتُسْأَلُنَّ) للكفار، وعليه ابن عباس: وقيل: الخطاب مخصوص بكل من أَلهته دنياه عن دينه، والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك، وخير القول في النعيم قول مجاهد؛ كل لذة من لذات الدنيا.
وفي التفسير الكبير: الحق أَن السؤَال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم به سواء كان ما لابد منه أم لا؛ لأَن كل ما يهب الله تعالى يجب أَن يكون مصروفًا لطاعته سبحانه لا إِلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعًا عن الكل، ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام "لا تَزولُ قَدَمَا العَبْدِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ:
1 -
عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ
2 -
وعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبلاهُ.
3 -
وعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ.
4 -
وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ"؛ لأَن كل نعيم داخل فيما ذكره صلى الله عليه وسلم وما ورد في بعض الآثار مثل ما روي عن عمر رضي الله عنه أَنه قال: أي نعيم نسأَل عنه يا رسول الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأَموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ظِلَالُ المَسَاكِنِ وَالأَشْجَارِ وَالأَخْبِيَةِ الَّتِي تقِيكُمُ الحَرَّ وَالبَردَ، وَالمَاءُ البَارِدُ فِي اليَوْمِ الحَارِّ" فذلك من باب التمثيل ببعض أَفراد خصت بالذكر لأَمر اقتضاه الحال، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيءٍ من ذلك: "هَذَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ" بمن التبعيضية، والله أعلم.
(1) (وعالم اليقين: العلم بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هوعليه، وعين اليقين: العلم بما تعطيه المعاينة والمشاهدة والكشف، أما حق اليقين فهوملابسة الأمر والدخول فيه بالفعل