الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة والتين
ويقال لها سورة التين بلا واو، وهي مكية، وآياتها ثمان آيات
مناسبها لما قبلها:
لما ذكر سبحانه في السورة السابقة (أَلَمْ نَشْرَحَ) حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أَكمل النوع الإِنساني بالاتفاق، بل أَكمل خلق الله على الإِطلاق، ذكر في هذه حال النوع الإِنساني بعامة وما ينتهي إِليه أَمره، وما أَعده سبحانه لمن آمن منه بذلك الفرد الأَكمل، ناسب أَن يقرن بينهما.
أَهم مقاصدها:
ابتدأَت السورة بالقسم بالبقاع المشرفة، والأَماكن المقدسة التي خصها سبحانه بإِنزال الوحي فيها على أَنبيائه ورسله وهي بيت المقدس، وجبل الطور، ومكة المكرمة، أَقسم بها جلَّ وعلا على أَنه كرم الإِنسان، فخلقه في أَحسن تقويم، وأَشارت إِلى أَنه إِذا لم يشكر نعمة الله عليه رده سبحانه إِلى أَسفل سافلين:(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ .... ) الآيات.
وختمت ببيان عدل الله بإِثابة المؤمنين بأَعظم المثوبات الحسان، جزاء ما عملوا، وعقاب الكافرين المكذبين بيوم الدين بأَقصى العقوبات، (إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .... ) الآيات.
بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8))
المفردات:
(طُورِ سِينِينَ): هو جبل الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وقيل: سينين وسيناءَ -بكسر السين وفتحها- علمان على الموضع الذي هو فيه، ولذلك أُضيف إِليهما.
(الْبَلَدِ الأَمِينِ): مكة المكرمة.
(تَقْوِيمٍ): أَكمل تعديل، يقال: قَوَّمَ العودَ: عدّله وجعله مستقيمًا.
(غَيْرُ مَمْنُونٍ): غير مقطوع، من المن: وهو القطع.
(بِالدِّينِ): المراد به الجزاءُ.
التفسير
1 -
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ):
أَقسم الله - تعالى - ببقاع مباركة عظيمة ظهر فيها الخير والبركة بسكنى الأَنبياءِ والمراسلين، فأَقسم بالتين، وقد اختلف المفسرون في المراد منها على أَقوال كثيرة، فقيل:
يراد بها مسجد دمشق، وقيل: هي نفسها، وقيل: الجبل الذي عندها، واختلفوا كذلك في الزيتون، فقال كعب الأَحبار، وقتادة، وابن زيد وغيرهم: هي مسجد بيت المقدس وقيل: بيت المقدس نفسه، وقيل غير ذلك؛ لأَنها منابت التين والزيتون، وعلى هذه الأَقوال يكون التين والزيتون كناية عن مواضع كنى بها عن مغارسها التي تكثر فيها، حتى يتناسب الإِقسام بهما مع الإِقسام بطور سينين، وبالبلد الأَمين اللتين عطفتا عليهما، وقال قليل من المفسرين: إِن الإِقسام هو بالنوعين لذاتهما، لاختصاصهما بخواص عجيبة، وفوائد عظيمة، روى أَبو ذر أَنه أَهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين، فأَكل منه، وقال لأَصحابه:"كلو، فلو قلت: إِن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه" إِلى آخر ما روي، وأَما الزيتون فهو إِدام، وله فوائد جمة، وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل، وعن معاذ بن جبل أَنه مر بشجرة زيتون، فأَخذ منها سواكًا فاستاك به وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة".
ورجح الرأْي الأَول على الثاني حيث فقد في الثاني التناسب الذي يقتضيه العطف إذ عُطِفَت الأَماكن على الأَشجار، وهو أَن المراد بهما مغارسهما-:
2 -
(وَطُورِ سِينِينَ):
هو الجبل الذي كلم الله تعالى - عليه موسى عليه السلام ويقال له أَيضًا: طور سيناء -بفتح السين وكسرها مع المد- وهو بقرب التيه، وقيل: إِن سينين وسيناءِ علمان على البقعة التي فيها الجبل، وعن قتادة أَنه قال: سينين مبارك حسن ذو شجر، وقيل: كل جبل فيه أَشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء.
3 -
(وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ):
وهو مكة المكرمة، وَأَمَانَتَهَا أَنها تحفظ من دخلها كما يحفظ الأَمينُ ما يؤتمن عليه، ويبذل الجهد في حفظه وصيانته، فلا يعتريه أَي: أَذى أَو عدوان.
ويجوز أَن يكون الأَمين بمعنى المأْمون، لأَنه مأْمون الغوائل فلا يصيب داخله أَي ضر ولا يقع عليه أَي اعتداءِ على نفسه أَو ماله كما قال تعالى:"أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ"(1).
ونسبه الأَمين بمعنى الأمانة أو بمعنى المأْمون الغوائل إِلى البلد مجازية، والإِتيان باسم الإِشارة للتعظيم.
والغرض من القسم بهذه الأَشياءِ الإِبانة عن شرف البقاع المباركة دينيا ودنيويًا، وعما ظهر فيها من خير وبركة ببعثة الأَنبياء والمرسلين.
وقال ابن كثير: ذهب بعض الأَئمة إِلى أَن هذه محال ثلاثة بعث الله في كل منها نبيًا مرسلا من أُولي العزم أَصحاب الشرائع الكبار، فالأَول محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام والثاني طور سنين وهو طور سيناءَ الذي كلم الله منه موسى بن عمران، والثالث مكة وهو البلد الأَمين الذي من دخله كان آمنًا وهو أَثر إِبراهيم عليه السلام -أَرسل فيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وقد ذكر في آخر التوراة هذه الأماكن الثلاثة. قالوا:"جاءَ الله من طور سيناءَ، يعني الجبل الذي كلم الله عليه موسى، وأَشرق من ساعير. يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى، واستعلن من جبال فاران، يعني جبال مكة التي أَرسل الله منها محمدًا صلى الله عليه وسلم" أهـ. ابن كثير.
4 -
(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ):
جواب القسم، أَي: لَقد خلقنا جنس الإِنسان -وهو شامل للمؤمن والكافر- في أَحسن ما يكون من التعديل والتقويم صورة ومعنى، حيث بَرَأَهُ -سبحانه- مستوى القامة، متناسب الأَعضاءِ حسن الصورة. قوي الإِحساس، سليم العقل، متصفًا بالحياة والعلم، والسمع البصر، والإِرادة والتكلم، وغير ذلك من الصفات والعجائب التي أَودعت فيه.
ويكفي في هذا الباب -وهو القول الفصل- أَن الله خلق آدم بيديه، ، وأَمر -سبحانه- ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون لديه.
(1) سورة العنكبوت، من الآية:67.
5 -
(ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ):
ثم للتراخي، أَي: ثم كان عاقبة أَمره أَن جعلناه من أَهل النار الذين هم أَقبح من كل قبيح صورة، ، أَسفل من كل سافل شكلا وتركيبًا، لعدم استقامة كل منهم على موجب ما خلقناه عليه من الصفات السوية، والصورة الحسنة التي لو عمل بمقتضاها لكان في أَعلى عليين، أَو ثم رددناه أسفل ممن سفل من أَهل الدركات، أَو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أَسفل ممن سفل هيئة وبنية حيث نكسناه في خلْقِه، فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وكَلَّ سمعه وبصره، وتغير كل شيءٍ فيه، فمشيه دليف (1)، وصوته خفات (2)، وقوته ضعف، وشهامته خرف أَي: فساد عقل كما قال تعالى: "وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ"(3) وقوله تعالى: "وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ"(4).
6 -
(إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ):
أَي: ثم رددنا الإِنسان إِلى صورة مشوهة قبيحة في النار إِلا الذين آمنوا وجروا في عملهم على موجب تلك الصفات التي منحهم الله إِياها، ونشأَهم عليها، فإِنهم لا يردون أَسفل سافلين ولا تقبح صورهم يوم القيامة، وإِنما يكون لهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وامتثالهم وشكرهم لله على نعمائه، يزدادون به بهجة إِلى بهجتهم، وحسنًا إِلى حسنهم، والاستثناءَ متصل من ضمير رددناه العائد على الإِنسان؛ فإِنه في معنى الجمع.
أَو المعنى: لكن الذين كانوا مؤمنين صالحين من الزمني والهرمي، فلهم ثواب متصل دائم، أَو غير ممنون به عليهم جزاءَ امتثالهم وصبرهم على الابتلاءِ بالشيخوخة والهرم، ومقاساة المشاق، والقيام بالعبادة مع ضعفهم ووهنهم.
أَخراج ابن أَبي حاتم عن ابن عباس أَنه قال في الآية: إِذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أَجر ما كان يعمل في شبيبته.
(1) أي: يمشي مشي المقيد.
(2)
الخلفات: إسرار المنطق.
(3)
سورة يس، من الآية 68.
(4)
سورة النحل، من الآية:70.
7 -
(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ):
خطاب للإِنسان الكافر على سبيل الالتفات لتشديد التوبيخ والتقريع، والاستفهام إِنكاري، أَي: فأَي شيءٍ يضطرك -أَيها الإِنسان- بعد ما بينا من الدليل القاطع. على قدرة الله عز وجل على البعث والبرهان الساطع على أَنه واقع لا محالة إِلى أَن تكون مكذبًا به فإِن الله خلقك من نطفة، وقوَّمك على وجه يبهر الأذهان، ويضيق عنه نطاق البيان مع تحويلك من حال إِلى حال، وذلك من أَوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاءِ.
وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أَي: فأَي شيءٍ ينسبك إِلى الكذب بسبب إِخبارك بالجزاءِ بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة به؟! وهذا القول اختاره ابن أَبي حاتم.
8 -
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ):
أَي: أَليس الذي فعل ما ذكر بأَحكم الحاكمين صنعًا وتدبيرًا حتى يتوهم عدم الإِعادة والجزاءِ؟! وكان النبي إِذا قرأَ هذه الآية. قال: "بَلَى وَأَنَا على ذلك من الشاهدين" ومآل الاستفهام في قوله تعالى: (أَلَيْسَ) أَن الله أَعلى المدبرين حكمة؛ ولهذا وضع الجزاءَ لهذا النوع الإِنساني ليحفظ لمن عمل منه واتقى منزلته من الكرامة التي أَعدها بأصل خلقته، وهو سبحانه لا يجوز ولا يظلم أَحدًا لأَنه أَعدل العادلين وبذلك استحال عدم كونه أَحكم الحاكمين، وتعين الجزاء بعد البعث حتى ينصف المظلوم في الدنيا من ظالمه، وليؤْتي كل ذي حق حقه، والجملة تقرير لما قبلها.
وقيل: إِن الحكم بمعنى القضاء، فهي وعيد للكفار، وبيان بأَن الله عز وجل يحكم على كلٍّ بما هو أَهله من الجزاءِ؛ لأَنه -سبحانه- أَحكمهم قضاءً بالحق، وعدلا بين الخلق - والله أَعلم.