الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المعارج
مكية وآياتها أربع وأربعون آية
صلة هذه السورة بما قبلها:
هذه السورة الكريمة كالمتممة والمكلمة لسورة الحاقة إِذ إِن كلًّا منهما تعرض وتبين أَحوال البشر يوم القيامة.
بعض مقاصد السورة:
1 -
إِنها - في أَولها - تنذر الكافرين بعذاب نازل وواقع بهم لا محالة.
2 -
إِنها تصور يوم الحساب بأَنه شاق وعسير على الكافرين فمقداره عليهم خمسون أَلف سنة، أَما المؤمن فإِن الله يخففه عليه حتى يكون أَخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا.
3 -
تبين السورة في بعض آياتها السماء يوم القيامة بأَنها تكون بيِّنة الكدورة، وأَنها كعكر الزيت في أَسفل إِنائه، وأَن الجبال تتفتت وتصير كالصوف المنفوش إِذا طيرته الريح.
4 -
توضح السورة أَن كل واحد يوم القيامة ينشغل بنفسه (وَلَا يسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)، وأَن المجرم يتمنى لو كان بنوه وأَهله ومن في الأَرض جميعًا تحت يده يبذلهم في فداءِ نفسه ثم ينجيه ذلك من عذاب الله ومقته ولكن هيهات أَن تكون له نجاة.
5 -
تبين الآيات أَن الإِنسان جبل وفطر على الحزن والجزع عند المصيبة والبلاء كما خلق على الشح والبخل عند النعماء والاستغناء، ولكن الله تعبَّده (1) بإِنفاق ما يحب والصبر على ما يكره، وأَرشده إِلى ما يثبته ويصبره عند النوازل فلا يجزع، وإِلى ما يدفعه إِلى البذل والعطاء إِذا استغنى فلا يشح ولا يمنع (إلَا الْمُصَلِّينَ).
(1) تعبده: أي اتخذه عبدا، التعبد: التنسك.
6 -
تجيءُ الآيات بعد ذلك معلنة أَن الله قادر على أَن يهلك الكافرين المكذبين ويستبدل بهم قومًا أَفضل منهم؛ لأَنه - سبحانه - لا يفوته شيءُ ولا يعجزه أَمر أَراده.
وفي ختام السورة يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أَن يترك هؤلاءِ الكفرة المكذبين ولا يلقي بالا إِلى ما يخوضون فيه من الباطل واللَّهو حتى يصيروا إِلى يوم الحساب الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين وقد خضعت وذلت أَبصارهم واتجهت إلي الأَرض فلا يرفعونها خجلًا وخزيًا فضلًا عمَّا يغشاهم ويجللهم من الذل والمهانة، وهذا هو اليوم الذي هُدِّدوا به في الدنيا ولكنهم كانوا يسخرون به ويكذبون، وفي هذا اليوم يشاهدون جزاء عملهم وعاقبة تكذيبهم:(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(سَأَلَ سَائِلٌ): طلب ودعا داعٍ.
(وَاقِعٍ): نازل وحاصل.
(دَافِعٌ): مانع يردّه.
(الْمَعَارِجِ): جمع معرج، وهو المصعد، أَي: صاحب المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة من سماءٍ، وقيل غير ذلك.
(وَالرُّوحُ): هو جبريل عليه السلام.
التفسير
4،3،2،1 - {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}:
أَي دعا داعٍ وطلب كافر من كفار مكة لنفسه ولقومه نزول عذاب، من قولهم: دعا بكذا إِذا استدعاه وطلبه، والسائل هو النضر بن الحارث، فإنه لمَّا خوَّفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نزول العذاب قال - استهزاءً وإِنكارًا -:(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(1) فكانت عاقبته العاجلة في الدنيا - جزاء استخفافه واستهزائه - أَن أُهلك يوم بدر فضلًا عما ينتظره يوم القيامة من نكال هو أَشد وأَنكى.
وقال بعضهم: هذا المسائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد استعجل عذاب الكافرين، فبيَّن الله له أَن هذا العذاب واقع بهم ولا دافع له، قالوا: والذي يشير إِلى هذا التفسير قوله بعد ذلك: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) وهذا يدل على أَن ذلك السائل هو الذي أَمره الله بالصبر الجميل.
وهذا العذاب نازل بالكافرين في الآخرة لا محالة، وواقع بهم سواءٌ طلب أَو لم يطلب ولا يدفعه عنهم أَحد؛ لأَنه من جهته - تعالى - وهو صاحب الدرجات والمصاعد التي تصعد فيها الملائكة والروح وهو جبريل عليه السلام أَفرد بالذكر لتميزه وفضله، وقال مجاهد: الروح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لنبي آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا، وقيل: ملك عظيم الخلقة يقوم وحده يوم القيامة صفًّا ويقوم الملائكة كلهم صفًّا. وهؤلاءِ الملائكة والروح تعرج وتصعد من سماءٍ إِلى سماء إِلى عرش الرحمن حيث تهبط منه أَوامره - سبحانه - وقيل: المراد من المعارج هي الفضائل والنعم لأَن لوجوه إِنعامه وأَياديه - جل شأنه - درجات وهي تصل إِلى الناس على مراتب مختلفة فهم في نعم الله عليهم متفاوتون.
(1) سورة الأنفال، من الآية:32.
وفي قوله: (مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) ما يدخل الخوف والرهبة في قلوب الكافرين؛ إِذ إِن كل المخلوقات تحت قهر سلطانه، والملائكة - ذلك الخلق العظيم - تصعد إِليه في معارج السموات {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) فما أَشد بطشه وما أَعظم أَخذه {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (2).
(فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) من سني الدنيا: أَي، أَن هذا العذاب سيكون في يوم قدره خمسون أَلف سنة وهو يوم الحساب إِلى أَن يستقر أَهل الجنة في الجنة وأَهل النار في النار، وإِلَاّ فيوم القيامة لا نهاية له، ثم بعد ذلك ينتقل الكفار إِلى نوع آخر من العذاب.
وهذا الطول وتلك الشدة تكون على الكافرين والعاصين فحسب، وأَما المؤمنون فإِن الله يخفف عليهم، يدل على ذلك ما أَخرجه الإِمام أَحمد وغيره عن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه ل -: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين أَلف سنة ما أَطول هذا، فقال عليه الصلاة والسلام:"والذيِ نَفْسِي بيده إِنه لَيُخفَّفُ على المؤْمنِ حتى يكونَ أَهون عليه من صلاةٍ مكتوبة يصليها في الدنيا".
المفردات:
(فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا) الصبر الجميل: هو ما لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله.
(1) سورة التحريم، من الآية:6.
(2)
سورة هود، من الآية 102.
(كَالْمُهْلِ): كالعدن المذاب، أَو كعكر الزيت.
(الْعِهْنِ الْمَنفُوشِ): كالصوف المتناثر، أَو المصبوغ الذي طيرته الريح.
التفسير
5 -
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)} :
أَي: احبس نفسك يا محمد على تحمل أَذَى قومك ولا تضجر من استهزائهم وسخريتهم. أَو فاصبر ولا تستعجل عذابهم الذي سأَلته لهم؛ فإِنه كائن ونازل بهم لا محالة، والصبر الجميل: هو ما لا شكوى فيه لغير الله، وقال بعضهم: إِنه يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو.
6، 7 - {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}:
أَي: أَن الكفار يرون العذاب الواقع بهم، أَو يرون يوم الحساب بعيدًا عن الإِمكان ويعتقدون أَن وقوعه محال، أَو أَنه لا يقع أَصلًا وإِن كان ممكنًا في ذاته، ونحن بإِحاطتنا وعلمنا نراه قريبًا هيِّنًا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر.
9،8 - {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)}:
أَي يقع هذا العذاب على هؤلاءِ المجرمين يوم تكون فيه السماءِ - بعد تشققها وتداعيها - قد تغير لونها من الخضرة إِلى الحمرة.
والمهل: هو عكر الزيت في أَسفل إِنائه، أَو هو ما يذاب من المعادن.
والمراد يوم تكون السماء واهية وتصير الجبال متناثرة متطايرة في الجو تشبه الصوف المنفوش، وعن الحسن: تسير الجبال مع الرياح ثم تنهدّ ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء.
وقال صاحب الكشاف: المراد بالعهن المنفوش: هو الصوف المصبوغ أَلوانًا؛ لأَن الجبال جدد بيض وحمر مختلف أَلوانها وغرابيب سود، فإِذا بُسَّت وطيرت في الجو أَشبهت العهن المنفوش إِذا طيرته الريح.
هذا هو شأن الله في السموات والأَرض، أَما حال الخلائق في هذا اليوم فقد بينته الآيات التالية:
المفردات:
(وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا): الحميم: هو الصديق أَو القريب المشفق، قال الراغب: فكأنه الذي يحتد حماية لذويه.
(يُبَصَّرُونَهُمْ): يرونهم ويعرفونهم.
(وَفَصِيلَتِهِ): عشيرته الذين فصل عنهم.
(الَّتِي تُؤْويهِ): تضمه انتماء إِليها في النسب، أَو يلجأُ إِليها ويتمسك بها في النوائب.
التفسير:
10 -
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)} :
أَي: ولا يسأَل صديق أَو قريب مشفق صديقًا أَو قريبًا كان يعطف ويحنو عليه ويحتد حماية له، لا يسأله عن شأنه وحاله، عدم السؤَال إِما لاشتغال كل أَحد بنفسه فهو كقوله تعالى:(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ)(1) وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأنٌ يُغْنِيهِ)(2) أَو: ولا يسأَل حميم حميمًا شفاعة أَو إِحسانًا إِليه أَو رفقًا به
(1) سورة الحج، من الآية:2.
(2)
سورة عبس، من الآية:37.
أَو نصرًا له لعلمه أَنه لا يجد ذلك عنده، ونظرا إِلى أَنه قد يتبادر إِلى الذهن أَن عدم السؤال قد يرجع إِلى أَنه لا يرى بعضهم بعضًا فقيل:(يُبَصَّرُونَهُمْ) أَي: يرونهم ويعرفونهم ولكنهم لتشاغلهم بأَنفسهم لم يتمكنوا من تساؤلهم أَو لأَنهم لا يرون جدوى في ذلك.
11، 12، 13، 14 - {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)}:
أَي: هذا المجرم الآثم الظالم الذي تناهى إِجرامه بكفره بربه واستكباره عن عبادة مولاه يحب ويتمنى - فداءً لنفسه من العذاب - أَن يقدم أَبناءَه وزوجه وأَخاه وعشيرته الخارج منها المتفرع عنها التي تؤريه وتضمه إِليها إِذا أَلمت به ملمة أو نزلت به نازلة، ويقدم أَيضًا جميع من الأَرض، والمراد أَن ذلك الكافر والمذنب يود لو يفتدي نفسه بهذه الأَشياءِ ثم يؤدي ذلك إلى نجاته.
وجاءَت (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ يُنجِيهِ) لاستبعاد الإِنجاء، يعني يتمنى لو كان هؤُلاءِ جميعًا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك، ولكن هيهات أن تكون له نجاة.
المفردات:
(لَظَى): علم لجهنم منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص.
(لِلشَّوَى): لجلدة الرأس، وقيل: للأَطراف وسيأتي.
(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى): تطلب من أَعطى ظهره للحق وأَعرض عن الطاعة للدخول فيها.
(وَجَمَعَ فَأَوْعَى): جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤَد حقه. (1)
التفسير
16،15 - {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)}:
(كَلَّا): ردع وزجر للمجرم عن أَن يود ذلك، وتنبيه له على أَنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب (إِنَّهَا لَظَى) أَي: إِن النَّار شديدة السعير عظيمة التلظي لا تأخذها رحمة ولا شفقة ولا هوادة في أَخذ المجرمين وتعذيبهم؛ فتنزع وتقتلع أَطرافهم أَو جلدة رءُوسهم تنزعها نزعًا فَتُبَتِّكها وتقطعها ثم تعاد؛ قال تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ)(2).
18،17 - {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}:
أَي: تدعو جهنم وتطلب من أَدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان، تدعوهم بلسان حالها حيث هيأَت لكل واحد من الكافرين جانبًا وناحية منها يرجع إِليها حتى كأَن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم، أَو أَن الله - سبحانه - يخلق لها لسانًا تدعوهم به؛ فتقول قولا صريحًا: إِليّ يا كافر، إِليّ يا منافق، ثم تلتقطهم التقاط الحب، روي ذلك عن ابن عباس، أَو أَن زبانية النَّار وحراسها تدعوهم أَو أَن معنى (تَدْعُو) تهلك، وذلك من قول العرب: دعاه الله، أَي: أَهلكه، ومنه: دعاك الله من رجل بأَفعى.
(وَجَمَعَ فَأَوْعَى) أَي: جمع المال واختزنه وكنزه وأَحكم وكاءَه وأَوثق وعاءَه، ومنع حق الله فيه؛ فلم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيه، وتشاغل به عن دينه، وزها باقتنائه، وتكبر وتجبّر فكان جموعًا منوعًا.
(1) قال الراغب: الوعي حفظ الحديث ونحوه، يقال: وعيته في نفسي قال تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} والإيعاء: حفظ الأمتعة في الوعاء، قال:(وجمع فأوعى).
(2)
سورة النساء من الآية 56.
المفردات:
(هَلُوعًا): الهلع: شدة الجزع وسرعته عند مس المكروه، وسرعة المنع عند حصول الخير، من قولهم: ناقة هلوع: سريعة الجري، وهلع من باب فرح، يقال: هو هلِع وهلوع.
(عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ): أَي: مواظبون عليها مستمرون على أَدائها لا يشغلهم عنها شاغل.
(فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ): أَي: قدر معين يستوجبونه على أَنفسهم تقربًا إِلى الله وقيل: هو الزكاة.
(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ): أَي: لمن يسأل النَّاس الصدقة ولمن يتعفف عن سؤالهم فيُظن أَنه غني فيحرم.
(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): وهو يوم الجزاء، والمراد من التصديق به: الإِتيان بأَعمال الطاعات البدنية فوق الاعتقاد القلبي.
(مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ): أَي: خائفون وجلون مع ما قدموا من عمل صالح.
(فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ): المتجاوزون الحلال إِلى الحرام.
(لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ): لا يُخِلُّوْنَ بشيءٍ مما اؤتمنوا عليه ولا مما أَعطوا عليه العهد للوفاء به.
التفسير:
21،20،19 - {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)}:
هذا إِخبار من الله - تعالى - عن الإِنسان، وعما هو مجبول عليه من أَخلاق ذميمة، إِلا من عصمه الله - سبحانه - ويراد بالإِنسان الجنس، أَو الكافر، أَي: شأَنه وطبيعته أَن يكون سريع الجزع إِذا مسه شر وضر أو لحق ضيق وعنت، شديد الحرص والمنع إِذا صادفه رخاء ويسر (1).
سئل ابن عباس عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله تعالى: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)، وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلبًا عنه، فقال: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أَبين من تفسيره سبحانه، يعني قوله تعالى:(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا) الآية أَي: إِذا مسه الفقر أَو المرض ونحوهما كان مبالغا في الجزع مكثرا منه، لا صبر له على ما نزل به يتجرعه حزينًا كئيبًا تكاد تتقطع نفسه، وينخلع قلبه. قال الراغب: الجزع أَبلغ من الحزن؛ فإِن الحزن عام، والجزع حزن يصرف الإِنسان عما هو بصدده، ويقطعه منه لقوة أَثره فيه حتى صرفه عمَّا عداه.
(وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) أَي: كان مبالغًا في البخل والإِمساك، لا ينفعه في طاعة، ولا يعرف فيه حق الله، أَخرج الإِمام أَحمد بسنده عن عبد العزيز بن الحكم قال: سمعت أَبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ".
(1) لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه جعلا كأَنهما أَمر خلقي وضروري غير اختياري.
22 -
لَمَّا وصف سبحانه فيما سبق كل من أَدبر عن الحق وتولى عن الطاعة بما يستحقونه من النعوت القبيحة معللا ذلك بهلعهم وجزعهم. استثنى المتصفين بالأَوصاف الجليلة الآتية التي تنبيء عن كمال تنزههم عن الهلع: من الاستغراق في طاعة الحق، والإِشفاق على الخلق، والإِيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإِيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل مُعَدِّدًا تلك الصفات التي اتصف بها المصلون:
23 -
{الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} :
أَي: مواظبون مستمرون على أَدائها في وقتها، لا يغفلون عنها ولا يشتغلون بغيرها، وقد أَخرج ابن حبان عن أَبي سلمة قال: حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُون، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا". قالت: فكان أَحب الأَعمال إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام عليه وإِن قل، وكان إِذا صلى صلاة دام عليها، وقرأَ أَبو سلمة:(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)، قيل: دائمون، أَي: لا يلتفتون فيها، وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر.
أَخرج ابن المنذر عن أَبي الخير أَن عقبة قال لهم: من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا: الذين لا يزالون يصلون. قال: لا ولكن الذين إِذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال. وإِليه ذهب الزجاج.
وقيل: المراد بالدوام السكون والخشوع كقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(1)، والمراد بالصلاة - على ما أخرج عبد بن حميد عن إِبراهيم التَّيْمي -: الصلاة المكتوبة، وقيل: النافلة، وقيل: ما أُمروا به مطلقًا منها، على سبيل الوجوب أَو الندب وهو الظاهر.
(1) المؤمنون (أَول السورة).
25،24 - {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)}:
أي: والذين يجعلون في أَموالهم نصيبًا معينا يستوجبونه على أَنفسهم تقربا إِلى الله، وإِشفاقا على العباد، وهو ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أَو كل شهر مثلًا كما روي عن الإِمام أَبي عبد الله - رضي الله تعالى عنه - وقيل: هو الزكاة لأَنها مقدرة معلومة، ورد هذا بأَن السورة مكية، والزكاة إِنما فرضت وبُيِّنَ مقدارها في المدينة، وقيل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين، وهذا القدر المعين الذي اختاره المتصدقون، وجعلوا إِخراجه لزاما عليهم يعطي (لِلسَّائِلِ) وهو حق له. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسند أَحمد:"للسائِل حقٌّ وإِن جاءَ عَلَى فَرَس"(وَالْمَحْرُومِ) يعطي أَيضا، وهو الذي يتعفف فلا يسأل الناس شيئًا، وبذلك يخفى أَمره فلا يُفطن له، ويُحسب أَنه غني، فيحرم، ولا يتصدق عليه بما هو حق له، ويشير إِلى ذلك قوله تعالى:(يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ)(1)، واستعمال المحروم في المتعفف على سبيل الكناية.
26 -
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)} :
وهو يوم الجزاء والحساب، والمراد من التصديق به: أَن يشغلوا أَنفسهم بأَداءِ الأَعمال الصالحة طمعًا في المثوبة الأخروية بحيث يستدل بذلك على تصديقهم الأَكيد بيوم الجزاءِ وحبهم الصادق له، لأَن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين، لا امتياز فيه لأَحد منهم على غيره.
27 -
{وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)} :
أَي: خائفون على أَنفسهم أَن يمسهم عذاب ربهم مع ما لهم من الأَعمال الفاضلة استقصارًا لها واستعظاما لجنابه عز وجل كقوله تعالى - (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)(2) فهم بذلك قد بلغوا الغاية في بلوغ أَعلى مراتب الخشية، وأَسمى آيات الطاعة؛ فكان جزاؤهم أَن يكونوا من الآمنين يوم الفزع الأَكبر.
(1) البقرة، من الآية:273.
(2)
المؤمنون، آية رقم:60.
28 -
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} :
اعتراض بين الكلام المتصل في وصف المصلين مؤذن بأَنه لا ينبغي لأَحد أَن يأمن مكر الله وعذابه، وإِن كان له في الطاعة قدم ثابتة، وفي الإِخلاص جهد لا يُبَاَرى كهؤلاء، ولذا كان السلف الصالح - وهم هم - خائفين وجلين حتى قال بعضهم: يا ليتني كنت شجرة تعضد، وقال آخر: يا لَيْتَ أُمي لم تلدني.
30،29 - {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)}:
أَي: أَنهم ممسكون لفروجهم غير مرسلين لها على أَحد إِلَاّ على أَزواجهم أَو ما ملكت أَيمانهم وفيه إِيذان بأَن شهوتهم قوية دافعة تدعوهم إِلى بذل الجهد في صدها لمنعها من استيفاءِ مقتضياتها، وبذلك يتحقق لهم كمال العفة.
والمراد بقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ): الإِماءُ المملوكات.
(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ): تعليل لما يفيده الاستثناءُ القاضي بعدم حفظ فروجهم عن الزوجات والمملوكات، أَي: فإِنهم ليسوا أَهلًا للوم والتأنيب على عدم حفظ فروجهم بإِرسالها على أَزواجهم أَو ما ملكت أَيمانهم وفق نص الشارع الحكيم.
31 -
{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)} :
أَي فمن تجاوز الذي ذكر من القدر المعلوم وهو نكاح أَربع من الحرائر، وما شاءَ من الإِماء، فقد تعدى حدود ما أَحل الله له إِلى ما حرمه عليه قال الطبري: من التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته أَو ملك يمينه ففاعلو ذلك هم العادون الذين تعدوا ما أَحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، وهم الملومون، أَما الذين لم يقربوا سوى أَزواجهم التي أَحلها الله لهم، وما ملكت أَيمانهم من السراري، فهم غير ملومين كما أَشارت إِلى ذلك الآية السابقة.
32 -
(وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ):
أَي: أَنهم إِذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإِذا عاهدوا لم يغدروا، بل كانوا مثالا كاملاً في حفظ الأَمانة، ورعاية حقوقها، والوفاء بالوعد، والإِخلاص فيه، وبذلك تنزهوا عما اتصف به المنافقون في الحديث الصحيح " آية المنافق ثلاثٌ: إِذا حَدَّت كذبَ، وإِذا وعَد أَخْلفَ، وإِذا اؤْتمِنَ خان " وكأَنه لكثرة الأَمانة جمعت، ولم يجمع العهد لأَنه ليس كالأَمانة كثرة، ويدل علي كثرتها ما روي عن الكلبي: كل أَحد مؤتمن علي ما افترض عليه من العقائد، والأَقوال، والأحوال، والأَفعال، ومن الحقوق في الأَموال وحقوق الأَهل والعيال، وسائر الأَقارب، والمملوكين، والجار، وسائر المسلمين. قال السدي: إِن حقوق الشرع كلها أَمانات قد قبلها المؤتمن، وضمن أَداءَها بقبول الإِيمان، ونص غير واحد أَن الخيانة في الأَمانة، وكذا الغدر بالعهد من الكبائر، وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن أَنس قال: ما خَطَبَنا رسول الله- صلي الله تعالي عليه وسلم - إِلا قال:" لا إِيمانَ لمن لا أَمانَةَ له، ولا دين لمن لا عَهْدَ له ".
33 -
(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ):
أَي: أَنهم محافظون عليها، لا يزيدون فيها، ولا ينقصون عنها، غير منكرين لها أَو لشيءِ منها، وإِنما يقيمونها علي وجهها، بدون ميل إِلي قريب أَو شريف، أَو ترجيح لقوي علي ضعيف: إِظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إِحياءِ حقوق المسلمين، وتعظيما لله عز وجل فيما يتعلق بحقوقة - سبحانه - من أَنه واحد لا شريك له وأَن محمداً عبده ورسوله،، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد، وذكر أَنها مندرجة في الأَمانات إِلَاّ أَنها خصت بالذكر لإِبانة فضلها، وعلو قدرها، وجمعت لاختلاف الأَنواع.
34 -
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ):
أَي: يراعون شرائطها، ويكملون في فرائضها، وسننها، ومستحباتها، وذلك باستعارة الحفظ من الضياع للإِتمام والتكميل، والحفظ غير الدوام في قوله - سبحانه - فيما سبق (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) فلا تكرار.
وفي افتتاح الأَوصاف بما يتعلق بالصلاة أولًا وآخرا دلالة على الاعتناءِ بها، والتنويه بشأنها وفضلها على سائر الطاعات لأَنها معراج المؤمنين، ومناجاة رب العالمين، ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين.
35 -
{أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)} :
إِشارة إِلى أَن الموصوفين بالأَوصاف الكريمة التي تنبيء عن علو أَقدارهم عند ربهم، واستحقاقهم لإِكرامه وفضله مكرمون في جنات النعيم، وما في الإِشارة من معنى البعد في قوله تعالى:(فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أَنهم مستقرون في جنات لا يقادر قدرها، ولا يدرك شأَنها. مكرمون فيها بكل أَنواع التكريم.
المفردات:
(قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أَي: مسرعين نحوك مادي أَعناقهم إِليك. مقبلين بأَبصارهم عليك وفعله (أَهطع) بمعنى مد عنقه، وصوب رأَسه، ومهطع كمحسن: من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره، والمادة تدل على السرعة.
(عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ): أَي: جماعات في تفرقة كما قال أَبو عبيدة: كل فرقة تعتزي وتنتسب إِلى غير من تنتسب له الأخرى، وهي جمع عزة بمعنى فرقة، والفرقة من ثلاثة أَشخاص أَو أَربعة.
(كَلَّا) كلمة لردع المشركين عن الطمع في الجنة.
(بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ): أَي: مشارق الشمس والكواكب ومغاربها.
(وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ): أَي: بمغلوبين إِن شئنا تبديلهم بخير منهم.
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا): أَي: اتركهم للدخول في باطلهم الَّذِي تعودوا الدخول فيه واقترافه والحديث عنه، ولا تعبأ بلعبهم في دنياهم فإِنه لا يجدي.
(مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا): أَي: مسرعين، والأَجداث: جمع جدث وهو القبر، مثل سبب وأَسباب، وهي لغة تهامة، ولغة نجد جدف بالفاءِ.
(إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ): النصب: ما نصب فعبد من دون الله، وهو عند الكثيرين مفرد، وقيل: هو جمع نصاب ككتاب، وقال الأَخفش: جمع نصْب كَرهْن ورُهن، والأَنصاب جمع جمع، و (يُوفِضُونَ): يسرعون، من الإِيفاض، وقيل: هو مطلق الانطلاق.
(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ): أَي: تغشاهم ذلة شديدة تجعلهم في منتهى الضعف والهوان.
التفسير
37،36 - {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)}:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويقرأُ القرآن، فكان المشركون يجتمعون حوله حلقًا وفرقًا يستمعون ويستهزئون بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون: إِن دخل هؤُلاءِ الجنة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، فلندخلنها قبلهم، فنزلت الآيات.
والمعنى: أَي دافع دفع هؤُلاءِ الكافرين إِلى أَن يسيروا نحوك مسرعين مادي أَعناقهم إِليك مقبلين بأَبصارهم عليك؛ يحلقون عن يمينك وشمالك حلقًا متعددة، يكوِّنون فرقًا شتى كل فرقة تعتزي وتنتسب إِلى غير من تعتزي له الأَخرى. ينكر الله تعالى على المشركين الَّذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى، وأَيده به من المعجزات الباهرة، ثم هم مع هذا كله معرضون عنه مبالغون في تلمس ما يتخذونه هزءًا به، وسخرية منه حينما يرونه يصلي عنه الكعبة ويقرأُ القرآن قائلين: إِن دخل هؤُلاءِ الجنة - كما يقول محمد - فلندخلنها قبلهم، وقد رد عليهم سبحانه فأَبطل زعمهم حيث يقول عز وجل.
39،38 - {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}:
إِنكار لقولهم وردع لهم عن طمعهم الكاذب في دخولها بلا إِيمان، لأَنا خلقناهم من أَجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإِيمان والطاعة، أَما من لم يستكملها بذلك، فهو بمعزل عن أَن يتبوأَ متبوأَ الكاملين، فمن أَين لهم أَن يطمعوا في دخول الجنة، وهم مكبون على الكفر والفسوق، وإِنكار البعث وهو معلوم لهم باعتبار سماعهم عنه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل المعنى: إِنا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أَلا يدخل أَحد الجنة إِلَاّ بالإِيمان فلِم يطمع أَن يدخلها من لا إِيمان له؟ وفيه من الإِنكار عليهم والردع لهم ما فيه.
وقيل: الأَقرب أَنه كلام مستأنف (1) قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته على أَن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم بالرسول والقرآن، وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وأَن ينشيءَ بدلهم قومًا آخرين خيرًا منهم، فإِن قدرته سبحانه على ما يعلمون من أَنه أَنشأَهم النشأَة الأُولى حجة واضحة على قدرته على ذلك. كما تفصح عنه فاء الفصيحة في قوله سبحانه:
(1) وهو قوله: (إنَّا خَلَقْنَاهُم).
41،40 - {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}:
المعنى: إِذا كان الأَمر كما ذكرنا من أَنه سبحانه أَنشأَهم إِنشاءً من النطقة المذرة كما يعلمون ولم يكونوا شيئًا مذكورًا: فلا أُقسم (1) برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها على قدرتنا البالغة على أَن تهلكهم حسبما تقتضيه جناياتهم، ونعيدهم يوم القيامة بأَبدان أَطوع لله، وأَمثل منهم؛ وذلك لظهور الأَمر واستغنائه عن التحقيق والتأكيد بالقسم لأَن الإِعادة أَهون من البدءِ كقوله تعالى:(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(2) أَي: بالبعث.
أَو أَنَّ "لَا" رد لكلام سبق للمشركين واجهوا به الرسول وأَصحابه سخرية منهم، واستهزاءً بهم، وطمعًا استحوذ عليهم في دخول الجنة قبلهم، ثم استؤنف فقيل:(أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ) الخ: أي: أَقسم بأَن قدرتنا العظيمة على البعث حقيقة لا شك فيها، وقد شاهدوا من بالغ قدرتنا ما هو أَكبر منه وهو خلق السموات والأَرض، تسخير ما فيها من المخلوقات كما قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(3) فحقيق بهم أَن يدعوا الجحد والعناد، ويؤمنوا إِيمانًا لا مرية فيه ولا ارتياب بأَننا قادرون على أَن نبدلهم خيرًا منهم، (وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) بمغلوبين إِن أَردنا ذلك، لكن إِرادتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأَخير عقوبتهم.
42 -
{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)} :
أَي: فدعهم يا محمد غير مكترث بهم وبما يصنعون من تكذيبهم وباطلهم الذي تعودوا اقترافه ولا تبعأُ بما يأتون به في دنياهم من أَعمال لا نفع فيها، ولا خير منها، وإِنما هي لهو ولعب، واشتغل بما أُمرت به، والأمر في الآية لتهديد المشركين ووعيدهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، وفي ذلك فسيلقون عاقبة ما علموا، ويذوقون وباله، ويتجرعون أَهواله التي لا تنفع معها توبة ولا يجدي عندها ندم
(1) على أن (لا) نافية للإِقسام.
(2)
الأعراف، من الآية:29.
(3)
غافر، من الآية:57.
44،43 - {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}:
أَي: إِن يومهم الذي وقع لهم فيه الوعد بما يلاقونه من أَهوال وشدائد لخوضهم ولعبهم، هو يوم قيامهم من القبور إِذا دعاهم الرب - جل وعلا - إِلى موقف الحساب، فإِنهم ينهضون مسرعين يسبق بعضهم بعضًا كما كانوا في الدنيا يهرولون إِلى النصب الَّذي تصبوه للعباده من دون الله، وقد كانوا إذا ما أَبصروه (يُوفِضُونَ) أَي: يسرعون إِليه أَيهم يستلمه أَول وهذا مرْويٌّ عن مجاهد، ويحيى بن كثير وقتادة والضحاك والربيع بن أَنس وابن أَبي زيد وغيرهم وكان الإِسراع إِلى المعبودات الباطلة وسائر الطواغيت من عادة المشركين، وفي تشبيههم عند خروجهم من قبورهم للحساب بما ذكر تهكم بهم، وتعريض بسخافة عقولهم (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ).
أَي: خاضعة منكسرة لمهانتهم، ووصفت الأَبصار بالخشوع مع أَنه وصف الكل؛ لظهور آثاره فيها (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أَي: تغشاهم، وتعم ذواتهم ذلة شديدة وهوان في مقابل ما استكبروا عنه في الدنيا من الطاعة وتظاهروا به من المعصية، وتمادوا فيه من العناد بإِنكار البعث والمعاد.
(ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ): أَي: ذلك الذي ذكر ما سيقع فيه من الأَحوال الهائلة والشدائد المذهلة هو اليوم الذي كان يقع لهم الوعيد به في الدنيا (1) فكانوا يقابلون هذا الوعيد بالاستهزاء والسخرية والتكذيب، واليوم يرون عذابهم واقعًا، وجزاءَهُمْ محققًا، وكل ما هددوا به ماثلا، وقد عز عليهم النصير، وامتنع المعين.
(1) بقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ).