الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36))
سبب نزول السورة:
عن ابن عباس قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا أَخبث الناس كيلا فأَنزل الله عز وجل: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأَحسبوا الكيل بعد ذلك".
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3))
المفردات:
(وَيْلٌ): هلاك وبوار، أَو مقر في الجحيم.
(لِلْمُطَفِّفِينَ): المطففون: جمع مطفف، وهو الذي يبخس وينقص في الكيل والوزن، وأَصله: من الطفيف، وهو الشيءُ اليسير.
(يُخْسِرُونَ): ينقصون ويظلمون غيرهم.
التفسير
1، 3 - (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3))
أَي هلاك وبوار، أَو مقر في النار لهؤُلاءِ الذين إِذا أَخذوا حقهم من سواهم أَخذوه كاملا غير منقوص، وهم بعملهم هذا يحرصون أَن ينالوا حقهم دون حيف أَو ظلم من أَحد عليهم،
ولو أَدى ذلك إِلى أَن يحملوهم ويقسروهم على ذلك قسرًا وحملًا، ومع ذلك فهم في إِيفاء سواهم ما في ذمتهم من حق وما عليهم من تبعة يخسرون غيرهم وينقصونهم، وينالون من حقهم لديهم، لا يبرئون ذمتهم، ولا يتحللون من تبعتهم؛ إِذا قد تملكتهم الأَثرة واستولى عليهم حبهم لأَنفسهم، وهذا آية جشع نفوسهم، وتمكن الطمع منهم، وتسلط الظلم عليهم، وإِلَاّ لأنصفوا النَّاس منهم، وأَقاموا العدل فيهم، فأَعطوهم مثل ما أَخذوا منهم وهذا الوعيد بالويل والثبور وإِن جاءَ في حق البخس والنقص فيما يكال ويوزن إِلا أَن النص الكريم يتسع ويتناول غير ذلك من سائر الحقوق التي يتداولها الناس فيما بينهم.
قال القشيري: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إِظهار العيب وإِخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف؛ ويقال: من لم يرض لأَخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة، والذي يري عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أَحد لنفسه حقًّا أ. هـ.
وفي التعبير بالمطففين ما يشير إِلى أَن الذي يطمع في حق سواه إِنما يأْخذ حقيرًا وينال تافهًا قليلًا؛ فالمطفف مأْخوذ من الطفيف: وهو النزر القليل، وقال الزجاج: إِنما قيل للفاعل من هذا مطفف؛ لأَنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إِلا الشيءَ الطفيف الخفيف.
وروى ابن قاسم عن الإِمام مالك أَنه قرأَ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فقال: لا تطفف ولا تَخْلِبْ (لا تخدع) ولكن أَرسل وصب عليه صبًّا، حتى إِذا استوفى أَرسل يدك ولا تمسك. وقال ابن الماجشون: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الطفاف وقال: "إِن البركة في رأْسه" وقال: بلغني أَن كيل فرعون كان مسحًا بالجديدة.
ولعل السر في مجيء (عَلَى) بدل (مِنْ) في قوله: (إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ) للإِشعار والإِيذان بأَن عملهم هذا فيه إِضرار بالمكتال منهم وتحامل عليهم. وقال الفراءُ: (مِنْ) و (عَلَى) يتعاقبان في هذا الموضع؛ فإِذا قال: اكتلت عليك، فإِنه قال: أَخذت ما عليك، وإِذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك.
هذا، وقد تهدد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوعد من يفعلون ذلك والذين يماثلون من الفجرة بما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خمس بخمس، ما نقضَ قومٌ العهدَ إِلَاّ سلط الله عليهم عدوَّهم، وما حكموا بغيرِ ما أنزلَ الله إِلَاّ فشا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهرتِ الفاحشةُ فيهم إِلا ظهر فيهم الطاعونُ، ولا طففوا الكيلَ إِلَاّ مُنعوا النباتَ وأَخذوا بالسنين، ولا مَنعوا الزكاةَ إِلَاّ حبسَ اللهُ عنهم المطرَ" وقال مالك بن دينار: دخلت على جارٍ قد نزل به الموت فجعل يقول: جبلين من نار! جبلين من نار! فقلت: ما تقول؟ أَتَهْجُر؟ (أَتهذي) قال: يا أَبا يحيى: كان لي مكيالان أَكيل بأَحدهما وأَكتال بالآخر، قال مالك: فقمت فجعلت أَضرب أَحدهما بالآخر حتى كسرتهما، فقال: يا أَبا يحيى: كلما ضربت أَحدهما بالآخر ازداد عظما، فمات من وجعه.
(أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))
المفردات:
(أَلا يَظُنُّ): الظن: هو إِدراك الطرف الراجح، ويراد به هنا: التردد والتخمين، وقيل غير ذلك.
قال الراغب: الظن: اسم لما يحصل من أَمارة، ومتى قويت أَدت إِلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم تتجاوز حد الوهم.
التفسير
4 -
(أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4))
هذا إِنكار لفعلهم وتقبيح لصنيعهم وتعجيب عظيم لحالهم في الاجتراء على التطفيف حتى كأَنهم لا يخطرونه ببالهم، ولا يمرونه بخاطرهم، ولا يظنون ظنا أَنهم مبعوثون ومنشورون من قبورهم أَحياء فمحاسبون على مقدار الذرة والخردلة، فالظن والحدس في
هذا المقام كاف لمنعهم وردعهم عن اقتراف البخس والنقص في الكيل والوزن أَخذًا بالأَحوط، ودفعًا لما عساه أَن ينالهم من نكال وعقاب جزاءَ بخسهم ونقصهم، فما بالهم لو علموا وأَيقنوا أَنهم ملاقون ربهم فمجازيهم على ما اقترفوه من ظلم وما فعلوه من جرم وإِثم.
5 -
(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ):
وهو يوم القيامة، فعظمه كبير لا يقادر قدره، وقد وصف بذلك لعظم ما فيه من الأَهوال والشدائد الجسام.
6 -
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ):
أَي: يقومون لحكمه وقضائه ولمحض أَمره وطاعته لا لشيءٍ آخر، وروى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال:"حتى يغيبَ أَحدُهم في رشحهِ إِلى أَنصاف أُذنَيْه" وقد ورد أَنه المراد من قوله تعالى: "تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّروحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنه ليخفَّف عن المؤمنِ حتى يكونَ أَخفّ عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" وهو مروي عن ابن عباس وإِسناده صحيح.
والآية تدل على التهديد والوعيد؛ حيث أَبانت أَن الناس تقوم لرب العالمين، والقيام في هذا اليوم لا يكون إِلَاّ مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والخوف والرهبة من جلال الله وغضبه هذا مع وصف نفسه -جل شأْنه- بأَنه رب العالمين؛ فهو مالك نواصيهم، والقاهر فوقهم والمتصرف فيهم تصرفًا تامًّا ولا معقب لحكمه.
(كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)
المفردات:
(الفُجَّارِ): جمع فاجر، وهو من شق وهتك ستر الدين وتجرأَ عليه.
(سِجِّينٍ): جب في جهنم، وقيل: في حبس وضيق شديد، فِعِّيل من السجن، وقيل غير ذلك.
(مَرْقُومٌ): مكتوب كالرقم في الثوب لا يمحى، وقيل غير ذلك.
(مُعْتَدٍ): فاجر جائر عن الحق.
(أَثِيمٍ): كثير الإِثم منهمك في الشهوات.
(أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ): أَكاذيب وخرافات الأَوائل سطروها وزخرفوها في كتبهم.
التفسير:
7 -
9 - (كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ):
(كَلَاّ): ردع وزجر وانتهار لهم، أَي: ارتدعوا وانزجروا عن تطفيف الكيل والوزن، أَو عن التكذيب بالآخرة (إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ): هذا تهديد لهم وتأْكيد على أَن أَعمال الفجار وهم من هتكوا ستر الدين وتجرأُوا عليه وبارزوا الله وجاهروه بالمعاصي أَي: أَن أَعمال هؤُلاءِ مسطورة ومكتوبة في شر موضع، إِنها في جب أَسفل الجحيم، أَو في حبس وضيق شديد، وكان أَمره على هذا النحو للدلالة على خساسة وحقارة منزلتهم، لأَن كتابهم يحل وينزل بسبب الإِعراض عنه والإِبعاد له محل الزجر والهوان، وقال القيشري: سِجِّينٍ: موضع في السافلين يدفن فيه كتاب هؤُلاء فلا يظهر، بل يكون في ذلك الموضع كالمسجون، وهذا دليل على خبث أَعمالهم، وتحقير الله إِياهم، ولهذا قال في كتاب الأَبرار: يشهده المقربون (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) أَي: مكتوب كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى.
وقال قتادة: مرقوم، أَي: مكتوب رقم لهم بشر لا يزاد فيهم أَحد ولا ينقص منهم أَحدٌ.
10 -
12 - (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ):
أَي: هلاك شديد وبوار ثابت لا يزول ولا يحول لهؤُلاءِ المكذبين الجاحدين (الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) وصفهم -سبحانه- وكشف عن حقيقة تكذبيهم، وبيّن أَنهم هم الذين يكذبون بيوم القيامة: يوم الحساب والجزاءِ (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَاّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) جاءَ سبحانه في هذه الآية بما يؤكد ذمهم وتجريمهم، أَي: وما يكذب بهذا اليوم إِلا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار بآيات الله المتلوّة والمنظورة، أَو كل من تعدى حدود الله وفجر وجار عن الحق وطرحه وراءَ ظهره فلم يعمل به، وكان كثير الإِثم عظيم الذنب منهمكا في شهوات الدنيا الفانية حتى شغلته عما وراءَها من اللذات التامة الباقية في الآخرة، وحملته ودفعته إِلى جحدها وإِنكارها.
13 -
(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13)):
أَي: إِذا سمع ذلك الكافر الفاجر كلام الله - تعالى - من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -مكذبًا-: إِنَّ ما تقوله وتتلوه يا محمد هو أَكاذيب وخرافات الأَوائل سطروها وزخرفوها في كتبهم نَسَبْتَها زورًا وبهتانًا إِلى الله، فهي ليست منزلة من عنده -سبحانه-.
(كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17))
المفردات:
(رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ): غطَّى وغَشَّى قلوبهم ما اقترفوه من الذنوب فلم يهتدوا إِلى الحق.
(إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ): إِنَّهُمْ لممنوعون عن رؤْية الله في الآخرة.
(لَصَالُوا الْجَحِيمِ): لدخلوا النار، أَو لمقاسون حرها وسعيرها.
التفسير
14 -
(كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ):
أَي: ليس الأَمر كما زعموا وادعوا أَن القرآن أَساطير وأَكاذيب الأَولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإنما حجب قلوبهم عن الإِيمان به ما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم وغطاها من كثرة الذنوب والخطايا، فعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ العبدَ إِذا أذنب ذنبًا كانتْ نكتة سَوداءَ في قلبه، فإِن تابَ صقل قَلبه، فإِنْ زادَ زادت" فذلك قول الله -تعالى-: (كَلَاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وقال الحسن البصري: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت.
15 -
(كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ):
أَي: حقًّا إِنَّهُمْ مع ما يلقونه من الضيق الشديد في سجن مقيم وعذاب أَليم هم أَيضًا محجوبون وممنوعون من رؤْية ربهم وخالقهم في الآخرة، قال الزجاج: في هذه الآية دليل على أَن الله عز وجل يُرى في القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت (1) منزلة الكفار بأَنهم يحجبون، وقال -جل ثناؤُه-:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(2) فأَعلم الله - جل ثناؤُه- أَن المؤمنين ينظرون إِليه، وأَعلم أَن الكفار محجوبون عنه.
وقال مالك بن أَنس: لما حجب أَعداءَه فلم يروه تجلى لأَوليائه حتى رأَوه. وقال الشافعي
(1) خس الشيء يخس: من بابي ضرب وتعب، خساسة: حقر فهو خسيس. المصباح المنير.
(2)
سورة القيامة، الآيتان: 22، 23
لما حجب قومًا بالسخط دل على أَن قومًا يرونه بالرضا، ويرى قوم أَنهم محجوبون وممنوعون عن رضاه، قال مجاهد في قوله تعالى:(لَمَحْجُوبُونَ) أَي: عن كرامته ورحمته ممنوعون، وقال قتادة: هو أَن الله لا ينظر إِليهم برحمته ولا يزكيهم ولهم عذاب أَليم، والجمهور على الرأْي القائل بأَنهم محجوبون عن رؤيته فلا يرونه.
16 -
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ):
أَي: ثم مع هذا الحرمان من رؤية الرحمن هم كذلك أَيضًا من الملازمين لنار اشتد تأججها يحترقون فيها، وغير خارجين منها.
17 -
(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ):
ثم يقال لهم من قبل الله القهار -وذلك على سبيل التقريع والتصغير والتحقير-: هذا العذاب الذي تَذوقونه وتصلونه وتتقلب وجوهكم فيه هو ما كان الرسول يحذركم ويخوفكم وينذركم به، فكنتم تستكبرون وتستهزئون وتكذبون به، وها هو ذا قد لحقكم فلا تستطيعون له دفعًا ولا منه فكاكًا.
(كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
المفردات:
(عِلِّيُّونَ): عَلَم على ديوان الخير الذي كتب فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، وقيل غير ذلك.
(مَرْقُومٌ): رقم وكتب فيه بالنجاة من الحساب يوم القيامة.
(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ): يحضره ويحفظه المقربون من الملائكة، أَو يشهدون بما فيه يوم القيامة.
التفسير
18 -
(كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ):
لما ذكر -سبحانه- حال الفجار المطففين أَتبعه بذكر حال الأَبرار الذين لا يجورون ولا يظلمون فقال: (كَلَاّ) أَي: ليس الأَمر كما يزعمه هؤُلاءِ الفجرة من إِنكار البعث ومن أَن القرآن الكريم خرافات وأَكاذيب الأَولين، ثم قال:(إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أَي: إِن ما يفعله الأَبرار من أعمال الخير والطاعة مسطور ومكتوب في ديوان الخير الذي يكتب فيه كل ما عملته الملائكة وصالحو المؤمنين من الإِنس والجن، وسمي بذلك لأَنه سبب الارتفاع إِلى الجنات؛ إِذ يرقى الأَبرار ويرتفعون من درجة إِلى أُخرى حيث يشاءُ الله من رضوانه وقربه، وقيل: إن (عِلِّيِّينَ) جمع عِلِّيّ عَلى (فِعِّيل) من العلو للمبالغة في سموه ورفعة شأْنه، وقال آخرون: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة قد عظمها الله وأَعلى شأْنها.
وقيل: إِن لكل من الأَبرار والفجار كتابًا خاصًّا بهم تكتب فيه أَعمالهم، ثم يضم كتاب الأَبرار إِلى كتاب أَعظم وأَشمل يحويه كما يحوي ويضم كل كتاب من كتب الأَتقياء والصلحاءِ من الثقلين وكتب الملائكة.
أَما كتاب الفجار فهو وما على شاكلته من كتب الأَشقياءِ والمردة والشياطين فيوضع ويسجن في كتاب خسيس حقير في مكان ضيق مهين وهو سجِّين (1).
19 -
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ):
أَي: ما الذي أَعلمك يا محمد أَي: شيءٍ عِلِّيُّونَ؟ وذلك تفخيمًا لشأْنه وتعظيمًا لمنزلته، إِنه في الدرجة الرفيعة والمنزلة السامية.
(1) فهو من ظرفية الكل للجزء، قال الآلوسي: وقيل: الكتاب على ظاهره، والكلام نظير أَن تقول: إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني، لما يشتمل على حسابها وحساب أَمثالها.
20 -
(كِتَابٌ مَرْقُومٌ):
أَي: إِن علَّيِّين كتاب قد رقم وسطر فيه ما أُعد لهم من الثواب ومما يوجب سرورهم وبهجتهم.
21 -
(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ):
أَي: يحضره ويشهده الملائكة المقربون ويحفظونه، أَو يشهدونه عند صعوده كرامة للأَبرار المتقين، أَو يشهدون بما فيه يوم القيامة تزكية للأبرار وتكريما لهم. أَخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِن الملائكةَ يرفعون أَعمالَ العبدِ من عباد الله - تعالى - يستكثرونَهُ حتى يبلغُوا به إِلى حيثُ شاءَ اللهُ - تعالى - من سلطانه، فيوحِي الله - تعالى- إِليهم: إنكم حفظةٌ على عمل عبدِي وأَنَا رقيبٌ على ما في نفسه، إِن عبدِي هذا لم يُخِلصْ لي عملَه فاجعلوه في سجِّين، ويَصعدونَ بعمل العبدِ يستقلونَهُ ويستحقرونَهُ حتى يبلغوا بِه إِلى حيْث شاءَ الله - تعالى - من سلطانهِ فيوحِي اللهُ - تعالى - إِليهم: إِنكم حفظةٌ على عملِ عبدي وأنا رقيبٌ على ما في نفسه، إِن عبدِي هذا أَخلص لي عمله فاجعلوه في عِلِّيين".
وقال الإِمام الفخر الرازي: إِن العلو والفسخة والضياءَ والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة، فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أَسفل السافلين وفي أَضيق المواضع إِذلالَ الفجار وتحقيرَ شأْنهم، كان المقصود من وضع كتاب الأَبرار في عليين، وشهادة الملائكة بذلك إِجلالَهم وتعظيمَ شأْنهم.
(إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28))
المفردات:
(نَعِيمٍ): نعم كثيرة.
(الأَرَائِكِ): جمع أَريكة، وهي سرير منجّد في بيت أَو قُبَّة زينت بفاخر الثياب والستور سميت بذلك لأَنها قد تتخذ من خشب شجر الأَراك، أَو لكونها مكانا للإِقامة من قولهم: أَرك بالمكان أُروكًا: أَقام.
(نَضْرَةَ النَّعِيمِ): بهجة التنعم وماءه ورونقه.
(رَحِيقٍ): الرحيق: الشراب الخالص الذي لا غشَّ فيه، وقيل غير ذلك.
(خِتَامُهُ مِسْكٌ): خاتمة شربه وآخر طعمه مسك.
(فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ): التنافس، أَصله التغالب في الشيءِ النفيس، كأَن كل واحد من الشخصين يريد أَن يستأْثر به.
(وَمِزَاجُهُ): مزج الشراب خلطه، والمزاج: ما يمزج به.
(تَسْنِيمٍ): اسم العين بعينها في الجنة.
التفسير
22 -
24 - (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ):
لما عظم الله كتابهم في الآية المتقدمة، وأَنه في عليين ويشهده المقربون، عظم بهذه الآية منزلتهم فبيّن -سبحانه- أَنهم في تنعيم وتلذذ، وتحيطهم السعادة ويغمرهم الفرح من كل جانب وأَظهر ذلك - جل شأَنه - في أَنهم وهم على الأرائك والسرر التي زينت وجمّلت بفاخر القرش وعظيم الستور يرون وينظرون ما أَعده الله لهم، وهيأَه من أَلوان النعيم في الجنة من الحور والولدان، والقصور والأَنهار والأَشربة والأَطعمة والملابس والمراكب، أَو ينظرون إِلى أَعدائهم وهم يعذبون في النار، أَو إِذا اشتهوا شيئًا نظروا إِليه فيحضرهم، ويرى الإِمام الفخر الرازي: أَنهم ينظرون إِلى ربهم، قال: ويتأَكد هذا التأويل بما أَنه
-تعالى- قال بعد هذه الآية: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) والنظر المقرون بالنضرة: هو رؤْية الله -تعالى- على ما قال: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبَّهَا نَاظِرَةٌ"، ومما يؤكد هذا التأْويل أَنه يجب الابتداءُ بذكر أَعظم اللذات وما هو إِلا رؤْية الله -تعالى- أهـ.
ويستبين ويظهر فرحهم وسرورهم -أَيضًا- بما يبصره ويشاهده الرائي في وجوههم من الضحك والاستبشار والبهجة، قال تعالى:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ"(1) أَوَ أَن الله يزيد في وجوههم من النور والحسن والبياض ما لا يستطيع أَن يصفه واصف لتناهيه في ذلك.
25 -
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ):
وختم الله أَمارات وعلامات تنعمهم بأَنهم يسقون من خمر لا غش فيها ولا شيءَ يفسدها أَو يغتال عقل شاربها، أَو من شراب خالص نقيّ، وقد ختم على قواريره وأوانيه -تكريما له- بالصيانة والحفظ على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وقد خص الله به الأبرار لشرفهم وعلو منزلتهم مع أَن في الجنة أَنهارًا من خمر لذة للشاربين؛ لأَن هذا المختوم أَشرف وأَعلى قدرًا من الخمر الجاري في الأَنهار.
26 -
(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ):
أَي: أَن الذي يختم به ويسد به رأْس قَوَاريره وأَوانيه هو المسك، أَو أَن المراد من (خِتَامُهُ) هو أَن عاقبته وآخره ريح المسك، فإِذا رفع الشارب فمه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك لذاذة وذكاءَ رائحة مع طيب الطعمِ، فالختام آخر كل شيءٍ ومنه ختمت القرآن والأَعمال بخواتيمها.
(وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) أَي: وفي ذلك الأَمر العظيم والثواب الجزيل فليتسابق المتسابقون، وليرغب ويبادر الراغبون؛ لأَنه النعيم الجليل الأَبدي الدائم الذي
(1) الآيتان: 38، 39 من سورة عبس.
يصيبه الفناءُ، ولا يناله الكبر والفساد كشراب الدنيا، والتنافس يكون بفعل الطاعات واستباق الخيرات والانتهاء عن المعاصي والسيئات.
27 -
(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ):
أَي: ومزاج ذلك الرحيق من شراب ينصب وينهل عليهم من علوّ، والتسنيم: هو أَشراف وأَطيب شراب في الجنة، وقد بين حاله وشأْنه فقال -تعالى-:
28 -
(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ):
أَي: تجري من علوّ إِلى أَسفل كما يشعر به الاسم؛ إِذ التسنيم في اللغة: الارتفاع، ومنه سنام البعير لعلوه عن بدنه، وهذه العين يشرب منها ملتذًّا بها أَهل جنة عدن، وهم أَفاضل أَهل الجنة يشربون منها صرفًا خالصًا لا يخالطها شيءٌ، ويمزج ويخلط منها كأْس أَصحاب اليمين فتطيب.
المفردات:
(أَجْرَمُوا): الجرم: قطع الثمرة، ثم استعمل لكل اكتساب إِثم وذنب.
(يَتَغَامَزُونَ): أَصل الغمر: الإِشارة بالعين أَو الحاجب أَو اليد طلبًا إلى ما فيه نقيصة يشار بها إِليه.