الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول من تكليفكم بها، وهو زيادة احترامكم لرسوله، وعدم إرهاقه بكثرة المناجاة له - فإذا لم تفعلوا تقديم الصدقة، وقبل الله توبتكم بالتزامكم القصد في مناجاته، فقد رفعنا عنكم تقديمها قبل المناجاة، ونسخنا تكليفكم بها، فالتزموا المثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهما ركنان هامان من أركان الإسلام، وأطيعوا الله ورسوله في كل ما أمركم به، ومنها ما تقدم في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ) الآية والله خبير بما تعلمونه ظاهرا أو خفيًّا، فيجازكم بما يتناسب مع أعمالكم، والتعبير بلفظ (صدقات) بالجمع، مع أن المطلوب صدقة واحدة قبل المناجاة، لأن الخوف لم يكن من تقديم صدقة واحدة، بل من تكرار تقديم الصدقة في كل مناجاة، ولأن جمع الصدقة في مقابل جمع المشفقين، يقتضي القسمة آحادًا.
وفي قوله تعالى: (وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) إشعار بأنه - سبحانه - قد عذرهم ورخص لهم في ألا يقدموا صدقة.
سؤال هام وجوابه:
فإن قيل: أليس الله بأعلم بأنهم لن يتصدقوا، فما معنى تكليفهم بها ثم تغيير هذا الحكم؟ فالجواب: أنه لما حصل المراد من تكليفهم بها، وهو توفير وقت الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم إرهاقه بالمناجاة الشخصية التي لا يشترك فيها المسلمون، لم تعد هناك حاجة لبقاء التكليف بها، وحسبهم عنها الزكاة التي أوجبها الله على الموسرين منهم، فهي تأديب في ثوب بر، فحيث حصل الأدب من غير تقديمها فلا داعي لبقائها، ففي الزكاة كفاية عنها.
المفردات:
(تَوَلَّوْا قَوْمًا): أي: والوهم من المولاة والمناصحة والمراد: موالاة المنافقين لليهود.
(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ): وهو قولهم: والله إنا لمسلمون.
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً): أي: أعدوها سترا ووقاية؛ ليخلصوا عن المؤاخذة.
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ): وذلك بتثبيط مَنْ لقوهم عن الدخول في الإسلام.
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ): أي: استولى عليهم وتحكم في أمورهم.
التفسير
14 -
شروع في إنكار موالاة المنافقين لليهود، وتعجيب من حالهم وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وإلي كل من يتأتى منه النظر.
والمعنى: ألم تنظر أيها الرسول إلي حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، فإن حالهم ليدعو إلي العجب، حيث إنهم يوالون قوما غضب الله عليهم وهو اليهود (مَا هُمْ مِنْكُمْ) معشر المؤمنين (وَلا مِنْهُمْ) أي: من القوم المغضوب عليهم؛ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك كما قال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} (1) وجملة {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} مستأنفة أَو حال من فاعل تولوا.
وجوز ابن عطية أن يكون هم في (مَا هُمْ مِنْكُمْ) لليهود، وضمير (وَلا مِنْهُمْ) للمنافقين وعلى ذلك يكون المعنى: ألم تر إلي الذين تولوا قومًا غضب الله عليهم ما هم أَي: القوم المغضوب عليهم منكم ولا من المنافقين الذين تولوهم فيكون فعل المنافقين على هذا أَخس؛ لأَنهم تولوا قومًا مغضوبًا عليهم ليسوا من أَنفسهم فيلزمهم ذِمَامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابًا.
(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَي: ويحلف المنافقون على الكذب وهو قولهم: والله إِنا لمسلمون، أَو على أَنهم ما شتموا النبي صلى الله عليه وسلم على ما روي أَنه كان جالسًا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إِنه سيأتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعين شيطان فإِذا جاءَكم فلا تكلموه. فلم يلبثوا أَن طلع عليهم رجل أَزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه: علام تشتمني أَنت وأَصحابك، فقال: ذرني آتك بهم. فانطلق فدعاهم فحلفوا فنزلت، خرجه الإِمام أَحمد وغيره.
(1) سورة النساء من الآية 143.
حلف المنافقون على ذلك (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أَنهم كاذبون فيما حلفوا عليه، وفي ذلك إِشارة إلي عظيم شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يعلم أَنه كذب في غاية القبح.
15 -
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)} :
أَي: أَنه - سبحانه - أَعد للمنافقين نوعًا شديدًا من العذاب متفاقمًا، بسبب سوءِ صنيعهم الذي اقترفوه بموالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم. وقد بلغوا في الإِساءَة إِليهم أقصى ما تعودوا الإِتيان به، وتمرنوا عليه من فساد وإِفساد منذ الأَزمان الماضية المتطاولة التي كانوا فيها يعيثون في الأَرض الفساد.
16 -
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)} :
المعنى: أَن اتخاذهم لأَيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً وسترًا حتى تسلم دماؤهم وأَموالهم إذا ما افتضح وانكشف أَمرهم هو عبارة عن إِعدادهم لتلك الأَيمان، وتهيئتهم إِلي وقت الحاجة ليحلفوا بها، ويتخلصوا من المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأَخر عن المؤاخذة وبما ذكر وضح أَن المراد من قوله - تعالى -:(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أَي: أَعدوها.
أَما في قراءَة الحسن (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ) بكسر الهمزة، فالاتحاد عبارة عن التستر بالفعل كأَنه قيل: تستروا مما أَظهروه من الإِيمان عن أَن تستباح دماؤهم بالقتل وأَموالهم بالغنيمة وذرايهم بالسبي (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَي: فصد المنافقون الناس عن سبيل الله في خلال أَمنهم بتثبيط من لقوا منهم عن الدخول في الإِسلام وتهوين أَمر المسلمين عندهم، أَو قصد: ومنع المنافقون المسلمين عن سبيل الله فيهم وهو قتلهم لكفرهم ونفاقهم هذا هو سبيل الله فيهم. ثم ختمت الآية بوعيد ثان ووصف آخر لعذابهم الذي وصف أَولًا بأَنه شديد في قوله - تعالى -: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} لبيان أَن العذاب بوصفيه الشديد والمهين بلغ الغاية في الشدة والإِهانة حتى حق عليهم قوله - تعالى -: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} (1)، وقيل: الأَول لعذاب القبر والثاني للآخرة.
(1) سورة النساء، من الآية 145.
17 -
أَي: لن تدفع عنهم عذابَ الله أَموالهم مهما بلغت، ولا أَولادهم مهما كانت معونتهم، فلا تعني عنهم أَي غناء قليلًا كان أَو كثيرًا، وليس المراد خصوص الأَموال والأَولاد، بل كل ما يعتبره الإِنسان من دواعي القوة والمنعة. وإِنما خص الأَموال والأَولاد بالذكر؛ لأَن الإِنسان في الغالب تارة ما يدفع عن نفسه بالفداء، وأُخرى بالأَولاد (أُوْلَئِكَ) المنافقون الموصوفون بما ذكر (أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَي: المخلدون فيها لا يخرجون منها أَبد الآبدين. روي أَن رجلًا منهم قال: لنُنْصَرُنَّ يوم القيامة بأَنفسنا، وأَموالنا وأَولادنا فنزلت الآية.
18 -
أَي: حين يبعثهم الله حينمًا من قبورهم ويساقون للقاءِ ربهم فيحلفون له - سبحانه - حينئذ بأَنهم مسلمون حيث قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كما يحلفون لكم في الدنيا، ويظنون أنهم بتلك الأَيمان الفاجرة على شيء من جلب منفعة أَو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا إذ كانوا يدفعون عن أَموالهم الغنيمة، وعن أَرواحهم القتل، وعن ذراريهم السبي بمثل تلك الأَيمان الفاجرة ويأملون بها فوائد دنيوية (أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ) البالغون الغاية في الكذب التي لا مطمح بعدها الكاذب، حيث استوت حالهم فيه الدنيا والآخرة بتجاسرهم على علام الغيوب الذي يعلم السر وأَخفى وزعموا أَن أَيمانهم تجعل الكذب مقبولًا لديه عز وجل كما تجعله مقبولًا لدى المؤمنين الذين لا يعلمون إلَاّ ظاهر القول، أَما كُنْهُهُ وحقيقة أَمره فعلمه عند الله.
19 -
أَي: استولي عليهم وتمكن من عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فأَنساهم بذلك ذكر الله، قال الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد أَن يشغله بعمارة ظاهرة من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها،
ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبُهْتَان، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها (أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ) أَي: المصوفون بما ذكر من القبائح والتمادي في العصيان (حِزْبَ الشَّيْطَانِ) أَي: جنوده وأَتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: الموصوفون بما ذكر من القبائح والتمادي في العصيان (حِزْبَ الشَّيْطَانِ) أي: جنوده وأَتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ) أَي: البالغون في الخسران أَقصاه حيث إنهم بسوءِ صنيعهم فوتوا على أَنفسهم النعيم المقيم، واختاروا بدله الشقاءَ الدائم، والعذاب الأَليم.
وفي اشتمال الجملة على حرفي التنبيه والتأكيد وضمير الفصل وغير ذلك من فنون التوكيد ما لا يخفى.
المفردات:
(يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ): أَي: يعادونهما ويخالفون أَمرهما.
(أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ): أَي: في جملة من هم أَذل خلق الله.
(كَتَبَ اللَّهُ) أَي: أَثبته وأَوجبه.
(أَوْ عَشِيرَتَهُمْ): العشيرة هي: القبيلة ولا واحد لها من لفظها، والجمع: عشرات وعشائر أهـ. مصباح.
التفسير:
20 -
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} :
استئناف مسوق لتعليل ما قلبه من خسران حزب الشيطان، والتعبير بالموصول ذَمًّا لهم بما في حيز الصِّلة وإِشعارا بعلية الحكم.
والمعنى: أُولئك الموصوفون بما ذكر من التولي والموادة للقوم المغضوب عليهم هم في جملة من جعله الله أَذل خلقه من الأَولين والآخرين؛ لأَن ذلة أَحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر. وحيث كانت عِزَّة الله غير متناهية كانت ذلة من يحاده كذلك.
21 -
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} :
استئناف وارد لتعليل كونهم في الأَذلين.
والمعنى: قضى الله وأَثبت في اللوح المحفوظ، حيث جري (كَتَبَ اللَّهُ) مجرى القسم أُجيب عنه بما أُجيب به القسم فقيل:(لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أَي: بالحجة والعَدَد والعُدَّة، ونظيره قوله تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)} (1) ويكفي في الغلبة تحققها للرسل - عليهم - السلام - في أَزمنتهم غالبا، فقد أَهلك الله الكثير من أَعدائهم بأَنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم. وبذلك تحققت الغلبة لرسله، كما تحققت للرسول صلى الله عليه وسلم لأَن العاقبة كانت له بعد حرب استمرت بينه وبين أَعدائه، وكذا لأَتباع الرسل وبعدهم وذلك إِذا كان جهادهم أَعداءِ الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأَن يكون خالصا لوجه الله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنه، وأَغراض دنيوية. ولن تجد مجاهدا كذلك إلَاّ منصورا غالبا. وخص بعضهم
(1) سورة الصافات، الآيات 171 - 173.
الغلبة في الآية بالحجة لاطرادها وهو خلاف الظاهر كما قال الآلوسي، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل: لَمَّا فتح الله - تعالى - مكة والطائف وخيبر وما حولها للمؤمنين قالوا: نرجو أَن يظهرنا الله - تعالى - على فارس والروم، فقال عبد الله بن أُبي: أَتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إِنهم لأَكثر عددا وأَشد بطشا من أَن تظهروا عليهم فنزلت الآية (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ينصر رسله وأَولياءَه بقوته القاهرة، وعزته البالغة: فلا يغلبه على مراده كائن كيفما كان.
22 -
الخطاب في الآية للرسول أَو لكن من هو أهل للخطاب.
والمعنى: من الممتنع أَن تجد قوما مؤمنين يوادون من عادى الله ورسوله وذلك بأَن يجمعوا بين الإِيمان وموادة من عادى الله ورسوله.
وهو المراد بنفي الوُجْدان، على معنى أَنه لا ينبغي أَن يتحقق ذلك، وحقه أَن يمتنع ولا يوجد بحال وإِن قصده وجَدَّ في طلبه كُلُّ أَحد، وذلك مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أَعداءِ الله ومباعدتهم.
وقيل: المراد لا تجد قومًا كاملي الإِيمان على هذه الحال، والنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادين موالاتهم ومظاهرتهم، والظاهر أَن المراد بمن حاد الله ورسوله الكافر. وبعض الآثار تشير إِلي شموله الفاسق. روي عن الثوري أَنه قال: نزلت فيمن يصحب السلطان. وقال سهل: من صحح إِيمانه وأَخلص توحيده فإِنه لا يأنس لمبتدع ولا يجالسه، ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعًا سلبه الله حلاوة السنن، ومن تجبب إلى مبتدع لطلب عز الدنيا أَو غناها أَذلَّهُ الله بذلك العز وأَفقره بذلك الغنى، ومن ضحك إِلي مبتدع نزع الله نور الإِيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب.
وأَخرج الإِمام أَحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعًا: "أَوثق الإِيمان الحب في الله والبغض في الله"، ونعى الآلوسي على بعض المنتسبين إِلي بعض المتصوفة فقال: ومن العجب أَن بعض المنتسبين إِلي المتصوفة - وليس منهم ولا قلامة ظفر - يوالي الظلمة، بل من لا علاقة له بالدين منهم، وينصرهم بالباطل، ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس أهـ.
وقد زاد - سبحانه - النهي عن موادة من عادى الله ورسوله تاكيدًا بقوله: (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أَي: ولو كان من حادّ الله ورسوله آباء الموادين أَو أَبناءهم أَو إِخوانهم أَو من قبيلتهم التي ينتمون إِليها، ويستظلون بلوائها. وليس المراد بمن ذكر خصوصهم، وإِنما المراد الأَقارب مطلقًا.
وقدم الآباءَ لوجوب طاعتهم على الأَبناءِ ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأَبناء لقوة الارتباط في الدنيا بهم لكونهم أَكبادهم، وثلث بالإِخوان؛ لأَنهم المناصرون لهم، وختم بالعشيرة للاعتماد على أَفراد القبيلة والتناصر بهم بعد الإِخوان غالبًا (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ) إِشارة إِلي الذين لا يوادون من حاد الله وروسوله وإِن كانوا أَقرب الناس إِليهم، وأَمسهم رحمًا بهم، وما في الإِشارة في معنى البعد في قوله - تعالى - (أُوْلَئِكَ) للتنويه برفعة شأنهم، وعلو قدرهم، وأُولئك كتب الله وأثبت في قلوبهم الإِيمان، ولَمَّا كان الشيء يراد أولًا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبتدأ بالمنتهى وهو الكتابة للتأكيد والمبالغة في اتصافهم به (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أَي: قواهم بكتاب أَنزله، فيه حياة لهم وهو القرآن، أَو بروح من الإِيمان على أَنه في نفسه روح؛ لأَن به حياة القلوب، والمراد بالروح على هذا نور يقذفه الله في قلب من يشاء. تحصل به الطمأنينة، والعروج على معارض التحقيق.
وتسميته روحًا؛ لأَنه سبب الحياة الطيبة الأَبدية.
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ذلك بيان لآثار رحمته - تعالى الأُخروية إِثر بيان ألطافه الدنيوية حيث يدخلهم من جنات باسقة الأَشجار طيبة الثمار. تَتَخلَّلُ أشجارها وتنساب بين قصورها أنهار جارية متدفقة تزيدها جمالًا وبهاءً، ماكثين فيها أبد الآبدين.
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) استئناف جار مجرى التعليل لِمَا آتاهم الله من آثار رحمته التي أفاضها عليهم في الدارين الدنيوية والأُخروية أي: قبل أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بيان لابتهاجهم الذي بدت آثاره عليهم بما أُوتوه عاجلًا وآجلًا. وقد شرفهم - سبحانه بقوله: (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ) المختصون به تعالى - وذلك تشريف لهم لا يعدله تشريفٌ ما.
(أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): هذا بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين، جاءَ بجملة مؤكدة تأكيدا قويًّا كما سبق بيانه قريبا.
والآية قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه أَخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حُدّثت أَن أَبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم وصكه أَبو بكر صكة فسقط، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أَفعلت يا أَبا بكر؟ قال: نعم: قال: لا تعد. قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لضربته. وفي رواية: لقتلته. فنزلت.
وقيل: نزلت في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح. أخرج ابن أَبي حاتم والطبراني وجماعة عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أَبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أَبو عبيدة يحيد عنه فلما أَكثر قصده أَبو عبيدة فقتله فنزلت، وقيل: نزلت في مصعب بن عمير قتل أَخاه يوم أُحد، وقيل: نزلت في علي كرم الله وجهه، وحمزة وعبيدة ابن الحارث يوم بدر قتلوا عتبة وشيبه ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وعلى أَي حال فالحكم عام. وإِن نزلت في أُناس بأَعيانهم كما لا يخفى.