المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بعض مقاصد هذه السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌بعض مقاصد هذه السورة:

‌سورة التغابن

‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

‌مناسبتها لما قبلها:

أَن الله - سبحانه - ذكر في السورة التي قبلها حال المنافقين، وكذبهم في أَيمانهم واستكبارهم على الله ورسوله، وتهديدهم المؤمنين بمنع الإِنفاق عليهم وإِخراجهم من المدينة وفي سورتنا هذه قسَّم الناس إِلى مؤمن وكافر، وأَيضًا فقد جاءَ في سورة (الْمُنَافِقُونَ) قوله - تعالى -:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ) وذكر هنا قوله تعالى -: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) فجاءَت هذه الآية الأَخيرة كالتعليل للآية السابقة؛ فالمناسبة بين السورتين والارتباط بينهما واضح وبيِّن.

‌بعض مقاصد هذه السورة:

1 -

أَكدت أَنه جل شأَنه - هو صاحب الملك، وأَنه وحده المستحق للحمد.

2 -

وجاءَت مبينة آثار عظمة الله وقدرته في خلقه.

3 -

وقسمت الإِنسان إِلى مؤمن بربه وكافر به.

4 -

ولفتت نظر الكافرين إِلى مصير أَمثالهم من الأمم السابقة، وما حل بهم في الدنيا من الوبال والدمار، وأَنهم في الآخرة سيلقون جزاء عملهم في النار خالدين فيها، كل ذلك بسبب كفرهم وعنادهم.

5 -

وأَمرت بطاعة الله ورسوله وبينت أَن الرسول ليس عليه تبعة أَعمالهم (فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).

6 -

وحذرت من طاعة بعض الأَزواج والأَولاد لعداوتهم حيث يحولون بينهم وبين عمل الخير، وقد يدفعونهم إِلى الشر والباطل مع بيان أَن الصفح والعفو والغفران عنهم أَولى وأَفضل (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ص: 1439

7 -

وأَمرت السورة الكريمة بالتقوى جهد الطاقة، والبذل في سبيل الله إِذ أَنه وقاية من الشح والحرص:(وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(بسم الله الرحمن الرحيم)

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}

المفردات:

(يُسَبِّحُ): يقدس وينزه.

(وَصَوَّرَكُمْ): وخلقكم وبرأكم على صور وهيئات شتى يتميز بها كل واحد عن سواه.

(الْمَصِيرُ): المرجع والمآل.

(ذَاتِ الصُّدُورِ): ما انطوى واستتر فيها.

التفسير

1 -

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} :

أَي: ينزه الله تعالى - ويقدسه كل مخلوقاته عمَّا لا يليق به من كل نقص لا يتفق

ص: 1440

وجلاله تنزيهًا مستمرًّا يتجدد كلما نظروا في بديع صنعه وعظيم فعله، وله لا لغيره - جلت قدرته - الملك قديمًا بلا ابتداء وأَبدًا بلا انتهاء فهو - سبحانه - المبدئ لكل شيء القائم به المهيمن عليه، أَما ملك غير فهو حادث وطاريء ومنتقل لا يدوم وهو في الحقيقة عطاءُ الله وفضله وتسليط منه واستخلاف.

وهو - تعالت عظمته - وحده المستحق للحمد؛ لأَنه هو المعطي لأُصول النعم وفروعها، أَما حمد غيره - تبارك ربنا وتعالى - فلجريان إِنعامه على يديه، وهو - سبحانه - قدير مقتدر على كل شيء دق أَو عظم فليس بعض الأمور أَيسر عليه من غيره؛ فالكل في قبضته ووفق إِرادته لا يعجزه أَمر عن أَمر ولا يشغله شأن عن شأن.

والتسبيح والتقديس يكون بهيآت المخلوقات وأَشكالها البديعة التي تدل على كمال تصويره وعظيم خلقه - سبحانه - أَو بلسانهم ونطقهم: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(1).

2 -

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} :

هذا بيان لبعض آثار قدرته الشاملة الغامرة، أَي: هو الذي أَوجدكم كما شاءَ على فطرة سليمة وطريقة سوية مستقيمة يشير إِلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأَبواه يهودانه أَو ينصرانه أَو يمجسانه).

(فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أَي: فبعضكم مختار للكفر بالله وبنعمة ومقبل على الإِلحاد راض به وذلك يكون منه انتقاضا وخروجا وتمردا على الفطرة التي فطره الله عليها، وبعضكم مختار للإِيمان به - سبحانه - ينشرح به صدره ويطمئن قلبه وهذا من المؤمن استجابة لفطرة الله وخلقته وإِذعانا لمشيئته.

وفي الحق إِن كلًّا من كفر الكافر وإِيمان المؤمن بإِرادته - جل شأنه - فلا مكره له إِذ هو الخالق والموجد لكل شيءٍ، وقال تعالى: (ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ

(1) سورة الإسراء، من الآية:44.

ص: 1441

فَاعْبُدُوهُ) (1) ولكونه - جلت قدرته - عليمًا بما خلق فقد كتب على كلٍّ ما تختار، وتميل إِليه نفسه إِذ هو أَحكم الحاكمين (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (2) فلا يكره أَحدًا على أَمر ويعاقبه عليه (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أَي: وهو - سبحانه - بأَعمال خلقه عليم علمًا تامًّا محيطًا لا يعتريه قصور ولا تشوبه شائبة من نقص؛ بل يجازي كلًّا بما يناسب ما قدّم في دنياه إِن خيرًا فخير وإِن شرًا فشر، وقدم الكافر على المؤمن لكثرة الكافرين وقلة المؤمنين قال تعالى:(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(3).

3 -

{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)} :

أَي: أَوجد السموات والأَرض جميعا بما فيهن ما ظهر لنا وبدا وما بطن وخفي، خلقها بالحكمة العظيمة والغرض الصحيح المتضمن للمصالح الدينية والدنيوية.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أَي: برأَكم وأَخراجكم في أَحسن تقويم وأَجمل تركيب وشكلكم على صور شتى يتميز بها كل مخلوق عمن سواه، وأودع فيكم القوى والقدر والمشاعر الظاهرة والباطنة التي تتعلق وتناط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وزينكم بخلال وصفات جميل مصنوعاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أَنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، [وقد ذكر بعض المحققين: أَن الإِنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات، وبدنه الذي هو من عالم الماديات].

وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين فكل ما يشاهد من الصور الإِنسانية حسن، ولكنَّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب.

فلا نحطاط بعضها ونزوله عن مراتبٍ ما فوقها انحاطًا بينًا، وإِضافتها إِلى الموفي عليها

(1) سورة الأنعام: من الآية 102.

(2)

سورة فصلت: من الآية 46.

(3)

سورة الأنعام: من الآية 116.

ص: 1442

والأَفضل منها قد لا تستلمح، وإِلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه أَلا ترى أَنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أَملح منها وأَعلى في مراتب الحسن، فينبو عن الأُولي طرفك وبصرك وتستثقل النظر إِليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها.

قالت الحكماءُ: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان (1):

قال القرطبي: فإِن قيل: كيف أَحسن صورهم؟ قيل له: جعلهم أَحسن الحيوان كله وأَبهاه صورة بدليل أَن الإِنسان لا يتمنى أَن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أَنه خلق منتصبًا غير منكب.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَي: إِليه وحده لا إِلى غيره استقلالا أَو اشتراكًا يكون مرجعكم ومآلكم فاصرفوا ووجهوا ما حباكم ربكم من النعم وآثركم به إِلى ما خلقت تلك النعم له كما أَمركم بذلك ولا تتخذوها عونًا على معصية الله حتى لا تتعرضوا لعذابه في الآخرة، وحتى لا يزيل الله حسنكم ويمحو جمال صوركم.

4 -

{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)} :

أَي: يعلم - سبحانه - كل ما في السموات والأَرض من الأَمور الكلية والجزئية الجلية الواضحة والخفية المكنونة يعلمها - عزت قدرته - علمًا تامًّا محيطًا في كل أَطوارها وأَحوالها ولا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ولا في غيرهما مما استأثر الله بعلمه ولم يُطلع عليه أَحدًا من خلقه، كما يعلم - تعالى - ما يشتمل عليه كونه مما نراه من أَجرام ومجرات وغيرها وما بداخل الإِنسان نفسه وقد عجز عن إِدراك كنهه والوقوف على حقيقته، ويعلم ما يسر به الإِنسان إِلى غيره ويناجيه به (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)(2) ويعلم ويحيط

(1) الآلوسي بتصرف يسير.

(2)

سورة المجادلة: من الآية 7.

ص: 1443

بما يعلنه أَي إِنسان قبل أَن يفضي ويلعنه كما علمه بعد أَن أَبانه وأَظهره (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)

أَي: بما يتردد وتنطوي عليه الصدور وما تتحدث به النفوس وما هو مضمر ومخزون في طيات القلوب.

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}

المفردات:

(وَبَالَ): عقوبة ونكال.

التفسير

5 -

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)} :

الخطاب هنا لأَهل مكة والاستفهام في قوله تعالى: (أَلَمْ يَاتِكُمْ) للتقرير أَي: أَنه - ولا شك - قد أَتاكم خبر وشأن من كان قبلكم من الأُمم التي كذبت برسلها كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم فكانت عاقبة أَمرهم ونهاية حالهم أَنهم نالوا ضررًا ثقيلًا وخيمًا من غير مهلة ولا إِرجاء جزاء ما أَحدثوه من أَمر هائل وجناية عظيمة، وهو كفرهم الذي أَصروا عليه، وكان عقابهم في الدنيا الصيحة والرجفة والخسف والإِغراق وغير ذلك قال تعالى:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1).

(1) سورة العنكبوت: الآية 40.

ص: 1444

ولهم في الآخرة مع هذا الخزي والنكال عذاب عظيم الإِيلام لهم شديد الوقع عليهم.

6 -

{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ

} الخ.

أَي: هذا العذاب والتنكيل الذي ذاقوه ونالوه في الدنيا وما سيلقَونه وينزل بهم في الآخرة بسبب أَنه كانت تأتيهم رسلنا إِليهم بالمعجزات الباهرات والدلائل الواضحات (فَقَالُوا). مستهزئين بأَنبيائهم ساخرين منهم أَو متعجبين منكرين: (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا) أَي: أَيرشدنا ويدلنا بشر من جنسنا، أَنكروا أَن يكون الرسول بشرًا ولم ينكروا أَن يكون الإِله حجرًا (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أَي: فأَسرعوا وبادروا إِلى الكفر دون تدبر ولا رويَّة وأَعرضوا وأَوغلوا في البعد عن التأَمل والتفكر فيما جاءَهم به الرسل من الآيات البينات (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) أَي: أَظهر الله غناهم عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث لم يلجئهم إِلى ذلك ولم يضطرهم إليه مع قدرته - سبحانه - على ذلك بل أَهلكهم وقطع دابرهم واستأَصل شأفتهم (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) أَزلًا وأَبدًا غير محتاج إِلى أَحد من خلقه فضلا عن إِيمانهم وطاعتهم فهو - سبحانه - قائم بذاته وقائم بأَسباب مخلوقاته وهو القاهر فوق عباده (حميد) أَي: يحمده ويثني عليه كل مخلوق بلسان حاله أَو مقاله (ففي كل شيء له آية تدل على أَنَّهُ الواحد) أَو هو - سبحانه - حقيق بالحمد مستحق له وإِن لم يحمده - جل شأنه - حامد.

وفي تذييل الآية الكريمة، بهذه الفقرة ما يشير إِلى أَنه - تعالى - لم يطرأ عليه الاستغناء عن خلقه بل هو - جل شأنه - قديم الغنى أَبدي الاستغناء عنهم حيث كان، ولم يكن شيء معه.

ص: 1445

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}

المفردات:

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا): الزعم ادعاء العلم أَي: ادعوا ذلك كذبا.

(يَوْمُ التَّغَابُنِ): التغابن تفاعل من الغبن وهو النقص وفوت الحظ، وقال الراغب: الغبن أَن يبخسك صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإِخفاء. وسمي يوم القيامة بذلك؛ لأَن الكافر غبن نفسه وظلمها بترك الإِيمان، أَما المؤمن فقد غبن بتقصيره في الطاعات والإِتقان.

التفسير:

7 -

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)} :

ص: 1446

أَي: ادّعى هؤلاءِ الكفار دون دليل، وقالوا من غير حجة ولا برهان أَنهم لن يبعثوا من قبورهم ولن تكون لهم حياة أُخري بعد موتهم، وقد حكى القرآن الكريم قولهم فقال تعالى:(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)(1) فقولهم باطل وإِدعاؤُهم كذب وافتراء وقد جاءَ في الأَثر (زعموا مطية الكذب) وقال شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا و (بَلَى) حرف جواب إِثبات لما بعد (لَنْ) أَي: ليس الأَمر كما زعمتم وأَقسم بربي لتخرجن قبوركم أَحياءَ ولتنشرن، ثم بعد البعث والنشور ينبئكم الله ويخبركم بما كنتم تعلمون وذلك الإِخبار إِما عن طريق الملائكة من الله أَو بما ترونه مسطورًا في كتبكم التي تأخذونها بشمائلكم ومن وراءِ ظهوركم، وتقولون عند ذلك:(يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا)(2) ولتحاسبن وتجزون بأَعمالكم (وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أَي: وأَمر كذلك الذي يحدث يوم القيامةِ من البعث والجزاء هين على الله؛ لتحقيق قدرته - سبحانه - على ذلك؛ فلا يصرفه عنه صارف ولا يحول دونه حائل.

8 -

{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} :

بعد أَن تبين لكم واستقر في نفوسكم ووعته قلوبكم - وإِن كنتم تجحدونه عنادًا واستكبارا - أَن ما أَتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يخبر به صدق وحق لا مرية فيه. فأَولى بكم وأَجدر أَن تسارعوا وتبادروا بالإِيمان بالله - ربًّا وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولًا، وبالقرآن الذي أَنزلناه كتابًا هاديًا ومرشدًا وسراجًا منيرًا وفي تسمية القرآن نورًا ما يوميء ويوحي بأَن الكافر به قد عمي قلبه، وختم الله على سمعه وبصره وصار كالأَنعام بل هو أَضل، وسمي بذلك أَيضا؛ لأَنه بإِعجاز بين بنفسه مبين لغيره كما أَن النور كذلك (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أَي وهو - جلت قدرته - بالذي تعلمونه من بواطن أَموركم مهما بالغتم في إِخفائه وأَعملتم الحيل في ستره هو - سبحانه - علم به علمًا كاملا تامًّا لا تخفى عليه خافية، وقيل: خبير بمعنى مخبر أَي: يخبركم وينبئكم بما حدث منكم في الدنيا ويحاسبكم عليه وعلى هذا يكون كالتأكيد لقوله تعالى في الآية السابقة: (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ).

(1) سورة الأنعام: الآية 29.

(2)

سورة الكهف: من الآية 49.

ص: 1447

9 -

{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ

} الآية.

المراد بيوم الجمع يوم القيامة، وهو ظرف والعامل فيه قوله (لَتُنَبَّؤُنَّ) أَي: والله لتنبؤن وتخبرن بما عملتم يوم يجمع الله فيه الأَولين والآخرين؛ ليحاسب كلًّا على ما قدم من خير أَو شر (ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) أَي يوم القيامة هو يوم التغابن على الحقيقة؛ لأَنه لا يستدرك أَبدًا أَما تغابن الدنيا فهو زائل وإِن جل وعظم، وتغابن السعداء يوم القيامة على الزيادة في الإِحسان وتغابن الكفار يظهر بترك الإِيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من أَحد يموت إِلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إِن كان محسنًا ندم أَن لا يكون ازداد، وإِن كان مسيئا ندم أَن لا يكون نزع" رواه الترمذي عن أَبي هريرة (1).

وقيل التغابن ليس على الحقيقة؛ أَخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أَنهم قالوا يوم غبن فيه أَهلُ الجنة أَهلَ النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد اختير للمبالغة وهو أَمر واضح إِذ ليس هناك غبن ولا بخس ولا نقص من جانب أَهل النار لأَهل الجنة، وقال بعضهم: يوم غبن فيه بعض الناس بعضًا بنزول السعداءِ منازل الأَشقياءِ لو كانوا سعداء وبالعكس ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من عبد يدخل الجنة إِلا أُري مقعده من النار لو أَساءَ ليزداد شكرًا وما من عبد يدخل الناَر إِلا أُري مقعدة من الجنة لو أَحسن ليزداد حسرة) وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة إِذا غلب ونقص بعضهم بعضًا، وفيه تهكم بالأَشقياءِ لأَنهم لا يغلبون ولا يغبنون السعداء بنزولهم منازل الأَشقياء في النار (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا وعد من الله لمن يؤمن به - سبحانه - وتنطق جوارحهم بالعمل الصالح والكلم الطيب بأن الله يغفر ذنوبهم ويمحو زلاتهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأَنهار مخلدين

(1) أخرجه الترمذي المجلد الرابع ص 29، 30 أبواب الزهد عن أبي هريرة وقال: هذا حديث إِنما نعرفه من هذا الوجه.

ص: 1448

وباقينَ فيها أَبدًا لا ينفكون عنها ولا يزايلونها، وبأَن لهم - قوله الحق، بأَن ما سيلقونه في الآخرة من النعيم في الجنة هو الفوز والظفر العظيم والغُنْم العميم الذي لا فوز ولا مغنم وراءَه إِذ فيه النجاة من النار وهي أَعظم المهلكات.

هذا مع الظفر بالجنة وهي أَجل الرغبات ومنتهى السعادات قال تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(1).

وهذا الجزء من الآية الكريمة يفتح باب الرجاءِ أَمام الكافرين حيث يبين لهم أَن رحمة الله عظيمة رحيبة تتسع وتشمل كل من يقبل عليه سبحانه مؤْمنًا به وقد قرن إِيمانه وبرهن عليه بالعمل الطيب والفعل الحسن.

10 -

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)} :

بعد أَن بين جزاءَ المؤمنين الصالحين أَتبعه بمآل الكافرين المكذبين؛ ليكون الناس على بصيرة من أَمرهم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وحتى لا تكون لهم على الله حُجة، أَي: والذين جحدوا وأَنكروا وجود الله المتفرد بالوحدانية والذي ليس كمثله شيءٌ، وكذبوا رسوله فيما جاءَ به من عند ربه من آيات واضحات ومعجزات باهرات أُولئك الذين تلازمهم النَّار وتصاحبهم لا يجدون عنها فكاكا ولا منها مخرجًا ولا مخلصًا.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أَي: وقبح وساءَ المرجع: والمآل مصيرهم ونهاية أمرهم وأَي: مرجع أَشد سوءا من أَن تكون الجحيم هي المأوى؟

(1) سورة آل عمران: من الآية 185.

ص: 1449

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}

التفسير:

11 -

{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} :

قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إِن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقًّا لصانهم الله من مصائب الدنيا، فبين الله - تعالى - أَن ما أَصاب من مصيبة في نفس أَو مال أَو قول أَو فعل يقتضي همًّا أَو يوجب عقابًا عاجلا أَو آجلا فبعلم الله وقضائه.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) أَي: ومن يصدق ويعلم أَنه لا مصيبة إِلا بإِذن الله وإرادته يثبت قلبه على الإِيمان ويقول عند نزول المصيبة: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) وقال ابن عباس: هو أَن يجعل الله في قلبه اليقين؛ ليعلم أَن ما أَصابه لم يكن ليخطئه، وما أَخطأَه لم يكن ليصيبه، وقال الكلبي: هو إِذا ابتلي صبر، وإِذا أَنعم عليه شكر، وإِذا ظلم غفر (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أَي فهو - سبحانه - بكل شيءٍ عظم وظهر أَو خفي ودق محيط وعالم علمًا تامًّا فلا يخفى عليه تسليم من أَذعن ورضي وانقاد لأَمره - تعالى - ولا سخط ولا كراهة من غضب وتمرد على قضائه وقدره.

12 -

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} :

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي: انقادوا لما طلبه ربكم منكم فأتمروا بأَمره وانتهوا عما نهاكم عنه وأَطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم فخذوا ما آتاكم به من عند الله واتقوا ما خوفكم

ص: 1450

منه احذروا أَن تخالفوا عن أَمره أَو أَن تتركوا سبيله ونهجه (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ): أَي: فإِن أَعرضتم وأَدبرتم وتركم الإصغاءَ له والائتمار بأَمره فليس هذا بضارِّ الرسول شيئًا؛ فلا تناله تبعة إِعراضكم، ولا ينقص ذلك من منزلته وجزائه لدى ربه، إذ هو غير مكلف بهدايتكم ولا هو مسيطر عليكم ولا يملك إِسعادكم، وإِنما ضرر التولي والإِعراض عائد وراجع عليكم فليس على رسولنا الذي اصطفيناه واخترناه إلا أَن يرشدكم ويدلكم على الصراط المستقيم وذلك بأَن يبلغكم رسالتنا تبليغًا بينًا واضحًا ولا يكتم منها شيئًا وهو صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الرسالة وأَدى الأَمانة فجزاه الله عن أُمته خيرا.

13 -

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)} :

(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) أَي الله وحده هو الإله الذي لا معبود بحق سواه وكل ما خلاه باطل ومعبوداتكم كلها مخلوقة ومربوبة له - سبحانه - ولا تضر ولا تنفع (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أَي: وعلى الله وحده دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكًا، يعتمد ويلتجيءُ المؤمنون في جميع شئونهم: لأَنه - تعالى - هو وحده القادر على عونهم والقيوم بأمورهم كلها، وليس لغيره من أَربابكم وآلهتكم المزعومة ولا لسواها شيءٌ من ذلك.

قال الصاوي: وهو تحريض وحث النبي صلى الله عليه وسلم على التوكل على الله والالتجاءِ إِليه، وفيه تعليم للأُمة ذلك بأَن يلتجئوا إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده.

وفي هذه الآية إِيماء إِلى أَن من لم يتوكل على الله فليس بمؤمن.

ص: 1451

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}

المفردات:

(فَاحْذَرُوهُمْ): فكونوا منهم على حذر ولا تطيعوهم.

(تَعْفُوا): تتركوا العقوبة.

(تَصْفَحُوا): تعرضوا عن التعبير والتأنيب.

(تَغْفِرُوا): تستروا ذنوبهم وإِساءاتهم.

(فِتْنَة): ابتلاء واختبار.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ): ومن يكن في وقاية وحفظ من البخل والحرص.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): إِن تبذلوا أَموالكم ابتغاءَ وجه الله.

(شَكُورٌ): عظيم الفضل والإِحسان بإِعطاءِ الجزيل على القليل.

ص: 1452

التفسير

14 -

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)} :

أَخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قوم من أَهل مكة أَسلموا وأَرادوا أَن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأَبى أَزواجهم وأَولادهم أَن يدعُوهم فلما أَتوا رسول الله عليه الصلاة والسلام فرأَوا الناس قد فقهوا في دينهم هَمُّوا أَن يعاقبوهم فأَنزل الله الآية وفي رواية أُخرى عنه أَنه قال: "كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأَته وولده فيقول: أَما والله لئن جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لأَفعلن ولأَفعلن فجمع الله عز وجل بينهم في دار الهجرة فأَنزل الله - تعالى - الآية.

وهذا وإِن كان سبب نزول تلك الآية فالعبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها؛ فتشمل كل زوج وولد يلحق الضرر بزوجه أَو بوالده، وهذا ولا نزال نسمع ونرى من الأَزواج أَزواجًا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم، ويجلبن عليهم الشر والضرر، ومن الأَولاد أولادا يعادون آباءَهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأَذى، وكما أَن الرجل يكون له ولده وزوجة عدوًا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوًا بهذا المعنى بعينه وقيل: إِن عدواتهم من حيث أَنهم قد تحملهم مودتهم والحرص عليهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة الأَزواج والأَولاد إِلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أُمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك (فَاحْذَرُوهُمْ) أَي: كونُوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرورهم (وَإِنْ تَعْفُوا) عن ذنوبهم وتتجاوزوا عن سيئاتهم التي تقبل العفو بأَن تكون متصلة ومتعلقة بأُمور الدنيا كإضاعة المال ونحوه، أَو مرتبطة بأُمور الدين كالعقوق وسوء العشرة وترك مأمور به أَو فعل منهي عنه ولكن أَعقبتها التوبة والعفو يكون بترك العقوبة (وَتَصْفَحُوا) أَي: تعرضوا عن هذه الخطايا بترك التعيير بها والتأنيب والتثريب عليها (وَتَغْفِرُوا) أَي: تستروها بإِخفائها وتغطيتها تمهيدًا لنسيانها حتى لا يؤدي التذكير بها إلى العودة إِليها والتمادي فيها (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ

ص: 1453

رَحِيمٌ) المراد أَنه يعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم فإنه عز وجل عظيم الغفران واسع الرحمة، واستدل بعضهم بهذه الآية على أَنه لا ينبغي للرجل أَن يحقد على زوجة وولده إِذا أَلحقوا به ضررًا أَو جنوْا معه جناية وأَن لا يدعو عليهم.

15 -

{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} :

(إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): أَي: ما أَموالكم ولا أَولادكم إِلا بلاء واختبار لكم قد يحملكم ويدفعكم إِلى كسب المحرم ومنع حق الله، يوقعكم في الإِثم والشدائد والمصائب الدنيوية فلا تطيعوهم في معصية الله.

وقال ابن مسعود: لا يقولن أَحدكم اللهم اعصمني من الفتنة فإِنه ليس أَحد منكم يرجع إِلى مال وأَهل وولد إِلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل: اللهم إِني أَعوذ بك من مضلات الفتن، وقال الحسن في قوله تعالى:(إِن مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) أَدخل من للتبعيض؛ لأَن كلهم ليسوا أعداء ولم يذكر من في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)؛ لأَنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.

روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أَبيه قال: (رأَيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءَ الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أَحمران يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله" (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) نظرت إِلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أَصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ثم أَخذ في خطبته).

وقدمت الأَموال في الآية الكريمة؛ لأَنها أَعظم فتنة قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لِيَطْغَي أَن رَآهُ اسْتَغْنَى)(1). وأَخرج الإِمام أَحمد وغيره وصححه الحاكم عن كعب بن فياض قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِن لكل أُمة فتنة وإِن فتنة أَمتي المال)(وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أَي: وعند الله في الدنيا والآخرة ثواب جزيل وعطاء عظيم لمن آثر محبة الله

(1) الآيتان: 6، 7 من سورة العلق.

ص: 1454

ومرضاته على محبة الأَموال والأَولاد، وقدم طاعة الله على السعي والكد فيما يعود على أَولاده بالجاه والمال بوجه يخرج بهم عن مرضاة ربهم.

وقيل: المراد من الأَجر العظيم هو الجنة فهي نهاية الأَرب وغاية الطلب ولا أَجر أَعظم منها وفي الصحيحين عن أَبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِن الله يقول لأَهل الجنة يا أَهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أَحدًا من خلقك؟ فيقول: أَلا أَعطيكم أَفضل من ذلك قالوا: يا رب وأَي شيء أَفضل من ذلك؟ فيقول: أُحل عليكم رضواني فلا أَسخط عليكم بعده أَبدًا).

16 -

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)} :

(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَي: ابذلوا في تقواه - جل شأنه - جهدكم وطاقتكم ولا تدخروا منها شيئًا؛ فإِن ما عند الله خير وأَبقى.

أَخرج ابن أَبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت (اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ) اشتد على القوم العمل فقامُوا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأَنزل الله - تخفيفًا على المسلمين - (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت الآية الأَولى، وعن مجاهد المراد أَن يطاع - سبحانه - فلا يعصى، قال الآلوسي، والكثير على أَن هذا هو المراد في الآية.

(وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ) أَي: اسمعوا كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفكر وأَطيعوا أَوامر عز وجل واجتنبوا نواهية وابذلوا في وجوه البر التي أَمركم - سبحانه أَن تنفقوا فيها إِنفاقا خالصًا لوجهه - تعالى - دون رياء أَو سمعه، وافْعلُوا كل عمل طيب يكن ذلك خيرًا لكم وأَنفع بكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ): أَي: والذين جعلهم الله في وقاية وحفظ من بخل النفس وحرصها فأُولئك هم في فوز كبيرٍ وفلاح عظيم حتى كأَنهم وحدهم هم الذين ظفروا بذلك ونالوه.

ص: 1455

17 -

{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)} :

(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا

) أَي: إن تعطوا أَموالكم وتبذلوا ابتغاءَ وجه الله طيبة بها نفوسكم فإِنها تكون محفوظة لديه - سبحانه - ينميها لكم ويربيها، وتكون مخلوفة عليكم لا يذهب ثوابها ولا يضيع جزاؤُها فهي لدي أَغنى الأَغنياء وأَكرم الكرماءِ وهو الوهاب المعطي وبيده خزائن السموات والأَرض يجعل لكم بالواحد عشرًا إِلى سبعمائة ضعف أَو أَكثر قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (1) وهو - سبحانه - مع ذلك يتفضل عليكم - جزاءَ إِنفاقكم - بغفران ما فرط وبدر منكم من بعض الذنوب (وَالله شَكُورٌ) أَي: وهو - تعالت عظمته - وافر الفضل والعطاءِ لعباده الذين امتثلوا أَمره وذلك بأَن يعطيهم الجزيل العظيم على النزر القليل والعمل اليسير، (حَلِيمٌ): عظيم الحلم يمهل عباده فلا يعاجلهم بالعقوبة على ما اقترفوه من آثام ويمد لهم كي يتوبوا ويرجعوا إِليه وذلك رحمة بهم.

18 -

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} :

أَي: أَنه - سبحانه - يعلم ما غاب وأَخفته القلوب في أَثنائها كعلمه - جل شأنه - ما هو ظاهر وحاضر للعيان (الْعَزِيزُ) الذي لا يماثله ولا يناظره أَحد ولا يُقْهر ولا يُغلب بل هو القاهر فوق عباده (الْحَكِيمُ) الذي يُجري كل أَمر على مقتضى حكمته وتدبيره وإِرادته.

(1) سورة البقرة من الآية 261.

ص: 1456