الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة ألم نشرح
هذه السورة مكية، وعدد آياتها ثمان، وتسمى أَيضا سورة الشرح
مناسبتها لما قبلها:
هي شديدة الاتصال بما قبلها، أَي: بسورة "الضحى" حتى إِنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أَنهما كانا يقولان: إِنهما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة، وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى ذلك الشيعة -كما حكاه الطبرسي منهم- ورد ذلك الإِمام. وقال الآلوسي: والحق أَنهما متصلتان معنى مع كونهما سورتين يفصل بينهما بالبسملة، ويدل على شدة اتصالهما ما في حديث الإِسراءِ الذي أَخرجه ابن أَبي حاتم أَن الله تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: يا محمد أَلم أَجدك يتيمًا فآويت وضالا فهديت، وعائلا فأَغنيت، وشرحت لك صدرك، حططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، ولا أُذكر إِلا ذُكرت معي .. إِلى آخره، والجمع بينهما في الحديث يدل دلالة قوية على ما بينهما من تناسب.
أَهم مقاصد السورة:
ابتدأَت بالحديث عن نعم الله العديدة على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بشرح صدره بالإِيمان، وتنوير قلبه بالحكمة والعرفان، وعصمته من الذنوب والآثام، وتيسير أَعباء النبوة عليه حتى أَدى الأَمانة، وبلغ الرسالة، قال تعالى:(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ .. ) الآيات.
ثم تحدثت كذلك عن إِعلاءِ منزلته صلى الله عليه وسلم والتنويه بما يلغه من تكريم وتعظيم حيث جعله مذكورًا على لسان كل مؤمن مقرونًا باسمه جل وعلا. قال تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ).
ثم طمأَنت الرسول وهو ومن معه يقاسي الشدائد والأهوال من كفار مكة، طمأَنته إلى ما ينتظره من الفرج، والنصر القريب على الأَعداءِ، قال تعالى:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
وختمت السورة بتذكير الرسول بما يجب عليه بعد الفراغ من أَمر الدعوة، ومقتضيات الجهاد، وذلك ببذل الجهد في عبادة أُخرى بحيث لا يخلى وقتاً من أَوقاته منها متجها إِلى رَبِّه وحده بمسائله وحاجاته، قال تعالى:(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4))
المفردات:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): أي أَلم نوسعه، ونجعله رحيبًا بما أَودعناه فيه من الحكم والعلوم؟! والاستفهام للتقرير، كأَنه قيل: قد شرحنا لك صدرك.
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): الوزر؛ الحمل الثقيل، أَي: حططنا عنك حملك الثقيل الذي تلقيه عليك أَعباءُ النبوَةِ.
(أَنقَضَ ظَهْرَكَ): أَي: أَثقله وأَوهنه حتى سمع له نقيض، وهو الصوت الخفي الذي يسمع من الرحل فوق ظهر البعير من ثقل الحمل وشدته، والكلام على التمثيل.
التفسير:
1 -
4 - (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ):
المعنى: أَلم نوسع لك صدرك بإِخراجك من تلك الحيرة التي كان يضيق لها لما تلاقيه من جحود قومك وعنادهم؟ وذلك بما أودعناه فيه من الحكم والعلوم والهدى ونور الإِيمان؛
حتى يتيسر لك تلقى ما يوحى إِليك بعد ما كان يشق عليك!؟ وعن الحسن: ملئَ علما وحكمة.
وقيل المعنى: أَلم نفسح لك صدرك حتى وسع عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة، والإفادة، ووجه نسبة الشرح إِلى الصدر: لأَنه لما كان محلا لأَحوال النفس، ومخزنًا لسرائرها من العلوم والإِدراكات، والملكات، والإِرادات وغيرها -عبَّر بشرحه عن توسيع دائرة تصرفات النفس بتأييدها بالقوة القدسية، والكمالات الإِلهية.
وعن ابن عباس وجماعة أَنه إِشارة إِلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة والسلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأَخبار، وهو عند مرضعته حليمة السعدية، وقد ذكر ذلك كثير من المفسرين.
وفي حديث لأبس يعلي، وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرار هذا له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة، وروى أَنه وقع له أَيضًا وهو ابن عشرين سنة وأَشهر، كما في الدر المنثور، ووردت في شق الصدر للرسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة، فمن أَرادها فليرجع إِليها في أَمكنتها من كتب السيرة، والله وحده أَعلم بمدى صحة ما قيل.
(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): عطف على مضمون الجملة السابقة. كأَنه قيل: شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، أَي: خففنا عنك ما أَثقل ظهرك من أعباءِ النبوة، ومشاق القيام بأَمرها، والوزر: الحمل الثقيل، وقيل: المراد به الأُمور التي فعلها صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد وعُوتِبَ عليها، ووضْعها: غفرانها كقوله تعالى: "لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخَّرَ"(1) واختار أَبو حيان كون وضع الوزر كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب وتطهيره من الأدناس، عبر عن ذلك بالوضع، على سبيل المبالغة في انتفائه.
(الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) أَي: أَثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض يصدر عنه لثقل الحمل، وهو صوت خفيف كالصوت الذي ينبعث من الرحل على ظهر البعير لثقل الحِمْل، والكلام على التمثيل، مثل به حاله عليه الصلاة والسلام مما كان يثقل عليه ويؤلمه من عدم
(1) الفتح، من الآية 2.
إِحاطته بتفاصيل الأَحكام والشرائع مما لا يُدْرك إِلا بالوحي، أو من حرصه على إِسلام المعاندين من قومه، وتلهفه عليه وغير ذلك من أُمور تثقل عليه صلى الله عليه وسلم.
"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" بالنبوة وغيرها، وأَيُّ رفع أكمل وأَسمى من أَن يقرن اسمه صلى الله عليه وسلم باسمه عز وجل في كلمة الشهادة والأَذان والإِقامة، وجعل طاعته في غير موضع من القرآن. فقال سبحانه:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ"(1)"وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ"(2) وصلى عليه مع ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، وخاطبه بالأَلقاب في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثَّرُ" "يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ" "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ" "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ" وأَخذ على الأَنبياءِ وأُممهم أَن يؤمنوا به، وذكره سبحانه في كتب الأَولين، وفي حديث مرفوع أَخرجه أَبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أَبي سعيد الخدري أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي جبَرِيلُ عليه السلام فقال: إِنَّ ربَّك يقول: أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، قَالَ:"إِذَا ذُكِرْتُ ذُكْرْت مَعِي" واقتصرَ بما ذكر على ما هو أَعظم قدرًا من أَفراد رفع الذكر.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)
المفردات:
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ): يقال: عسر الأَمر عسرًا، مثل: قرب قربًا، وعسارة بالفتح فهو عسير، أَي: صعب شديد، إِشارة إِلى ما هم فيه من فقر وضيق.
(يُسْرًا) أَي: سعة وغنى.
(فَانصَبْ) أَي: فأَتْعبْ نفسك في طلب الآخرة، ونصِبَ نصبًا، من باب: تَعِبَ: أَعيا
(1) من الآية: 59 من سورة النساء.
(2)
من الآية: 62 من سورة التوبة.
التفسير
5 -
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا):
وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بتيسير كل عسير له وللمؤمنين، مسوق لتسليته والتنفيس عنه أَي: فإِن مع الشدة التي أَنت فيها من مقاساة أَذى المشركين بمكة يسرًا. كأَنه قيل: خولناك ما خولناك من جلائل النعم لتأْييدك، فكن على ثقة بفضل الله ولطفه ولا تيأَس، فإِن بعد الشدة التي صادقتك من المعاندين لدعوتك يسرًا عظيمًا وذلك بإِظهارك عليهم، وقهرك لهم.
وقيل هذا المعنى: كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إِلى وهمه أَنهم رغبوا عن الإِسلام لافتقار أَهله، فذكره سبحانه بما أَنعم به عليه من نعم عظيمة ثم قال:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ) أَي: الذي أَنتم فيه (يُسْرًا) عظيما، وأَي يسر، والمراد به: ما تيسر لهم من فتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أَو يسر الدنيا مطلقًا.
6 -
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا):
يحتمل أَن تكون تكريرًا للجملة السابقة لتقرير معناها في النفوس، وتمكينه في القلوب ويحتمل أَن تكون وعدًا مستأْنفًا له صلى الله عليه وسلم، واحتمال الاستئناف هو الراجح، كما يقول الآلوسي لما علم من فضل التأْسيس على التأْكيد لإِفادة التأْسيس لمعنى جديد والتنوين في (يُسْرًا) للتعظيم.
والمراد: أَن مع ذلك العسر يسرًا آخر، ولن يغلب عسر يسرين، ويشير إِلى ذلك ما أَخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال؟ ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بهذه الآية أَصحابه فقال عليه الصلاة والسلام:"لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ إنْ شاءَ يُسْرَيْنِ".
وهذا مما تنطق به قواعد اللغة؛ لأَن العسر أُعيد معرفة، فكان واحدًا؛ لأَن المعرفة إِذا أُعيدت معرفة، كانت الثانية عين الأُولى، واليسر أُعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأُولى، والمراد باليسرين يسر الدنيا ويسر الآخرة والإِتيان بكلمة (مع) في الجملتين للإِيذان بغاية مقاربة اليسر للعسر زيادة في التسلية.
7، 8 - (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ):
أَي: فإِذا فرغت من التبليغ، وقيل: من الغزو، فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك فيها ببذل أَقصى طاقتك في أَدائها شكرًا لما أوليناك من النعم السابقة، ووعدناك من الآلاءِ الآتية، والنصَبُ فيها ألا يخلى وقتًا من أَوقاته منها، فإِذا فرغ من عبادة أَتبعها بأُخرى، وفي ذلك من الحث له صلى الله عليه وسلم على العبادة ما فيه (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أَي: وإِلى ربِّك وحده تكون رغبتك بالسؤال في حرص وإِقبال ولا تسأَل غيره. فإِنه عز وجل القادر على إِنقاذك وتفريج كروبك، في الدنيا وتحقيق آمالك فيما عنده في الدار الباقية.
قال ابن كثير: المعنى: إِذا فرغت من أُمور الدنيا وأَشغالها، وقطعت علائقها فانصب في العبادة، وقم إِليها نشيطًا فارغ البال، وأَخلص لربك النية والرغبة.
وقبل: فإِذا فرغت من صلاتك، فاجتهد في الدعاءِ، وأَخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس قال: أَي: إِذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، وروى نحوه عن الضحاك وقتادة، وأَخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد، أَي: إِذا فرغت من أسباب نفسك. وفي رواية: من دنياك فصلِّ، وقيل غير ذلك، والله أَعلم.