الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفيل
وهي مكية، وآياتها خمس
مناسبتها لما قبلها:
ذكر سبحانه في السورة السابقة (سورة الهُمَزة) أن المال والسلطان لا يغنيان من الله شيئًا، وفي هذه السورة أَقام سبحانه وتعالى الدليل على ذلك بذكر قصة أَصحاب الفيل، وكذلك في السورة السابقة توعد الله كل كافر بقوله تعالى:(لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) وهنا في السورة أَتي عز وجل بما يدل على إنفاذ وتحقيق ما توعد به أُولئك الكفرة.
مقاصد السورة:
يخبر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقصة أَصحاب الفيل الذين قصدوا بيت الله بمكة لهدمه: (أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) ويقصص عليه ما حوته هذه القصة مِنْ عِبَر دالَّة على قدرة الله وعظمته: (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) ويذكر له كيف انتقم من هؤلاء المعتدين على حرماته: (وأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) كما يذكر له عاقبة اعتدائهم، ما آل إليه أمرهم:(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ).
بسم الله الرحمن الرحيم
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5))
المفردات:
(كَيْدَهُمْ): الكيد: إرادة وقوع ضرّ بغيرك على وجه الخفاءِ، والمراد به: عزمهم على تخريب الكعبة وسعيهم على هدم البيت.
(تَضْلِيلٍ): تضييع وإبطال، وأصل التضليل: مِنْ ضَلَّ عنه: إذا ضاع.
(أَبَابِيلَ) أَي: جماعات متفرقة، جمع إبَّالة، وحكى الفراء إبَالة -بالتخفيف- وهي حزمة الحطب الكبيرة، شبهت بها الجماعات، شبهت بها الجماعات من الطير في تَضَامِّها، وقيل: واحده إبِّيل كسكِّين، وقال أبو عبيدة: لا واحد له من لفظه.
(سِجِّيلٍ): طين مطبوخ متحجر، وقيل: حجارة من جهنم.
(كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ): أي: كَتِبْن أَكلته الدَّوابّ وَرَاثَتْه، أَو كورق زرع أَصابته آفة فأَتلفته.
التفسير
1 -
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ):
(أَلَمْ تَرَ): -استفهام تعجيب- أي: أعجبت كيف فعل ربك بأَصحاب الفيل؟! وهم أَبرهة وقومه.
أي: قد علمت يا محمد عِلْمًا لا يُخالطه شك فِعْل ربك بأَصحاب الفيل، ووقعت القصة عام مولد الرسول، قال السهيلي: ولد الرسول بعدها بخمسين يومًا، وكانت القصة في الحرم، والولادة في شهر ربيع الأَول، وقيل غير ذلك، ولعظم القصة كانوا يؤرخون بها؛ شأْن الأَحداث الكبيرة، والوقائع الخطيرة، فيقولون: ولد فلان، أَو مات قبل الفيل بعام أَو بعده بعامين مثلًا.
وخلاصة قصة الفيل كما رواها الإِمام ابن كثير والزمخشري في الكشاف: أن أَبرهة ملك اليمن من قبل النجاشي بنى كنيسة (بصنعاء) وسماها (القُلَّيس) وأَراد أَن يصرف الحجاج إليها، فخرج رجل من كِنْدَةَ فأَحدث فيها ليلًا، وقيل: أَحَّج فيها نارًا فأَحرقتها،
فحلف أبرهة ليهدمن الكعبة، فخرج ومعه فيل، وكان قويًّا عظيمًا، وقيل: كان معه أكثر من فيل، فلمَّا بلغ (المُغَمّس) وهو موضع في طريق الطائف بالقرب من مكة خرج عليه عبد المطلب وعرض عليه ثالث أموال تهامة ليرجع فأبى، وعبَّأَ جيشه وقَدَّم الفيل، وكانوا كلما وجهوه إلى الحرام برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أَو غيرها من الجهات هرول، فأَرسل الله طيرًا سودًا، وقيل خضرًا، وقيل بيضًا، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه، فكان الحجر يقع على رأْس الرجل فيخرج من دبره، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل، ومرض أَبرهة فتساقطت أَناملة وأعضاؤه، وما مات حتى انصدع صدره.
والمعنى: إنك رأَيت آثار فِعْلِ الله بأَهل الحبشة الذين قصدوا هدم البيت، وسمعت الأخبار به متواترة، ققامت لك مقام المشاهدة.
قال الآلوسي: وتعليق الرؤية بكيفية فعل الله سبحانه وتعالى لا بفعله بأَن يقال: أَلم تر ما فعل ربك
…
إلخ؛ لتهويل الحادثة والإِيذان بوقوعها على كيفية خارقة وهيئة عجبية دالة على عظم قدرة الله تعالى، وكمال علمه وحكمته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإِن ذلك -كما قال غير واحد- كان من الإِرهاصات، بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم ابن المنذر شيخ البخاري: لا يشك في ذلك أحد من العلماءِ وعليه أَكثرهم، وعن عكرمة: أَن من أَصابته الحجارة جَدَرَتْهُ، هو أَول جُدَريٍّ ظهر، أي: بأَرض العرب، فعن يعقوب ابن عتبة أنه حدَّث أَنه أَول ما رؤيت الحصبة والجدري كان بأَرض العرب في ذلك العام.
2 -
(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ):
بيان إجمالي لما فعل الله بهم، والهمزة للتقرير، كأَنه قيل: قد جعل الله كيدهم في هدم الكعبة وتخريبها في تضييع وإِبطال؛ بأَن دَمَّرهم أَشنع تدمير، وأَهلكهم على أَفظع صورة، فضيع تدبيرهم وخيب سعيهم، ولم ينالوا قصدهم، ثم فصَّل تدبيره في إِبطال كيد أُولئك القوم فقال:
3 -
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ):
أَي: وسلط الله عليهم من جنوده فِرَقًا من الطير، أتتهم جماعات مسرعة متتابعة، وأَحاطت بهم من كل جهة، وجاءَت هذه الطير -على ما روي عن جمع- من جهة البحر، وعن عكرمة: كأَن وجوهها مثل وجوه السباع، لم تُر قبل ذلك ولا بعده.
4 -
(تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ):
صفة أُخرى كقوله: (طيرًا) وعبر بالمضارع في (تَرْمِيهِمْ) لحكاية الحال، واستحضار تلك الصورة الغربية.
والمعنى: تقذفهم بحجارة من سجيل، أَي: من طين مطبوخ متحجر، وقيل: هو عربي من السِّجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو: أنها متتابعة كثيرة كالماءَ الذي يصب من الدلو، وقيل: من الإسْجال، بمعنى الإرسال، وقيل: من سجين، أي: من جهنم (آلوسي وكشاف بتصرف) وقيل: هو لبس بعربي بل هو منقول من غير العربية، واختلف في حجم تلك الطير، وكذلك في حجم تلك الحجارة، روي أن الطير في الجسم كالخطاطيف، والحجارة منها ما هو كالمحصة، أَو أَصغر أَو أَكبر.
قال الشيخ محمد عبده - رحمة الله -: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أَو الحصبة، فأَهلكته وأَهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أَهل حرمه مع وثنيتهم حفظًا لبيته؛ حتى يرسل إليه رسوله الذي يحميه بقوة دينه، وهي نقمة من الله حلت بأعدائه أَصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت.
5 -
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ):
أَي: فجعلهم كورق زرع أَصابته آفة فأَتلفته، وذهب غير واحد إلى أن المعنى: فجعلهم كَتِبْن أَكلته الدواب وراثته، والمراد: كَرَوْثٍ إلَّا أنه لم يذكره بهذا اللفظ لهجنته، فجاءَ على نظام الآداب القرآنية، فشبه تَقَطُّعَ أَوصالهم بتفرَق أَجزاءِ الرَّوْث، ففيه إظهار تشويه حالهم؛ حيث جعلهم مبتذلين ضائعين، لا حافظ لهم، ولا يلتفت إِليهم أَحد، ولا يدفنهم.