الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الانفطار
هي سورة مكية وآياتها تسع عشرة آية
صلتها بما قبلها:
هذه السورة الكريمة تتفق مع السورة التي قبلها وهي سورة التكوير في أن كلا منها تتحدث عمَّا يصيب الكون من تغيّر وتبدّل قبيل القيامة، ففي التكوير يأْتي قوله تعالى:"إذا الشمس كورت" إلى قوله -جل شأنه-: "وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت" وفي سورتنا هذه يجيء قوله -عز من قائل-: (إذا السماء انفطرت) إلى قوله تعالى: (وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت) فهدف السورتين يكاد يكون متفقًا على غرض واحد: وهو بيان ما يحدث قبيل يوم القيامة من أحوال عظام وأحداث جسام.
بعض مقاصد السورة:
1 -
تحدثت السورة في أَولها عما يحدث عند قيام الساعة من انفطار السماء وتشققها، وانتشار الكواكب وتفرقها، وانتزاعها من أماكنها، وتفجير البحار وامتزاج مياهها وتفرقها في جنبات الأرض، وإزالة ما بينهما من البرازخ والحواجز، ثم بعثرة القبور وإخراج ما فيها من الأموات وقد عادت لهم الحياة، وما يعقب ذلك من حشر وحساب وجزاءٍ (إذا السماء انفطرت) إلى قوله تعالى:(علمت نفس ما قدمت وأخرت).
2 -
ثم تذكر السورة الكريمة اغترار الإنسان وانخداعه بإمهال الله وترك عقابه على ما يبدر منه من شرك ومعاص حيث لا يقر له بنعمة، ولا يعرف له سبحانه حقه في إفراده بالوحدانية، بل يصير كنودًا جحودًا لنعم الله عليه:(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك) ثم يوضح ويبين -سبحانه- سبب هذا الجحود والكفران وأنه هو التكذيب وعدم الإقرار بيوم القيامة، أو بالإسلام فيقول:(كلا بل تكذبون بالدين).
3 -
ثم بعد ذلك قسمت النَّاس إلى طائعين أَبرار، وإلى عاصين فجار، وبينت مآل وعاقبة كل فريق منهم:(إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم).
وكانت نهاية السورة في عرض أهوال اليوم الآخر: (وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين)، ثم ختمت بأن الملك له وحده، وأن الأمر أمره، فليس لأحد في هذا اليوم حكم ولا أمر:(يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله).
(بسم الله الرحمن الرحيم)
المفردات:
(انفَطَرَتْ): تشققت وتصدعت.
(انتَثَرَتْ): تساقطت متفرقة.
(فُجِّرَتْ): من الفَجْرِ: وهو شق الشيء شقًّا واسعًا، والمراد: فتح بعضها على بعض فاختلط العذب بالملح.
التفسير:
1، 5 - {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)}:
أي: إذا السماء انشقت وتصدعت وصارت أبوابًا وذلك لنزول الملائكة، وإذا الكواكب تساقطت متفرقة منتشرة كجواهر ولآلئ قطع سلكها وبتر خيطها، وإذا البحار فتحت وشقت جوانبها وزال ما بينها من الحواجز والبرازخ واختلط ماؤها العذب بمائها الملح الأُجاج حتى صارت بحرًا واحدًا ثم تنشف الأرض جميعًا وتجف وتيبس فتصير بلا ماءٍ ويقضي على أسباب الحياة فيها، وإذا القبور قلب ترابها وصار أعلاها أَسفلها، وأُخرج مَنْ دفن فيها (علمت نفس ما قدمت وأخرت) هذا وجوب (إذا السماء انفطرت) وما عطف عليه، أي: إذا حصل هذا علمت كل نفس مكلفة علمًا تفصيليا عند نشر صحف أعمالها ما قدمته من عمل خير أو شر، وما أخَّرته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعد ذلك، أو ما قدمته من أموال لنفسها مما أنفقته في سبيل الله، وما أخرته وتركته لورثتها يستمتعون به وينتفعون وتحاسب هي عليه، أما العلم الإجمالي لذلك فإنه يحصل قبل ذلك؛ لأن المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاء في أول الأمر.
المفردات:
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ): ما خدعك وجرَّأَك على عصيان ربِّك.
(فَسَوَّاكَ): فجعل أعضاءك سويَّة سليمة مهيأَة لمنافعها.
(فَعَدَلَكَ): فساوى بين أعضائك فلم تتفاوت في طول أو قصر. أو لون أو شكل من: عدل فلانًا بفلان: إذا ساوى بينهما، وقيل غير ذلك وسيأْتي.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ): وضعك وجعلك في أي صورة اقتضتها مشيئته.
التفسير:
هذا النداء للكافر الذي جحد بربه، أو هو عام يشمل العصاة أيضًا، أي: أي شيء خدعك وسوّل لك وجرأك على عصيان الله والمخالفة عن أمره، وقد رباك بنعمه ورعاك بكرمه في جميع أطوارك ومختلف أحوالك، فجعلك خليفة في أرضه، وميزك بالعقل والتكليف وحمّلك الأمانة التي أشفقت السموات والأرض والجيال من حملها، وسخَّر لك ما في السموات وما في الأرض جميعًا منه ثم كان منك أن أعمتك النعمة وشغلتك عن المنعم حتى جحدته وكذبت رسوله، والأجدر بك أن تقابل الإحسان بالطاعة، والنعم بالشكر، فالغرور أمارة الحمق وآية الجهل، روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية:"يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ" فقال: "غره الجهل" وقاله عمر رضي الله عنه أيضًا وقرأ: "إنه كان ظلومًا جهولًا".
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ): هذه صفات مقررة للربوبية مبينة وموضحة لكرم الله على الإنسان، مشيرة إلى أن ما كذبوا به من البعث والجزاء هو حق ثابت؛ لأن من قدر على الخلق بدءًا كان أَقدر عليه إعادة، والتسوية: جعل الأعضاء سليمة سويّة معدّة لقيامها بمهامها وأدائها لمنافعها على وفق حكمته - تعالى - ومشيئته. قال ذو النون: سواك، أي: سخّر لك المكونات أجمع، وما جعلك مُسَخَّرًا لشيء منها. ثم أنطلق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، وسرك بالإيمان، وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا (فَعَدَلَكَ) أي: فعدل أعضاءك ببعضها حتى اعتدلت وتساوت من غير تفاوت، فلم يجعل إحدى اليدين أو الرجلين أطوال، ولا إحدى العينين أو الأُذنين أو المنخرين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، بل لقد تم التناسق والتناسب بينها في كمال إبداع، وعظيم إِحكام، أو صرفك عن خلقة غير ملائمة لك إلى خلقة مستوية مستقيمة لا منكسة كالبهائم، وجعلك تتناول طعامك بيدك، وأكرمك بأمور بأُمور كثيرة
ونعم عديدة: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"(1) أو صرفك عن خلقة غيرك وجعلك على صورة وخلقة حسنة مفارقة لسائر الخلائق.
هذا وإن تفاوت النَّاس في الحسن مما يدل على كمال اقتدار الله -سبحانه- وعظيم إبداعه.
(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) أي: خلقك وكوَّنكَ وجعلك في أي صورة من الصور التي اقتضتها مشيئته، وأرادتها حكمته من الصور المختلفة في الحسن، والذكورة والأُنوثة والطول والقصر، وغير ذلك من الصفات التي تتفاوت الناس فيها، أو ركبك ما شاءَ من التراكيب كيبا حسنا.
المفردات:
(كَلَاّ): ردع وزجر وإبطال لقول من يقول.
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ): وإن عليكم من الملائكة لمحصين رقباءَ لأَعمالكم لا يفوتهم منها شيءٌ.
(كِرَامًا): ذوي أَفعال ظاهرة محمودة ومحاسن كبيرة.
التفسير
9 -
(كَلَاّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ):
(كَلَّا) حرف للردع والزجر، أي: انزجروا وارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتعلق به وجعله وسيلة وذريعة إلى الكفر والعصيان مع كونه موجبًا للشكر والطاعة، ومانعًا من
(1) سورة إبراهيم، من الآية 34.
الفسوق والتمرد وذلك عند ذوي الفطر السليمة، والطبائع المستقيمة أما أن تكون عاقبة ومآل إكرام الله لكم هو النكران والجحود فذلك آية على دنس النفس، وخبث الطوية، وسوء السريرة، ولؤْم الطبع، وانحطاط الهمة، ولله در القائل:
إذا أنت أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ
…
وإن أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تَمَرَّدَا
هذا، وقد روي أن أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب -كرم الله وجهه- دعا غلامًا له مرات فلم يجبه، فنظر أمير المؤمنين فإذا الغلام بالباب، فقال له: لِمَ لَمْ تجِبني؟ فقال الغلام: لثقتي بحلمك، وأمني من عقوبتك. فاستحسن جوابه وأَعتقه. ونقول: إن أغلب الظن أن أمير المؤمنين لم يستحسن جوابه وإنما أعتقه للؤمه وخسة طبعه، ولعله -كرم الله وجهه- أعتقه رغبة عن معاشرة من يقابل الإحسان بالكفران؛ إذ الطبائع السليمة والفطر المستقيمة يأسرها المعروف، ويملكها ويأخذ بأعناقها إسداء الخير وجميل الفعل.
(بل تكذبون بالدين): الكلام يشير إلى أن هنا جملة مقدرة، كأنه قيل: وأنتم لا ترتدعون ولا تنزجرون عن الاغترار بكرم الله، بل تجترئون وتسرعون بالهجوم على ارتكاب ما هو أشد منه وأعظم جرمًا حيث تكذبون بالجزاء والبعث، وفيه من الترقي والانتقال من الأهوان -وهو الغرور- إلى ما هو أفظع وأغلظ وهو التكذيب، أي: أنهم تجاوزوا الغرور إلى ما هو أدهى منه وأَمَرُّ.
وقال الراغب: (بَلْ) هنا لتصحيح الثاني -وهو تكذيبهم بالجزاءِ والحساب- وإِبطال الأَول -وهو الاغترار بكرم الله- كأَنه قيل: ليس هنا مقتض لغرورهم، ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه.
10 -
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ):
أي: تكذبون وتجحدون بالجزاءِ يوم القيامة والشأْن والحال أَن عليكم من قبلنا لحافظين لأَعمالكم لا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إِلَاّ أَحصوها عليكم.
11 -
(كِرَامًا كَاتِبِينَ):
أَي: إِن هؤُلاءِ الملائكة الحفظة كرام لدينا ذوو محاسن كبيرة ومنزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وهم يكتبون كل ما يصدر منكم ويسطرونه في صحائف أَعمالكم.
وفي تعظيم الله لهؤُلاءِ الكرام الكاتبين بالثناءِ عليهم تعظيم وتفخيم لأَمر الجزاء وأَنه عند الله من جلائل الأَعمال؛ حيث استعمل هؤُلاءِ الكرام لديه - تعالى - في ضبط وإِحصاء ما يحاسب الناس عليه، وحقًّا:
إِن العظائمَ كُفْؤُها العظماء.
وقال الإِمام الآلوسي نقلا عن المهدوي: "ومن يكتب الأَعمال ملكان: كاتب الحسنات وهو على المشهور على العاتق (1) الأَيمن، وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأَيسر، والأَول أَمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إِلا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها، ويكتبان كل شيءٍ حتى الاعتقاد والعزم، وحتى الأَنين في المرض، وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح، ويفارقان المكلف عند الجماع، ولا يدخلان مع العبد الخلاء، أَخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله يَنهَاكُم عن التَّعرِّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إِلا عند إِحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل".
12 -
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ):
من الأَفعال قلَّ أَو كثر، دق أَو عظم، وليس ذلك إِلَاّ للجزاءِ وإِقامة الحجة على الناس، وإِلَاّ كان عبثًا يُنَزَّهُ ويُقَدس عنه -جل شأْنه-.
(1) العاتق: موضع الرداء من المنكب، والمنكب: مجمع عظم العضد والكتف.
المفردات:
(الأَبْرَارَ): جمع بار، مشتق من البر: وهو التوسع في عمل الخير.
(لَفِي نَعِيمٍ): النعيم في الأَصل: النعمة الكثيرة، والمراد هنا: الجنة لما فيها من ضروب النعم.
(الْفُجَّارَ): جمع فاجر: وهو من شق ستر الدين وجاهر بالعصيان، من الفَجْرِ: وهو شق الشيءِ شقًّا واسعًا.
(لَفِي جَحِيمٍ): الجحيم: مأْخوذ من الجحمة: وهي شدة تأَجج النَّار، والمراد به هنا: النَّار في الآخرة.
(يَصْلَوْنَهَا): يقاسون حرها، أَو يدخلونها.
التفسير:
13 -
(إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ):
الأَبرار: مشتق من البر، وهو التوسع في فعل الخير وأَداء الطاعات، وفي سنامها وقمتها طاعة الله ورسوله، ثم بر الوالدين، وقد روي أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البر؟ فتلا قوله تعالى:"لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"
إِلى قوله تعالى: "أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ"(1) فهؤُلاءِ الأَبرار الطائعون الأَخبار يشملهم الله برضوانه ويدخلهم في نعيمه وجناته، ويقيهم عذابه، ويحفظهم من سخطه وعقابه.
14 -
(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ):
أَي: وإِن الفجرة الذين شقوا وهتكوا ستر الدين، وجاهروا الله بالمعاصي ولم يستحيوا منه سبحانه إِن هؤُلاءِ لمحاطون بالنار تضمهم وتشملهم وقد اشتد تأَججها وعَظُمَ لهيبها.
15 -
(يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ):
أَي: يدخلونها ويقاسون حرها ولظاها يوم الجزاء والحساب الذي كانوا به يكذبون.
16 -
(وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ):
هذه الآية الكريمة قد جاءَت قطعًا لرجاءِ الفجار وتيئيسا لهم من أَن ينقطع عنهم العذاب، وأَن ينالوا برد الراحة، أَي: أَنهم ليسوا بمنأًى عن النار وعذابها طرفة عين، وهو كقوله تعالى:"وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا"(2) وذلك للدلالة على سرمدية العذاب ودوامه. وقيل معناه: وما كانوا غائبين عن النار قبل ذلك بالكلية، بل كانوا يجدون سَمومها ولَفْحها ولظاها في قبورهم، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"القبُر روضةٌ من رياض الجنة أَو حُفْرةٌ من حُفَر النار".
وفي تنكير النعيم والجحيم ما يشير إِلى التفخيم والتعظيم في شأْن نعيم الأَبرار، وإِلى التهويل والتبشيع في حق عذاب الفجار. قيل: أَخبر الله في هذه السورة أَن لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وهي حالته في الدنيا، وحال الآخرة التي يجازي فيها، وحال البرزخ وهو قوله تعالى:"وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ".
(1) من الآية: 177 من سورة البقرة.
(2)
من الآية: 37 من سورة المائدة.
17 -
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ):
هذا تفخيم وتعجيب وتعظيم لشأْن يوم الجزاءِ وتهويل له، أَي: ما أَعلمك ما هو يوم الدين؟ وأَي شيءٍ هو في شدته وهوله؟
18 -
(ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ):
ذلك تفخيم لهذا اليوم إِثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب أَي: إِن أَمره لعجيب، وشأْنه لعظيم بحيث لا يستطيع أَحد أَن يدرك حقيقته أَو يقف على كنهه لهوله وعظمته، فهو فوق الوصف والبيان.
قال ابن عباس فيما روي عنه: كل شيءٍ من القرآن من قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ) فقد أَدراه للرسول، وكل شيءٍ من قوله:(وَمَا أَدْرَاكَ) فقد طوي عنه.
19 -
(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ):
أَي: في ذلك اليوم وهو ما من الشدة والهول لا يملك ولا يستطيع أَحد أَن يجلب لغيره نفعًا أَو يدفع عنه ضرًّا، بخلاف ما كان عليه الحال في الدنيا؛ فإِن أَهلها كانوا يتغلبون على الملك، ويعين بعضهم بعضًا، ويحمي بعضهم بعضًا، فإذا كانت القيامة بطل ملك بني الدنيا وزالت رياستهم، فلا يحمي أَحدٌ أَحدًا، ولا يغني عنه شيئًا ولا يتغلب أَحد على ملك غيره، وهنا وعيد عظيم وتخويف شديد حيث عرفهم أَنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ دون سائر ما كان يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأَعوان وشفعاء، فالأَمر كله في هذا اليوم لله وحده، فقد انقطعت الأسباب وذهبت الوسائل، وزالت الأَغيار، والله وحده هو صاحب الملك والسلطان، وذلك كقوله:(لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(1) وقال قتادة: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) قال: والأَمر -والله- اليوم لله -يريد في الآخرة- وقال الواحدي: والمعنى أَن الله - تعالى - لم يملِّكْ في ذلك اليوم أَحدًا شيئًا من الأُمور كما ملكهم في دار الدنيا.
(1) سورة غافر من الآية 16
هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بَنِي عبدِ المطلبِ اشتروا أَنفسَكم مِن اللهِ، يا صفيةَ عمةِ رسول الله، يا فاطمةَ بنت رسول الله اشترِيا أَنفسَكما من اللهِ لا أُغني عنكما من اللهِ شيئًا، سَلَانِي من مالي ما شئتما" وصدق الله ورسوله.