المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما جاء في سبب النزول: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌ما جاء في سبب النزول:

وجزاء الخير على ما يقدمونه من بر وطاعة: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} .

(بسم الله الرحمن الرحيم)

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}

المفردات:

(الْمُزَّمِّلُ): المتزمل الذي تزمل بثيابه، أَي: تلفف بها، وقيل: غير ذلك.

(اللَّيْلَ): هو من غروب الشمس إِلى طلوع الفجر.

(وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا): (الترتيل): التنضيد والتنسيق وحسن النظام، ومنه ثغر رتل إِذا كان حسن التنضيد.

التفسير:

4،3،2،1 - {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)}:

‌ما جاء في سبب النزول:

ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي: "بينما أَنا أَمشي إِذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإِذا الملَك

ص: 1631

الذي جاءَني بحراءَ جالس على كرسيّ بين السماءِ والأَرض، فرغبت منه، فرجعت فقلت: زملوني، فأَنزل الله:(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنِذرْ) إلي قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فحمى الوحي وتتابع، وقال المفسرون: وعلى أَثرها نزلت (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).

أَي: يا أَيها المتلفف بثيابك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا بالليل متزملا في قطيفة فناداه ربّه بذلك تأنيسًا له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته وحالته التي هو عليها، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ - كرم الله وجهه - حين غاضب زوجه فاطمة الزهراءَ رضي الله عنها فأَتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب:"قم أَبا تراب" وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة: "قم يا نومان" وكان نائمًا، ونداء الله له بذلك قصدا لرفع الحجاب وطيًّا لبساط العتاب وزيادة في الإِدلال والترأَف تنشيطًا له صلى الله عليه وسلم ليتلقى ما يكلف به من عمل يشق عليه بهمة عالية وعزيمة صادقة لا تعرف كلالا أَو تعبا.

وقيل: يا أَيها المزمل بالنبوة والملتزم بالرسالة. وقيل: المزمل بالقرآن.

(قُمْ اللَّيْلَ) أَمره - سبحانه - بالقيام والتشمر في الليل لإِحيائه بالصلاة والعبادة وتلاوة القرآن، وترك الهجوع إِلى السجود والركوع، وهجر المنام إِلى ما فيه نيل البغية وبلوغ المرام، إِنه عز وجل يعدُّه ويهيئه بقيام الليل وفيه ما فيه من المجاهدة والمصابرة ليؤهله إِلى أَداء الرسالة لقوم قوى مراسهم واشتد عنادهم.

(إِلا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا *أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أَي: قم نصف الليل (1) أَو أَقل من النصف أَو أزيد منه واختلف في المراد من ذلك: فذهب أَكثر المفسرين إِلى أَنه صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين قيام نصف الليل أَو ثلثه أَو ثلثيه، وقال آخرون: هو مخيّر بين قيام نصف الليل أَو ربعه أَو ثلاثة أَرباعه (2) والرأي الأَول أَجدر وأَولى لوضوحه وبيانه ولاتفّاقه مع ما جاءَ في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).

(1) هذا على أن كلمة (نصفه) بدل بعض من كل من الليل.

(2)

أي: قم نصف الليل أو انقص من هذا النصف قليلا يعني انقص نصفه فيكون الربع، أَو زد على النصف قليلا، يعني نصفه، فيكون المجموع ثلاثة أرباعه.

ص: 1632

وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ) تنبيه لكل متزمل راقد ليله أَن يقوم الليل ويذكر الله فيه؛ لأَن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة.

هذا. وهل كان قيام الليل فرضًا على رسولنا صلى الله عليه وسلم وحده؟ أَو كان فرضًا عليه وعلى الأَنبياءِ قبله؟ أَو كان فرضًا عليه وعلى أُمته؟ أَقوال أَرجحها أَنه كان فرضًا عليه وعلى أُمته، وهو قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهما فقد ورد في صحيح مسلم عن زرارة بن أَوفى: أَن سعد بن هشام بن عامر أَراد أَن يغزو في سبيل الله

وفي هذا الحديث فقلت (أَي: سعد بن هشام) لعائشة: أَنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أَلست تقرأُ (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قلت: بلى، فقالت: فإِن الله عز وجل افترض قيام الليل في أَول هذه السورة، فقام صلى الله عليه وسلم وأَصحابه حولا، وأَمسك خاتمتها اثنى عشر شهرًا في السماءِ حتى أَنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) فصار قيام الليل تطوعًا بعد الفريضة.

نقول: والظاهر أَن النسخ والتخفيف كان في حق الأُمة وبقيت فريضة قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) وهذا رأَي كثير من المفسرين والفقهاءِ.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) أَي: اقرأ القرآن على تمهل وتؤدة وذلك بإِشباع الحركات وتبيين الحروف بحيث يُمَكنُ السامع من عدها، وذلك من قولهم: ثغر رتل إِذا كان مفلجًا لم تتصل أَسنانه بعضها ببعض، وعن عليٍّ - كرم الله وجهه - أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال:"بيِّنْهُ تبيينا ولا تنثره نثر الدقل (1) ولا تهذّه هذَّ الشِّعر، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".

(1) الدقل: أردأ التمر.

ص: 1633

هذا، ومراتب التلاوة الصحيحة للقرآن الكريم أَربع:

1 -

الترتيل: وهو القراءَة بطمأنينة وإِخراج كل حرف من مخرجه مع إِعطائه حقه من جميع الصفات والمخارج، ومع التدبر في معاني القرآن الكريم والتأَمل لما فيه من حكم ومواعظ.

2 -

التحقيق: وهو مثل الترتيل إِلا أَنه أَكثر اطمئنانًا منه، وهو المأخوذ به في مقام التعليم.

3 -

الحذر: وهو الإِسراع في القراءَة مع مراعاة أَحكام التجويد وضبطها.

4 -

التدوير: وهو مرتبة تتوسط الترتيل والحدْر مع مراعاة الأَحكام كذلك.

وقال علماءُ القراءات والتجويد: إِن أَفضل هذه المراتب هو الترتيل؛ للأَمر به في قوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا).

ولقراءَة النبي صلى الله عليه وسلم به، فعن عائشة رضي الله عنها أَنها قالت:"كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أَطول من أَطول منها" وعنها - وقد سئلت عن قراءَة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "لا كسردكم هذا، لو أَراد السامع أَن يعدّ حروفه لعدّها" وعن أُم سلمة رضي الله عنها أَنها قالت: "كان يقطع القرآن آية آية" أَي: يقف على آخر كل آية ليعلم أَصحابه رضي الله عنهم أَن الآية قد تمت.

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)}

المفردات:

(قَوْلًا ثَقِيلًا): يثقل حمله، والمراد به قيام الليل، أَو القرآن.

(نَاشِئَةَ اللَّيْلِ): العبادة في الليل، وقيل غير ذلك.

ص: 1634

(أَشَدُّ وَطْئًا): أَثقل وأَغلظ وأَشد على المصلي من صلاة النهار.

(وَأَقْوَمُ قِيلًا): وأَثبت قراءَة وأَبين مقالا.

(سَبْحًا): تصرفًا وتقلبًا في شواغلك.

التفسير

5 -

{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} :

أَي: إِنا سنوحي إِليك باقتراض قيام الليل قولا ثقيلا يثقل حمله، لأَن مِنْ شأن الذي يقوم به أَن يجهد بذلك وينوء بحمله، لأَن الليل وقت الإِخلاد إلي الراحة والنوم، فمن أَمر بقيامة لم يتهيأ له ذلك إِلا برياضية شديدة لنفسه وتذليل وقهر لها، ومجاهدة للشيطان، وقيل: إِنا سنوحي إِليك القرآن العظيم وهو ثقيل بثقل العمل بشرائعه وأَحكامه ووعده ووعيدة وحلاله وحرامه، أَو أَنه ثقيل، أَي: مبارك في الدنيا على صاحبه ويثقل ميزانه يوم القيامة، وقيل: ثقيل تلقيه؛ فقد روي عن عائشة رضي الله عنها "أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا أَوحي إِليه وهو على ناقته وضعت جِرانها (1) فما تستطيع أَن تتحرك حتى يُسرَّى عنه" أَي: الوحي، وتلت قوله تعالى:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). كما روى الشيخان ومالك وغيرهم أَنها قالت: "لقد رأَيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإِن جبينه ليتفصد عَرَقًا" هذا، وإِن النص القرآني الكريم ليتسع لذلك كله ولغيره.

6 -

{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)} :

أي: إِن قيام ساعات الليل وإِحياءَها بالعبادة من ذكر صلاة وتفكر وتدبر، أَو: إِن العبادة التي تحدث وتنشأُ في الليل هي أَشد وأَثقل على القائم ليلة من عبادة النهار؛ لأَن القائم في الليل يجاهد نفسه ويهجر مهده، ويتجافى عن المضجع جنبه، وهي كذلك أَصواب قولا وأَحسن لفظًا؛ لأَن الليل فيه تهدأ الأَصوات، وتنقطع الحركات، ويخلص القول ويفرغ

(1) الجران: مقدم عنق البعير من مذبحه إِلى منحره، فإذا برك ومد عنقه على الأرض قيل: ألقى جرانه بالأرض.

ص: 1635

القلب، ولا يكون هناك مانع أو حائل دون تفهم القرآن وتدبره، وفي هذه الآية الكريمة بيان لفضل صلاة الليل، وأَن الاستكثار منها وزيادة القراءة فيها يعظم الثواب ويجزل الأَجر. وقيل: المراد بالناشئة هي النفس التي تنشأَ من مضجعها إِلى العبادة، أَي: تنهض، وذلك دون ناشئة النهار.

واختلف العلماءُ في وقت (ناشئة الليل) فقال ابن عمر وأَنس بن مالك رضي الله عنهما: هي ما بين المغرب والعشاءِ تمسكًا بأَن لفظ (نشأَ) يعطي الابتداء، وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يصلي بين المغرب والعشاءِ ويقول: هذه ناشئة الليل، وقيل: هي الليل كله، وقيل: هي القيام بالليل بعد النوم، وهذا مروي عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما وهذا يتفق مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال:"إِن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأَول، ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطي؟ " فهذا الحديث بيّن الأَوقات التي هي جديرة بالإِحياءِ والإِقامة، وأَيضًا فإِنه يتناسب مع قوله تعالى:(هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) لأَن الصلاة بعد نوم فيها الكثير من أَخذ النفس بالشدة والحزم ورياضتها على الأَعمال الشاقة التي تكسب صاحبها ثوابًا عظيمًا وأَجرا جزيلا، فقد ورد في الأَثر:"أَفضل العبادات أَحمزها "أَي أَشقها.

7 -

{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)} :

أَي: إِن لك في النَّهار سغة من الوقت تتصرف فيها من مهامك وشواغلك ونومك وراحة بدنك، فاجعل ليلك خالصًا لعبادة ربك، وعليك بمناجاته التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل، أَو: إِن لك تصرفًا في أُمور معاشك وتقلبًا في حوائجك وما يعرض لك من أَمر دنياك، فلا تستطيع أَن تتفرغ للعبادة الخالصة في النهار فعليك بها في الليل، وقيل: إِن فاتك في الليل شيءٌ من العبادات فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه، ويؤيد هذا المعنى ما روي عن عائشة رضي الله عنها أَنها قالت: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا صلى صلاة أحب أَن يداوم عليها، وكان إِذا شغله عن قيام الليل نوم أَو وجع أَو مرض صلى من

ص: 1636

النهار ثنتى عشرة ركعة" هذا من حديث طويل رواه الإِمام أَحمد، وقد أَخرجه مسلم في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.

وهذه الآية الكريمة تبين الداعي والدافع الخارجي إِلى قيام الليل وهو اتساع النهار لأَمر الدنيا فضلا على ما في قيام الليل من الدافع الذاتي وهو ما يناله القائم ليلا من رضا الله وثوابه.

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)}

المفردات:

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا): وانقطع إِلى ربك بعبادته، وجرد نفسك عما سواه.

(وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا): جانبهم ودارهم ولا تكافئهم على إِيذائهم لك.

التفسير

8 -

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} :

أَي: ودم واثبت على ذكر ربك ليلا ونهارا، أَي: ادعه بأَسمائه الحسنى ليكون لك مع صلاة الليل العاقبة المحمودة والدرجة العالية الرفيعة، وقيل: اذكره على أَي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءَة قرآن وغير ذلك من أَلوان الطاعات وصنوف العبادات، وفسر الأَمر في قوله:(وَاذْكُرْ) بالدوام والاستمرار؛ لأَنه عليه الصلاة والسلام حتى ما منامه لم ينس ربه عز وجل حتى يؤمر بذكره: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا): هذا أَمر منه - سبحانه - لرسوله أَن ينقطع لله ويخلص له العبادة ويفرده بها، ويراقبه مراقبة

ص: 1637

تستغرق قلبه وتسيطر على باطنه، كما أَمره عز وجل أَن يعبده ظاهرا ويذكره بلسانه في قوله (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ) ليكون الظاهر والباطن مشغولا بالله وحده.

هذا، واتفق أَئمة الإِسلام وعلماؤُه على مشروعية طلب ذكر الله، كما اتفقوا على أَن كلمة (لا إِله إِلا الله) هي أَفضل ما قاله الرسول والنبيون من قبله صلى الله عليه وسلم ولكن ما المراد من ذكر الله؟ هل يشمل ويضم كل العبادات؟ أَو هو نوع معين منها؟ ثم ما مقداره؟ وما هي أَفضل الأَوقات التي يطلب فيها وتكون أَرجى في الإِجابة؟ وهل هو مطلوب على سبيل الندب أَو على سبيل الحتم والوجوب؟ وما الحالة التي ينبغي أَن يكون عليها الذاكر عند ذكر ربه؟ أُمور اختلفوا فيها ولكل وجهة.

والذي يتضح لنا أَن الذكر هو عمل من أَعمال اللسان، وأَن لكل جارحة عبادتها الخاصة بها، وذلك عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث: "أَوصاني ربي بتسع

" الخ الذي جاءَ فيه: "وأَن يكون نطقي ذكرا، وصمتي فكرا، ونظري عبرا"، وأَيضا فإِن إِطلاق الذكر على كل ما نطق به اللسان من العبادات فيه ضرب من التجوز؛ إذ قد عطف الأَمر بالتسبيح (وهو من عمل اللسان أَيضًا) على الأَمر بالذكر في قوله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) والعطف - كما يقولون - يقتضي المغايرة، نسأَل الله حسن التوفيق إِلى ما يحبه الله ويرضاه.

9 -

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} :

أَي: هو سبحانه - رب المكان الذي تشرق فيه الشمس وتغرب؛ فهو رب الأَرض جميعًا ومالكها، ومدبر أَمرها وأَمر ما فيها، لا معبود بحق إلا هو، وما دام - سبحانه - مختصًا بالربوبية والأُلوهية فقد وجب على كل عاقل أَن يتخذه وكيلًا؛ فيسلم نفسه إِليه، ويعتمد ويتوكل عليه، ويفوض كل أَمره إِليه، فهو - جل شأنه - نعم الوكيل ونعم المولى والنصير، قال بعضهم: من رضي بالله - تعالى - وكيلا وجد إِلى كل الخير سبيلا.

10 -

{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)} :

أَي: احبس نفسك على ما يصيبك من أَذى قومك وسفاهتهم التي يرمونك بها من صفات التعييب والتنقيص كقولهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون إِلى غير ذلك مما

ص: 1638

كانوا ينسبونه إِليه استهزاءً به وسخرية منه صلى الله عليه وسلم، واجعل نفسك في جانب وهم في جانب، واصبر على ما يبدر منهم؛ فالهجر الجميل: هو أَن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم مع حسن المخالفة والمداراة والإِغضاء وترك المكافأَة.

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}

المفردات:

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ): خل بيني وبينهم، وارض بي لعقابهم.

(أُولِي النَّعْمَةِ): أَصحاب التنعم وغضارة العيش.

(أَنكَالًا): جمع نكل، وهو القيد الثقيل أَو الشديد.

(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ): وطعامًا يعترض وينشب في الحلوق.

(تَرْجُفُ الأَرْضُ): تضطرب وتتزلزل.

(كَثِيبًا): رملا مجتمعًا.

(مَهِيلًا): رخوًا ليِّنًا.

التفسير

1 -

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)} :

أَي: خل بيني وبين هؤلاءِ المكذبين المفترين أَرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة الأَولاد، وارض بي لعقابهم وإِنزال النكال بهم؛ فإِن لدي ما يفرغ بالك ويجلي همك،

ص: 1639

والمراد من المكذبين أُولي النعمة: هم صناديد قريش وزعماؤُها (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي: ولا تضق ذرعًا بهم واتركهم زمانًا قليلًا وهو مدة حياتهم في الدنيا، أَو المدة الباقية لهم إِلى يوم بدر، وبعدها فسيهلكهم الله ويكفيك شرهم.

وفي قوله تعالى: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إِدخال مزيد اطمئنان على قلب الرسول الكريم بأَنه - سبحانه - آخذ هؤُلاءِ لا محالة بشديد عقابة جزاءَ تكذبيهم، وإِلَاّ فهل يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أَو غيره مهما علا سلطانه واشتد جبروته وقوى طغيانه أَن يحول بين الله وأَحد من خلقه؟!

13،12 - {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}:

أَي: إِن عندنا ما ننتقم به منهم، وإِن لدينا قيودًا ثقيلة لا يستطيعون منها فكاكًا ولا معها تحركًا، كما أعتدنا لهم نارًا شديدة الاشتعال والاتقاد يلقون فيها وتسعر بهم، وهيأنا لهم طعامًا من الضريع والغسلين والزقوم يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج، كما أَن لهم نوعًا آخر من العذاب شديد الإِيلام لا يعرف كنهه ولا قدره إِلَاّ الله عز وجل.

14 -

{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)} :

أَي: ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم تضطرب الأَرض والجبال وتزلزل حتى تصير الجبال رملا مجتمعًا رخوًا لينا بعد أَن كانت صخرًا صلبًا وحجارة صماء.

هدد الله - سبحانه - المشركين وخوفهم بهذا العذاب الأَليم وذلك المآل المخزي يوم القيامة إِذا استمروا على شركهم وعنادهم.

ص: 1640

{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}

المفردات:

(وَبِيلًا): ثقيلًا غليظًا رديءَ العاقبة.

(مُنْفَطِرٌ بِهِ): متشقق ومتصدع بشدة ذلك اليوم.

التفسير

16،15 - {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}:

أَي: إِنا بعثنا إِليكم أَيها المكذبون من أهل مكة رسولا يخبرنا يوم القيامة بما شاهده وعاينه من كفركم وعنادكم وعصيانكم؛ حتى لا تكون لكم حجة، وستواجهون بما قدمتم من جرائم الأَعمال وقبيح الفعال، وتكذيبكم له صلى الله عليه وسلم وفِعْلُنَا هذا هو سنة قد أَجريناها على الأُمم قبلكم (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (1) فقد أَرسلنا إِليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم كما أَرسلنا إِلى فرعون رسولا وهو موسى عليه السلام (فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) كما عصيتم رسولكم وكذبتموه (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) أَي: انتقمنا منه انتقامًا ذريعًا وعذبناه عذابا ثقيلا غليظًا، وسيكون عقاب المكذبين منكم أَشد وأَقسى

(1) الآية 62 من سورة الأحزاب.

ص: 1641

من عقاب ذلك الفرعون وقومه: لأَن رسولكم يشهد عليكم عند ربكم، ولو آمنتم لكانت شهادته لكم.

وقد جاءَ في هذا الوضع ذكر قصة موسى وفرعون دون سائر الرسل والأُمم؛ لأَن أَهل مكة استهزأُوا برسول الله صلى الله عليه وسلم واستخفوا به لأَنه ولد فيهم وتربى بينهم، كما أَن فرعون ازدرى موسى لأَنه ربَّاه وولد عليه السلام فيما بينهم، وهو قوله:(أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)(1).

17 -

{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)} :

هذا توبيخ وتقريع، أَي: إِذا بدا لكم وجال بخاطركم أَنكم لن تؤْخذوا بأَعمالكم السّيئة وفعالكم القبيحة وتكذبيكم رسول الله كما أخذ فرعون أخذًا شديدًا وعذَّبه عذابًا غليظًا، فكيف تَقُونَ أَنفسكم وتحفظونها من هول يوم القيامة وما أَعد لكم فيه من القيود والأَغلال إِن دمتم على ما أَنتم فيه حتى زهقت أَرواحكم وأَنتم كافرون؟ وما ينبغي لكم يا أُولي الأَحلام والنُّهَي أَن تكونوا كذلك وقد جاءَكم من الله نور وكتاب مبين، أَو: كيف لكم بالتقوى، وأَنَّى لكم بها يوم القيامة إِن كفرتم في الدنيا (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) هذا مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأَطفال، والأَصل أَن الهموم والأَحزان إِذا تفاقمت واشتدت على الإِنسان أَسرع فيه الشيب، وقال أَبو الطيب:

والهم يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبي ويهرم

وقيل: إِن الكلام على الحقيقة استنادًا إِلى ما جاءَ في حديث الشفاعة، وفيه أَن الله - سبحانه - يأمر آدم عليه السلام (أَن يخرج بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعين، فيخرجون ويساقون إِلى النار سوقًا مُقَرَّنين زُرْقًا) قال ابن مسعود:"فإِذا خرج بعث النار شاب كل وليد".

(1) الآية 18 من سورة الشعراء.

ص: 1642

18 -

{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} :

المراد من السماءِ: كل ما فوقك من السموات والكواكب والنجوم وغيرها مما أَظلك وعلاك، والمعنى: السماء مع عظمها وإِحكامها تتصدع وتتشقق وتتداعى من هول ذلك اليوم، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ أو: أَن السماءَ مثقلة به إِثقالا يؤَدي إِلى انفطارها وتصدعها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله تعالى:(ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)(1)، (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) أَي: كان وعد ذلك اليوم واقعًا لا محالة؛ لأَن حكمة الله وعلمه يقتضيان إِيقاعه وحصوله، أَو أَن وعد الله واقع لا محالة لأنه - سبحانه - منزه عن الكذب (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا)(2).

19 -

{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)} :

أَي: إِن هذه الآيات التي سبقت في هذه السورة وفيها ما فيها من القوارع والزواجر هي تذكرة ومواعظ اشتملت على أَنواع الهداية والرشاد، فمن شاءَ وأَراد اتعظ بها واتخذ طريقًا إِلى الله بالتقوى والخشية والتقرب والتوسل إِليه - سبحانه - بالاشتغال بالطاعات والاحتراز والبعد من المعاصي والسيئات.

(1) من الآية 187 من سورة الأعراف.

(2)

من الآية 122 من سورة النساء.

ص: 1643

* {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}

المفردات:

(تَقُومُ): تصلي.

(أَدْنَى): أَقل.

(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ): علم أَن لن تطيقوا ضبط وقت قيام الليل.

(فَتَابَ عَلَيْكُمْ): فخفف عليكم ورفع التبعة عنكم في ترك قيامه المقدر.

(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ): أَي: فصلوا ما تسير لكم من صلاة الليل، وقيل: الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن.

(يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ): يسافرون فيها للتجارة ونحوها.

ص: 1644

(وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا): وذلك بإِنفاق ما سوى المفروض من المال في سبيل الخير عن طيب نَفس.

(هُوَ خَيْرًا): هو خيرًا مما خلفتم وما أَبقيتموه لأَنفسكم في الدنيا.

التفسير:

20 -

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} :

في أَول السورة الكريمة جاءَ الأَمر الإِلهي لرسول الله بقيام قدر من اللَّيل، وخضع الرسول، لأَمر ربه، ولبى نداءَ السماء، ومعه جماعة من أَصحابه اقتدوا به، ثم خفف الله عنهم في آخرها بقوله تعالى (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) وأمرهم بالصلاة والزكاة والصدقة والاستغفار.

ومعنى الآية: إِن ربك الذي رباك على موائد كرمه يعلم أَنك يا محمد تقوم من الليل أَقل من ثلثيه حينًا وتقوم نصفه حينًا وتقوم ثلثه حينًا آخر، وتقوم معك طائفة من أَصحابك تأَدبوا بآدابك وحَذَوْا حَذْوَك ونسجوا على منوالك واهتدوا بهديك ومنهم من كان لا يدري كم صلَّى في الليل وكم بقى منه، ولا يدري متى نصف اللَّيل من ثلثه فكان يقوم الليل كله احتياطيًّا مخافة أَن يخطيء حتى انتفخت أَقدامهم، وامتقعت أَلوانهم سنة أَو أَكثر فرحمهم الله وخفف عنهم فقال:(وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أَي: يعلم مقادير اللَّيل والنهار على حقائقها وأَنتم تعلمون بالتَّحَرِّي والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ، ولا يقدر على تقدير الليل والنهار وضبط ساعاتهما كما هي إِلا الله وحده (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) علم الله أَنَّ الشَّأن لن تقدروا على تقدير الأَوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات، ولا يتأَتى لكم حسابها إِلا أن

ص: 1645

تأَخذوا بالأَكثر والأَوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أَي: فرجع بكم إِلى التخفيف بالترخيص في ترك القيام المُقَدّر ورفع التبعة عنكم في تركه كما ترفع التبعة عن التائب، وعاد إِليكم بالعفو، وهذا يدل على أَنَّه كان فيهم من ترك بعض ما أُمِر به، وقيل: فتاب عليكم من فرض القيام إِن عجزتم، وأَصل التوبة الرجوع، فالمعنى رجع بكم من تثقيل إِلى تخفيف، ومن عسر إِلى يسر، وكانوا أَمروا بحفظ الأَوقات على سبيل التحري فخفف عنهم ذلك التحري.

(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) أَي: فَصَلُّوا ما يتيسر لكم من صلاة الليل، وعبّر عن الصلاة بالقراءَة كما عبر ببعض أَركانها فقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)(1) أَي أَقيموا الصلاة، وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءَة القرآن بينهما قال السدي: مائة آية، وقال سعيد: خمسون.

ومن ذهب إِلى الأول قال: إِن الله فرض قيام مقدار معين من الليل في قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ) الآية إِلى قوله: (أَو زِدْ عَلَيْهِ) ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) فالأَمر في الموضعين للوجوب إِلا أَن الواجب أولا كان معينًا محدودًا، والثاني كان بعضًا مطلقًا ثم نسخ وجوب القيام على الأُمة مطلقًا بالصلوات الخمس وغيرها.

ومن ذهب إلي الثاني قال: إِن الله رخص لهم في ترك القيام وأَمر بقراءَة شيء من القرآن ليلًا فكأَنه قيل: فتاب عليكم ورخص في التَّرك فاقرءوا ما تيسر من القرآن إن شق عليكم القيام فإِن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءَة ثواب القيام، وصرح جمع أَن قوله تعالى:(فَاقْرَءُوا) على هذا أَمر ندب بخلافه على الأَول.

قال العلامة الآلوسي: واعلم أَنهم اختلفوا في أَمر التهجّد:

1 -

فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان مفروضًا بمكة قبل أَن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بها إِلا ما تطوعوا به، ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر، وقد روى ذلك

(1) سورة الحج من الآية: 77.

ص: 1646

أَيضا في حديث سعد بن هشام عندما سأَل السيدة عائشة عن قيام رسول الله وقد سبق ذلك في أَول السورة.

2 -

وقيل: كان نفلا بدليل التخبير في المقدار، وبدليل قوله تعالى:

(وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)(1).

3 -

وعن ابن عباس: سقط قيام الليل عن أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار تطوعًا وبقى ذلك فرضًا على رسول الله.

بقى هنا بحث: وهو أَن الإِمام أَبا حنيفة رضي الله عنه استدل بقوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ) على أَن - الفرض - في الصلاة مطلق قراءَة ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها - وهو ظاهر على القول بأَنه عبّر في الآية عن الصلاة بركنها وهو القراءة. كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع - وقدّر ما تيسر من القرآن بآية.

وخص الشافعي ومالك وما تيسر من القرآن بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءَتها في الصلاة بحجج كثيرة، فعن أَبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام قال:"لا تجزيء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" أهـ آلوسي مع التلخيص والتصرف (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسرة ضبط الأَوقات التي يطلب منكم قيام الليل فيها، أَي علم أَن الشأن سيكون منكم مرضى يشق عليهم الليل (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ).

أَي: وآخرون يسافرون في الأَرض وينتقلون بين أَجزائها للتجارة والعمل يطلبون رزق الله وخيره وقيام الليل يشق عليهم (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَي: وآخرون يجاهدون في سبيل الله لإِعلاءِ كلمته ونشر دعوته. وفي قَرْنِ الْمُسَافرين لابتغاءِ فضل الله الطالبين للتجارة والعمل بالمجاهدين في سبيل الله إِشارة إِلى أَنهم كمثلهم في الأَجر وهكذا

(1) من الآية 79 من سورة الإسراء.

ص: 1647

الإسلام جعل العمل عبادة بل جعله من أَعظم أَنواع العبادات وأَفضلها لأَنه قرن العمل بالجهاد في سبيل الله.

وهكذا الإسلام سعى لإِقامة حياة سعيدة قوامها العمل الجاد النافع للناس، والجهاد لنشر دين الله، وحاول الفلاسفة والمصلحون من البشر إِقامتها فعجزوا وأَقامها محمد صلى الله عليه وسلم وأَصحابه الذين نشروا دعوته وأَقاموا منهج السماء في الأَرض.

أَخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإِيمان وغيرهما أَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال: ما من حال يأتيني عليه الموت - بعد الجهاد في سبيل الله - أَحبّ إِليّ من أَن يأتيني وأَنا بين شعبتي جبل أَلتمس من فضل الله - ثم تلا هذه الآية: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ) .. إلخ.

وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جالب يجلب طعامًا إِلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر وقته إِلَاّ كانت منزلته عند الله ثم قرأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).

قال ابن كثير: وهذه الآية - وهي قوله تعالى -: (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شُرِع بعد، فهي من أَكبر دلائل النبوة؛ لأَنَّهَا من باب الإِخبار بالمغيبات المستقبلية.

وإِذا كان الأَمر كما ذكر وتعددت مقتضيات الترخيص (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أَي: فاقرءوا ما تيسر من القرآن من غير تحمل مشقة، وقال ابن كثير: قوموا بما تيسر عليكم منه، وهو مذهب الحسن البصري كان يرى حقًّا على حملة القرآن أَن يقوموا ولو بشيءٍ قليل منه في الليل، ولو بقراءة خمس آيات، وقال القرطبي: أَي: فَصَلُّوا ما أَمكن فأَوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإِيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أَي: واظبوا على أَداءِ الصلاة المفروضة (وَآتُوا الزَّكَاةَ) أَي: وأَعطوا الزكاة الواجبة عليكم لمستحقيها، وقيل: المراد من الزكاة: زكاة الفطر، وقيل: صدقة

ص: 1648

التطوع (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يجوز أَن يراد بهذه الآية الإِنفاق في سائر الصدقات، أَو أَن يُراد أَداء الزكاة على أَحسن وجه من إِخراج أَطيب المال وأَكثره نفعًا للفقراءِ، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إِلى المستحق، أو أَن يراد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال فالله يجازي عليه أَحسن الجزاء وأَوفره، وعن عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا):

قال ابن كثير: أَي: جميع ما تقدمونه بين أَيديكم وأَنتم أَحياءٌ فهو لكم حاصل ثوابه، وهو خير ممَّا أَبقيتموه لأَنفسكم في الدنيا وممَّا تركتم وخلفتم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيكم ماُلُه أَحبُّ إِليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أَحد إِلا ماله أَحب إِليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إِلَاّ ذلك يا رسول الله، قال: إِنما مال أَحدكم ما قدَّم ومال وارثه ما أَخر" رواه البخاري.

(وَأَعْظَمَ أَجْرًا): وأَجزل ثوابًا - قال القرطبي: قال أَبو هريرة: هو الجنة، وقيل: لإِعطائه بالحسنة عشرًا أو أَكثر.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أَي: اطلبوا منه المغفرة في كافة أَحوالكم، فإِن الإِنسان قلما يخلو ممَّا يعد تفريطًا بالنسبة إِليه، وعَدّ من ذلك الصوفية رؤية العابد، عبادته، قيل: ولهذه الإِشارة أَمَر بالاستغفار بعد الأَوامر السابقة بإِقامة الصلاة وإِيتاءِ الزكاة والإِقراض الحسن.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): وهو سبحانه يغفر ذنب من استغفره، ويرحمه عز وجل وفي حذف المعمول دلالة على العموم، نسأَل الله عظيم مغفرته ورحمته، قال القرطبي:(غَفُور) لِمَا كان قَبْلَ التوبة (رَحِيمٌ): لكم بعدها: قاله سعيد بن جبير.

ص: 1649