المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من مقاصد السورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ١٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌سورة المجادلة

- ‌مدنية وآياتها ثنتان وعشرون

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌أسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لها قبلها:

- ‌سؤال هام وجوابه:

- ‌سورة الحشر

- ‌مدنية وعدد آياتها أربع وعشرون

- ‌وتسمى سورة بني النضير كما قال ابن عباس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم أغراض السورة:

- ‌سورة الممتحنة

- ‌مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌سورة الصف

- ‌مدنية وآياتها أربع عشرة

- ‌أَسماء هذه السورة:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجمعة

- ‌مدنية وآياتها إِحدي عشرة

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌المراد من السعي وذكر الله:

- ‌العدد الذي به تصح الجمعة

- ‌هل حضور الحاكم شرط في صحة الجمعة

- ‌القيام شرط في الخطبة

- ‌أَحكام مختلفة

- ‌أَركان الخطبة:

- ‌سورة المنافقون

- ‌مدنية وآياتها إحدي عشرة آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التغابن

- ‌هذه السورة الكريمة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية

- ‌وسميت بهذا الاسم لورود كلمة التغابن في الآية التاسعة منها

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الطلاق

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم أغراض السورة:

- ‌سورة التحريم

- ‌مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها وهي سورة الطلاق:

- ‌أغراض السورة:

- ‌سورة الملك

- ‌مكية وآياتها ثلاثون آية

- ‌مقاصدها:

- ‌صلة هذه السورة بما قلبها:

- ‌أسماء السورة وفضلها:

- ‌سورة القلم

- ‌ومناسبة سورة القلم للسورة السابقة (سورة الملك):

- ‌المعنى العام للسورة

- ‌سورة الحاقة

- ‌مناسبة هذه السورة لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المعارج

- ‌مكية وآياتها أربع وأربعون آية

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة نوح

- ‌مكية، وهي ثمان وعشرون آية

- ‌وجه اتصالها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الجن

- ‌مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌1 - الملائكة:

- ‌2 - الجن:

- ‌3 - الشياطين:

- ‌سورة المزمل

- ‌هذه السورة الكريمة مكيَّة وآياتها عشرون آية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌ما جاء في سبب النزول:

- ‌سورة المدثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَول ما نزل من القرآن:

- ‌من مقاصد السورة:

- ‌سورة القيامة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الإِنسان

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصدها:

- ‌سورة المرسلات

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌(هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37))

- ‌(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40))

- ‌سورة النبأ

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة النازعات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة عبس

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌سورة التكوير

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أهم مقاصدها:

- ‌سورة الانفطار

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة المطففين

- ‌صلة هذه السورة بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الانشقاق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة البروج

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الطارق

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الأعلى

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الغاشية

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفجر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البلد

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة الشمس

- ‌صلتها بما قبلها:

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سورة الليل

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة الضحى

- ‌صلتها لما قبلها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سبب النزول:

- ‌سورة ألم نشرح

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة والتين

- ‌مناسبها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العلق

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة القدر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة البينة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصد السورة:

- ‌سورة الزلزلة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌أَهم مقاصدها:

- ‌سورة العاديات

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة القارعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة التكاثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة العصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض ما جاء فيها:

- ‌(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ):

- ‌سورة الهُمَزَة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الفيل

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة قريش

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الماعون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكوثر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الكافرون

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌بعض فضائلها:

- ‌سورة النصر

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة المسد

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الإخلاص

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌بعض ما جاء في فضلها:

- ‌سورة الفلق

- ‌مناسبة السورة لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة الناس

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌مقاصد السورة:

الفصل: ‌من مقاصد السورة:

2 -

أَن مراد جابر بالأَولية أَولية مخصوصة بما يعد فترة الوحي لا أَولية مطلقة -انتهى ملخصًا.

‌من مقاصد السورة:

تبدأَ السورة الكريمة بنداءِ النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته لإِنذار قومه وتعظيم ربه وتخلقه بكريم الخصال، ثم بحديث عن القيامة وأَهوالها، ثم بأَمر من الله لنبيه بترك الجاحد لنعم الله عليه المكذب بالآيات؛ لأَن الله وحده سيكفي الرسول أَمره وسيتولى عقابه، وتُصَوِّر باقي السورة الكريمة أَحوال هذا المكذب وهو يفكر فيما يقول في القرآن تصويرًا دقيقًا فتقول:(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ).

يا سبحان الله؟ بعد كل هذا التفكير العميق عاد ذلك الجاحد يردد ما قاله المكذبون من قبله!! وتذكر الآيات عقابه سقر وأَوصاف سقر، ثم بينت السورة الحكمة في جعل خزنة النار من الملائكة والسر في كونهم على هذه العِدّة المذكورة في القرآن، ووضحت الآيات أَن كل نفس مرهونة بعملها من خير أَو شر، وأَن أَصحاب اليمين في جنات يتساءَلون عن المجرمين قائلين لهم تبكيتًا:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) فذكروا لهم ما فعلوه من ذنوب في الدنيا عوقبوا عليها يوم القيامة، وجاءَ في الآيات تشبيه الكفار لإِعراضهم عن الحق بهذا التشبيه المهين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).

وختمت السورة بالحديث عن القرآن ووصفه بأَنه تذكرة لمن شاءَ أَن يتذكر، وبالثناءِ على الله بأَنه أَهل التقوى وأَهل المغفرة.

ص: 1651

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10))

المفردات:

(الْمُدَّثِّرُ): لابس الدثار، وهو ما فوق القميص، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(قُمْ): أَي: قم من مضجعك، أَو قم قيام عزم وتصميم.

(فأَنذِرْ) أَي: فحذر الناس وخوفهم من عذاب الله.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ): وخُص ربك بالتكبير والتعظيم، أَو يقول: الله أَكبر.

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ): كناية عن التخلق بالأَخلاق الحسنة، أَو تقصير الثياب لتسلم من النجاسة ومن الخيلاءِ.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ): اترك المآثم الموجبة للعذاب كالشرك.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ): ولا تعط مستكثرًا -أَي: رائيًا ما تعطيه كثيرًا- أَو طالبًا الكثير.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ): ولوجه ربك وابتغاء مرضاته فتخلق بالصبر.

(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ): فإِذا نُفِخ في الصُّور للبعث والنُّشور -والنَّاقور- فَاعُول من النقر، بمعنى التصويت -وأَصله: القرع الذي هو سببه، ومنه منقار الطائر لأَنه يقرع به.

ص: 1652

التفسير:

1 -

(يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ):

أَي: المتلفف بثوبه المتغشي به، واللفظ -على ما قيل- دائر على معنى السَّتْر على سبيل الشمول.

نودي صلى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها وقت نزول الوحي عليه؛ ملاطفة له؛ وبعثًا للأنس في نفسه، وطلب تَدَثُّره عليه الصلاة والسلام لما اعتراه من خوف وأَصابه من رعب حين رأَى الملك الذي جاءَه بحراء، فرجع وقال لأَهل بيته:(دثروني) فنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فأَنذِرْ).

وقيل: المراد بالمدثر: المتدثر بالنبوة والكمالات النفسية، على معنى: المتحلي بها، والمتزين بآثارها، وقيل: الظاهر أَن يُرَاد بالمدثر وكذا بالمزَّمل، الكناية عن المستريح الخالي البال البعيد عن الشواغل؛ لأَنه في أَول البعثة، فكأَنه قيل له عليه الصلاة والسلام: قد مضى زمن الراحة وجاءَتك أَعباءُ الدعوة.

2 -

(قُمْ فأَنذِرْ):

(قُمْ) أَي: قم من مضجعك، أَو: قم قيام عزم وتصميم وشمر عن ساعد الجد، فقد جاءَ الأَمر الإِلهي الآن باصطفائك رسولًا، فقد جاءَ الأَوان لتباشر مهمتك وتنشر رسالتك وتقود البشرية إِلى بر السلامة، وتلزمها منهج الله، ولذا جاءَ قوله تعالى:(فأَنذِر) أَي: فحذِّر الناس وخوِّفهم من عذاب الله وعقابه إِن لم يؤمنوا، ولم يقل هنا:(وبشِّر) لأَنه كان في ابتداءِ الرسالة، والإِنذار هو الغالب إِذ ذاك، أَو هو من باب الاكتفاء؛ لأَن الإِنذار يلزمه التبشير.

3 -

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ):

أَي: واخصص ربك ومالكك ومتولى أَمرك بالتكبير: وهو وصفه تعالى بالكبرياءِ، والعظمة اعتقادًا وقولًا.

ص: 1653

ويروى أَنه لَمَّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أَكبر فكبَّرت خديجة، وأَيقنت أَنه الوحي، وذلك لأَن الشيطان لا يأَمر بذلك، وبعد الأَمر السابق في قوله:(قُمْ فَأَنذِرْ) ذكرت جملة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) مقدمة على سائر الجمل والأَوامر التي تأتي بعدها إِشارة إِلى مزيد الاهتمام بأَمر التكبير، وإِيماء -على ما قيل- إِلى أَن المقصود الأَول مِن الأَمر بالقيام أَن يكبر ربه ويعظمه وينزهه عن الشرك: فإِن أَول ما يجب على العبد معرفة الله تعالى، ثم تنزيهه عمَّا لا يليق به، وقد يقال: لعل ذكر هذه الجملة أَولا لتشجيعه عليه الصلاة والسلام على الإِنذار وعدم مبالاته بما سوى الله عز وجل حيث تضمنت الإِشارة إِلى أَن نواصي الخلائق بيده تعالى، وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته، فلا ينبغي أَن يرهب إِلا منه، ولا يرغب إِلَاّ فيه، فكأَنه قيل: قم فأَنذر، واخصص ربَّك بالكبير والتَّعظيم، ولا يصدنك شيء على الإِنذار، قيل: ويجوز أَن يحمل قوله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) على التكبير في الصلاة - ذكر ذلك القرطبي والآلوسي والزمخشري -.

4 -

(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ):

1 -

أَمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أَن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأَن طهارة الثوب شرط في صحة الصلاة، وهي الأَولى في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أَن يحمل خبثًا.

2 -

وقيل: هو أَمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول علامة الكبر والخيلاء، فوق ما تتعرض له من الإِصابة بالنجاسة.

3 -

وقيل: هو أَمر بتطهير النفس ممَّا يستقذر من الأَفعال ويستهجن من العادات، يقال: فلان طاهر الثياب: إِذا وصفوه بالنقاء من العيوب ودنس الأَخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر.

5 -

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ):

أَي: والعذاب فاترك، والمعنى: دم على ترك ما يوصل إِلى العذاب من عبادة الأَوثان والتخلق بالأَخلاق الرديئة، فقوله سبحانه:(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كلام جامع في مكارم

ص: 1654

الأَخلاق، فكأَنه قيل: اهجر الجفاءَ والسّفه وسوء الخُلُق وكل شيءٍ يقبح: كالأَصنام وعبادة الأَوثان؛ فإِنها تنتهي بصاحبها إِلي العذاب.

6 -

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ):

1 -

قال ابن عباس: المعنى: لا تُعْط العطية تلتمس أَكثر منها، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأَنه مأَمور بَأجمل الأَخلاق وأَشرف الآداب.

2 -

وقال الحسن البصري: ولا تمنن بعملك على ربك تستكثره، واختاره ابن جرير.

3 -

وعن مجاهد: ولا تضعف أَن تستكثر من الخير؛ وقال: " (لا تمنن) في كلام العرب. لا تضعف".

4 -

وقال ابن زيد: لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأَخذ عليها عرضًا من الدنيا.

5 -

وقيل: ولا تعط مستكثرًا، أَي: رائيًا لما يعطيه كثيرًا. فهذه أَقوال، والأَظهر القول الأَول.

7 -

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ):

أَي: ولوجه الله: مربيك ومالكك فاقصد جهته وجنابه وابتغاء مرضاته وطلب ثوابه، فتجمل بالصبر على وجه العموم؛ ليفيد كل مصبور عليه ومصبور عنه، أَو يراد: الصبر على أَذي المشركين لأَنه أَحد ما يتناوله العام، لا لأَنه وحده هو المراد.

وفضائل الصبر لا تحصي، ويكفي في ذلك قوله تعالى:"إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: "إِذا وجهتُ إِلى عبدٍ من عبيدي مصيبةً في بدنِه أَو مالهِ أَو ولدِه ثم استقبلَ ذلك بصبرٍ جميل استحييتُ منه يومَ القيامةِ أَن أَنصبَ له ميزانًا، أَو أَنشرَ له ديوانًا".

-

(1)

من الآية 10 من سورة الزمر.

ص: 1655

8، 9، 10 - (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)):

الفاءُ في قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ) للسببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم؛ فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك. والفاءُ في قوله تعالى:(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ) للجزاء، والعامل في (إذَا) ما دل عليه قوله تعالى:(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ) أي: فإذا نقر في الناقور صعب الأَمر وعسر على الكافرين و (ذلك) إشارة إلى وقت النقر المفهوم من قوله تعالى: (فَإِذَا نُقِرَ) والمراد به يوم القيامة، والمعنى: فإذا نفخ في الصور فذلك الوقت يومئذ شديد على الكافرين غير سهل ولا ميسر، فلا يتسنى لهم أن يخلصوا ممَّا هم فيه وما يلاقونه من مناقشة الحساب وغيره من الأهوال التي يجدونها في ذلك الوقت العصيب الرهيب.

وفائدة قوله تعالى: (غيرُ يَسيرٍ) بعد قوله تعالى: (عَسيرٌ) -وهو مفهم له- تأكيد لعسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه كما يشعر بتيسيره على المؤمنين، كأَنه قيل: عسير على الكافرين غير يسير عليهم، كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة للمؤمنين وتسليتهم، ومع هذا لا يخلو قلب المؤمن من الخوف، أخرج ابن سعد والحاكم عن بَهزِ بن حكيم قال: أمَّنا زرار بن أَوفى فقرأَ المدثر، فلما بلغ قوله تعالى:(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) خَرَّ ميِّتًا، فكنت فيمن حمله، وأخرج ابن أَبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: لمَّا نزلت (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحَنَى جبهته يستمع متى يؤمر؟

قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكلنا -ذكر ذلك الآلوسي وغيره. واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأُولى، أو يوم النفخة الثانية، ورجح أَنه يوم الثانية لأَنه الذي يختص عسره بالكافرين، وأما وقت النفخة الأُولى فحكمه الذي هو (الصعق) يعم البر والفاجر، وهو على المشهور مختص بمن كان حيًّا عند وقوع النفخة.

ص: 1656

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30))

المفردات:

(ذَرْنِي): اتركني ودعني.

(مَمْدُودًا): مبسوطًا كثيرًا دائمًا غير منقطع.

(وَبَنِينَ شُهُودًا): وبنين حضورًا معه لا يفارقون للتكسب لغناهم عنه.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ): وبسطت له النعمة والرياسة والجاه، والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة ومنه مهد الصبي.

(كَلَاّ): كلمة زجر وردع له عن طمعه وقطع لرجائه الخائب، أَي: لست أَزيده مع كفره بالنعم.

(لآيَاتِنَا): أَي: آيات الله المنعم، وهي دلائل توحيده، أَو القرآن.

(عَنِيدًا): جاحدًا لها مكذبًا بها مُعرضًا عنها.

ص: 1657

(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا): سأُكلَّفه بصعود عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقي من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق.

(إِنَّهُ فَكَّرَ): إِنه فكر ماذا يقول في شأْن القرآن والرسول من الاختلاف.

(وَقَدَّرَ): وَرَتَّب وهيَّيأَ في نفسه قولا كاذبًا في القرآن والنبي، والعرب تقول: قدرت الشيءَ: إِذا هيأْته.

(فَقُتِلَ): لُعِن وكُذِّب وقُهر وغُلب.

(كَيْفَ قَدَّرَ): كيف هيأَ هذا الطعن، وذلك تعجيب من تقديره وإِصابته الغرض الذي يرجوه قومه.

(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ): ثم استحق الهلاك؛ كيف أَعد في نفسه هذا الطعن.

(ثُمَّ عَبَسَ): ثم قطَّب وجهه وقبض بين عينيه.

(وَبَسَرَ): اشتد في العبوس وكلوح الوجه.

(سِحْرٌ يُؤْثَرُ): سحر يُرْوى ويُنقل عن السحرة.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ): سأُدخله جهنم ليحترق فيها. وسميت جهنم بسقر، من: سَقَرَتْهُ الشمس: إِذا أَذابته ولوَّحته وأَحرقت جلدة وجهه.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ): مبالغة في وصفها، أَيْ: أَيّ شيء أَعلمك ما جهنم؟!

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ): لا تبقي شيئًا يلقى فيها إِلَاّ أَهلكته، وإِذا هلك لم تذره هالكًا حتى يعاد.

(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ): أَي: يتولي أَمر النار، ويلي تعذيب أَهلها تسعة عشر ملكًا، أَو صَفًّا، أَو صنفًا.

ص: 1658

التفسير:

11 -

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا):

قال ابن عباس وغيره: نزلت هذه الآية وما بعدها في الوليد بن المغيرة، بل قيل: إِن هذا القول متفق عليه، والمعنى: يقول الله تعالى متوعدًا هذا الخبيث الذي أَنعم الله عليه بنعم الدنيا فجحد بها وبدَّلها كفرًا وقابلها بالإنكار لها والافتراءِ عليها.

(وَحِيدًا): أَي: دعني وحدي مع من خلقته فأَنا أَكفيك أَمره وأُغنيك في الانتقام منه عن كل منتقم. وفي الأَسلوب ما فيه من التهديد والوعيد، حسبك أَن الذي سيتولى جزاءَه وعقابه هو الله. أَو المعنى: اتركني مع من خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أَحد فأَنا أَهلكه ولا أَحتاج إِلى ناصر ومساعد في إِهلاكه، أَو ذرني ومن خلقته وحيدًا فريدًا لا مال ولا ولد، ولقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد، فتهكم الله به وبلقبه وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناءِ عليه إِلى جهة ذمه وعيبه، وهو أَنه خلق وحيدًا لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأَشرك به واستهزأَ بدينه!! أَو: وحيدًا في الخبث والشر، أَو وحيدًا عن أَبيه لأَنه كان لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة.

12 -

(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا):

اَي: ووليته وأَعطيته مالا مبسوطًا كثيرًا، أَو ممدودًا بالنماءِ، قيل: كان له الضرع والزرع والتجارة، وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من النعم والجنان، والعبيد، وقيل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثمارة صيفًا ولا شتاءً.

13 -

(وَبَنِينَ شُهُودًا):

أَي: ومنحته ورزقته بنين شهودًا، أَي: حضورًا معه بمكة يتمنع بمشاهدتهم لا يفارقونه بالسفر في عمل أَو تجارة، لوفور نعمهم وكثرة خدمهم، أَو حضورا في الأَندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم، أَو تسمع شهادتهم فيما يُتَحَاكم فيه، واختلف في عددهم: فعن مجاهد

ص: 1659

أَنهم عشرة، وعن السدي والضحاك: كانوا اثني عشر، سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف، وقيل غير ذلك، وكلهم رجال، أَسلم منهم ثلاثة:

1 -

الوليد بن الوليد. 2 - وخالد. 3 - وهشام.

14 -

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا):

أَي: وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى أَقام ببلدته مطمئنًا مترفهًا يُرْجع إِلى راية، فأَتممت عليه نعمة المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أَهل الدنيا، وأَصل التمهيد في التسوية والتهيئة، وتُجُوِّزَ به عن بسطة المال والجاه، وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأَعين يلقب ريحانة قريش، وكذلك كانوا يلقبونه بالوحيد، بمعني: المتفرد باستحقاق الرياسة.

15 -

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ):

أَي: ثم يطمع أَن أَزيده على ما أَعطيته وأَديته له من المال والولد والجاه مع عدم الشكر، وهو استبعاد لنيله ما يريد، واستنكار لشدة طمعه وحرصه، إِما لأَنه في غني تام لا مزيد على ما أُوتي سعة وكثرة، أَو لأَنه مناف لما هو عليه من كثرة النعم ومعاندة المنعم، واستعمال (ثم) للاستبعاد كثير، وقيل: معنى (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أَي: يطمع أَن أَترك ذلك في عقبه.

16 -

(كَلَاّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا):

(كَلَاّ): ردع وزجر له عن طمعه وقطع لرجائه، أَي: لست أَزيده (إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا): جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لتعليل ما سبق، كأَنه قيل: لِمَ زُجِر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته؟ فَقِيل: إِنه كان معاندًا لآيات المنعم كافرًا بها، وآيات الله هي دلائل توحيده، أَو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال، والمعاندة تمنع من الزيادة، بل هي تستوجب الحرمان، قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك، وعن مجاهد:(عَنِيدًا): مجانبًا للحق معاندًا له معرضًا عنه، والعرب تقول: عَنَد الرجل: إِذا عَتَا وجاوز قدره.

ص: 1660

17 -

(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا):

الإِرهاق في كلام العرب: أَن يُحْمل الإِنسان على الشيءِ. والمعنى: سأُكلفه في النار بما لا يقدر عليه، وأَحمله على صعود عقبة شاقة المصعد، أَو: هو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق، وروى أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكلف أَن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت، وإِذا رفعها عادة، وإِذا وضع رجله ذابت، فإِذا رفعها عادت.

وذكر القرطبي أَن معني الآية -كما قال ابن عباس: سأُكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيه.

18 -

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ):

تعليل للوعيد السابق واستحقاقه له، كأَن الله عاجله بالفقر بعد الغي والذل بعد العز في الدنيا لعناده، ويعاقبه في الآخرة أَشد العذاب وأَعظمه لبلوغه بالعناد غايته وأَقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحرًا، والمعنى: أَن الوليد فكر وزوَّر في نفسه وأَعد وهيأَ ما يقوله من الطعن في القرآن والرسول، فاستحق بذلك العذاب وذلك أَنه لما نزل قوله تعالى:(حم. تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) إِلى قوله تعالى: (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) على النبي صلى الله عليه وسلم سمعه الوليد يقرؤُها فقال: والله لقد سمعت منه كلامًا ما هو من كلام الإِنس ولا هو من كلام الجن وإِن له لحلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِن أَعلاه لمثمر، وإِن أَسفله لمغدق، وإِنه ليعلو ولا يُعْلى عليه، وما يقول هذا بشر، فقالت قريش: صبأَ الوليد لَتَصْبُوَنَّ قريش كلها، فقال أَبو جهل: أَنا أَكفيكموه فمضى إِليه حزينًا فقال له: ما لي أَراك حزينًا؟ فقال له: وما لي لا أَحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك، ويزعمون أَنك زينت كلام محمد وتدخل على ابن أَبي كبشة -يعني بذلك رسول الله- وابن أَبي قحافة -يقصد أَبا بكر- لتنال من فضل طعامهما، فغضب الوليد وتكبر وقال: أَنا أَحتاج إِلى كِسْر محمد وصاحبه؟ فأَنتم تعرفون قدر مالي، واللات والعُزَّي ما لي حاجة إِلى ذلك، وإِنما أَنتم تزعمون أَن محمدًا مجنون فهل رأَيتموه قط يَخْنُق، قالوا: لا والله

ص: 1661

قال: فتزعمون أَنه كذاب فهل جربتم عليه كذبًا قط؟ قالوا: لا والله، قال: فتزعمون أَنه كاهن فهل رأَيتموه تكهن قط، وقد رأَينا للكهنة أَسجاعًا وتَخَالُجًا (1) فهل رأَيتموه كذلك؟ قالوا: لا والله.

وكان النبي يسمى الصادق الأَمين من كثرة صدقة، فقالت قريش للوليد: من هو؟ ففكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال: ما هو إِلا ساحر. أَما رأَيتموه يفرق بين الرجل وأَهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إِلا سحر يأَثره عن مسيلمة وعن أَهل بابل، فارتج النادي فرحًا وتفرقوا مُعْجَبِين بقوله مُتَعَجَّبين منه، فذلك قول الله (إِنَّهُ فَكَّرَ) أَي: في أَمر محمد والقرآن. (وَقَدَّرَ) في نفسه ماذا يمكنه أَن يقول فيهما.

19 -

(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ):

تعجيب من تقديره وإِصابته المحزَّ ورميه الغرض الذي كانت تتمناه وتتوقعه قريش وتتطلبه منه، أَو ثناء عليه تهكمًا، أَو حكاية لما كروه على سبيل الدعاءِ عليه عند سماع كلمته الحمقاء، فالعرب تقول: قتله الله ما أَشجعه، وأَخزاه الله ما أَشعره: يريدون أَنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأَن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. ومعنى (قُتِلَ) أَي: لُعِن، وكان بعض أَهل التأويل يقولون معناها: فقُهر وغُلِب، وقال الزهري: عُذِّب، وهو من باب الدعاء.

20 -

(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ):

ثم استحق العذاب واللعن والهلاك كيف أَعد في نفسه هذا الطعن على القرآن؟! أَو على أَي حال قدر، والتكوير للمبالغة كما هو عادة من أَعجب غاية الإِعجاب، والعطف يتم للدلالة على تفاوت الرتبة وأَن الثانية أَبلغ من الأُولي، فكأَنه قيل: قتل بنوع ما من القتل، لا: بل قيل بأَشده وأَشده، والإِطراء في الإِعجاب بتقدير الوليد بن المغيرة يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بخلاصة تفكيره.

-

(1)

تخالجا: تجاذبا يمينًا وشمالًا.

ص: 1662

21 -

(ثُمَّ نَظَرَ):

أَي: ثم نظر في وجوه قومه، أَو فيما يقدح به في القرآن ويعيبه عليه ويذمه به، وقيل: نظر بمؤخر عينه تكبرًا وتغيظًا، أَو: فكر في أَمر القرآن وبأَي شيءٍ يرده ويدفعه.

22 -

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ):

(ثُمَّ عَبَسَ) أَي: ثم قطب في وجوه الناس لمّا لم يجد في القرآن مَطْعَنًا وضاقت به السبل وأَعيته الحيل، ولم يدر ماذا يقول في القرآن. وقيل: نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه، وقيل: نظر إِلى رسول الله ثم قطب في وجهه عليه الصلاة والسلام (وَبَسَرَ) أَي: أَظهر العبوس قبل أَوانه أَو في غير وقته، من الْبَسْر: وهو الاستعجال بالشيء، وفسره بعضهم بأَشد العبوس، من بسر؛ إِذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه، ويستعمل البسر بمعنى العبوس.

23 -

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ):

أَي: ثم رجع معرضًا وانْصَرَفَ عن الحق مدبرًا وتولى مستكبرًا عن الانقياد للقرآن، والاتباع لمحمد لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء: قوله: (إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ) وهم أَن يرمي بها -وصف القرآن أَشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط استهزاء به، وقيل: قدر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل، ولم يدر ما يقول، ثم أَدبر عن الحق وأَعرض عنه وتكبر وتعاظم أَن يعترف به وقال ما قال فيه.

24 -

(فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ):

السحر: الخديعة، وقيل: السحر: إِظهار الباطل في صورة الحق، والمعنى: ما هذا الذي أَتي به محمد صلى الله عليه وسلم إِلا سحر يأَثره عن غيره ويتعلمه منه، ويروى وينقل عن الأَولين مثل سحرة بابل وغيرهم، والفاء في قوله تعالى:(فَقَالَ) للدلالة على أَن هذه الكلمة الكاذبَة كما خطرت ببال ذلك المكذب بها من غير تلعثم ومُكْث وانتظار؛ فهي للتعقيب من غير مهملة.

ص: 1663

25 -

(إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ):

أَي: ما هذا إِلا كلام المخلوقين تعلمه محمد منهم، ثم ادعي أَنه من عند الله، وخدع به القلوب كما تُخْدع بالسحر، وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الأَولى؛ لأَن المقصود منهما نفي كونه من كلام الله تعالى، ثم الذي يظهر من تتبع أَحوال الوليد أَنه قال ما قال عنادًا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال.

26 -

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ):

أَي: سأُدخله جهنم كي يصلى حرها ويحترق بنارها، وقال ابن كثير: سأغمره فيها من جميع جهاته، وإِنما سميت جهنم سقر من: سقرته الشمس: إِذا أَذابته ولوحته وأَحرقت جلدَ وجهه.

27 -

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ):

أَيْ: أَيّ شيءٍ أَعلمك ما سقر؟! وهذا الأُسلوب مبالغة في وصفها، وتهويل وتعظيم بشأنها، ثم وصفها وفسر حالها فقال:

28 -

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ):

أَي: لا تترك لهم عظمًا ولا لحما ولا دمًا إِلَاّ أَحرقته، وكرر اللفظ تأكيدًا، وقيل: لا تُبْقي منهم شيئًا إِلا أَهلكته، ثم يعادون خلقًا جديدًا فلا تلبث أَن تعاود إِحراقهم هكذا أَبدًا.

29 -

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ):

أَي: مُقَيِّرة للبشرات مُسَوِّدة للجلود ومحرقة لها، وفي بعض الآثار أَنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أَشد سوادًا من الليل، واعترض بأَن لا يصح وصفًا بما ذكر من تسويدها لظاهر الجلود في سبحانه (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) الصريح في الإِحراق. وأَجيب بأَنها في أَول الملاقاة تُسَوَّد الجلد ثم تحرقه وتهلكه، وقد يجاب بأَن المراد ذكر أَوصافها الفظيعة من

ص: 1664

غير ترق من شديد إِلى أَشد، وكونها "لواحة" وصف من أَوصافها، ولعله باعتبار أَول الملاقاة.

وقال الحسن وابن كيسان والأَصم: (لواحة) بتاء مبالغة من (لَاحَ) إِذا ظَهَر، والبشَرُ بمعنى الناس، أَي: تظهر الناس لعظمها وهو لها كما قال تعالى: "وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى"(1).

30 -

(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ):

أَي: بلي أَمرها ويتسلط على أَهلها بالعذاب تسعة عشر ملكًا، أَلا تري العرب الفصحاء كيف فهموا منه ذلك؟ فقد روي عن ابن عباس أَنها لما نزلت (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) قال أَبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أَسمع أَن ابن أَبي كبشة يخبركم أَن خزنة النار تسعة عشر وأَنتم الدَّهْم (أَي: العدد) والشجعان، أَيعجز كل عشرة منكم أَن يبطشوا برجل فيهم؟، فقال أَبو الأَشد بن أَسيد كَلَدَه الحُمَحي: أَنا أَكفيكم سبعة عشر فاكفوني أَنتْم اثنين، فأَنزل الله (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً) أَي: وما جعلناهم رجالًا من جنسكم يطاقون، والجمهور على أَن المراد بهم النقياء، فمعنى كونهم عليها: أَنهم يتولون أَمرها وتعذيب أَهلها وإِليهم رئاسة زبانيتها، وأَما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ) وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون أَلف زمام، مع كل زمام سبعون أَلف ملك يجرونها".

وذهب بعضهم إِلى أَن التمييز المحذوف: صفًا، أَو صنفًا أَي: عليها تسعة عشر صَفًّا أَو صنفًا.

-

(1)

الآية 36 من سورة النازعات.

ص: 1665

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَاّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37))

المفردات:

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً): أَي: وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون.

(فِتْنَةً): اختيارًا وامتحانًا، أَو سبب فتنة وضلال.

(لِيَسْتَيْقِنَ): ليستبين، أَو ليوقن.

(وَلا يَرْتَابَ): ولا يشك.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ): أَي: شك ونفاق.

(مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا): ما الذي أَراده الله بهذا العدد المُسْتَغْرب استغرب المثل.

(كَذَلِكَ): أَي: مثل إِضلال المنكر لهذا العدد كأَبي جهل وأَحزابه، وهدي مُصَدِّقه.

ص: 1666

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ): الجنود: جمع جند اشتهر في العسكر، اعتبارًا بالغلظة، من الجند، أَي: الأَرض الغليظة التي فيها حجارة، ويقال لكل جمع: جند أَي: وما يعلم جموع خلقوه التي من جملتها الملائكة إِلا هو عز وجل.

(وَمَا هِيَ): أَي: وما سقر -كما قال مجاهد.

(إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ): إِلا تذكرة للبشر وتخويف لهم.

(كَلَاّ): ردع لمن يُنْذَرُ بسقر ولم يخف، وقيل: زجر عن قول أَبي جهل وأَصحابه.

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): قسم بالليل إِذْ ولى وذهب.

(وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ): قسم بالصبح إِذا أَضاءَ وانكشف وأَشرق.

(إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ): أَي: إِن سقر لإِحدى الدواهي العظيمة.

(نَذِيرًا لِلْبَشَرِ): تَخويفًا للبشر.

(أَنْ يَتَقَدَّمَ): إِلى الجنة أَو الخير بالإِيمان.

(أَوْ يَتَأَخَّرَ): إِلى النَّار أَو الشر بالكفر.

التفسير:

31 -

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ):

(وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلائِكَةً): أَي وما جعلنا خزنة النَّار إِلا ملائكة لأَنهم خلاف جنس المعذَّبين من الإِنس والجن فلا يأْخذهم ما يأَخذ المُجَانِس من الرأَفة والرحمة ولا يستروحون إِليهم، ولأَنهم أَقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له فتؤمن هوادتهم، ولأَنهم أَشد خلق الله بأَسًا وأَقواهم بطشًا فلا يقدر أَهل النار عليهم ولا يستطيعون مغالبتهم.

ص: 1667

(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أَي: وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إِلا اختبارًا منا للذين كفروا.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ): أَي: ليحصل اليقين للذين أُوتوا الكتاب من النصاري واليهود بأَن ما يقوله القرآن على لسان محمد عن خزنة جهنم وعددهم إِنما هو حق من الله تعالى؛ حيث وافق ذلك ما في كتبهم.

(وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا): أَي: ويزداد إِيمانهم بما رأَوا من تسليم أَهل الكتاب وتصديقهم أَن عدد الخزنة كذلك، أَو بانضمام إِيمانهم بذلك إِلى إِيمانهم بسائر ما أَنزل.

(وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ): هذا الكلام تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإِيمان، ونفي لما قد يعترى المستيقن من شبهة وشك، أَي ولا يشك في ذلك الذين أَعطوا الكتاب والمؤمنون المصدقون من أَصحاب محمد في أَن عدَّةَ خزنة جهنم تسعة عشر، فإِذا جمع لهم إِثبات اليقين ونفي الشك كان آكد وأَبلغ لوصفهم بسكون النفس، ولأَن فيه تعريضًا بمن عداهم كأَنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين والمرتابين من أَهل النفاق والكفر.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ) أَي: وليقول الذين في صدورهم شك ونفاق من منافقي المدينة الذين سينجمون ويظهرون بعد الهجرة والكافرون بمكة المصرون على التكذيب، ويجوز أَن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأَن أَهل مكة كان أَكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب.

(مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أَي: ما الذي أَراده الله بهذا العدد (تِسْعَةَ عَشَرَ) المستغرب استغراب المثل.

قال الزمخشري: أَي: أَي شيءٍ أَراد الله بهذا العدد العجيب؟ وأَي حكمة قصدها في أَن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين؟ ومرادهم إِنكار هذا الأَمر من أَصله وأَنه ليس من عند الله وأَنه لو كان من عند الله لما جاءَ بهذا العدد الناقص. أهـ: يتصرف.

ص: 1668

وعنوا بالإِشارة (بهذا) التحقير، وغرضهم نفي أَن يكون ذلك من عند الله على أَبلغ وجه، وليس مرادهم الاستفهام حقيقة عن الحكمة.

(كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ذلك: إِشارة إِلى ما قبله من معنى الإِضلال والهداية، أَي: مثل ذلك المذكور من الإِضلال والهداية يضل الله ويخزي الكافر لصرف اختياره حسب السمَّاع إِلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالهدي، ويهدي ويرشد المؤمن لصرف اختياره الحسن عند مشاهدة تلك الآيات.

(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ): أَي: وما يعلم جنود ربك وما عليه كل جند من العدد، والحكمة في كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عقد ناقص، لا يعلم ذلك إِلا هو سبحانه، ولا سبيل لأَحد إِلى معرفة ذلك، كما لا تعرف الحكمة في أَعداد السموات والأَرض وأَيام السنة والشهور والبروج وعدد الصلوات والركعات، أَو ما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إِلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، وهو يعلمها.

روي الترمذي أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَطَّت (1) السماءِ وحُقّ لها أَن تَئِطّ؛ ما فيها موضع أَربع أَصابع إِلا ومَلَك واضع جبهته لله ساجدًا" -ذكره القرطبي-.

قال الآلوسي: وهذه الآية وأَمثالها من الآيات والأَخبار تشجع على القول باحتمال أَن يكون في الأَجرام الأُخري جنود من جنود الله لا يعلم حقائقها وأَحوالها إِلا هو عز وجل ودائرة ملك الله جل جلاله أَعظم من أَن يحيط بها نطاق الحصر، أَو يصل إِلى مركزها طائر الفكر، وفي كل يوم تظهر لنا الكشوف عجائب وغرائب وبدائع من عجيب خلق الله وصنعه، وصدق الله:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ).

واختلف في المخصص لهذا العدد -أَعني تسعة عشر- والذي مال إِليه أَكثر العلماءِ أَن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إِلا الله، وهو كالمتشابه يؤمن العبد به ويفوض علمه

-

(1)

الأطيط: صوت الأقتاب - وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها.

ص: 1669

إِلى الله (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) أَي: وما سقر إِلا تذكرة وعظة للبشر وتخويف للخلق، وقيل: وما هذا العدة (إِلَاّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) ليتذكروا بها ويعلموا كمال قدرة الله وأَنه لا يحتاج إِلى أَعوان وأَنصار.

32 -

(كَلَاّ وَالْقَمَرِ):

(كَلَاّ):: ردع وزجر لمن أَنذر بسقر ولم يخف. (وَالْقَمَرِ) وما بعده مقسم به.

33، 34 - (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ):

(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ): قسم بالليَّل إِذا ولي وذهب.

(وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ): قسم بالصبح إِذا أَضاءَ وانكشف، وفي الحديث "أَسفروا بالفجر فإِنه أَعظم للأَجر" أَي: صلوا صلاة الصبح مسفرين، ويقال: طولوها إِلى الإِسفار، أَي: الإِنارة وظهور الضوء.

35، 36 - (إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيرًا لِلْبَشَرِ):

أَي: إِن سقر لإِحدي اللواهي الكبر إِنذارًا وتخويفًا للبشر، على معنى أَن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها، قال الآلوسي: فيكون في ذلك إِشارة إِلى أَن بلاءَهم غير محصور فيها، بل تحل بهم بلايا غير متناهية، وقال الحسن: والله ما أَنذر الخلائق بشيء أَدهي منها!!.

37 -

(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ):

أَي: نذيرًا لمن شاءَ منكم أَن يتقدم إِلى الخير والطاعة، أَو يتأَخر إِلى الشر والمعصية قال الحسن: هذا وعيد وتهديد، وإِن خُرِّج مُخْرَج الخير كقوله تعالى:"فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"(1) وكان ابن عباس يقول: هذا تهديد وإِعلام: أَن من يتقدم إِلى الطاعة والإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جوزي بثواب لا ينقطع، ومن تأَخر عن الطاعة وكذب محمدًا صلى الله عليه وسلم عوقب عقابًا لا ينقطع.

-

(1)

من الآية 29 من سورة الكهف.

ص: 1670

(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنْ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَاّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (53) كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56))

المفردات:

(رَهِينَةٌ): مرهونة عند الله بكسبها مأخوذة بعملها.

(يَتَسَاءَلُونَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ): يسأَلون عن الكافرين، أَو يسأَل بعضهم بعضًا عنهم.

(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ): ما أَدخلكم في النار؟

(نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ): نشرع في الباطل مع الشارعين فيه لا نبالي به، والخوض في الأَصل: ابتداءُ الدخول في الماءِ والمرور فيه، ويستعمل مجارًا في الشروع في الباطل.

(الْيَقِينُ): الموت ومقدماته.

ص: 1671

(فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ): فما لأَهل مكة عن العظة بالقرآن منصرفين.

(حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ): حمر وحشية شديدة النفار.

(مِنْ قَسْوَرَةٍ): من مُطَارديها من أَسد أَو صائد، وقيل: القسورة: الأَسد، فَعْوَلة من القسر والغلبة.

(صُحُفًا مُنَشَّرَةً): قراطيس واضحة مكشوفة.

(كَلَاّ): ردع لهم عما أَراده، وزجر لهم عن اقتراح الآيات، أَو بمعني: حقًّا، أَي حقًّا إِن القرآن عظة.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى): أَي: الله -سبحانه- حقيق بأَن يُتَّقى عذابه ويؤمَنَ به ويُطَاعَ.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): حقيق بأَن يغفِر لمن آمن به وأَطاعه.

التفسير:

38، 39 - (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ):

رهينة مصدر بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم. والمعنى: كل نفس محاسبة على كسبها مأخوذة بما قدمت من خير أَو شر، رهن بعملها إِماَّ خلَّصها وإِما أَوبقها وأَهلكها.

(إِلَاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ): وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وغيره، ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإِنهم فاكُّون رقابهم بما أَحسنوا من أَعمالهم كما يفكُّ الراهن رهنه بأَداءِ الدَّيْن، ونقل عن علي بن أَبي طالب وابن عمر أَنهم أَطفال المسلمين. وعن ابن عباس أَنهم الملائكة، قال العلامة الآلوسي: الظاهر سياقًا وسباقًا أَن يراد بهم طائفة من البشر المكلفين.

40، 41، 42 - (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ):

(فِي جَنَّاتٍ): الجملة استئناف وقع جوابًا عن سؤَال نشأَ مما قبله، كأَنه قيل: ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات وبساتين لا يكتنه كنهها ولا يدرك وصفها. (يَتَسَاءَلُونَ

ص: 1672

عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أَي: يسأَلون عن الكافرين، أَو أَسال بعضهم بعضًا عن المجرمين قائلين:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أَي: أَيّ شيءِ أَدخلكم النَّار؟! والسؤال سؤَال توبيخ وتحسير، وقيل: إِن المؤمنين يسأَلون الملائكة عن هؤُلاءِ المجرمين، فتسأَل الملائكة المشركين فيقولون لهم:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ).

43، 44 - (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ):

أَي: قال المجرمون من أَهل النار مجيبين للسائلين مبينين لهم أَسباب دخولهم النار يقولون: لم نك من المصلين كما كان يصلي المسلمون المخلصون.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أَي: ولم نك نعطي المسكين ما يجب إِعطاؤه، ولم نك نتصدق عليه ونطعمه، وهو من بني جنسنا وإِخوتنا في الإِنسانية -كما يفعل المسلمون- وهكذا لم يقوموا بالواجب عليهم نحو الله بعبادته بالصلاة، ولا بالواجب الاجتماعي نحو إِخواتهم بالزكاة كما يفعل المسلمون الصالحون، وهدموا بذلك ركنين من أَركان الإِسلام وهما الصلاة: حق الله، والزكاة: حق العباد.

45 -

(وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ):

ومن أَخلاق المجرمين الذين استحقوا بها دخول النار ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) أَي: وكنا ننغمس في الباطل والزور ونندفع فيه، ونخالط أَهله دون اكتراث أَو مبالاة.

والمراد بالخوض هنا: الشروع في الباطل، وأُريد بالباطل ما لا خير فيه وما لا ينبغي من القول والفعل، وعُدّ من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا، وحكاية أَحوال الفَسَقَة على وجه الالتذاذ بها، ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة لغير غرض شرعي، بل لمجرد أَن يتواصل بها إِلى طعن وتنقيص، والتكلم بالكلمة الفاحشة يُضحك بها الرجل جلساءَه، إِلى غير ذلك ممَّا لا يُحصْى، وكان ذكر قوله تعالى:(مَعَ الْخَائِضِينَ) إِشارة إِلى عدم اكتراثهم بالباطل وترك مبالاتهم به، فكأَنهم قالوا: كنا لا نبالي بباطل.

ص: 1673

46، 47 - (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ):

(وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ): هذه هي الصفة الرابعة من صفات المجرمين التي بها استحقوا دخول النار، وهي تكذبيهم بيوم الدين وهو يوم البعث والحساب والجزاء، وتأْخير جنايتهم هذه في الذكر مع كونها أَعظم من الكل لتفخيمها كأَنهم قالوا: وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنًا لسائر جناياتهم المعدودة إِلى آخر عمرهم جاءَ قوله تعالى: (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) أَي: حتى نزل بنا الموت ومقدماته، كما ذهب إِليه جُلُّ المفسرين، ومنه قوله تعالى:"وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ الْيَقِينُ"(1)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أَما هو) يعني عثمان بن مظعون (فقد جاءَه اليقين من ربه)، وقال ابن عطية: اليقين عندي: صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة، والظاهر أَن مجموع ما ذكر من الصفات هو سبب لدخول مجموعهم النار، فلا يقدح في ذلك أَن بعض أَهل النار من لم يكن قد وجب عليه إِطعام مسكين كفقراءِ -الكفرة المعدمين.

48 -

(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ):

أَي: لو شفع لهم الشافعون جميعًا من الملائكة والنبيين وغيرهم لم تنفعهم شفاعتهم، والكلام على الفرض؛ لأَن الشفاعة لمن ارتضاه الله، وأَمَّا من لَقِيَ الله كافرًا يوم القيامة فإِن له النار لا محالة خالدًا فيها، لأَنه مسخوط ومغضوب عليه، والمعنى المقصود: لا شفاعة لهم.

49 -

(فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ):

أَي: فمل لهؤلاءِ الكفرة عمَّا تدعوهم إِليه من الدين وتذكرهم به من القرآن وغيره من المواعظ معرضين ومنصرفين -قال مقاتل: الإِعراض عن القرآن من وجهين:

1 -

الجحود والإِنكار.

2 -

والوجه الآخر ترك العمل به.

-

(1)

الآية 99 آخر سورة الحجر.

ص: 1674

50، 51 - (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ):

المعنى: تشبيه هؤلاءِ الكفار في فرارهم من الرسول وإِعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشِرَادهم عنه ونفورهم من بحُمُر وحشية جَدَّت في نِفارها ممن طاردها من أَسد، أَو رَوَّعها من قانص، أَو أَفْزَعَها من صائد أَو حبالة، وقال ابن الأَعرابي وثعلب: القسورة أَول الليل، أَي: كأَنهم حمر وحشية فرت من ظلمة الليل، وجمهور اللغويين على أَن القسورة الأَسد -فَعْوَلَةٌ: من القسر، وهو القهر والغلبة، وروى ذلك عن ابن عباس كما روى عنه غير ذلك، وفي تشبيههم بالحمر مَذَمَّة ظاهرة وتهجين بيَّن لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل.

52 -

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً):

الآية معطوفة على مقدر يقتضيه المقام -كأَنه قيل: إنهم لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها، بل يريد كل واحد منهم أَن يُؤتَي قراطيس مفتوحة واضحة مكشوفة تنشر وتقرأ، أَو كتبًا كتبت في السماءِ ونزلت بها الملائكة عليهم ساعة كتبت منشرة ومبسوطة على أَيديها غضة رطبة لم تُطْو بعد.

وذلك أَن أَبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها إِني قد أَرسلت لكم محمدًا -نظيره "وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه"(1)، وقال مجاهد: أَرادوا أَن ينزل على كل واحد منهم كتاب من السماءِ فيه من رب العالمين: إلى فلان بن فلان؛ يؤمر فيه باتباعك.

53 -

(كَلَاّ بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ):

(كَلَاّ): ردع لهم عمَّا أَرادوا وزجر لهم عن اقتراح الآيات.

(بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ): لا أُعطيهم ما يتمنون لأَنهم لا يخافون الآخرة اغترارًا بالدنيا، وإِنما أَفسدهم عدم إِيمانهم بالآخرة وتكذيبهم بوقوعها؛ فلذلك يعرضون عن التذكرة ويفتَنُّونَ في طلب الآيات واقتراحها، وليس ذلك ناشئَا عن الامتناع عن إِيتاءِ الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون.

(1) من الآية 93 من سورة الإِسراء.

ص: 1675

54 -

(كَلَاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ):

(كَلَاّ) ردع لهم عن إِعراضهم (إِنَّهُ) أَي: القرآن، أَو التذكرة السابقة في قوله تعالى:(فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) و (ذكر) لأَنه بمعنى القرآن أَو الذكر.

(تَذْكِرَةٌ): أَي: عظة وأَي عظة، وقيل: المعنى: حقًّا إِن القرآن لعظة بالغة نافعة كافية.

55 -

(فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ):

أَي: فمن شاءَ قرأَه فاتعظ به، وقيل: فمن شاءَ أَن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل ذلك واتعظ به؛ فإِنه نفع ذلك راجع إِليه.

56 -

(وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ):

(وَمَا يَذْكُرُونَ): أَي: وما يذكرون بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) إِذ لا تأْثير لمشيئة العبد وإِرادته في أَفعاله: (إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) وهذا تصريح بأَن أَفعال العباد بمشيئة الله عز وجل ومثله: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ"(1).

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى) أَي: هو حقيق بأَن يتقى عذابه ويؤُمن به ويطاع.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ): وحقيق بأَن يَغْفِر لمن آمن به وأَطاعه.

أَخرج أَحمد والترمذي -وحسنه- والحاكم -وصححه- والنسائي وابن ماجه وخلق آخرون:

عن أَنس: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأَ هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فقال: "قال ربكُم: أَنا أَهل أَنْ أُتَّقَي؛ فلا يُجْعَلُ معي إِله، فَمَنِ اتقاني فلم يَجْعَلْ معي إِلهًا آخَرَ فأَنا أَهلٌ أَن أَغِفَرَ لَه" والله أَعلم.

-

(1)

الآية 29 من سورة التكوير.

ص: 1676