الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المجادلة
مدنية وآياتها ثنتان وعشرون
أهم مقاصدها:
بيان حكم ظهار الرجل من امرأته، بأَن يقول لها - مثلًا -: أنت عليَّ كظهر أمي، وأن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كتب الذين من قبلهم - أي: لعنوا مثلهم - وأَن لهم في الآخرة عذابًا مهينًا، وأَن الله تعالى يعلم جميع ما في السموات والأَرض، ومن ذلك أَنه يعلم السر والنجوى وبيان مصير الذين يتناجون بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول صلي الله عليه وسلم، وأَن على المؤمنين إذا قيل لهم: تفسحوا في المجالس أَن يتفسحوا، وأَن الذين يتولون قومًا معادين الإسلام أعدَّ الله لهم عذابًا مهينًا، وأَن الله تعالى قضى بأَن يَغلب هو ورسله جميع أعداء الدين، وأن من يتركون مودة من يحادون الله ورسوله - ولو كانوا أقاربهم - أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، وأنهم سيدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار:(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).
أسماء هذه السورة:
تسمي المجادلة، بكسر الدال، وفتحها، والكسر أشهر، وتسمى أيضا سورة (قد سمع) وسورة الظهار.
مناسبتها لها قبلها:
ختمت السورة السابقة بفضل الله، وافتتحت هذه بما هو من ذلك حيث سمع الله شكوى هذه المرأة، وأزال شكوي كربتها، بما بينه من حكم الظهار، وجاء في مطلع السورة السابقة ذكر صفات الله الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وأنه سبحانه {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ، وافتتح هذه السورة بذكر أنه تعالى سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى، إلي غير ذلك من المناسبات.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
(تَحَاوُرَكُمَا): تراجعكما في الكلام من حار إذا رجع، ويجوز أن يكون المراد به الكلام المردد السمع للمسموعات.
التفسير:
1 -
نزلت هذه الآية والآيات بعدها في امرأة من الأنصار اسمها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجي، وقيل غير ذلك، ولكن الأكثرين على أنها هي خولة بنت ثعلبة المذكورة، وأن زوجها هو أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي، وكان هذا أول ظهار في الإسلام.
وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه، فندم أوس من ساعته، فدعاها فأبت وقالت: والذي نفسي بيده: لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتي يحكم الله ورسوله فينا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سني ونثرت بطني - أي كثر ولدي - جعلني عليه كأمه وتركني إلي غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشي بها وإياه فحدثني بها، فقال
- عليه الصلاة والسلام: والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن - وفي رواية ما أراك إلا قد حرمت عليه - فقالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق عليّ من فراقه.
وفي رواية قالت: أشكو إلي الله - تعالي - فاقتي وشدة حالي، وأن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلي السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: يا خولة أبشري فقالت: خيرًا. فقرأ عليها عليه الصلاة والسلام (قَدْ سَمِعَ) وكان عمر رضي الله عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول: قد سمع الله تعالى لها.
روي ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات: أنها رأته رضي الله عنه وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده علي منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش علي هذه العجوز قال: ويحك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله لشكواها من فوق سبع سموات. هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها (1).
وفي رواية أخري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعي عُميرا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب - وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلي آخرة، لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر. (2)
(1) حكاه الآلوسي.
(2)
حكاه القرطبي.
وروي النسائي وابن ماجه والبخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت بعد أن نزلت الآية (قَدْ سَمِعَ): الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلي النبي صلي الله عليه وسلم وأنا في ناحية من البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله تعالي: (قَدْ سَمِعَ
…
) الآيات (1).
والسماع مجاز، أو كناية عن القبول، والسمع والبصر من صفات الله تعالي، وهما غير صفة العلم، فكل المسموعات والمبصرات يعلمه الله تعالي.
وبعض العلماء قال: إنهما كناية عن العلم، وهذا خطأ لما فيه من محو صفتي السمع والبصر وهما في صفاته وأسمائه تعالي:(وَلله الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، نقل القرطبي عن الحاكم أبي عبد الله قوله: والسمع والبصر من صفات الله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة فهما من صفات الذات. لم يزل الله سبحانه وتعالي متصفا بهما.
والمعني الإجمالي للآية: قد سمع الله - تعالي - قول خولة بنت ثعلبة التي تسألك في حكم ظهار زوجها منها بقوله لها: أنت علي كظهر أمي، وتشتكي إلي الله تعالي لينزل في شأنها حكمها غير الطلاق الذي جعلوه في الجاهلية حكما للظهار، وكانت هذه الشكوي إلي الله - تعالي - بعد أن أفهمها الرسول صلي الله عليه وسلم أنه - سبحانه - لم ينزل في شأنه حكما، والله يسمع تحاورها معك - أيها الرسول - وترديدها للشكوي، إن الله عظيم السمع للمسموعات وإن كانت همسا، عظيم البصر للمرئيات وإن كانت دقيقة، فلهذا لم يخف عليه - سبحانه - ما جري بينك وبينها من الحوار.
(1) حكاه الآلوسي.
المفردات:
(يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ): يقول الرجل منكم لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو ما في معناه، وسيأتي بيانه.
(إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ): ما أمهاتهم.
(مُنْكَرًا): يستنكره الشرع والعقل.
(وَزُورًا): وكذبا منحرفا عن الحق.
التفسير:
2 -
شروع في بيان الظهار وحكمة المترتب عليه شرعا، والظهار: مصدر ظاهر، وحقيقة الظهار - كما قال القرطبي -: تشبيه ظهر بظهر، والموجب الحكم منه تشبيه ظهر محلل بظهر محرم، وقد أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي فهو مظاهر، أما لو قال لها: أنت علي كظهر ابني وأختي أو غيرهما من المحارم فإنه يكون مظاهرا عند أكثر الفقهاء، ومنهم من قال: لا ظهار إلا بالتشبيه بظهر الأم، وهو مذهب قتادة والشعبي، لأنه هو الذي قام عليه الحكم، والأول هو المعتمد، لأن تشبيه المظاهر ظهر امرأته بظهر أمه، هو تشبيه بظهر محرم، فليكن مثله في الحكم التشبيه بظهور كل المحارم.
قال القرطبي في المسألة الثالثة: وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترا.
وفي الظهار صريحة وكنايته آراء شتى، فارجع إليها إن شئت في موسوعات التفسير أو الفقه.
والظهار يكون في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها، علي أن يكون صادرا من كل زوج يجوز طلاقه.
والمعني الإجمالي للآية: المؤمنون الذين يقولون لنسائهم: أنت علي كظهر أمي مخطئون (1) ما نساؤهم أمهاتهم عيل الحقيقة، فهوكذب لا يليق بالمؤمنين أن يقولوه، ما أمهاتهم علي الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا تشبه نساؤهم بهن، وإنما يشبه بهن المرضعات (2) وزوجات الرسول - كما جاء في الكتاب والسنة - وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا التشبيه منكرا في الشرع والعقل والطبع، وزورا - أي: وكذبا باطلا - وإن الله لعظيم العفو والغفران للتائبين وغيرهم فإنه تعالي واسع المغفرة.
ويفهم من الآية أنه حرام، بل قال بعضهم: إنه من الكبائر؛ لأنه إقدام علي تبديل حكم الله بغير إذنه، ولهذا أوجب الله فيه الكفارة العظمي.
(1) على أن خبر المبتدأ محذوف، ويصح أن تكون الجملة التي بعده خبره.
(2)
أي: في الحرمة والكرامة، أما الزوجات فأبعد شيء عن الأمومة، فلا يشبهن بهن.
المفردات:
(يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا) قال الفراء: اللام في قوله (لِمَا قَالُوا) بمعنى عن، أي: يرجعون عما قالوه ويريدون وطء نسائهم بعد أن حرموه على أنفسهم.
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ): فعليه إعتاق رقبة.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا): أي: من قبل أن يجامعها.
(ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ): أي: ذلك التغليظ في الكفارة لكي تعملوا بشرائع الله التي شرعها لكم، فلا تعودوا إلي الظهار الذي هو من شرائع الجاهلية.
(وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: أحكامه التي حددها فلا يحل تركها.
التفسير
3 -
بين الله في الآية السابقة الحكم الإجمالي للظهار، وهو أنه منكر وزور، وجاءت هذه الآية وما بعدها بيانا لحكمه تفصيلا شاملا لظهار أوس زوج خولة التي حاورت الرسول صلي الله عليه وسلم بشأنه، ولظهار غيره من الأزواج.
وقد بينت الآية أن الظاهر الذي يعود لما قال في امرأته، فعلية تحرير رقبة من قبل أن يمسها بالوطء والعود لما قاله، رجوعه عن تحريمها علي نفسه كأمه، إلي الرغبة في وطئها الذي حرمه علي نفسه، فاللام فيه بمعنى: عن، كما قاله الفراء، أي: يعود ويرجع عن تحريمها إلي الرغبة في وطئها.
وقد جاء في الآية أنه لا يحل له وطؤها حتى يكفر عن ظهاره بتحرير رقبة أي: إعتاق رقيق كامل الرق، ليصبح بهذا الإعتاق حرًّا بعد عبوديته، يتصرف تصرف الأحرار، لا تصرف العبيد، ولا بد في هذا الرقيق أن يكون سليما من العيوب - ذكرا كان أو أنثى - ويجب أن يكون مسلما عند مالك والشافعي كما في كفارة القتل، وعند أبي حنيفة:
يجزئ الكافر ومن فيه شائبة رِق كالمكاتب، فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزئ عند المالكية والحنفية، وقال الشافعي: يجزئ، لأن نصفي العبدين في معني العبد الواحد، ولكل دليله.
وقد أوجب الله في هذه الآية أن يكون الإعتاق قبل أن يجامعها، فإن جامعها قبل التفكير أثم وعصي ولا يسقط عنه التكفير، بل يأتي به قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها، سواء أكانت الكفارة بالعتق أم بالصوم أم بالإطعام.
أما مسُّها بغير الوطء قبل الكفارة كالقُبْلَة والمباشرة بغير وطء فلا يحرم عند أكثر العلماء، وقيل: ذلك وما أشبههن من أنواع المسيس حرام قبل أن يكفر، وبه قال مالك وهو أحد قولين عند الشافعي، وهو الظاهر؛ لأن مثل ذلك يؤدي إلي الوطء قبل التكفير (1).
والمعني الإجمالي للآية: والرجال الذين يظاهرون من نسائهم ثم يرجعون عما قالوه من تحريم وطئهن كالأمهات إلي الرغبة في وطئهن، فعلى كل واحد منهم إعتاق عبد أو أمة إعتاقا كاملا قبل أن يجامع زوجته أو يستمتع بها عند بعضهم، ذلكم تؤمرون به، والله بما تعملون خبير، فيعفو عمن كفر قبل المسيس، ويعاقب من مسَّ قبل الكفارة.
4 -
أفادت هذه الآية الكريمة أن الكفارة مرتبة، فلا ينتقل إلي الصوم من قدر علي العتق، ولا إلي الإطعام من قدر علي الصيام، وتفصيل ذلك ما يلي:
1 -
من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها لكنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن وليس له غيره حتي يبيعه
(1) فإن من حام حول الحمي يوشك أن يقع فيه، واعلم أنه لا ظهار للمرأة من الرجل - كما قال الشافعي، وقال الأوزاعي: هو يمين تكفرها، وقال الزهري: لا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها - انظر المسألة الثانية عشرة من القرطبي.
ويشتري الرقبة بثمنه، فله أن يصوم شهرين متتابعين عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلي ذلك.
2 -
الكفارة الثانية للظهار أن يصوم شهرين إن عجز من الإعتاق بأي وجه مما تقدم ويجب أن يكون صيامهما متتابعا، فإن أفطر في أثنائهما لغير عذر استنأنفهما، فإن كان الفطر لعذر كسفر ومرض، فقيل: يبني على ما صامه - وهو الصحيح الذي قال به أكثر الأئمة، وقال أبو حنيفة: يبتديء. وهو أحد رأيي الشافعية.
3 -
إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة: أتمَّ الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي: وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقطع الصيام ويعتق الرقبة.
4 -
إذا وطئ المظاهر نهارا في أثناء صومه بطل التتابع وعليه أن يستأنف، فإن كان ليلا فلا يستأنف؛ لأن الليل ليس محلا للصوم، وقال مالك وأبو حنيفة: يبطل وعليه الاستئناف؛ لأنه وطئ قبل الكفارة لقوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).
5 -
من لم يقدر على الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكينا إطعاما مشبعا، وذهب الشافعي وغيره إلي أنه مد واحد لكل مسكين.
وفي الظهار أحكام فرعية كثيرة، فمن أرادها فليرجع إلي موسوعات التفسير أو الفقه.
والمعني الإجمالي للآية: فمن ظاهر من امرأته ولم يجد رقيقا ليعتقه؛ لأنه قد لا توجد عبيدا أو كانت موجودة ولا قدرة له على ثمن العبد، أو له قدرة على ثمنه لكنه يحتاج إليه لخدمته أو نحوها مما سبق بيانه - فمن ظاهر من امرأته ولم يجد رقيقا يعتقه على النحو السابق فعليه قبل أن يمس امرأته أن يصوم ستين يوما متتابعة، فإن أفطر في بعضها لغير عذر استأنف، فإن كان لا يقدر على الصيام شهرين متتابعين، فعليه أن يطعم ستين مسكينا إطعاما مشبعا، ذلك البيان المفصل لكي تؤمنوا بالله ورسوله بتنفيذه، وتلك الأحكام هي حدود الله الفاصلة بين الحق والباطل، فالزموها وقفوا عندها، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يعلمون بها عذاب شديد الإيلام.
وإطلاق لفظ الكافرين على من يتعدون حدود الله لزجرهم والتغليظ عليهم، ونظيرة قوله - تعالى - {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} (1).
المفردات:
(يُحَادُّونَ): يعادون ويشاقون.
(كُبِتُوا) أهلكوا أو أُخذوا.
(عَذَابٌ مُهِينٌ): مذهب ومزيل لعزهم وكبرهم.
التفسير:
5 -
لما ذكر الله المؤمنين الواقفين عند حدوده، عقبهم بذكر المحادين المخالفين لها، قال القرطبي: والمحادة: المعاداة والمخالفة في الحد، وقال الزجاج: المحادة: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك وأصلها الممانعة، ومنه الحديد، ومنه الحداد للبواب. أ. هـ
(1) سورة آل عمران من الآية 97.
وقال الآلوسي نقلا عن ناصر الدين البيضاوي في تفسير (يُحَادُّونَ اللَّهَ) يضعون، أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال نقلا عن شيخ الإسلام سعد الله جلبي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم لمن وضعوا أمورا خلاف ما حدده الشرع وسموها قانونا، والله - تعالى - المستعان على ما تصفون. انتهى بتصرف يسير.
ثم قال الآلوسي: إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق الآراء من أهل الحل والعقد، على وجه يحسن به الانتظام، ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين، بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام، فليس ذلك من المحادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في شيء، بل فيه استيفاء حقه، تعالى عن أتم وجه، لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام ثم قال: وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة وإشارة إلي ذلك، ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) لأن المراد كماله من حيث تضمنه ما يدل على حكم الله تعالى خصوصا أو عموما، ويرشد إلي هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين، إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، ونعم القانون الذي يكون وراء ذلك، بأن كان مصادما لما نطقت به الشريعة الغراء، زائغا عن سنن المحجة البيضاء، فيه ما فيه كما لا يخفي على العارف
…
إلخ.
والآية عن الأكثرين أشارت إلي ما كان يوم الخندق، ولكن حكمها عام، يتناول أهل الخندق وكل من يعارض أحكام الله - تعالى - ويعاديها ويؤثر عليها قوانين من وضع البشر مخالفة للنصوص الشرعية، ما لم تكن تلك القوانين فيما لم يرد فيه حكم الله تعالى، ويدل لجواز وضع القوانين فيما لم تنص عليه الشريعة أنه صلى الله عليه وسلم بعث معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي إلي اليمن قاضيا ومفقها وأميرا وجامعا للزكاة، فقال له:"كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ " قال: بما في كتاب الله، قال:"فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلو -
أي: لا أُقصر، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" رواه أحمد أبو داود والترمذي وابن ماجه.
والمعني الإجمالي للآية: إن الذين يعادون الله فلا يعلمون بحدوده وأحكامه، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ويرفضونها أو يضعون أحكاما مخالفة لنصوص الشريعة تفضيلا لها عليها، أخزاهم الله ولعنهم كما فعل بالذين من قبلهم، وهم الذين عارضوا رسل الله السابقين ورفضوا حدود الله وشرائعه التي أنزلها إليهم، وقد أنزلنا آيات واضحات الحجة بينات المحجة، وللكافرين بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به عذاب يهينهم ويذلهم.
6 -
أي: أذكر لهم أيها الرسول تعظيما ليوم الحساب - اذكر لهم - يوم يبعثهم الله جميعا رجالا ونساء، ويحشرهم إلي ساحة القيامة، فينبئهم بما عملوا في الدنيا من الآثام والمعاصي، وفي جملتها معاداة شريعة الله - ينبئهم بما عملوه - بيانا أو تصويرا لها بالصورة اللائقة بها على رءوس الأشهاد تخجيلا وتشهيرا بحالهم، زيادة في خزيهم ونكالهم أحصى الله ما عملوه عددا ولم يفته منه شيء علما وكتابة في صحف أعمالهم ونسوه لكثرته وتهاونهم به حتى ذكرهم به الله، ليكون أبلغ في الحجة عليهم، والله على كل شيء مطلع وناظر، فلا تخفى عليه من أعمالهم خافية.
المفردات:
(نَجْوَى) النجوي: التناجي، وهو المسارَّة.
(لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ): هلا يعذبنا الله بسبب ما نقول.
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ): كافيهم جهنم عقابا لهم في الآخرة.
التفسير:
7 -
(1) نجوى فاعل (يكون) التامة، و (من) زائدة و (إلا) أداة استثناء ملغاة لا عمل لها، وجملة (هو رابعهم) استثناء من أعم الأحوال.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم من المنافقين واليهود كانوا يتناجون بما يسيء المسلمين فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك، قال مجاهد: نزلت في اليهود، والنجوي: مصدر بمعني التناجي، وقال القرطبي نقلا من غيره: كل سرارٍ نجوي، وقيل: النجوي يكون من خلوة ثلاثة يسرون شيئا يتناجون به، والسرار ما يكون بين اثنين (1).
والمعني: ألم تعلم أيها الرسول أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض، من عناصرهما وما استقر فيهما، حتى المناجاة - أي: المسارة - فإنه يعلمها ويعلم المتسارِّين بها، ما يكون من مسارة بين ثلاثة إلا الله رابعهم بعلمه لا بحلوله معهم في مكانهم، فإنه - تعالى - لا يحل في مكان ولا يمر عليه زمان، وكل من الزمان والمكان من خلقه - تعالى - وما يكون من مسارة بين خمسة إلا الله سادسهم بعلمه، ولا أقل من ذلك كالاثنين والأربعة، ولا أكثر منه كالستة وما فوقها، إلا هو معهم بعلمه، فلا يخفي على الله من نجواهم شيء حيثما كانوا في ظاهر الأرض أو باطنها، فإنه علمه - تعالى - لا يتفاوت باختلاف الأماكن قربا وبعدا ثم يخبرهم بما عملوا يوم القيامة تشهيرا بما عملوا من هذه المسارة الخبيثة وسواها، وإظهارا لموجب عذابهم، وأن الله مطلع على كل شيء فلا تخفي عليه خافية، وهذه الآية تؤكد ما جاء قبلها من أنه - تعالى - يعلم الذين يحادون الله ورسوله، ويضعون أحكاما مخالفة لشرعه، وأنه تعالى سوف ينبئهم بما عملوه، ويجزيهم عليه، وخلاصة الآية أنه - تعالى - محيط بكل كلام، ومن ذلك أنه سمع مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها، فإن قلت: لماذا اقتصر الله على الثلاثة والخمسة؟ فالجواب كما قال الفراء: المعني غير مصمود (2) والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفي عليه خافية، فمن أجل ذلك اكتفى بذكر بعض العدد دون بعض (3).
(1) وقال الراغب: النجوى أصله مصدر كما هنا، وقد يوصف به فيقال: هو نجوي وهم نجوي. قال تعالى: (وإذا هم نجوي) وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل: أهـ، يريد أنه على المبالغة كزيد عدل.
(2)
أي: غير مقصود.
(3)
نقله القرطبي.
8 -
صح من رواية البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن أناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليكم. قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، وفي رواية: عليكم السام والذل واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة: إن الله لا يجب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام، فقال: يا عائشة أو ما سمعت أقول: وعليكم؟ فأنزل الله تعالى (وَإِذَا جَاءُوكَ .... ) الآية.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الآية في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون دون المؤمنين، وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم، يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر، فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم، فلما كثر ذلك شكا المؤمنون إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين، فعادوا لمثل ذلك فنزلت الآية، فمن حديث عائشة عرفنا أن النجوي كانت من اليهود، وأن الآية نزلت بسبب سوء تحيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن كلام ابن عباس عرفنا أن المنافقين كانوا يتناجون بالصورة التي رواها، ولا غرابة في ذلك فقد كان اليهود حلفاءهم قبل الإسلام، وعنهم أخذوا بعض الإسلام والمسلمين.
ومعنى الآية: ألم (1) تعلم - أيها الرسول - ما فعله أولئك الذين نهيتهم عن المسارة فيما بينهم في شأنك وشأن المؤمنين، ثم يعودون لما نهوا عنه ويتسارون بالإثم والعدوان عليكم، وبمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم ينتهوا عما نهوا عنه، وإذا جاءوك لأمر من الأمور حيوك بما لم يحيك به الله، فقالوا: السام عليك - والسام: الموت - وقد ثبت عن قتادة عن أنس أن يهوديا أتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي أصحابه فقال، السام عليكم - فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم
(1) الهمزة للتعجب.
وقال: "أتدرون ما قال هذا؟ " قالوا الله ورسوله أعلم، قال: كذا ردوه عليّ، فردوه قال:"قلت السام عليكم؟ " قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:"إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت".
وقال الله - سبحانه -: (حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)؛ لأنه الله يحييه بالسلام في مثل قوله تعالى (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وقوله (وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) وبما جاء في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والتعبير بذلك للإيذان بشناعة ما قاله اليهود لمن اصطفاه الله للرسالة وسلم عليه، ويقول هؤلاء اليهود: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما نقول فهلا يعذبنا، وقد فات هؤلاء الجاهلين أن الله تعالى يعصى بكل المعاصي ومنها الكفر به ولا يعذب أولئك العصاة عذابا عاجلا ولا يقطع عنهم الرزق وكم من نبي أسيء إليه من قومه، لم يعاجلهم الله بالعقوبة، وهذا مقرر ومعروف لديهم (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) عذابا يدخلونها ويصطلون بها (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم، فهي شر وأشد من عذاب الدنيا، وصدق الله تعالى إذ يقول:(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)(1).
(1) سورة إبراهيم، الآية 42.
المفردات:
(تَنَاجَيْتُمْ): تساررتم.
(وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى): وتسارُّوا بالخير وتقوي الله تعالى.
(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ): إنما المسارة بالمساءة، مصدرها والحامل عليها الشيطان.
(وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ): وليس الشيطان أو التناجي بالسوء بضارِّ المؤمنين بنفسه، بل بإرادة الله.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ): فليعتمدوا على الله، ويتركوا أمرهم إليه، فإنه يحفظهم من كل سوء لم يكتبه عليهم.
التفسير
9 -
هذه الآية للنهي عن المسارة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم، والخطاب فيها يجوز أن يكون للمؤمنين المخلصين تعريضا بالمنافقين، وكأنه قيل: يا أيها المؤمنون المخلصون في إيمانهم لا تفعلوا مثل المنافقين واليهود في تناجيهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك هو اللائق بصدق إيمانكم.
ويجوز أن يكون الخطاب للمنافقين، وإطلاق لفظ المؤمنين عليهم باعتبار ظاهر حالهم، ومسايرة لهم في زعمهم.
وقيل: إنه خطاب لليهود، والمقصود من وصفهم بالإيمان إيمانهم بموسي عليه السلام كما جاء في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} (1) وقد ختم الله الآية بقوله - سبحانه -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
(1) سورة الحديد من الآية 28.
أي: وخافوا الله الذي إليه وحده تحشرون بعد بعثه لكم من قبوركم، لا إلي غيره استقلالا أو اشتراكا.
10 -
أي: إنما التناجي والمسارة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم من الشيطان، فهو المتسبب فيها والحامل عليها؛ ليدخل الحزن في قلوب المؤمنين، وليس الشيطان أو التناجي بالإثم والعدوان بضارهم شيئا من الضرر إلا بإرادة الله - تعالى - ومشيئته، وذلك بأن يقضي بالموت أو الغلبة على أقاربهم، وعلى الله فليتوكل المؤمنون فلا تكترثوا بتناجيهم، ولتتوكلوا على الله ولا تحزنوا فلا يقع في ملكة إلا ما يريد، والمقصود من الآية إزالة خوف المؤمنين من تناجي أعدائهم.
وقد روي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه"، وعلق عليه الآلوسي فقال، ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان ذلك يحزنه.
وعلق عليه القرطبي بقوله: يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجي أربعة دون واحد، ولا عشرة ولا ألف - مثلا - لوجود هذا المعني في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون التناجي دون هذا الواحد بالمنع أولي، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتي ذلك فيه، وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب ابن عمر ومالك والجمهور، وسواء كان التناجي في مندوب أو مباح أو واجب، فإن الحزن يقع به، وقد ذهب بعض الناس إلي أن ذلك كان في أول الإسلام، لأن ذلك كان في حال المنافقين، فيتناجي المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك. أهـ.
ورأي الجمهور أرجح من ذلك.
المفردات:
(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ): توسعوا في أماكن الجلوس.
(فَافْسَحُوا): فتوسعوا.
(وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا): أي: وإذا قيل انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا.
التفسير
11 -
لما نهي الله فيما سبق عما هو سبب للتنافر والتباغض، أمر في هذه الآية بما هو سبب للمودة والوفاق، وهو أن يتفسحوا في المجالس في المسجد أو غيره لمن يقولهم لهم (1): تفسحوا
(1) التفسح: تفعل من الفسح وهو التوسعة، يقال: فسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا أي: وسع له، وبابه منع، ومنه قولهم: بلد فسيح، ولك في كذا فسحة، أما فسح - بضم السين - فهو من باب كرم تقول: فسح المكان: أي صار واسعا.
والمعني: يا أيها الذين آمنوا إذا قال لكم قائل منكم: توسعوا في المجالس في المسجد أو غيره فاستجيبوا له وليفسح بعضكم عن بعض في المجالس، ولا تتضاموا فيها لمنعه من الجلوس بينكم، فإذا أفسحتم له يفسح الله لكم في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم، وقال بعضهم: المراد يفسح الله: سبحانه - لكم في كل ما تريدون الفسح فيه مما ذكر أو غيره.
قال القرطبي: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير، والأجر، سواء أكان مجلس حرب أم ذكر أم مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه فلا يقام منه كرها، بل يستأذن في التوسعة، قال صلى الله عليه وسلم:"من سبق إلي ما لم يسبق إليه فهو أحق به"(1) ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق عن موضعه، روي البخاري ومسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه الذي يجلس فيه"، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه نهي أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا"، وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه" واللفظ البخاري.
والأكثر قالوا: إن الآية نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضامِّ في مجلسه صلى الله عليه وسلم والضِّنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل، قال الآلوسي: وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجالسه صلى الله عليه وسلم ومصاف القتال وغيرها.
(وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا (2) فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
والمعنى كم قال القرطبي: وإذا قيل لكم: انهضوا إلي الصلاة والجهاد وعمل الخير، فانهضوا ولا تتباطئوا، وقال ابن زيد: هذا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يجب أن يكون آخر عهده النبي صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - (وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا) عن النبي صلى الله عليه وسلم فانشزوا فإن له حوائج فلا تمكثوا.
(1) انظر سنن أبي داود "كتاب الخراج والإمارة والفيء" ج 3 ص 452، 453 فقد ورد الحديث برقم 3071 بنحوه.
(2)
أمر في النشز وهو الارتفاع، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها.
وذكر الله أجر من امتثل في قوله - تعالى - (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)
وهذه الدرجات إما أن تكون للذين أتوا العلم، وتنكير هذه الدرجات يؤذن بتعظيمها، وإما أن تكون لجميع المؤمنين وفيهم الذين أتوا العلم، وعطفهم على الذين آمنوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم كأنهم جنس آخر، ولذلك أُعيد لفظ الموصول معهم.
أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا: "فضلُ العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" - {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (1).
ورفعهم درجات يكون في ثواب الآخرة وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على غير المؤمن، ويرفع العالم على من ليس بعالم.
وختم الله الآية بقوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيجزي من يعمل بهذه الآية خير الجزاء ويعاقب من لم يمتثل بما يناسبه من عقاب.
(1) سورة الزمر من الآية 9.
المفردات:
(نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ): ساررتموه.
(بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ): قبل نجواكم، وفي هذا التعبير استعارة تمثيلية أو مكنية، والنجوى: المسارة.
(أَأَشْفَقْتُمْ): أخفتم، أو شق عليكم.
(وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ): قبل توبتكم، أو رفع عنكم التكليف بتقديمها.
التفسير
12 -
ذكر الآلوسي في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس وقتادة، أن قومًا من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم، وكان صلى الله عليه وسلم سَمْحًا لا يرد أحدا، فنزلت هذه الآية.
وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكشرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت. قال الآلوسي تعليقا على نزول هذه الآية: وفي هذا الأمر تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ونفع الفقراء، وتمييز بين المخلص والمنافق، ومحب الآخرة ومحب الدنيا، ودفع للتكاثر عليه من غير حاجة مهمة.
وقال زيد بن أسلم: لما نزلت هذه الآية انتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقوموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا عن النجوي، لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بما نزل بعد الآية.
وهذه الصدقة كان من مقاصدها نفع الفقراء، فإنها طلبت لتعطي لهم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل من الصدقة، ولم يعين في الآية مقدارها؛ ليجزيء القليل والكثير منها، وقد نسخ العمل بها كما سيأتي بيانه في الآية التالية.
قال القرطبي: الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة، ثم قال: وذكر القشيري وغيره عن علي بن أبي طالب أنه قال: آية في كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) كان لي دينار فبعثه، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نَفِد، فنسخت بالآية الأخري:(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)، وقال ابن عباس أيضا: نسخها الله بالآية التي بعدها، وقال ابن عمر:
لقد كانت لعلي بن أبي طالب ثلاث، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوي.
والمعني الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: إذا ساررتم الرسول صلى الله عليه وسلم فقدموا قبل هذه المسارة والمناجاة صدقة تصرف على فقرائكم ذلك خير لكم وأطهر لقلوبكم، فإنه يعودها على حب البذل في الخير، كما أن فيه إعداد النفس لمزيد التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم تجدوا ما تتصدقون به فإن الله غفور رحيم لمن ناجاه ولم يتصدق قبل المناجاة لفقره.
13 -
أي: أخفتم الفقر بسبب أن تقدموا قبل نجواكم صدقات (1) أو أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتب الفقر عليه (2) فإذ (3) لم تفعلوا ما أُمرتم به من تقديمها قبل المناجاة وتاب الله عليكم من كثرة المناجاة للرسول صلى الله عليه وسلم من غير ضرورة، حيث عدلتم عنها بعد تكليفكم بتقديم الصدقة قبلها، والتزمتم القصد فيها والتخفيف فيها، فتحقق الغرض
(1) وعلى هذا فالمفعول محذوف وهو لفظ الفقر، وأن تقدموا القليل لهذا الخوف، بتقدير باء السببية أو لفظ على قبل أن تقدموا.
(2)
وعلى هذا يكون لفظ: (أن تقدموا
…
الخ) هو المفعول به لأشقق.
(3)
لفظ إذ في قوله - تعالى - (فإذا لم تفعلوا) ظرف الزمان الماضي.