الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النبأ
مكية، وعدد آياتها أَربعون آية وتسمى أَيضا "عم" وعم يتساءلون
مناسبتها لما قبلها:
أَنها ركزت على إِثبات القدرة على البعث، وكان محور السُّورِ السابقة عليها هو تكذيب الكفرة به وذلك بالرد عليهم وإِثبات جهالتهم، كما أَنها تشترك مع ما قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار ووصف يوم الفصل الذي ذكر هنا مفصلا وفيما قبلها مجملا.
مقاصد السورة:
ابتدأَت بالحديث عن يوم القيامة، والبعث والجزاءٍ، ذلك الموضوع الذي شغل الكثيرين من كفار مكة حتى صاروا ما بين مصدق به وشاكٍّ ومكذب (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ .. ) الآيات.
أَقامت الأَدلة على إِمكان البعث بما عرضت من مظاهر القدرة التي تشير إِلى أَن من قدر على هذا الإِبداع، لا يعجزه إِعادة خلق الإِنسان (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا
…
) الآيات.
أَبرزت تأَكيد البعث بذكر بعض علاماته التي تنبئ بوقوعه لا محالة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا
…
) الآيات.
تحدثت عن جهنم التي أَعدها الله للطاغين، وما فيها من أَلوان العذاب وصنوف العقاب:(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا .. ) الآيات.
تحدثت عن المتقين بيان ما يتمتعون به من أَنواع النعيم الدائم (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا
…
) الآيات.
أَشارت إِلى قيام الروح والملائكة بين يدي رب العالمين، وبينت حالهم في هذا الموقف العظيم: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا
…
) الآية.
وختمت السورة بالإِنذار والتخويف من هذا اليوم الرهيب الذي حمل رُعْبُهُ كلَّ كافر على أَن يقول: يا ليتني كنت ترابًا (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا
…
) الآية.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)):
المفردات:
(عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ): الأَصل: عن ما يتساءَلون، أُدغمت النون في الميم، وحذفت أَلف ما في الاستفهام تخفيفًا لكثرة الاستعمال.
(عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ): عن الخير الذي له شأْن وخطر.
(أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا): ممهدة للخلائق ذلولًا لهم.
(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا): أَي: كالأَوتاد أَرسينا بها الأَرض حتى قرَّت وثبتت كما يرسي البيت من الشعر ونحوه بالأَوتاد.
(نَوْمَكُمْ سُبَاتًا): قاطعًا عن الحركة، من السبب: وهو القطع؛ لأَنه يقطع الإحساس والحركة.
(اللَّيْلَ لِبَاسًا): يستركم بظلامه كما يستركم اللباس.
(النَّهَارَ مَعَاشًا): تتقلبون فيه فهو وقت تحصيل عيشكم.
(سَبْعًا شِدَادًا): أَي: سبع سماوات قوية الخلق بديعة الصنع.
(سِرَاجًا وَهَّاجًا): مشرقًا متلأْلئًا من وهجت النار إِذا اتقدت، والمراد به: الشمس.
(وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ): وهي السحائب حانت وقاربت أَن تعصرها الرياح فتمطر.
(مَاءً ثَجَّاجًا): شديد الانصباب، يقال: ثَجَّ الماء: إِذا سال بكثرة، وثجه: أَساله، ورد لازمًا ومتعديا.
(حَبًّا وَنَبَاتًا): الحب: ما يقتات به نحو الحنطة والنبات: ما يؤكل خضرًا رطبًا من التبن والحشيش.
(وَجَنَّاتٍ) المارد بها: كل بستان يستر بأَشجاره الأَرض،، من الجَنِّ وهو الستر.
(أَلْفَافًا): ملتفة تداخل وتشابك بعضها ببعض، وهو اسم جمع لا واحد له، أَو جمع لفيف بمعنى ملفوف، كشريف وأَشراف، أَو ليف كجِذْغ وأَجذاع.
التفسير:
1 -
3 - (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ):
أَي: عن أَي شيءٍ يتساءَلون. والضمير لكفار مكة وإِن لم يسبق ذكرهم وفي ترك ذكرهم إهانة واحتقار لهم، وكانوا يتساءَلون فيما بينهم عن البعث ويخوضون فيه إِنكارًا له واستهزاءً به لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أَحواله، ووصف من أَوصافه.
وقيل: كانوا يتساءَلون، أَي: يسأَلون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بطريق السخرية والتكذيب ويجيء (تفاعل) بمعنى فَعل كتواني زيد، بمعنى ونَى، وتَدانَى الأَمرُ، بمعنى دنَا، وتعالى الله عما يشركون، بمعنى علا، ومنه تساءَل بمعنى سأَل.
وليس المراد بالاستفهام في بدءِ السورة الاستعلام وإِنما أَريد به تفخيم المسئول عنه بإِبهام أَمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتشويقهم إِلى معرفة شأْنه، فإِن إِيراده من علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية، تنبيه على أَنه خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأَن يعتني بمعرفته، ويسأل عنه، كأنه قيل: عن أَي شيءٍ يتساءَلون؟ ثم قيل بيانًا للمسئول عنه بطريق الجواب يتساءلون (عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) أَي: عن الخبر الذي له شأنه وخطره وهو البعث، ثم وصف بالعظيم لتأكيد ذلك وقد ورد الجواب على منهاج قوله تعالى:"لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"(1) حيث كان السؤال والجواب من الله تعالى.
(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ): وصف ثان للنبأ بعد وصفه بالعظيم تأْكيدا لخطره؛ فهو تأْكيد إِثر تأكيد للمبالغة، أَو إِشعارًا بالباعث على التساؤل عنه، وإِيثار أَن تكون صلة الموصول جملة اسمية للدلالة على الثبات، أَي: هم راسخون في الاختلاف فيه فمنهم منكر جازم باستحالته يقول:
"إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ"(2) ومنهم شاكٌّ يقول: "مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَاّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ"(3) ومن الاختلاف أَن منهم من ينكر الْمعَاديْنِ: البعث والقيامة كهؤُلاءِ، ومنهم من ينكر البعث الجسماني فقط، وحمل بعضهم الاختلاف في كيفية الإِنكار، فمنهم من ينكر البعث لإِنكار الصانع المختار، ومنهم من ينكره بناءً على استحالة إِعادة المعدوم بعينه، وقيل: إِن الضمير في (يَتَسَاءَلُونَ) للمسلمين والكافرين، وكانوا جميعًا يتساءَلون عنه: فالمسلم يسأل ليزداد خشية واستعدادًا، والكافر يسأَل ليزداد كفرًا وعنادًا.
4 -
(كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ):
بدأَت الآية الكريمة بقوله سبحانه وتعالى: (كَلَاّ) لردع منكري البعث عن التساؤُل عنه، وعن مخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إِنكارهم له أَوشكهم في وقوعه،
(1) غافر، الآية 16.
(2)
المؤمنون، الآية 37.
(3)
الجاثية، من الآية 32.
وقوله تعالى: (سَيَعْلَمُونَ) وعيد لهم وزجر على ما حدث منهم من تساؤُل، واستهزاء وتعليل للردع بطريق الاستئناف، والسين للتقريب والتأكيد، أَي: ليرتدع هؤُلاءِ عَمَّا هم فيه، فإِنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إِذا حل بهم العذاب والنكال، ونزلت بهم الدواهي ومختلف العقوبات وفي ذلك من الوعيد ما فيه، وقيل المعنى: سيعلمون ما يتساءَلون عنه وهو البعث فيخجلون استخزاءً من تساءُلهم واستهزائهم بين يدي ربهم عز وجل.
5 -
(ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ):
تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة فيها، فكأنه قيل: لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان، ثم قيل: بل لهم يومئذ عذاب أَشد وأشد، وثم للتفاوت في رتبة العذاب بين الردع الأَول والثاني، وقيل: إِن الجملة الأُولى تشير إِلى ما يكون عند النزع، وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء، والجملة الثانية تشير إِلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب، وملاقاة شديد العقاب، وعلى هذا فـ (ثُمَّ) في مكانها من إِفادة التراخي لما بين الأَمرين من البعد الزماني.
6 -
(أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا):
استئناف مَسوق لتحقيق النبأ العظيم بتعداد بعض الدلائل الناطقة بكمال قدرته - تعالى - والتي لا يسعهم إِنكارها، ولا مناص لهم من الإِقرار بها فكيف يُنكرون على هذه القدرة إِعادة خلق الإِنسان علمًا بأَن مَنْ قدر على الإِنشاء كان على الإِعادة أَقدر.
وجوز أَن يكون بتقدير (قُلْ) كأَنه قيل: قل كيف تنكرون البعث أَو تشكون فيه وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة، والعلم المحيط، والحكمة الباهرة المقتضية لا يكون ما خُلِق عبثًا؟!
والاستفهام في الآية للتقرير بما بعده، كأَنه قيل لهم: قد جعلنا الأَرض التي تسكنونها موطأَة لكم كالفراش للاستقرار عليها، والتقلب في أَنحائها للانتقاع بسهولها الواسعة، واستخراج كنوزها المتنوعة، فَأَقِرُّوا بفضل الله عليكم.
7 -
(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا):
أَي: هي للأَرض كالأوتاد التي تُشَد بها البيوت من الشعر ونحوه، صيانة لها من أَن تتقاذفها الرياح، أَو تتلاعب بها العواطف، وعلى ذلك فالجبال لتثبيت الأَرض واستقرارها، حتى لا تميد بكم أَو يختل توازنها في دورانها فلا تصلح لسكناكم، مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأَرض لمثلها، وشبهت بالأوتاد لبروزها، أَو لأَنها تحفظ الأَرض من الْمَيَدَانِ والاضطراب.
8 -
(وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا):
أَي: مزدوجين ذكرًا وأُنثى ليتم الائتناس، والتعاون، وحفظ الجنس، وينتظم أَمر المعاش، وقيل: أَصنافًا من اللون، والصورة، واللسان.
9 -
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا):
أَي: جعلناه كالسبات -وهو الموت- من السبْت: وهو القطع، ووجه تشبيه النوم به لما فيه من قطع الحركة والعمل، وعلى ذلك قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ)(1) وهذا اختيار المحققين، وقد قيل: النوم أَحد الموتتين، وفي البحر: جعلناه سباتًا، أَي: سكونًا وراحة
…
يقال: سبت الرجل: إِذا استراح.
10 -
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا):
أَي: ساترا لكم بظلمته كما يستركم اللباس، ويقول الآلوسي:(ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به، ما يُستتر به عند النوم كاللحاف ونحوه، فإِن تشبيه ستر الليل به أَكمل، واعتباره في تحقيق المقصد أَدخل) وهو كون الظلام محيطًا بكم كإِحاطة ما يستتر به عند النوم.
والرأَي الذي اختاره غير واحد: إِرادة الأَعم من الذي يستتر به عند النوم وغيره، وأَن المعنى: جعلناه ساترًا لكم بظلمته عن العيون، وللناس في هذا الستر فوائد اللباس، فكما
(1) الأنعام، من الآية: 60
أَن اللباس يستر العورات عن النظر كذلك اللَّيل يستركم عن العيون إِذا أَردتم هربًا من عدو، أَو فرارًا من حيوان مفترس، ويختفى فيه الكامن للوثوب على عدوه للتخلص منه، والنجاة من شره، ويتقي به كل من أراد أَلا يُطلع الناس على كثير من أُموره.
11 -
(وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا):
أَي: وقت حياة تُبعثون فيه من نومكم الذي هو أَخو الموت، ولما جعل -سبحانه- النوم موتًا مجازًا جعل -سبحانه- اليقظة حياة كذلك، والنهار زمن هذه الحياة، فهو وقت معاش، يستيقظون فيه ويتقلبون في حوائجهم ومكاسبهم، قال ابن كثير: أَي: جعلناه مشرقًا منيرًا وضيئًا ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك.
12 -
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا):
وهي السموات السبع جعلها -سبحانه- محكمة متقنة وزينها بالكواكب، ومع اتساعها وارتفاعها لا يسقط منها شيءٌ، ولا تتأَثر بمرور الأَزمان، وتتابع الدهور لشدتها البالغة، والتعبير عن خلقها بالبناءِ مبني على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق عند النظر إِليها.
13 -
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا):
أَي: وخلقنا وأَبدعنا كوكبًا مضيئًا متلأْلئًا، وهو الشمس التي يتوهج ضوؤها لأَهل الأَرض كلهم دائمة الحرارة والتَّوقُّدِ، قال المفسرون: الوهاج: المتوقد الشديد الإِضاءَة ويلتهب من شدته، وقال ابن عباس: المنير المتلألئُ.
14 -
(وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا):
أَي: أَنزلنا الماء من السحائب التي أَعصرت، بمعنى قاربت وشارفت أَن تعصرها الرياح فتمطر، ومنه: أَعصرت الجارية: إِذا قاربت أَن تحيض. قال في التسهيل: المعصرات: هي السحب، مأْخوذة من العصر لأَنها تنعصر فينزل الماءُ. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة:
إِن المعصرات الرياح؛ لأَنها، تعصر السحاب فيمطر، ولما كان المطر يسببها سميت معصرات والأَصل في المطر تكاثف أَبخرة المياه المتصاعدة من المحيطات والبحار ونحوها على شكل سحب، وتحويلها إِلى نقط من الماء أَو حبات من الثلج، أَو هما معًا.
(مَاءً ثَجَّاجًا) أَي: منصبًا بكثرة متتابعًا كما قال مجاهد وقتادة والثوري وابن زيد.
15 -
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا):
أَي: لنوجد بهذا الماء الكثير المنافع ما يدخر للأَناسي والأَنعام ويقتات به كالقمح والشعير وما يؤكل خضرًا ويابسًا كالحشيش والتبن، وتقدم الحب مع تأَخره في الإِخراج عن النبات لأَصالته وشرفه، لأَن غالبه غذاء الإِنسان.
16 -
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا):
أَي: ولنخرج به بساتين وحدائق، وأُطلِق عليها (جَنَّاتٍ) لأَن بكل منها أَشجارًا تستر وجه الأَرض، وقال الفراء: الجنة: ما فيها النخيل، والفردوس: ما فيه الكْرم.
(أَلْفَافًا): أَي: إِن هذه الجنات ذات الثمار المتنوعة والألوان المختلفة والطعوم المتميزة والروائح الطيبة قد التفت أَغصانها، وتشابكت أَفنانها وتداخل بعضها ببعض، لتقارب أَشجارها وتكامل نموها.
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلْطَّاغِينَ مَآبًا (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا (24) إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا (30))
المفردات:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ): وهو يوم القيامة؛ لأَن الله يفضل فيه بين خلقه.
(يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ): المراد: النفخة الثانية، والصور: البوق وهو معروف.
(أَفْوَاجًا): أَي: أمما كل أُمة معها إِمامها، أَو زُمَرًا وجماعات متباينة.
(فَكَانَتْ أَبْوَابًا): شقوقًا وشروخًا كالأَبواب.
(فَكَانَتْ سَرَابًا): أَي: مثل سراب، وهو ما تراه نصف النهار كأنه ماء فإِذا جئته لم تجده شيئًا.
(كَانَتْ مِرْصَادًا): أَي: موضع رصد وترقب، ترقب فيه خزنة النَّار الطاغين لتعذيبهم.
(مَآبًا): أَي: مآلا ومرجعًا.
(مَاكِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا): دهورًا متتابعة لا نهاية لها، جمع حُقُبٍ -بضم وسكون، وبضمتين- وفسر بالدهر أَو السنة أَو السنين، وعن ابن مسعود أنه ثمانون سنة، وعن أَبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم أَنه سبعون سنة.
(حَمِيمًا): الحميم: هو الماء البالغ الغاية في الحرارة.
(وَغَسَّاقًا): وهو ما يسيل من أَهل النار من الصديد، وفي القاموس: البارد المنْتِن.
(كِذَّابًا): أَي: تكذيبًا شديدًا، ومجيء (فِعَّال) بمعنى (تفعيل) في مصدر (فَعَّلَ) سائغ في الفصيح، وعن الفراء أَنها لغة يمانية.
التفسير
17 -
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا):
بعد أَن بين الله لهم بهذه الدلائل المشاهدة قدرته الباهرة ليزمهم الحجة في أَمر البعث حتى لا يجدوا سبيلا إِلى جحوده، بعد ذلك هددهم أَشد التهديد ببيان أَن الساعة آتية لا محالة، وفيها فصل القضاء بين الحق والباطل، والحساب والجزاء، فقال تعالى:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا): أَي إِن يوم القيامة مؤقت بأَجل محدود في علم الله لبعث الأَوَّلين والآخرين لا يزاد عليه ولا ينقص عنه كما قال -سبحانه-: (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَاّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ)(1) وفي ذلك رد على من كانوا يستعجلون قائلين: "مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ"(2).
18 -
(يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا):
الآية وما يتلوها نوع تفصيل لكيفية وقوع يوم القيامة وما يقع فيه من أَهوال، و (يَوْمَ) في قوله تعالى:(يَوْمَ يُنفَخُ) وقع بدلان من يوم الفصل، أَو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله، أَي: أَن يوم الفصل هو يوم النفخ في الصور الذي يحدث فيه ما يحدث، والمراد، النفخة الثانية لإسرافيل عليه السلام في الصور، وهو القرن الذي أُعد لذلك، وقيل: هذا تصوير لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إِلَاّ نفخة في بوق يصدر عنها صوت عظيم بعيد المدى.
وعلينا أَن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أَن نعلم ما هي حقيقة هذا الصور، والبحث في هذا لا يسوغ، وليس علينا من حرج في تركه، ولا ضير في تأَخير الفصل عن النفخ حسب وقوعه -فإِن زمان القيامة زمن ممتد يقع النفخ في أَوله، وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) أَي: فتبعثون من قبوركم فتأَتون إلى الموقف -عقب ذلك بغير مهلة أصَلا- أُمما، كل أَمة بإِمامها كقوله تعالى:"يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ"(3) أَو زُمَرًا وجماعات مختلفة الأَحوال متباينة الأَوصاف حسب اختلاف الأَعمال وتباينها.
19 -
(وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا):
أَي: شقوقًا اتخذها الملائكة طرقًا ومسالك لنزولهم، كقوله تعالى: "وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
(1) هود، الآية 104.
(2)
يس، من الآية:48.
(3)
الإسراء، من الآية 71.
السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا" (1) فإِذا شققت السماء لوقوع الاضطراب في نظامها وذهاب التماسك بينها، فهي كالأبواب، وقد فسر الفتح بالشق لقوله تعالى: "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" وقوله: "إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ" ولعل نكتةَ التعبير بالفتح عن الشق الإِشارةُ إِلى كمال قدرته -تعالى- حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة، أَو على التشبيه البليغ، أَي: فصارت شقوقها لسعتها كالأَبواب، أَو فصارت من كثرة شقوقها كأَنها ليست إِلا أَبوابًا مفتحة، وفي هذا تصوير لما يحدث في هذا اليوم من شدائد وخطوب.
20 -
(وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا):
تمثيل لِمَوْرِ الأَرض في ذلك اليوم حيث تفتتت الجبال بعد اقتلاعها من مقارها، وسيرت في الجو على هيئاتها، كما يعرب عنه قوله تعالى:"وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"(2).
أَي: أَنك تراها رأْي العين فتحسبها ساكنة في أَماكنها مع أَنها تمر مر السحاب الذي تسيره الرياح سيرًا حثيثًا، وذلك أَن الأَجرام العظيمة إِذا تحركت نحوًا من الأَنحاء لا تكاد تظهر حركتها وإن كانت في غاية السرعة، ولا سيما من بعيد، ويشير تشبيه سرعة الجبال في سيرها بسرعة الحساب إِلى تشبيه آخر، وهو تشبيه حالها بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق بذلك قوله تعالى:"وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ"(3). وهذا الصنيع العظيم عند حشر الخلائق ليشاهدوما ثم يفرقها -سبحانه- في الهواء، وذلك قوله تعالى:(فَكَانَتْ سَرَابًا) أَي: فصارت بعد تَسييرها مثل سراب، فترى كأَنها جبال، وليست بجبال، وإِنما هي غبار عظيم متراكم يحسبه الناظر إِليه من بعيد جبلا، ولكنه ليس بشيءٍ كالسراب يحسبه الرائي وقت الظهيرة ماءً، حتى إِذا جاءَه لم يجده شيئًا.
(1) الفرقان، الآية: 25
(2)
النمل، من الآية: 88
(3)
القارعة، من الآية: رقم 5
فالكلام على التشبيه البليغ، والجامع بين المشبه والمشبه به أَن كلا من الجبال والسراب يُرَى على شكل شيءٍ وليس هو بذلك الشيءٍ، والجبال وإِن اندكت انصدعت عند النفخة الأُولى لكن تسييرها وتسوية الأَرض إِنما يكون عند النفخة الثانية، ويشير إِلى ذلك قوله تعالى:"وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي"(1) واتباع الداعي وهو إِسرافيل عليه السلام يكون بعد النفخة الثانية.
21 -
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا):
شروع في وعيد المكذبين، وبيان ما يلاقونه من عذاب ونكال في جهنم دار إِقامتهم إِلى لا يبر حونها أَبدًا أَي: إِنها موضع ترصُّد وترقُّب، ترصد فيه خزنة النًّار الكافرين ليعذبوهم، وترصد الجنة المؤمنين ليحرسوهم من قبحها في مجازهم عليها، وقيل: ترصد الملائكة الطائفتين، لتنفذ إِحداهما وهي المؤمنة، وتعذب الأُخرى وهي الكافرة، وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق، وهو أَحد معانيه، فيكون للطائفتين، قال الحسن، وقتادة في قوله تعالى:(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) أَي: إِنه لا يدخل أَحد الجنة حتى يجتاز بالنار، فإِذا كان معه جواز نجا، وإلا احتبس، وقيل: اعلموا أنه لا سبيل إِلى الجنة حتى تقطع النار. ذلك لأَنها مجاز وممر للجميع.
22 -
(لِلْطَّاغِينَ مَآبًا):
أَي: إِنها تكون للمردة العصاة المخالفين للرسل مقرًّا ومرجعًا يرجعون إِليه، ويقيمون فيه. يتجرعون فيه عذابًا غليظًا، وعقابًا شديدا كلما نضجت جلودهم بدلهم الله غيرها ليستمر إِحساسهم بالأَلم وشعورهم به.
23 -
(لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا):
أَي: ماكثين فيها يصلون سعيرها دهورًا متتابعة، كلما مضى منها حقب تبعة آخر
(1) طه، الآيات: 105 - 107 وصدر الآية: 108
إِلى ما لا نهاية فلا يخرجون منها أَبدًا، ولا يخفف عنهم من عذابها، ويؤيد ذلك ما روى عن الحسن أَنه قال: الحقب زمان غير محدود.
24، 25 - (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا):
أَي: لا يذوقون في جنهم شيئاً ما من برد، ويراد به برد النسيم الذي يريحهم، وينفس عنهم حر النار وقيل: يراد به النوم، فقد ورد عن بعض العرب: منه البردُ البردَ، أَي: النوم، ولا يذوقون شيئًا من شراب يروى غلتهم، ويسكن عطشهم فيها، (إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا): لكن يتجرعون فيها حميمًا، وهو الماء الحار البالغ غاية الحرارة، وغساقًا وهو ما يسيل من جلود أهل النار من صديد، وقيح، وعرق، ودموع، وفي الحديث:(إِنَّ الرجلَ منهم إِذا أَدنَى ذلكَ من فيهِ سقطَ أَديمُ وجْهِه حتى يبقَى عظامًا تَقَعْقع) ذكره الآلوسي.
26 -
(جَزَاءً وِفَاقًا):
أَي: الذي صاروا إِليه من العذاب جزاء موافق لأَعمالهم السيئة في الدنيا، بمعنى أَنَّه يقدرها في الشدة والضعف لا يزيد عليها ولا ينقص عنها، كما يقتضيه عدل الله ورحمته.
27 -
(إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا):
تعليل لاستحقاقهم هذا العذاب، أَي: لأَنهم كانوا لا يخافون أنَ يحاسبوا بأَعمالهم التي اقترفوها. إِمعانًا منهم في الكفر والطغيان، أَو لم يكونوا يعتقدون أَن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون.
28 -
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا):
المعنى: أَنهم كانوا يكذبون بآيات الله الدالة على البعث، أَو التي أَنزلها على رسله تكذيبًا شديدًا مفرطًا.
29 -
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا):
أَي: وكل شيءٍ من الأَشياء التي من جملتها أَعمالهم. قال أَبو حيان: وكل شيءٍ مما يقع
عليه الحساب والعقاب فهو عام مخصوص (أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) أَي: حفظناه وضبطناه بإِحصائنا له إِحصاءً تامًا، وقد جعل قوله:(كِتَابًا) مصدرًا مؤكدًا لأَحصينا، لأَن الكتابة والإِحصاءِ يتشاركان في معنى الضبط، وأَصل الإِحصاء: من لفظ (الحصا) وكانوا يعتمدون عليها في العد ضبطًا قويًّا تامًّا.
ويجوز أَن يكون المراد: وكل شيءٍ أَحصيناه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، أَو في صحف الحفظة، والظاهر أَن الكلام على حقيقته، والكتابة هنا على النحو الذي يليق بتنزيه الله تعالى، وهو أَعلى من كتابتنا التي نعرفها، وأَشد ضبطا، وقال بعضهم: إِنه تمثيل لصورة ضبط الأَشياءِ في علمه تعالى بضبط المحصى المجد المتْقن للضبط بالكتابة، وهذا التمثيل لتفهيمنا، وإِلا فالانضباط في علمه تعالى أَجل وأَعلي من أَن يمثل بشيءٍ. والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق الذي بدئ به بقوله تعالى:(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) لبيان أَن ذلك كان لا محالة لأَن معاصيهم مضبوطة مكتوبة يواجهون بها يوم الجزاءِ.
30 -
(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا):
ذلك مسبب عن كفرهم بالحساب والجزاء، وتكذيبهم الآيات. روى قتادة عن أَبي أَيوب الأَزدي عن عبد الله بن عمر أَنه قال: لم ينزل على أَهل النار آية أَشد من هذه، فهم في مزيد من العذاب أَبدًا، وأَخرج عبد بن حميد، وجماعة عن الحسن أَنه قال: سأَلت أَبا برزة الأَسلمي عن أَشد آية في كتاب الله تعالى: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا) ووجه الأَشدية على ما قبل: إِنه تقريع في يوم الجزاء، وغضب من أَرحم الراحمين، وتأْييس لهم.
واستشكل أَمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزاء موافقًا للأَعمال كما في قوله تعالى: (جَزَآءً وِفَاقًا) وأَجيب بأَن العذاب لما كان للكفر والمعاصي، وهي متزايدة في القبح في كل آن، وعلم الله لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك، اقتضى حالهم زيادة العذاب وشدته يومًا فيومًا وقيل: لما كان كفرهم أَعظم كفر، اقتضى أَشد عذاب، والعذاب المزيد يومًا فيومًا من أَشد العذاب، وقيل غير ذلك.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36))
المفردات:
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا): أَي: فوزًا وظفرًا بطلباتهم ورغباتهم، أو محل فوز بذلك وهو الجنة.
(وَأَعْنَابًا): جمع، عنب، ويقال للكرم نفسه ولثمرته.
(كَوَاعِبَ): جمع كاعب، وهي التي برز ثدياها واستدارَا مع ارتفاع يسير.
(أَتْرَابًا): متساويات في العمر تشبيهًا لها في التساوي والتماثل بالترائب وهو ضلوع الصدر.
(وَكَأْسًا دِهَاقًا): مملوءَة. يقال: دهقت الكأْس وأَدهقتها، والكأْس إِناءٌ يشرب فيه أَو ما دام الشراب فيه كما في القاموس.
(لَغْوًا): ما لا يعتد به من الكلام.
التفسير
31 -
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا):
شروع في بيان أَحوال المؤمنين الأَبرار إِثر بيان سوء أَحوال الكافرين أَهل النار، أَي: إِن للمتقين الذين تمسكوا بطاعة ربهم، واتقوا الكفر، إِن لهؤُلاءِ فرزًا وظفرًا في الدنيا بكل محبوب، ونجاة وسلامة من كل مكروه، أَو أَن لهم موضع فوز وظفر بجنات النعيم، وخلاص ونجاة من عذاب الجحيم.
ثم بين سبحانه هذا الفوز فقال:
32 -
(حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا):
أَي: بساتين فيها أَنواع من الأَشجار المثمرة، والأَزهار المتفتحة، وأَعنابًا وهي الثمار المعروفة أَو أَشجارها وخصت بالذكر مع اندراجها في البساتين إِشارة لأَهميتها والاعتناء بها.
33 -
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا):
أَي: بنات قد استدارت نهودهن مع ارتفاع يسير، متساويات في العمر مع التماثل في صفات الجمال والكمال، والتمتع بالبنات المتصفات بذلك في الجنة على صورة لا نعلم حقيقتها، وغاية ما يجب أَن نصدق به، وأَنه تمتع فائق اللذة على وفق ما يناسب ذلك العالم الأُخروي.
34 -
(وَكَأْسًا دِهَاقًا):
أَي: وكأْسًا من الخمر مملوءَة مترعة. صحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أَنه قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة، وأَخرج ابن جرير عن عكرمة أَنه قال: دهاقًا: أَي صافية، وقال القرطبي: المراد بالكأْس الخمر، كأَنه قال: وخمر ذات دهاق: أَي: عُصرت وصُفَّيت.
35 -
(لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا):
أَي: إن أَسماع أَهل الجنة مصونة عن سماع ما لا يعتد به من الكلام، وهو الذي يُورد ويقال لا عن رَوِيَّة وفكر كما قال الراغب، لأَنه يجري مجرى اللُّغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير، وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، وكذا كل ما لا يعتد به مطلقًا عن روية أَو غيرها، كما أَنها مصونة عن سماع الكذب من القول لأَنها دار السلام وكل ما فيها نقي من الباطل والنقص، وقد تضمنت هذه المذكورات أَنواعًا من اللذات الحسية كما هو واضح.
36 -
(جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا):
أَي: إِن الجزاءَ الذي جوزى به المتقون حصل لهم بتوفيق ربك -أَيها النبي- وتأْييده ويشير إِضافة الرب إِليه صلى الله عليه وسلم دونهم إِلى تشريفه -صلوات الله عليه- (عَطَاءً) أَي: تفضلا وإِحسانًا منه تعالى: إِذ لا يجب عليه -سبحانه- شيء (حِسَابًا) أَي: كافيًا لهم وافرًا شاملا، من قولهم: أحسبهُ الشيء: إِذا كفاه حتى قال حسبي، ومنه: حسبي الله. وقيل: معناه: كون الجزاء على حسب أَعمالهم.
أَي: مقسطًا على قدرها، وروى ذلك عن مجاهد، وكأَن المراد بذلك مقسط بعد التضعيف، وبذلك يندفع ما قيل: إِنَّه غير مناسب لتضعيف الحسنات، ولهذا لم يقل هنا (وِفَاقًا) كما قيل في الآية السابقة:(جَزَاءً وِفَاقًا).
(رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))
المفردات:
(خِطَابًا) أَي: لا يقدر أَحد أَن يخاطبه سبحانه في رفع بلاءِ أَو دفع عذاب في ذلك اليوم، هيبة وجلالًا.
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ): هو جبريل عليه السلام وقد ورد ذكره كثيرًا بذلك. واختلف المفسرون في المراد من الروح ما هو، على أَقوال، منها ما روي عن ابن عباس أَنه قال: إِنهم أَرواح بني آدم، وقيل: إنه ملك عظيم أَو إِنهم أَشراف الملائكة، أَو أَنه جبريل عليه السلام قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك، ويستشهد لهذا القول بقوله تعالى: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ) (1) وهذا الرأَي أَوفق الآراء.
(فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا): أَي: مرجعًا.
(يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا): يتمنى الكافر أَن لو كان في الدنيا ترابًا فلم يُخْلَق بشرًا، ولم يكلف.
التفسير:
37 -
(رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا):
أَي: إِن هذا الجزاء الموفور من ربك العظيم فاطر السموات والأَرض وما بينهما على غير مثال يحتذيه (الرَّحْمَنِ) الذي وسعت رحمته كل شيءٍ، ولا شك أَن في ذكر ربوبيته تعالى لجميع الخلق، ورحمته الواسعة إِشعارًا بمقدار الجزاء المذكور (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) استئناف مقرر لما أَفادته الربوبية العامة من غاية العظمة والكبرياءِ، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاءِ والعطاءِ، فلا يكون لأَحدنا قدرة عليه، وضمير (لا يَمْلِكُونَ) لأَهل السموات والأَرض، والمراد نفي قدرتهم على أَن يخاطبوه تعالى بشيءٍ من نفص العذاب أَو زيادة الثواب بغير إِذنه على أَبلغ وجه وآكده، كما قال تعالى:"يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ"(2)
38 -
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا):
(1) الشعراء، الآيتان: 193، 194
(2)
هود، من الآية رقم: 105
المعنى أَنه في هذا اليوم الرهيب، يقف جبريل عليه السلام والملائكة - مخلوقات الله الغيبية -مصطَفِّينَ، فيقف جبريل وحده صفًّا، والملائكة صفًّا آخر، وقيل: صفوفًا؛ لقوله تعالى: "وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا"(1) وذكر قيامهم واصطفافهم لتحقيق سلطانه وكبرياءِ ربوبيته، وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إِلى آخرها.
(لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) الضمير في (لا يَتَكَلَّمُونَ) لأَهل السموات والأَرض الذين من جملتهم الروح والملائكة، والآية استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى:(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) ومؤَكد له على معنى أَن أَهل السموات والأَرض إِذا لم يقدروا حينئذ على أَن يتكلموا بشيءِ من جنس الكلام إِلا من أَذن الله له منهم في التكلم مطلقًا، وقال ذلك المأْذون قولا صوابا أَي: حقًّا من الشفاعة لمن ارتضى.
وإِظهار (الرَّحْمَنُ) في موضع الإِضمار للإِيذان بأَن مناط الإِذن الرحمة البالغة، لا أَن أَحدًا يستحق ذلك عليه سبحانه وتعالى.
39 -
(ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا):
ذلك إِشارة إلى يوم قيام الروح والملائكة على الوجه الذي ذكر، وما في الإِشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إِليه للإِيذان بعلو درجته، وبعد منزلته في الهول والفخامة أَي: إِن ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه الروح والملائكة مصطفين غير قادرين هم ولا غيرهم على التكلم فيه من الهيبة والجلال، هو يوم القيامة الذي أَخبر عنه -سبحانه- بأَنه الحق، أَي: الثابت المتحقق الذي لا ريب في وقوعه من غير صارف يلويه، ولا عاطف يشنيه.
(فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) أَي: إِذا كان الأَمر كما ذكر من تحقيق اليوم وإِتيانه بلا شك في وقته المعين له، فمن شاءَ أَن يتخذ مرجعًا إِلى ثواب ربه فليفعل ذلك بالإِيمان والعمل الصالح، وهو حث وترغيب، في سلوك الطريق القويم، وتقدير المضاف وهو لفظ (ثَوَاب) قبل لفظ (رَبِّهِ) لاستحالة الرجوع إِلى ذاته تعالى.
(1) سورة الفجر، الآية رقم: 22
40 -
(إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا):
الخطاب لكفار قريش المنكرين للبعث.
والمعنى: إِنا خوفناكم بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بما في البعث وما بعده من الدواهي.
أَو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم (عَذَابًا قَرِيبًا) هو عذاب الآخرة، وقربه لتحقق وقوعه حتمًا، فقد قيل: ما أَبعد ما فات، وما أَقرب ما هو آت، أَو لأَنه قريب بالنسبة إِليه تعالى:"إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا"(1).
(يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) أَي: إِن الذي أَنذرناكم به عذاب كائن يوم يشاهد المكلف مؤمنًا أَو كافرًا ما قدمه من خبر أَو شر مثبتًا في صحائف أَعماله كقوله تعالى "وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا"(2) وقوله سبحانه: "يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ"(3) وقوله: "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ"(4) إِلى غير ذلك من الآيات، وما اليوم الذي يحدث فيه ذلك إِلا يوم القيامة. (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) أي: ويتمنى الكافر فيه أَن لو كان ترابًا في الدنيا فلم يخلق ولم يكلف، أَو يتمنى ذلك في هذا اليوم فلم يبعث حتى ينجو من الحساب والعقاب، وعن أَبي هريرة وابن عمر ومجاهد أن الله يحضر البهائم فيقتص من بعضها لبعض، ثم يقول لها: كوني ترابًا، فتعود جميعًا ترابًا، فإِذا رأَى الكافر ذلك تمنى مثله، وفي ذكر قول الكافر تخصيص لأَحد الفريقين اللذين تناولهما لفظ (الْمَرْءُ) الذي ذكر في الآية وأُريد منه الكافر والمؤمن كما قيل على المشهور.
(1) المعارج، الآيتان: 6، 7
(2)
الكهف، من الآية:49.
(3)
القيامة، الآية: 13
(4)
آل عمران من الآية: 30.