الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النصر
وهي مدنية، وآياتها ثلاث آيات
مناسبتها لما قبلها:
إنه لَمَّا ذكر في السورة (الكافرون) اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه، ودين الكفار الذي يعكفون عليه، أشار في هذه السورة (سورة النصر) إلى أن دينهم سيضمحل ويزول، وأن الدين الذي يدعو إليه الرسول -وهو الإسلام- سيغلب عليه، ويكون هو دين الأعظم.
مقاصد السورة:
طلبت هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاء نصر الله وفتح مكة، ورأى الناس يدخلون في دين الله جماعات -أن يسبح بحمده شكرًا له، وينزهه عمَّا لا يليق، ويستغفره لنفسه وللمؤمنين؛ لأن سبحانه هو الذي يقبل توبة التائبين:
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ .... ) إلى آخر السورة.
ولقد حدث الفتح كما أخبر لله، وذلك من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم.
قال الآلوسي: سورة النصر، وتسمى سورة (إِذَا جَاءَ) وعن ابن مسعود أنها تسمى (سورة التوديع) لما فيها من الإيماء إلى قرب وفاته صلى الله عليه وسلم وتوديعه الدنيا وما فيها، وجاءَ في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت دعا إليه فاطمة رضي الله عنها وقال:"إنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِليَّ نَفْسِي" فبكت، ثم ضحكت، فقيل لها، فقالت: أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم أَخبرني بأَنكِ أَوَّلُ أَهلي لحوقًا بي فضحكتُ، وقد فهم ذلك منها عمر رضي الله عنه وكان عليه الصلاة والسلام بعدها يفعل فعل مُوَدِّع.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3))
المفردات:
(نَصْرُ اللَّهِ): عونه لك على أعدائك ، يقال: نصره على عدوه ، أي: أعانه عليه.
(الْفَتْحُ): الفصل بينه وبين أَعدائه ، وإِعزاز دينه ، والمراد به -على الأَرجح-: فتح مكة.
(أَفْوَاجًا): جمع فوج ، وهو -على ما قال الراغب: جماعه المارة المسرعة، ويراد به مطلق الجماعة.
التفسير
1 -
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ):
(إِذَا): ظرف للزمن المستقبل ، والإعلام بذلك من أَعلام النبوة، روي أَنها نزلت في أيام التشريق بمِنًى في حجة الوداع.
والمعنى: إذا تحقق نصر الله والفتح لك وللمؤمنين ، وإذا تأكد نصر الله لدين الحق وانهزام أَهل الشرك ، وفتح الله بينك وبين قومك بجعل الغلبة لك عليهم ، وإعزازك أَمرك ، وإعلاء كلمتك ، قال الزمخشري ، والفرق بين النصر والفتح: أن النصر الإغاثة والإظهار على العدو، ومنه نَصَرَ الغيثُ الأَرض: إذا أَغاثها وأَعانها على إخراج نباتها ، والفتح: فتح البلد ، والفصل بينك وبين الأَعداءِ.
والأكثرون على أن المراد بالنصر صلح الحديبية، وكان في آخر سنة ست، والمراد بالفتح: فتح مكة، روي ذلك عن مجاهد وغيره، وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة وكان المسلمون في هذه الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وقيل: كانوا اثني عشر أَلفًا، قال ابن كثير: المراد بالفتح هنا فتح مكة قولًا واحدًا؛ فإذا أَحياء العرب كانت تقول: إن ظهر على قومه فهو نبي، فلمَّا فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجًا، وأَقبلوا على الإسلام من كل حدب وصوب، ولم تمض سنتان حتى ملئت جزيرة العرب إيمانًا، وقيل: المراد جنس نصر الله لرسوله وللؤمنين وجنس الفتح، فيعم ما كان في أمر مكة -زادها الله تعالى شرفًا- وغيره، وفتح بلاد الشرك.
2 -
(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا):
أي: ورأَيت العرب وغيرهم يدخلون في الإسلام وهو دين الله الذي لا دين غيره جماعات جماعات لا أفرادًا كما كان في بدءِ الدعوة.
قال الآلوسي: والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجًا -أَي: جماعات كثيرة: إسلامهم بكثرة من غير قتال، وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة والسلام وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين، أخرج البخاري عن عمرو ابن سلمة قال: لَمَّا كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياءُ تتلوم (1) بإسلامها فتح مكة، فيقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي، وقال عكرمة ومقاتل: المراد بالناس: أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل أسلموا، واحتجوا بما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: بينما رسول الله في المدينة إذ قال: "اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ؛ جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ؛ وَجَاءَ أَهْلُ اليَمَن" قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال: "قَوْمٌ رَقِيقَةٌ قُلُوبُهُمْ لَيِّنَةٌ طَاعَتُهُمْ، وَالإِيمَانُ يمَانٍ، وَالْفِقْهُ يمَانٍ، وَالْحكمَةُ يَمَانِيَّةٌ). وَرَوَى مثل هذا البخاري ومسلم والترمذي، وقيل: إن ذلك لأن أهل مكة -وفيهم بعث النبي ومنهم المهاجرون- يمانيون، وكذلك أهل المدينة ومنهم الأنصار.
-
(1)
تلوم في الأمر: تمكث وانتظر. (القاموس المحيط).
والظاهر أنه ثناء على أَهل اليمن؛ لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بسهولة ويسر ، ويشمل الأنصار وغيرهم ، والظاهر أيضًا أن الخطاب في (وَرَأَيْتَ) للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الخطاب عام لكل مؤمن.
3 -
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا):
أي: إذا تم لك ما ذكر فاشكر المنعم (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه ، حامدًا له - جل وعلا - زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة إنعامه عليك ، فالتسبيح: التنزيه ، لا التلفظ بكلمة (سبحان).
والمعنى: اجمع بين تسبيحه تعالى -وهو تنزيهه عمَّا لا يليق من النقائض- وتحميده وهو إثبات ما يليق به من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليك صلوات الله وسلامه عليك.
(وَاسْتَغْفِرْهُ) أي: واطلب منه أن يغفر لك ولأُمتك ، روي في مسند أحمد وصحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قوله: سبحان الله وبحمده ، أَستغفر الله وأتوب إليه ، ويجوز أن يراد بالتسبيح: التعجب ، أي: فتعجب لتيسير الله تعالى لما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحدٌ على أهل الحرام، واحمده على ذلك، وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة، لاشتماله عليها ، ونقل ابن الجوزى ذلك عن ابن عباس ، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أُم هانئ ثمانى ركعات، وهي سُنَّة واستغفاره صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائمًا في التَّرقي إذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها.
وقيل: لتعليم أُمته، وقيل: استغفاره لأُمته ، أي: واستغفره لأُمتك.
قال الآلوسي: وأَنت تعلم أن كل أَحد مقصر على القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغي ، وعن أَدائها على الوجه اللائق بجلاله ، وإنما يؤديها على ما يعرف ، والعارف يعرف أن قدر الله عز وجل أعلى وأجل من ذلك ، فهو يستحي من عمله ، ويرى أنه مقصر ، وكلما كان الشخص بالله تعالى أَعرف كان له سبحانه وتعالى أَخوف ، وبرؤية تقصيره أبصر ، فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم قدر الله وعظمته ، فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين فهي دون ما يليق بهذا الجلال
وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال، فيستحي ويهرع إلى الاستغفار، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل: على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئًا إلَّا وجدت الله قبله؛ لأن جميع الأشياء مرايا تجليه جل جلاله وذلك لأن في التسبيح والتحميد توجهًا بالذات لجلال الخالق وكماله، وفي الاستغفار توجهًا بالذات لحال العبد وتقصيراته، ويجوز أن يكون تأْخير الاستغفار عنهما لما هو مقرر من مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار، وقيل: في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء، وهو ألَّا يسأَل فجأَة من غير تقديم الثناء على المسئول منه (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) أي: إنه سبحانه منذ خلق المكلفين تواب، أي: كثير القبول لتوبة عباده، فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول، فالجملة في موضع التعليل لما قبلها، واختيار:(تَوَّابًا) على (غَفَّارًا) مع أنه الذي يستدعيه ظاهرًا قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْهُ) للتنبيه -كما قال بعض الأَجلة- على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة؛ لأَن المطلوب طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه، ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع منه، وهذا هو الذي يمنع الإصرار والله أعلم.