الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلت من شهر ربيع الأَول فأَقام بها إِلى يوم الخميس وأَسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة إِلى المدينة، فأَدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، وكان المسلمون قد بنوا مسجدا، فجمَّع النبي صلى الله عليه وسلم بهم فيه، وخطب، وهي أَول خطبة خطبها بالمدنية، وقال فيها:"الحمد لله أَحمده وأَستعينه وأَستغفره وأَستهديه، وأُؤمن به ولا أَكفره، وأَعادي من يكفر به، وأَشهد أَن لا إله إلَا الله وحده لا شريك له، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله وأَرسله بالهدي ودين الحق والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة وقرب من الأَجل، من يطع الله ورسوله فقد شكر، ومن يعض الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالًا بعيدًا، أُوصيكم بتقوى الله فإِنه خير ما أَوصي به المسلم المسلم أَن يحضه على الآخرة .. " إلي آخر الخطبة، وهي خطبة عظيمة ومنهاج رشيد، فارجع إِليها في القرطبي في المسأَلة الثانية.
أَذان الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد عثمان رضي الله عنه
-
كان للرسول صلى الله عليه وسلم أَذان واحد للجمعة، فكان إِذا جلس على المنبر أذَّن المؤذن على باب المسجد فإِذا نزل صلى الله عليه وسلم أَقام المؤذن الصَّلَاة، وكان أَبو بكر وعمر على ذلك، حتى إِذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل، زاد مؤذنا آخر، فأَمر بالتأذين الأَول على داره التي تسمى زوراء، وتسمية لها باسم موضع مرتفع بسوق المدينة، فإذا جلس على المنبر أذان المؤذن الثاني، فإِذا نزل أَقام الصلاة، فلم يُعبْ ذلك.
ومن محاسن الأَذان الأَول بالزوراءِ، أَنه كان ينبه الناس إِلى ترك البيع والسعي لأَداء صلاة الجمعة وهو الآذان كذلك.
المراد من السعي وذكر الله:
المراد من السعي المشي بدون إِفراط في السرعة، وقال قتادة: أَن تسعي بقلبك وعملك.
وقد اتسع العمران في هذا الزمان، فينبغي عدم انتظار الأَذان للسعي إِلى المسجد، وأَن يبكر المصلي، ليأخذ له مكانًا فيه قبل امتلائه بالمصلين بعد أَن يكون قد اغتسل وتطيب وتزين امتثالا لقوله تعالى:(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).
وذكر الله هو الصَّلاة والخطبة قبلها، والسعي إِليها عند الأَذان الأَول واجب، وقد أَوجب الله في الآية السعي إِلى الجمعة من غير شرط، وثبت شرط الوضوءِ بالقرآن والسنة في جميع الصلوات، لقوله تعالى:(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(1) وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور "أَما الغسل للجمعة فهو سنة وليس فرضًا لها، قال صلى الله عليه وسلم:"من توضأَ يوم الجمعة فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أَفضل" أَخرجه النسائي وأَبو داود في سننهما.
وفي صحيح مسلم عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضَّأَ يوم الجمعة فأَحسن الوضوء، ثم راح إِلى الجمعة فاستمع وأَنصت غفر الله ما بين الجمعة إِلى الجمعة وزيادة ثلاثة أَيام، ومنْ مسَّ الحصا فقد لَغَا" والمقصود بمسّ الحصا الاشتغال عن سماع الخطبة بأَي شاغل وإِن صَغُر، والمراد بكلمة (لغا) أَتى بما لا يليق بالاستماع للخطبة وأَضاع ثوابه، وقال صاحب المختار:(لغا) أَي: قال باطلا، والمراد منه في الحديث ما يشمل الكلام وغيره.
وقوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أَمر بتركه قُبَيْلَ خطبة وصلاة الجمعة، وتحريم له في وقتها، وكذلك الشراء، ولم يصرح به؛ لأَنه لا يخلو بيع من شراءٍ، فالنهي عن أَحدهما شامل لهما جميعًا، ومع كونهما محرمين عند الأَذان إِلى تمام الصلاة فإِنهما لا ينعقدان ويفسخ كلاهما، وأَجاز بعض العلماءِ البيع في الوقت المذكور، وحمل النهي على الندب، واستدل بقوله تعالى:(ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أَي: أَفضل لكم من البيع، وهذا هو مذهب الشافعي، وقال الزمخشري في تفسيره: إِن عامة العلماءِ على أَن ذلك لا يؤدي إِلى فسخ البيع؛ لأَن البيع لم يحرم لعينه ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأَرض المغصوبة: يعني أَنها تصح مع حرمتها ولا تسقط الجمعة لكونها يوم عيد، خلافًا للإِمام أَحمد فإِنه قال: إِذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها، واستدل على ذلك بما روي أَن عثمان رضي الله عنه أذِن في يوم عيد لأَهل العوالي أَن يتخلفوا
(1) سورة المائدة، من الآية:6.
عن الجمعة، وقول الصحابي الواحد إذا خولف فيه لا يعتبر حجة، والأَمر بالسعي إِلى صلاة الجمعة متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأَيام، وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة (سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: وإِذَا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أَيضًا في الصلاتين. أَخرجه أَبو داود والترمذي وابن ماجه (1).
المعنى الإجمالي للآية: يا أيها الذين آمنوا وكنتم من المقيمين في بلد الجمعة المكلفين بالصلاة: إِذا سمعتم أذان الجمعة فعليكم أَن تمضوا إِلى مكان أَدائها وعليكم السكينة والوقار، وأَن تستمعوا إِلى خطبة الجمعة، وتصلوا صلاتها في جماعة وأَنتم متوضئون، فإِنه لا صلاة من غير وضوءٍ، وعليكم أَن تمتنعوا عن البيع والشراءِ ابتداءً من الأَذان الأَول على الأَقل؛ لتتفرغوا لسماع خطبتها وأدائها مع الجماعة، فإِن البيع والشراء حينئذ حرام، ويقول بعض العلماءِ: إِنهما باطلان؛ ذلكم خير لكم في دينكم، ففي ذلك غفران لذنوبكم ومثوبة من الله لكم، إِن كنتم تميزون بين الخير والشر والنفع والضر.
10 -
فإذا فرغتم من صلاة الجمعة فمباح لكم أَن تنتشروا في الأَرض للتجارة والتصرف في حوائجكم ونحو ذلك واطلبوا من رزق الله بسعيكم، واذكروا الله ذكرًا كثيرًا في جميع الأَحوال، واشكروه على توفيقكم لأَداءِ الفرائض؛ لكي تفلحوا وتفوزوا في دنياكم وأخراكم.
ويقول القرطبي: كان عراك بن مالك إِذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: "اللهم إِني قد أَجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أَمرتني، فارزقني من فضلك وأَنت خير الرازقين".
(1) انظر للقرطبي في شرح هذه الآية في المسألة الحادية عشرة.
سبب نزول هذه الآية
أَخرج الإِمام مسلم عن جابر بن عبد الله أَن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا يوم الجمعة، فجاءَت عير من الشام فانفتل الناس إِليها حتى لم يبق إِلا اثنا عشر رجلا - في رواية: أَنا فيهم - فأَنزلت هذه الآية التي في الجمعة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) وفي رواية: فيهم أَبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقد ذكر الكلبي وغيره أن الذي قدم بالعير دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج الناس إِليه من بُرٍّ ودقيق وغيرهما، فنزل عند أَحجار الزيت (1) وضرب بالطبل؛ ليؤذن الناس يقدومه، فخرج الناس إِلا اثني عشر رجلا، وقيل: ثمانية رجال، وقيل أَربعون رجلا، وقيل: غير ذلك، وكانت هذه التجارة لعبد الرحمن ابن عوف، وذكر الزمخشري أَنه صلى الله عليه وسلم قال:"والَّذي نفسي بيده لو خرجوا جميعًا لأَضرم الله عليهم الوادي نارًا" كما جاءَ في القرطبي.
والمراد من اللهو نفس التجارة، فاعتبر خروجهم لتلقيها لهوًا تهجينًا له، لما فيه من الإِعراض عنه صلى الله عليه وسلم ولهذا رجع الضمير مؤَنثًا في قوله:(إِلَيْهَا) - رجع - إِلى التجارة، ولم يذكر ليرجع إِلى اللهو؛ لأَنه لم يقصد لذاته بل لتقبيح خروجهم للتجارة أَثناءَ الخطبة لمشاهدة ما جاءَ فيها أَو للشراءِ منها لهوا، فإِن رزقهم منها مكتوب عند الله تعالى، فلا وجه لتركهم سماع الخطبة والانصراف إليها.
(1) اسم مكان في سوق المدينة.