المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌(فصل)

- ‌ حد التكليف

- ‌ الرغيبة في اصطلاح المالكية

- ‌ كل حكم يتوقف على ثلاثة أشياء

- ‌ الفرق بين الركن والشرط:

- ‌ العلة الشرعية والسبب الشرعِيّ

- ‌ الأداء له ثلاث حالات:

- ‌ ثمرة الخلاف في الأمر هل ينقطع بالمباشرة أو لا

- ‌ فائدة التكليف

- ‌كتاب القرآن ومَباحث الألفاظ

- ‌المنطوق والمفهوم

- ‌ أقسام مفهوم الموافقة

- ‌فصل

- ‌ هل تثبُتُ اللغةُ بالقياس

- ‌فصل في الاشتقاق

- ‌ ضابط الاشتقاق المطرد بالقياس

- ‌فصل في التَّرادُف

- ‌ اختلف في الترادف على ثلاثة أقوال:

- ‌المشْترك

- ‌فصل: الحقيقَة

- ‌ أقسام الحقيقة

- ‌المجَاز

- ‌ إذا تعذَّرَت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز

- ‌المُعَرَّب

- ‌الكناية والتعريض

- ‌الأمر

- ‌ من فعل في العبادة كالصلاة ضدَّها كالسرقة هل يفسدها

- ‌ النهي الوارد بعد الوجوب

- ‌الواجب الموسع

- ‌[فصل ذو الكفاية]

- ‌ المسنون على الكفاية

- ‌النهي

- ‌ صيغة النهي حقيقة في التحريم

- ‌ في نفي الإجزاء والقبول

- ‌العام

- ‌ غير المقصود هل يدخل في حكم العام والمطلق

- ‌ مدلول العام في التركيب

- ‌ الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ما عَدَمُ العمومِ أصحُّ فيه

- ‌التخصِيص

- ‌ أقل الجمع الحقيقي

- ‌ العام المخصوص

- ‌ العام الذي دخله تخصيص حجة في الباقي

- ‌المخصِّصُ المتصل

- ‌ الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع

- ‌ استثناء المِثْلِ مبطل للاستثناء

- ‌ إذا تعدَّد الاستثناء ولم يستغرق منه إلَّا الأول

- ‌ الشرط يعود لكل الجمل المتقدمة

- ‌ إن اشْتُرط شرطان أو أكثر

- ‌ إن عُلِّق شيءٌ على أحدِ شرطين على سبيل البدل

- ‌ الغاية تخصِّص سواء تقدمت أو تأخرت

- ‌ بدل البعض من الكل من المخصِّصات المتصلة

- ‌المخصِّص المنفصل

- ‌ الأكثر يخصِّصون النص بالقياس

- ‌ أربع مسائل اختُلِف في التخصيص بها

- ‌المقيّد وَالمطلق

- ‌ القيد إذا تأخر وروده عن أول وقت العمل

- ‌ إذا كان الإطلاق والتقييد في أمر ونهي

- ‌التأويل، والمُحكم، والمُجْمَل

- ‌ ثلاثَ مسائل من مسائل التأويل البعيدة:

- ‌ النَّصَّ الواحد يكون مبيَّنًا من جهةٍ مجملًا من جهةٍ أخرى

- ‌البَيَان

- ‌ البيان يكون بكلِّ ما يجلو العمى

- ‌ النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخِّر بيانًا عن وقت الحاجة إليه

- ‌ تأخير البيان إلى وقت العمل به فيه أربعة مذاهب:

- ‌النسخ

- ‌ القياس لا يصح النسخ به

- ‌ نسخ بعض القرآن وقع بالفعل

- ‌ نسخ القرآن بأخبار الآحاد

- ‌ يجوز نسخ الحكم الخفيف بحكم أثقل منه

- ‌ النسخ قبل وقوع الفعل جائز

- ‌ نسخ النص بالفحوى جائز

- ‌ نسخ مفهوم الموافقة دون المنطوق

- ‌يجوز نسخ حكمِ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق. ومثاله:

- ‌ النسخَ إنما يكون في الإنشاء دون الخبر

- ‌أوْضح فرقٍ بين الإنشاء والخبر:

- ‌ كل حكم تكليفيّ بالنظر إليه بمفرده قابل للنسخ عقلًا وشرعًا

- ‌[الأدلة](3)التي يُعرف بها النسخ

- ‌كتاب السنَّة

- ‌ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار التشريع والجبلَّة ثلاثة أقسام:

- ‌ من علامات وجوب(3)الفعل تعزيرُ تاركه

- ‌وقيل: يُحْمَل على الندب

- ‌ تقسيم الخبر إلى ما قُطِعَ بكذبه، وما قُطع بصدقه

- ‌ أقل عدد التواتر

- ‌ المستفيض من خبر الآحاد

- ‌ رواية الفاسق والمبتدع

- ‌المجهول ثلاثة أقسام:

- ‌ الأمور التي تثبت بها العدالة

- ‌ إذا عدَّل الراوي جماعةٌ وجرَّحه آخرون

- ‌ أصحَّ حدود الصحابي

- ‌كيفية رواية الصَّحابيِّ

- ‌كيفيّة رواية غيره عَن شيْخه

- ‌ الإجازة للمعدوم

- ‌كتابُ الإجماع

- ‌ إجماعَ أهل الكوفة

- ‌ إجماع أهل المدينة

- ‌ إجماع أهل البيت

- ‌ ما كلفت الأمة بعلمه يستحيل اتفاقها على جهله

- ‌ الإجماع لا يعارضه دليل

- ‌الاختلاف في الإجماع السكوتي مُقيَّد بثلاثة شروط:

الفصل: ‌ حد التكليف

25 -

وهو إلزامُ الذي يشقُّ

أو طلب فاهَ بكلٍّ خَلْقُ

26 -

لكنه ليس يفيد فرعا

فلا تضق لفقد فَرْعٍ ذرْعا

يعني أنه اختلف في‌

‌ حد التكليف

فقيل: هو إلزام ما فيه مشقة وكُلْفة، وعلى هذا القول فلا يدخل في حدِّ التكليف إلا الواجب والحرام فقط، وهذا القول هو معناه اللغوي، ومنه قول علقمة

(1)

:

تكلِّفني ليلى وقد شطَّ وَلْيُها

وعادت عوادٍ بَيننا وخطوبُ

وقول الخنساء

(2)

في صخر:

يُكلِّفُه القومُ ما نابَهم

وإن كان أصغرَهم مولدا

وقيل: هو طلب ما فيه مشقة وكُلْفة، وعليه يدخل في حدِّ التكليف الواجبُ والمندوبُ والحرام والمكروه، وأما الجائز فلا يدخل على كلا التعريفين، فإدخاله في الأحكام التكليفية لا يخلو من تسامح. وما أجاب به البعض من أنه مكلف به من حيث اعتقاد جوازه فلا ينهض؛ لأن غيره يجب اعتقاده أيضًا.

= والحاكم: (2/ 59)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، ولم يتعقَّبه الذهبي، وصححه ابن حبان.

وقال ابن الملقن: له طرق أقواها طريق عائشة. وللحديث شواهد من حديث علي وأبي قتادة. انظر "الإمام": (3/ 524)، و"البدر المنير":(3/ 225)، و"نصب الراية":(4/ 162)، و"التلخيص":(1/ 194)، و"الإرواء" رقم (297).

(1)

"ديوانه": (ص 23).

(2)

"الديوان": (ص/ 146 - مع شرح ثعلب) ولشطره الأول عدة روايات.

ص: 13

وقول المؤلف: "لكنه ليس يفيد فرعًا" إلخ، يعني أن الاختلاف في التكليف هل هو الإلزام أو الطلب لا يفيد فرعًا من الفروع لعدم بناء حكم عليه. قال أبو إسحاق الشاطبي

(1)

في هذه المسألة: ليس من أصول الفقه ولا عونًا عليه، وما كان كذلك لا ينبغي ذكره في الفن.

وقوله: "ذرعًا" تمييز محوَّل عن الفاعل، أي لا يضق

(2)

صدرك لعدم وجود فرع، لأن هذه المسألة لا ينبني عليها حكم، وقوله:"فاه" فعل ماض بمعنى نَطَق.

27 -

والحكم ما به يجيءُ الشرعُ

وأصل كل ما يضرُّ المنعُ

يعني أن الحكم التنجيزي الذي يترتب عليه الثواب والعقاب هو ما جاء به الشرع عن اللَّه على ألسنة الرسل، فلا حكم تنجيزيًّا يترتب عليه الثواب والعقاب قبل بعث الرُّسُل عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء] فقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} أي ولا مُثيبين. وقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165] ويبيِّن هذه الحجة المذكورة بقوله في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [طه/ 134] الآية. وخالفت المعتزلة فحكَّمَت العقل فجعلته

(1)

انظر "الموافقات": (1/ 37 - 38).

(2)

خ: يضيق.

ص: 14

طريقًا إلى العلم بالحكم الشرعي، يمكن إدراكه به من غير سمع، فهو عندهم تابع للمصالح والمفاسد، فإن كان حسنًا عقلًا جوَّزه الشرع، وإن كان قبيحًا عقلًا منعه، وسيأتي ردُّ مذهبهم إن شاء اللَّه عند محله

(1)

.

وقول المؤلف: "وأصل كل ما يضرُّ المنع" يعني أن الأصلَ في الشيء الضارّ بالأبدان كالمَسْمُومات والمؤدِّيات للمرض، أو العقول كالمسكرات = المنعُ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضَرَر ولا ضِرار"

(2)

. وتحت مفهوم كلامه صُوَرٌ:

إحداها: أن يكون فيه منفعة ولا ضرر فيه فالأصل فيه -على التحقيق- الإباحة؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة/ 29] ولا يمتنُّ إلا بجائز فلا يمنع إلا ما أخرجه دليل.

وقيل: يُحْمَل على المنع لأن جميع الأشياء ملك للَّه تعالى، ولا

(1)

عند البيت رقم (102).

(2)

أخرجه الدارقطني: (3/ 77)، والحاكم:(2/ 57)، والبيهقي:(6/ 69) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يتعقبه الذهبي، وفيه نظر. وروي من حديث ابن عباس وعائشة وعبادة بن الصامت وأبي هريرة، وبمجموع طرقه حسَّنه ابن الصلاح والنووي في "الأربعين" رقم (32)، وابن رجب في "جامع العلوم والحكم":(2/ 210)، واستدل به الإمام أحمد، وذكر أبو داود أنه من الأحاديث التي يدور عليها الفقه. وذكر ابن عبد البر في "التمهيد":(20/ 158) أنه لا يستند من وجهٍ صحيح، إلا أنه صحيح من جهة المعنى.

وللمزيد انظر التعليق على "تنبيه الرجل العاقل": (2/ 507).

ص: 15

يجوز التصرف في ملك المالك إلا بإذنه، ولأن اللَّه قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر/ 7] فيُفْهَم من دليل خطابه أن ما لم يأْتكم لا تأخذوه، استدلَّ بمفهوم هذه الآية على المنع جماعةٌ منهم الأبهري، والذي يظهر لي أن هذا المفهوم تُمكِنُ معارضته بمفهومِ قوله:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر/ 7] أي وما لم ينهكم عنه فلا تنتهوا، فهو نظير الاستدلال الأول.

القول الثالث: الوقف لاحتمال هذا وهذا.

ومن الصور المذكورة: أن تكون فيه مصلحة من جهة ومفسدة من جهة أخرى، وسيأتي في مسالك العلة وفي كتاب الاستدلال أنه ينظر في المصلحة والمفسدة فإن تساوتا أو كانت المفسدة أعظم مُنع، وإن كانت المصلحة أرجحَ جاز. ومن الصور المذكورة: ألا يكون فيه مصلحة ولا مفسدة ولا أعلم فيها نصًّا عن أحد. وسيأتي له إن شاء اللَّه زيادةُ إيضاح في مسلك المناسبة والإخالة والكلام على المصالح المرسلة. ويدخل في قول المؤلف: "وأصلُ كلِّ ما يضرّ المنع" شُرْب الدخان وأكل التراب ونحو ذلك.

28 -

ذو فترة بالفرع لا يراعُ

وفي الأصول بينهم نزاعُ

يعني: أن أهل الفترة لا يروَّعون

(1)

أي يُعذبون بسبب تركهم للفروع كترك الواجبات وانتهاك المحرمات الفعلية، لعدم تكليفهم بها. وأهلُ الفترة: من كانوا بين رسولين لم يُرْسل الأول لهم ولا أدركوا

(1)

خ: يراوعون.

ص: 16

الثاني، كما قاله العبَّادي في "الآيات البينات"

(1)

وأنه اختلف في تعذيبهم بترك الأصول يعني التوحيد. ومَبْنى هذا الخلاف هل يجب التوحيد بمجرد العقل، أو لابُدَّ من انضمام النقل؟ وتعذيبُ أهل الفترة بترك التوحيد اعتمده النوويُّ في "شرح مسلم"

(2)

لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين مضوا في الجاهلية في النار. وحكى القرافي في "شرح التنقيح"

(3)

الإجماعَ على تعذيب موتى الجاهلية في النار وعلى كفرهم، ولولا التكليف لما عُذِّبوا.

وذهب الأشاعرةُ من أهل الأصول والكلام إلى أنهم لا يعذبون

(4)

وأجابوا عن جماعةٍ منهم صحَّ تعذيبهم بأجوبة، منها: أنه يحتمل أن يكون لأمرٍ مختصٍّ به يقتضي ذلك عَلِمَه اللَّه فأعْلَمَ به رسولَه صلى الله عليه وسلم، نظير ما جاء في القرآن من كفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه. ومنها: أن ذلك خاص بمن بَدَّل وغيَّر بما لا يُعذر به كعبادة الأوثان. ومنها: أن الأحاديث التي صحَّت بذلك أخبار آحاد، والآياتُ التي تنفي ذلك قواطع فهي مُقَدَّمة.

ويجاب عن هذا بأن الأحاديث أخصُّ ولا تَعارض بين عام وخاص.

(1)

(1/ 103).

(2)

(3/ 79).

(3)

(ص/297) في باب فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

بعده في ط: "لدلالة القرآن على ذلك" وليست في "خ".

ص: 17

ويُجاب عن الجواب بأن الأحاديث التي نصَّت على تعذيب أشخاص بأعيانهم من أهل الفترة إذا قلنا بتخصيصها عمومَ الآيات فإنها تُبطل علة حكم الآيات؛ لأنَّ اللَّه تمدَّحَ بكمال إنصافه وعدله وأنه لا يعذِّب أحدًا حتى ينذره ويعذر إليه، فلو عذَّب واحدًا من أهل الفترة قبل الإنذار والإعذار لاختلَّت حكمة العدل التي تَمَدَّحَ بها، وإذا كان مُخَصِّصُ النص يقتضي بطلان علته فذلك هو المعروف عند الأصوليين بالنقض، وهو من القوادح في الدليل كما يأتي للمؤلف.

وذهب الأكثرون إلى أن تخصيص العلة كتخصيص النصّ، وعليه فالنقض الذي هو وجود العلة مع فقد الحكم ليس بقادح، وعلى هذا يمكن تخصيص الآيات بالأحاديث المعروفة من غير قدح في دلالة الآيات على ما لم يخرجه المخصِّصُ، ولكنَّ التحقيق: أنَّ العلة إن كان منعُ تأثيرها في الحكم بسبب فَقْد شرط أو وجود مانع فهو تخصيص لا قدح، فكون الأبوَّة من موانع القصاص مثلًا لا يقدح في عِلِّيَّة القتل العمد العدوان للقصاص، لأن العلةَ إنما مَنَع من تأثيرها وجودُ المانع وهو الأبوة، وإن كانت لم تؤثر من غير فَقْد شرط ولا وجود مانع فهو القادح المعروف بالنقض، وفي المسألة أقوال أخر لم نذكرها معروفة في كتب الأصول، وسيأتي للمؤلف بسطها في القوادح

(1)

. ورجَّح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر

(2)

أن تخصيص العلة كتخصيص

(1)

في الأبيات (762 - وما بعدها).

(2)

لم أجد في تفسير ابن كثير ما أشار إليه المؤلف.

ص: 18

النصِّ مطلقًا مستدلًا بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} [الحشر/ 3 - 4].

فصرح بأن علةَ ما وقع لبني النضير هو مشاقتهم اللَّهَ والرسولَ، وقد فعل ذلك غيرُ بني النضير، فلم يقع لهم مثل ما وقع لهم، والله أعلم.

قال مقيده عفا اللَّه عنه: الذي يظهر أن عدم الإنذار عُذْرٌ، وأن اللَّه يمتحنهم يوم القيامة، فمن أطاع اللَّه فهو الذي كان يُصَدِّق الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيرحمه اللَّه، ومن عصى اللَّه فهو الذي كان يكذِّب الرسلَ لو جاءته في دار الدنيا فيعذبه اللَّه وهو أعلم، لأن هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

. والذي يقدح فيه يقول: الآخرة دار جزاء لا دار ابتلاء، والكتاب والسُّنَّة دلَّا على التكليف فيها في الجملة، كقوله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم] وكالرجل الذي يأخذ اللَّه عليه العهود والمواثيق ألا يسأله غير ما أعطاه شيئًا ثم سأله بعد ذلك

(2)

، والعلم عند اللَّه تعالى.

29 -

ثم الخطابُ المقتضي للفعلِ

جزمًا فإيجابٌ لدى ذي النّقل

30 -

وغيره النَّدب وما التركَ طلَبْ

جزمًا فتحريمٌ له الإثم انتسب

(1)

انظر للمسألة والأحاديث الواردة فيها "تفسير ابن كثير": (5/ 2071 - 2078)، و"طريق الهجرتين":(ص/ 686 - 710)، و"مجموع الفتاوى":(4/ 321)، و"فتح الباري":(3/ 290 - 291).

(2)

يعني الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولًا، وقصته أخرجها البخاري رقم (806)، ومسلم رقم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 19

31 -

أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا

خلافَ الأولى وكراهةً خُذا

32 -

لذاك والإباحَة الخطابُ

فيه استوى الفعل والاجتنابُ

قسَّم المؤلف في هذه الأبيات الأحكام الشرعية التكليفية إلى ستة أقسام:

الأول: الوجوب، وهو في اللغة السقوط واللزوم، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج/ 36] الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجَبَ فلا تبكيَنَّ باكية"

(1)

.

وقول قيس بن الخطيم

(2)

:

أطاعت بنو عوفٍ أميرًا نهاهُمُ

عن السِّلم حتى كان أولَ واجب

وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأن الإيجاب هو الخطاب المقتضي للفعل، أي إيجاده والإتيان به اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه الترك نحو:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة/ 43] وذلك هو المراد بقوله: "ثم الخطاب المقتضي للفعل جزمًا فإيجاب".

الثاني: الندب، وهو في اللغة مصدر ندبه للأمر إذا دعاه إليه،

(1)

أخرجه مالك رقم (629)، وأحمد (39/ 160 رقم 23751)، وأبو داود رقم (3111)، والنسائي رقم (1846)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3189)، والحاكم:(1/ 351) من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حبان، وابن الملقن في "البدر المنير":(5/ 359).

(2)

"ديوانه": (ص 43).

ص: 20

ومنه قوله:

لا يسألونَ أخاهم حينَ يَنْدُبُهم

في النائباتِ على ما قال بُرْهانا

(1)

وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطاب المقتضي لإيجاد الفعل والإتيان به اقتضاءً غير جازم لجواز تركه وعدم الإثم به، وذلك هو معنى قوله:"وغيره الندب".

الثالث: التحريم، وهو في اللغة المنع، ومنه قوله تعالى:{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة/ 26]، وقوله:{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء/ 95] الآية، وقول امرئ القيس

(2)

:

جالت لتصرَعَني فقلت لها اقْصِري

إنِّي امرؤٌ صَرْعي عليكِ حرامِ

وفي الاصطلاح عرَّفه المؤلف بأنه الخطابُ المقتضي لترك الفعل اقتضاءً جازمًا لا يجوز معه ارتكاب الفعل، وإن ارتكبه أَثِمَ، وذلك هو معنى قوله:"وما التركَ طلبْ جَزْمًا فتحريم له الإثم انتسبْ" ومثاله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء/ 32] وقوله: "الترك" مفعولٌ مقدَّم.

الرابع والخامس: خلاف الأوْلَى والمكروه، والفرق بينهما -على القول به- أن خلاف الأَوْلى لم يَرِد فيه نصٌّ خاص بالنهي عنه، وإنما ورد الأمر بضده على سبيل الندب، والأمرُ بالشيء ندبًا نهيٌ عن ضده نَهْيَ خلافِ الأوْلَى، كالأمر بصلاة الضحى يلزمه النهي عن تركها وهو خلاف الأوْلَى، لأنه لم يُنْهَ عنه بنصٍّ خاص وإنما أُمِر بضده.

(1)

البيت لقريط بن أُنيف من بلعنبر من أبيات كما في "الحماسة": (1/ 58).

(2)

"ديوانه": (2/ 481) وفي البيت إقواء.

ص: 21

وأما الكراهة -على هذا القول- فهي ما ورَدَ فيه نص مصرِّح بالنهي عنه نهيًا غير جازم كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَخَلَ أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يصلي ركعتين"

(1)

، فالجلوس قبل صلاتهما مكروه؛ لورود النهي صريحًا عنه بخصوصه.

وأشار إلى القسمين المذكورَين بقوله:

أو لا مع الخصوص أو لا فَعِ ذا

خلاف الأولى وكراهةً خُذا

لذاك. . . . . . . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . .

فقوله: "أوْ لا" -الأول- معناه أو لا يكون طلب الترك حتمًا لجواز الفعل مع ذلك النهي. وقوله: "مع الخصوص أو لا"، يعني أن طلبَ الترك إذا كان غير جازم فله حالتان: الأولى: أن يكون بدليل صريح في النهي خاصٍّ به. والثانية: أن يكون للأمر بضده لا لدليل خاص، وذلك هو معنى قوله:"مع الخصوص أو لا"، فإذا لم يكن مع الخصوص فهو خلاف الأَوْلَى، وذلك هو معنى قوله:"فَع ذَا خلافَ الأوْلَى" أي احفَظْه في حال كونه خلاف الأولى، وإذا كان مَع الخصوص فهو الكراهة، وذلك هو معنى قوله:"وكراهةً خذا لذاك. . . ".

السادس: الإباحة: وهي الإذن في الشيء فعلًا وتركًا، وذلك هو معنى قول المؤلف:

". . . . . والإباحة الخطابُ

فيه استوى الفعلُ والاجْتِنابُ"

(1)

أخرجه البخاري رقم (1163)، ومسلم رقم (714) من حديث أبي قَتَادة الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 22

فإشارة القريب لخلاف الأولى، وإشارة البعيد للكراهة كما تقدم. والمراد بـ "ذي النقل" نَقْل علماء الأصول.

33 -

وما من البراءة الأصلية

قد أخذت فليست الشرعية

يعني أنَّ الإباحة المأخوذة من البراءة الأصلية، وهي استصحاب عدم التكليف حتى يَرِدَ الدليل ليست إباحةً شرعية، وإنَّما هي إباحة عقلية، وتسمى البراءة الأصلية واستصحابَ العدم، ولذلك لم يكن رفعُها نسخًا، لأنها لم تكن حكمًا شرعيًّا حتى يكون رفعها نسخًا، فإباحة جَمْع الأختين قبل التحريم، وإباحة موطوءة الأب قبل التحريم، وإباحة الربا قبل التحريم = كلها براءة أصلية، ولذلك لم يكن المنع ناسخًا لها، لأن النسخَ: رفعُ حكم شرعي. . . إلخ.

وسيأتي للمؤلف مثل هذا في مسالك العلة.

34 -

وهِيَ والجواز قد ترادفا

في مطلق الإذن لدى من سلفا

يعني أن الإباحةَ والجوازَ ترادفا في مطلق الإذن الصادق بالوجوب والندب والكراهة والجواز، وعلى هذا القول فيدخل فيها كل ما سوى التحريم، ويجري على هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم:"أبغضُ الحلال. . "

(1)

(1)

أخرجه أَبو داود رقم (2170)، والبيهقي في "الكبرى":(7/ 322) عن محارب بنُ دثار عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. ورواه أَبو داود رقم (2171)، وابن ماجة رقم (2018)، والحاكم:(2/ 196) بمعناه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

والحديث صححه الحاكم، ووافقه ابن الملقن، انظر:"البدر المنير": (8/ 67)، والصواب أن هذا الحديث مرسل كما رجحه الحفاظ، انظر "العلل" رقم (1297) =

ص: 23

الحديث، والأول أشهر.

35 -

والعلم والوُسع على المعروفِ

شرط يعم كُلَّ ذي تكليفِ

يعني أن كلَّ خطاب تكليف يشترطُ في التكليف به العلمُ والوُسْعُ بمعنى الطاقة، أما اشتراط العلم فقد دل عليه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة/ 115]، وقوله:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء]. وأما اشتراط الوُسْع فقد دلط عليه قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة/ 286] أي طاقتها، وقوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن/ 16] فغير العالم بالخطاب لا يكلَّف به. واخْتُلِف في الناسي والنائم والمكرَه وأمثالهم هل هم مكلَّفون؟ والتحقيقُ أنهم غيرُ مكلفين.

ومفهوم قوله: "كل ذي تكليف" أن خطابَ الوضع لا يشترط فيه العلم ولا الوُسْعُ غالبًا.

36 -

ثم خطابُ الوضعِ هو الواردُ

بأنَّ هذا مانع أو فاسدُ

37 -

أو ضده أو أنه قد أوجبا

شرطًا يكون أو يكون سببا

يعني أن خطاب الوضع هو الخطاب الوارد بأن هذا الشيء مانع من هذا، كالحيض المانع من الصلاة والصوم صحة وجوازًا، وبأنَّ هذا الشيء صحيح أو فاسد، أو بأنَّ هذا الشيء موجب لهذا لكونه شرطًا له

= لابن أبي حاتم، و"العلل":(4/ ق/ 51 ب) للدارقطني، و"مختصر أبي داود":(3/ 92) للمنذري. وضعفه ابن الجوزي في "العلل المتناهية": (2/ 638).

ص: 24

أو سببًا، فخطابُ الوضع على هذا منحصر في الأسباب، والشروط، والموانع، والصحة، والفساد. وسيأتي -إن شاء اللَّه- تعريف الكل في المتن. وإنَّما سُمِّي "خطاب الوضع" لأن اللَّه يقول -مثلًا-: إذا وقع هذا في الوجود فاعْلَموا أني حكمت بكذا، نحو: إذا زالت الشمس فقد حكمتُ بوجوب صلاة الظهر، فكونُ الخطاب بوجوبها عند الزوال خطاب وضع لأن الزوال شرط في الوجوب، والشروط من خطاب الوضع كما تقدم.

38 -

وهو من ذاك أعمّ مطلقًا

. . . . . . . . . . .

يعني أن خطاب الوضع أعم من خطاب التكليف عمومًا مطلقًا؛ لأنه لم يوجد خطاب تكليف إلَّا مقترنًا بخطاب وضع، إذ لا يخلو التكليف من الشروط والموانع والأسباب، وقد يوجد خطاب الوضع فيما لا تكليف فيه، كتضمين الصبي والمخطئ قيمَ المتلفات، وأَرْشَ الجناية ونحو ذلك، فلا يشترط في خطاب الوضع العلم ولا القدرة غالبًا كما تقدم، وربما عرض له أمْرٌ خارج يوجب اشتراط ذلك فيه نادرًا، ككل سبب هو جناية بالنسبة إلى الإثم دون الغُرْم، وككل سبب في نقل الملك في الأعيان والمنافع فإنه يشترط فيه العلم والرضا. وقيل: النسبةُ بين الخطابَيْن العموم من وجه، واختاره بعضُ المتأخرين

(1)

، وليس بظاهر واللَّه أعلم.

(1)

لعله عنى القرافي، انظر "الفروق":(1/ 365).

ص: 25

. .

والفرض والواجب قد توافقا

39 -

كالحتم واللازمِ مكتوبٍ. . .

. . . . . . . . . . . .

يعني أن الفرض والواجب والحتم واللازم والمكتوب أسماء مترادفة لما يُثاب على فعله ويُعاقب على تركه، وهو ما طلبه الشارع طلبًا جازمًا، وأَبو حنيفة يفرِّق بين الفرض والواجب، فالفرض عنده ما وجب بدليل قطعي، والواجبُ ما وجبَ بدليل ظنِّيّ، ومتأخروا المالكية والحنابلة ربما أطلقوا الواجبَ على المسنون المؤكَّدِ

(1)

.

. . . . . . . . . . . . . . . . وما

فيه اشتباه للكراهة انتمى

يعني أنَّ الأمور المشتبهة المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "وبينهما أمور مشتبهات. . . "

(2)

الحديث. تطلق عليها الكراهة عند المالكية، قاله ابن رشد

(3)

.

40 -

وليس في الواجب من نوالِ

عند انتفاء قصد الامتثال

41 -

فيما له النية لا تشترطُ

وغير ما ذكرتُه فغلطُ

42 -

ومثله التَرك لما يُحرَّمُ

من غير قصدِ ذا نعم مُسلَّمُ

يعني أن الواجب باعتبار اشتراط النية في الاعتداد به قسمان:

(1)

ومنه قول مالك في العقيقة والعمرة، وقول ابن أبي زيد في "الرسالة":(ص/ 144): "وصلاة العيد سنة واجبة".

(2)

أخرجه البخاري رقم (2051)، ومسلم رقم (1599) من حديث النعمان بنُ بشير رضي الله عنه.

(3)

انظر "الفتاوى": (1/ 634).

ص: 26