المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إذا تعذرت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز - نثر الورود شرح مراقي السعود - جـ ١

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌(فصل)

- ‌ حد التكليف

- ‌ الرغيبة في اصطلاح المالكية

- ‌ كل حكم يتوقف على ثلاثة أشياء

- ‌ الفرق بين الركن والشرط:

- ‌ العلة الشرعية والسبب الشرعِيّ

- ‌ الأداء له ثلاث حالات:

- ‌ ثمرة الخلاف في الأمر هل ينقطع بالمباشرة أو لا

- ‌ فائدة التكليف

- ‌كتاب القرآن ومَباحث الألفاظ

- ‌المنطوق والمفهوم

- ‌ أقسام مفهوم الموافقة

- ‌فصل

- ‌ هل تثبُتُ اللغةُ بالقياس

- ‌فصل في الاشتقاق

- ‌ ضابط الاشتقاق المطرد بالقياس

- ‌فصل في التَّرادُف

- ‌ اختلف في الترادف على ثلاثة أقوال:

- ‌المشْترك

- ‌فصل: الحقيقَة

- ‌ أقسام الحقيقة

- ‌المجَاز

- ‌ إذا تعذَّرَت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز

- ‌المُعَرَّب

- ‌الكناية والتعريض

- ‌الأمر

- ‌ من فعل في العبادة كالصلاة ضدَّها كالسرقة هل يفسدها

- ‌ النهي الوارد بعد الوجوب

- ‌الواجب الموسع

- ‌[فصل ذو الكفاية]

- ‌ المسنون على الكفاية

- ‌النهي

- ‌ صيغة النهي حقيقة في التحريم

- ‌ في نفي الإجزاء والقبول

- ‌العام

- ‌ غير المقصود هل يدخل في حكم العام والمطلق

- ‌ مدلول العام في التركيب

- ‌ الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ما عَدَمُ العمومِ أصحُّ فيه

- ‌التخصِيص

- ‌ أقل الجمع الحقيقي

- ‌ العام المخصوص

- ‌ العام الذي دخله تخصيص حجة في الباقي

- ‌المخصِّصُ المتصل

- ‌ الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع

- ‌ استثناء المِثْلِ مبطل للاستثناء

- ‌ إذا تعدَّد الاستثناء ولم يستغرق منه إلَّا الأول

- ‌ الشرط يعود لكل الجمل المتقدمة

- ‌ إن اشْتُرط شرطان أو أكثر

- ‌ إن عُلِّق شيءٌ على أحدِ شرطين على سبيل البدل

- ‌ الغاية تخصِّص سواء تقدمت أو تأخرت

- ‌ بدل البعض من الكل من المخصِّصات المتصلة

- ‌المخصِّص المنفصل

- ‌ الأكثر يخصِّصون النص بالقياس

- ‌ أربع مسائل اختُلِف في التخصيص بها

- ‌المقيّد وَالمطلق

- ‌ القيد إذا تأخر وروده عن أول وقت العمل

- ‌ إذا كان الإطلاق والتقييد في أمر ونهي

- ‌التأويل، والمُحكم، والمُجْمَل

- ‌ ثلاثَ مسائل من مسائل التأويل البعيدة:

- ‌ النَّصَّ الواحد يكون مبيَّنًا من جهةٍ مجملًا من جهةٍ أخرى

- ‌البَيَان

- ‌ البيان يكون بكلِّ ما يجلو العمى

- ‌ النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخِّر بيانًا عن وقت الحاجة إليه

- ‌ تأخير البيان إلى وقت العمل به فيه أربعة مذاهب:

- ‌النسخ

- ‌ القياس لا يصح النسخ به

- ‌ نسخ بعض القرآن وقع بالفعل

- ‌ نسخ القرآن بأخبار الآحاد

- ‌ يجوز نسخ الحكم الخفيف بحكم أثقل منه

- ‌ النسخ قبل وقوع الفعل جائز

- ‌ نسخ النص بالفحوى جائز

- ‌ نسخ مفهوم الموافقة دون المنطوق

- ‌يجوز نسخ حكمِ مفهوم المخالفة مع بقاء المنطوق. ومثاله:

- ‌ النسخَ إنما يكون في الإنشاء دون الخبر

- ‌أوْضح فرقٍ بين الإنشاء والخبر:

- ‌ كل حكم تكليفيّ بالنظر إليه بمفرده قابل للنسخ عقلًا وشرعًا

- ‌[الأدلة](3)التي يُعرف بها النسخ

- ‌كتاب السنَّة

- ‌ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار التشريع والجبلَّة ثلاثة أقسام:

- ‌ من علامات وجوب(3)الفعل تعزيرُ تاركه

- ‌وقيل: يُحْمَل على الندب

- ‌ تقسيم الخبر إلى ما قُطِعَ بكذبه، وما قُطع بصدقه

- ‌ أقل عدد التواتر

- ‌ المستفيض من خبر الآحاد

- ‌ رواية الفاسق والمبتدع

- ‌المجهول ثلاثة أقسام:

- ‌ الأمور التي تثبت بها العدالة

- ‌ إذا عدَّل الراوي جماعةٌ وجرَّحه آخرون

- ‌ أصحَّ حدود الصحابي

- ‌كيفية رواية الصَّحابيِّ

- ‌كيفيّة رواية غيره عَن شيْخه

- ‌ الإجازة للمعدوم

- ‌كتابُ الإجماع

- ‌ إجماعَ أهل الكوفة

- ‌ إجماع أهل المدينة

- ‌ إجماع أهل البيت

- ‌ ما كلفت الأمة بعلمه يستحيل اتفاقها على جهله

- ‌ الإجماع لا يعارضه دليل

- ‌الاختلاف في الإجماع السكوتي مُقيَّد بثلاثة شروط:

الفصل: ‌ إذا تعذرت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز

وعدم تعارفها يمنع من فهم المراد، فهذا التعقيد المعنوي يمنع المجاز.

وقوله: "لمنع الانتقال" أي الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي بحيث يستعمل اللفظ الموضوع للحقيقي في المجازي، وذلك المنع بسبب التعقيد المعنوي وهو عدم ظهور المعنى.

206 -

وحيثُما استحال الأصل يُنتقلْ

إلى المجاز أو لأقرب حَصَلْ

يعني أنه‌

‌ إذا تعذَّرَت الحقيقة يجب عند المالكية الانتقال إلى المجاز

إذا كان واحدًا، أو إلى أقرب المجازَيْن إن تعدَّد، ومثلوا لهذا بقوله تعالى:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة/ 6] قالوا: حقيقةُ المأمور بمسحه جلدة الرأس ولهذه الحقيقة مجازان؛ أحدهما: أبعد وهو العمامة، والثاني: أقرب للحقيقة وهو شعر الرأس، فيجب الأقرب، فيمسح على الشعر لا على العمامة، وما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من مسحه على العمامة

(1)

حملوه على ما إذا خيف بنزعها ضرر كما قال خليل: "وعمامة خيف بنزعها ضررٌ"

(2)

.

207 -

وليس بالغالبِ في اللُّغاتِ

والخلْفُ فيهِ لابن جنِّي آتِ

يعني أن المجاز ليس بغالب في اللغات، أي المفردات والمركبات، خلافًا لابن جنِّي -بالجيم وسكون الياء، معرَّب كِنِّي بين الكاف والجيم- في قوله: إنهَ غالب في كل لغة على الحقيقة، زاعمًا أنه ما من لفظ إلا

(1)

أخرجه مسلم رقم (274) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

"مختصره": (ص/ 20).

ص: 133

واستعماله مجازًا مقرونًا بالقرينة أكثرُ من استعماله حقيقة بالاستقراء قائلًا: أكثر كلام البلغاء تَشْبيهات واستعارات، وإسناد الأفعال إلى من لا يصح أن يكون فاعلًا كالحيوانات والدهر والأطلال ونحو ذلك، وأن عُرْف التخاطب كذلك كقولهم: سافرت إلى البلاد، ورأيت العباد، ولبست الثياب، وملكت العبيد، مع أنه لم يسافر إلى كل البلاد، ولم يَرَ كُلَّ العباد. . . إلخ

(1)

. ولا يخفى سقوط قول ابن جِنِّي بأن الغالب في اللغات المجاز، وأنَّ ما سماه مجازًا حقائق الغوية.

208 -

وبعدَ تخصيصٍ مجازٌ فَيَلي

الإضمارُ فالنقلُ على المعوَّل

209 -

فالاشتراك بعدَه النسخُ جرى

لكونِه يُحتاط فيه أكثرا

يعني أن التخصيص، والمجاز، والإضمار، والنقل، والاشتراك، والنسخ، إذا تعارضت فالمقدَّم التخصحص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل، ثم الاشتراك، ثم النسخ على خلافٍ في بعضها سنذكره إن شاء اللَّه.

أما التخصيص فسيأتي تعريفه في قول المؤلف: "قصر الذي عم"

(2)

إلخ. وأما المجاز فقد تقدم الكلام عليه. وأما الإضمار فهو دلالة الاقتضاء المتقدمة في قوله: "وهو دلالة اقتضاء أن يدل"

(3)

إلخ. وأما النقل فهو نقل الكلمة إلى معنى آخر، والظاهر أنه نوعٌ من المجاز إذ لا يكاد يُعقل الفرق بشهما. وأما الاشتراك فقد تقدم الكلام عليه في

(1)

انظر "الخصائص": (2/ 447 - فما بعدها) لابن جني.

(2)

البيت رقم (382).

(3)

البيت رقم (138).

ص: 134

قوله: "في رأي الأكثر وقوع المشترك"

(1)

.

وأما النسخ فسيأتي في قوله: "رفع لحكم أو بيان الزمن"

(2)

إلخ.

ومثال تقديم التخصيص على المجاز -كما رجحه المؤلف وغيره- قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام/ 121] فهو مخصوص عند الجمهور بغير النَّاسِي للتسمية فتؤكل ذبيحته، وحَمَله الشافعي على المجاز وأن المراد به ما أُهِل به لغير اللَّه أو ما مات من غير تذكية، فيقدَّم التخصيص على المجاز على الراجح، ورجحانه من وجهين:

الأول: أن اللفظ يبقى في بعض الحقيقة كلفظ المشركين في: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} هو خرج أهل الذمة وبقي الحربيون وهم بعض المشركين، فعلى أنه تخصيص فهو أَقرب للحقيقة.

الثاني: إذا خرج بعضٌ بالتخصيص بقي اللفظ مستصحبًا في الباقي من غير احتياج إلى القرينة، قال القرافي

(3)

: وهذان الوجهان لا يوجدان في غير التخصيص.

قال مُقيده عفا اللَّه عنه: هذا الوجه الأخير يدل على أن العام المخصوص حقيقة في الباقي بعد التخصيص، كما يأتي تحقيقه عند قول المؤلف:"وذاك للأصل وفرع يُنْمى"

(4)

.

(1)

البيت رقم (194).

(2)

البيت رقم (466).

(3)

في "شرح التنقيح": (ص/ 122).

(4)

البيت رقم (389).

ص: 135

ومثال تقديم المجاز على الإضمار: قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنًّا: أنت أبي، فإنه يحتمل المجاز من باب إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أي أنت عتيق، لأن الأبُوَّة يلزمها العتق شرعًا، واللازمية والملزومية كلتاهما من علاقات المجاز المرسل كما هو مقرر في محله، ويحتمل الإضمار أي أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم، فيكون من التشبيه البليغ. فعلى الأول يُعتق وهو الذي رجَّحَه المؤلف، وعلى الثاني لا يعتق، ورجح بعضهم الثاني.

حُجَّة من رجح المجاز على الإضمار أن المجاز أكثر، قال القرافي

(1)

: "والكثرة تدل على الرجحان". وحجة من رجح الإضمار على المجاز أن قرينة الإضمار متصلة به لما قدمنا من أن قرينة الاقتضاء -الذي هو الإضمار- هي توقُّف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه، وذلك غاية الاتصال، بخلاف قرينة المجاز فإنها منفصلة خارجة عنه.

وقال بعض العلماء: هما سيَّان لاحتياج كل منهما إلى قرينة، وهو وجيه، لأن قرينة المجاز قد تكون استحالة الحقيقة، والاستحالة لا تقصر عن قرينة الاقتضاء كما هو ظاهر.

ومثال تقديم الإضمار على النقل: قول الحنفي: إن درهم الربا إذا أسقط صح العقد لأن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة/ 275] يحتمل الإضمار أي: آخْذ الربا كما حمله عليه أبو حنيفة، فلو حذف

(1)

في "شرح التنقيح": (ص/ 122).

ص: 136

درهم الربا صح العقد، ويحتمل النقل، أي نقل "الربا" -الذي هو لغةً الزيادة- إلى العقد شرعًا فيكون المعنى تحريم العقد وفساده مطلقًا ولو حُذِف الدرهم الزائد المؤدي إلى التحريم.

حجة من قال بتقديم الإضمار على النقل هي سلامة الإضمار من نسخ المعنى الأول، بخلاف النقل فإنه ينسخ المعنى الأصليَّ.

قال مقيِّدهُ عفا اللَّه عنه: ذَكَرَ هذه الحجة لتقديم الإضمار على النقل المؤلِّفُ في "الشرح"

(1)

تَبَعًا لغيره، ولا يخفى أن هذه الحجة تقتضي تقديم الإضمار على المجاز؛ لأن المجاز فيه نسخ المعنى الأصلي أيضًا، ولما قدمنا من أن النقل مجاز فانظره، لأن تقديم المجاز على الإضمار وتأخير النقل عنه مع أن النقل مجاز لا يخلو من إشكال.

ومثال تقديم النقل على الاشتراك: لفظ "الزكاة" إذا أريد به الجزء المخرجُ من المال، فإنه يحتمل النقل عن المعنى الأصلي الذي هو النماء، ويحتمل الاشتراك بينه وبين الجزء المخرَج فيُحْمَل على النقل لأن الاشتراك يخل بالفهم اليقينيّ.

وقول المؤلف: "بعده النسخ" إلخ، يعني أن الاشتراك مقدَّم على آخر المراتب الذي هو النسخ، لأن النسخ يُحتاط فيه أكثر لتصييره اللفظ باطلًا فتكون مقدماته أكثر. قاله في "التنقيح"

(2)

.

ولم أر من مَثَّل لتعارض الاشتراك والنسخ، والذي يظهر لي أنه لا

(1)

(1/ 127).

(2)

(ص/ 78 - مع الذخيرة).

ص: 137

يتأتَّى إلّا في المشتركيْن المتضادَّيْن كقوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} لأن القُرْءَ مُشْترك بين الطُّهر والحيض وهما ضدَّان، كما أن الناسخ والمنسوخ ضدان، فيُحْمَل الضدان على الاشتراك ولا يحملان على النسخ إلا بدليل على النسخ، كما يأتي للمؤلف من أن النسخ لا بد له من دليل خاص في قوله:"الإجماع والنص على النسخ"

(1)

إلخ.

تنبيه: هذا الذي ذكره المؤلف من تقديم التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار. . . إلخ لا ينافي ترجيح المتأخر المرجوح في بعض الصور بِمُدْرَكٍ يخصُّه، كترجيح النقل على الإضمار في آية:{وَحَرَّمَ اَلرِّبَا} ونحو ذلك.

وقول المؤلف: "فيلي الإضمارُ" هو بالرفع فاعل "يلي" والمفعول محذوف أي يلي الإضمارُ المجازَ. وجَمَع بعضُهم هذه المسائل في بيتين فقال:

يُقدَّم تخصيصٌ مجازٌ ومضمَرٌ

ونَقْلٌ يليه واشتراكٌ على النسخ

وكلٌّ على ما بعدَه متقدِّمٌ

وقدَّم أضْدَادَ الجميع ذوو الرسخ

قال مقيّده عفا اللَّه عنه: قول ناظم البيتيْن: "وقدم أَضدَادَ الجميع" وجيهٌ في غير التخصيص، أما التخصيص فلا يقدَّم عليه ضده الذي هو العموم بل يقدَّم هو على العموم كما سيأتي.

210 -

وحيثما قصدُ المَجاز قد غَلَبْ

تعيينُه لدى القرافي مُنْتَخَبْ

211 -

ومذهبُ النعمانِ عكسُ ما مضى

والقوْلُ بالإجمال فيه مُرْتضى

(1)

البيت رقم (485).

ص: 138

يعني أن اللفظ إذا دار بين الحقيقة المرجوحة والمجاز الراجح بكثرة الاستعمال، كلفظ "الدابة" الذي هو حقيقة مرجوحة في كلِّ ما دب، مجاز راجح في ذوات الحافر في أكثر البلاد، وفي بعضها للحمار وفي بعضها للحيَّة، فإن في ذلك ثلاثة مذاهب:

الأول: تعيين حمل اللفظ على المجاز لرجحانه بكثرة الاستعمال، وعزاه المؤلف في "الشرح"

(1)

لأبي يوسف، واختاره القرافي

(2)

، وهو معنى قول المؤلف:"تعيينه لدى القرافي منتخب" أي مختار، ولا يُحمل على الحقيقة إلا بنيته

(3)

أو قرينة.

الثاني: حمله على الحقيقة لرجحانها بالأصالة، ولا يُحمل على المجاز إلا بنيته أو قرينة، وهو قول أبي حنيفة، وهو مراد المؤلف بقوله:"ومذهب النعمان عكس ما مضى".

الثالث: وهو قول الإمام

(4)

، واختاره السبكي في "جمع الجوامع"

(5)

أن اللفظ يكون مجملًا فلا يُحمل على المجاز لرجحان الحقيقة بالأصالة، ولا على الحقيقة لرجحان المجاز بكثرة الاستعمال، فيتساوى الاحتمالان؛ لأن لكل منهما مرجِّحًا فيكون اللفظ مجملًا،

(1)

(1/ 128).

(2)

في "التنقيح": (ص/ 77).

(3)

كذا، وط: بنية، ولعلها ببينة.

(4)

أي الفخر الرازي، كما هو اصطلاح ابن السبكي في "الجمع".

(5)

(1/ 331).

ص: 139

وهو مراد المؤلف بقوله: "والقول بالإجمال فيه مرتضى".

212 -

أجْمَعَ إنْ حقيقةٌ تُماتُ

على التقدُّمِ له الأثباتُ

يعني أن الأثبات -أي العلماء- أجمعوا على تقديم المجاز على الحقيقة إن أُميتت الحقيقة أي هُجِرت بالكلية، فمن حلف: لا يأكل من هذه النخلة، حَنَث بثمرها دون خشبها الذي هو الحقيقة لأنها مُمَاتة مهجورة.

وقوله: "الأثبات" بفتح الهمزة جمع ثَبَت فاعل "أجمعَ"، و"إن" شرطية، و"حقيقة" نائب فاعل "تُمات" محذوفة دل عليها "تمات" المذكورة، لِمَا تقرَّر من أن أدوات الشرط لا تتولاها إلا الجمل الفعلية، وهو الصحيح عند النحويين خلافًا لبعضهم زاعمًا أن الشرط ربما ولي جملة اسمية، وجعل بعضُهم منه قوله تعالى:{قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ} [الإسراء/ 100] الآية.

213 -

وهو حقيقةٌ أو المَجازُ

وباعتبارَيْن يجي الجوازُ

يعني أن اللفظ المستعمل في معنى لا يخلو إما أن يكون حقيقة فقط، أو مجازًا فقط، كالأسد للحيوان المفترس أو للرجل الشجاع، ويجوز أن يكون حقيقة ومجازًا معًا باعتبارين كالصوم -مثلًا- فإنه حقيقة لغوية مجاز شرعيّ في كل إمساك، وحقيقة شرعية مجاز لغوي في خصوص إمساك البطن والفرج. وكالدَّابة فإنها حقيقة لغوية مجاز عرفيّ في كل ما دَبّ، حقيقة عرفية مجاز لغويّ في ذوات الحافر مثلًا، وهذا مراده بقوله:"وباعتبارين يجي الجواز".

قال مُقَيّدهُ عفا اللَّه عنه: حَصْر المؤلف اللفظ في الحقيقة والمجاز

ص: 140

لا يستقيم إلا على القول بأن الكناية حقيقة أو أنها مجاز، وأما على القول بأنها لا حقيقة ولا مجاز، فهي واسطة يختلُّ بها الحَصْر الذي ذكره المؤلف هنا، والعلم عند اللَّه تعالى.

214 -

واللفظُ محمولٌ على الشرعيّ

إن لم يكن فمطلَقُ العرفيّ

215 -

فاللغوي على الجَلي. . . .

. . . . . . . . . . . . .

يعني أن اللفظ يُحمل على معناه الشرعيّ إن كان من الشارع، فالصوم في كلام الشارع -مثلًا- يجب حمله على خصوص إمساك البطن والفرج، دون غيره من الإمساكات، وهذا معنى قوله:"واللفظ محمول على الشرعيّ".

فإن لم يكن في اللفظ استعمال شرعي خاص وجب حملُه على معناه العرفيّ كما قدمنا عن أبي يوسف والقرافِيّ، كالدابة -مثلًا- فمن أوصى بدابة حُمِل على المتعارف في الدابة عند الناس، وهذا هو مراده بقوله:"إن لم يكن فمطلق العرفي" ومراده بالإطلاق في العرف يعني سواءٌ كان عرفًا عامًّا أو خاصًّا بأهل بلد، وسواءٌ كان عرفًا قوليًّا أو فعليًّا خلافًا لخليل

(1)

القائل بعدم اعتبار العرف الفعلي تَبَعًا للقرافي

(2)

.

ومثال العُرْف الفعليّ: أن يكون أهل بلد لم يأكلوا قط إلا خبز البر، فَحَلَف أحدهم لا يأكل خبزًا، فأكل خبزَ شعير، فإنه يحنث عند القرافي وخليل لعدم اعتبارهما العرف الفعلي. أما العُرْف القولي فواضح.

(1)

كما يفهم من عبارته في "المختصر": (ص/ 84).

(2)

في "شرح التنقيح": (ص/ 212).

ص: 141

وقوله: "فاللغوي"، يعني أنه إن لم يوجد في اللفظ اصطلاح شرعي ولا عرفيّ فإنه يجب حمله على معناه اللغويّ. وقوله:"على الجلي" أي على القول الظاهر، خلافًا لمن قدَّم اللغويّ كما تقدم عن أبي حنيفة، وخلافًا لمن يجعله مجملًا كما تقدم عن الإمام والسبكي، وخلافًا لمن لا يعتبر العرف الفِعْلِيَّ كالقرافي وخليل، وخلافًا لمن أخر الشرعي كخليل وانتصر له الرَّهوني. وتسكين "ياء" اللغوي والجلي لضرورة الوزن.

. . . . . . ولم يَجِبْ

بحثٌ عن المجازِ في الذي انتُخِبْ

يعني أنه يجوز حمل اللفظ على معناه الحقيقي قبل البحث عنه هل هو مستعمل في معناه المجازي؛ لأن الأصل عدم المجاز بلا قرينة كما يدل عليه كلام الفِهْرِيّ. وقوله: "انتُخِب" بالبناء للمفعول بمعنى اختير، ومقابله قول القرافي: إنه لا يصح التمسُّك بالحقيقة إلا بعد الفَحْص عن المجاز. وهذا الخلاف يجري في العام مع الخاص؛ هل يجوز التمسك بالعام قبل البحث عن المخصِّص أو لا؟ والحق جوازه لأن الأصل لا ينتقل عنه إلا بموجب.

216 -

كذاك ما قابل ذا اعتلالِ

من التأصُّلِ والاستقلالِ

217 -

ومِنْ تأسُّسٍ عمومٍ وبقا

الإفرادُ والإطلاق مما يُنْتقَى

218 -

كذاك ترتيبٌ لإيجاب العمل

بما له الرجحانُ مما يُحْتَمَل

يعني أن هذه الأمور الثمانية المذكورة في هذه الأبيات الثلاثة تُقَدَّم على مقابلاتها، كما قدم الشرعي ثم العرفي.

الأول: التأصُّل، فإنه يقدم على مقابله الذي هو الزيادة، ومثاله

ص: 142

قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)} [البلد] قيل: "لا" زائدة وقيل: نافية.

الثاني: الاستقلال، يقدَّم على مقابله الذي هو الإضمار، ومثاله قوله تعالى:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة/ 33] الآية، قال الشافعيُّ وغيرُه: يُقتلون إن قتلوا وتُقْطع أيديهم إن سرقوا، والمالكية يقولون: الأصل عدم الإضمار أي الحذف فيخير الإمام بين الأمور المذكورة، فيجوز القتل وإن لم يَقْتلوا والقَطْع وإن لم يسرقوا.

الثالث: التأسيس، يقدَّم على مقابله الذي هو التوكيد كقوله:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} في سورة الرحمن. وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)} في المرسلات، فيحمل على تنوُّع الآلاء في الأول، والمكَذَّب به في الثاني فلا يتكرر.

الرابع: العموم، فإنه يقدم على مقابله الذي هو التخصيص، وقيدَّه المؤلف في "الشرح"

(1)

بكونه قبل البحث عن المخصص، ولا معنى له عندي، لأنه قبل العثور على المخصِّص لم يكن هناك مقابل للعموم موجودًا وبعد العثور على المخصِّص فهو مقدَّم على العامّ فاتضح أن ذكر العموم هنا فيه نظر، وكذلك ذكر الإطلاق الآتي قريبًا.

الخامس: البقاء، يقدم على مقابله الذي هو النسخ، ومثَّل له المالكية بذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير، دلّ قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام/ 145] الآية على إباحته، وثبت

(1)

(1/ 131).

ص: 143

عنه صلى الله عليه وسلم النهي عنه

(1)

، فاختلف فيه هل النهي ناسخ للآية أم لا؟ فيكون المصدر مضافًا إلى فاعله، فيكون الحديث مثل قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة/ 3].

قال مقيّدهُ عفا اللَّه عنه: جَعْل النسخ والبقاء متقابِلَيْن فيه عندي نظر، لأن النسخ أيضًا قبل ثبوته لم يكن مقابلًا للبقاء، وبعد ثبوته فهو مقدَّم على البقاء، كما هو ظاهر

(2)

.

* * *

(1)

فيما أخرجه البخاري رقم (5530)، ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

(2)

هنا انقطع الشرح، وبقي من الأمور الثمانية ثلاثة، وننقل شرحها من "نشر البنود":(1/ 131 - 132):

السادس: يقدم الإفراد على ضده الذي هو الاشتراك، فجعل النكاح مثلًا لمعنى واحد وهو الوطء، أرجح من كونه مشتركًا بينه وبين سببه الذي هو العقد.

السابع: يقدم الإطلاق على التقييد كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فعند المالكية أن مطلق الشرك محبط، وقيده الشافعي بالموت على الكفر. وأجيب بأن الأصل عدم التقييد.

الثامن: ويقدم الترتيب على التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} الآية، ظاهرها أن الكفارة لا تجب إلا بالظهار والعود معًا. وقيل: فيها تقديم وتأخير تقديره: والذين يظهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا قبل الظِّهار سالمين من الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطًا في كفارة الظهار وإنما قدم ما ذُكر لأجل إيجاب العمل بالراجح من محتملات اللفظ، وكون ما ذكر هو الراجح، لأنه الأصل" اهـ.

ص: 144

219 -

وإن يجي الدليل للخلافِ

فقدِّمَتَه بلا خلاف

(1)

يعني أن محل ترجيح المذكورات على مقابلاتها المرجوحة حيث لا دليل لخلاف الأصل يعضده "فقدِّمَنَّه" أي خلاف الأصل على الأصل "بلا خلاف".

220 -

وبالتبادر يُرَى الأصيلُ

إن لم يكُ الدليلُ لا الدخيلُ

يعني أن المعنى الأصيل وهو الحقيقة "يُرى" أي يُعرف بالتبادر إلى الفهم "إن لم يكُ الدليل" أي حيث فُقِدت القرينة فالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من اللفظ عند عدم القرينة هو المعنى الحقيقي له. قوله: "لا الدخيل" يعني أن المعنى الدخيل وهو المجاز لا يتبادر إلى الذهن إلا بالقرينة.

221 -

وعدم النفي والاطّراد

إن وُسِم اللفظُ بالانفراد

يعني أن الأصل يُعرف بعدم صحة نفيه في نفس الأمر لا لفظًا ولا لغة، وبه احترز عن قوله: ما أنت بإنسان لصحته لغة. قاله العضد. ويُعرف أيضًا بوجوب الاطراد فيما يدل عليه "إن وسم اللفظ بالانفراد" أي عُرف بعدم الترادف وإلا فلا يجب الاطراد لجواز التعبير بكل من المترادفين مكان الآخر، مع أن كلًّا منهما حقيقة فما لا يطرد أصلًا مجاز. قال المحلِّي: كما في {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها ولا يقال: واسأل البساط أي صاحبه.

222 -

والضدُّ بالوقف في الاستعمال

وكون الاطلاق على المحال

(1)

من هنا إلى البيت رقم (381) ليس في شرح الشيخ، واستدركناه في الحاشية من شرح الولاتي:(52 - 84).

ص: 145

يعني أن ضد الحقيقة وهو المجاز يُعرف "بالوقف" أي توقف اللفظ في إطلاقه عليه واستعماله فيه على المسمى الآخر الحقيقي، وهذا هو المسمى عند أهل البديع بالمشاكلة نحو:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فقوله: {وَمَكَرُوا} حقيقة وقوله: {وَمَكَرَ اللَّهُ} مجاز

(1)

. وعلامة كونه مجازًا توقف صحة إطلاقه على اللَّه على تقدم {مَكَرُوا} عليه لأن إطلاق اللفظ على معناه الحقيقي لا يتوقف على شيء.

ويُعرف أيضًا المعنى المجازي بكون إطلاق اللفظ على المعنى الحقيقي إطلاقًا على المستحيل عليه ذلك الإطلاق نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أطلق سؤال القرية على معنى هو استفهامها وهو مستحيل واستحالته يعرف بها أن المراد سؤال أهلها.

223 -

وواجبِ القيدِ وما قد جُمعا

فخالفَ الأصل مجازًا سُمِعا

يعني أن المعنى المجازي يُعرف بوجوب تقييد اللفظ الدال عليه كـ "جناح الذل" و"نار الحرب" الأول بمعنى لين الجانب، والثاني بمعنى شدة الحرب، فإنه التزم تقييد كل من الجناح والنار بما أضيف إليه وتلك الإضافة قرينة المجاز، والتزامها علامة تمييز المجاز عن الحقيقة.

قوله: "وما قد جُمعا" إلخ يعني أن اللفظ الذي يجمع على خلاف جمع

(1)

بل صفة حقيقية وردت في القرآن مقيدة، فتستعمل في موردها، ولا يصح استعمالها مطلقة. انظر:"مختصر الصواعق": (2/ 737 - 747).

ص: 146