الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: الحقيقَة
هي من حق الشيء يحُق بالكسر والضم إذا ثبت ووجب، فهي فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول من حقَّقته إذا أثبته. وهي في الاصطلاح: الكلمة الثابتة في مكانها الأصليّ على الأول أو المُثبتة فيه على الثاني، والتاء في الحقيقة للنقل من الوصفية إلى الاسمية، فهي علامة للفرعية كما أن المؤنث فرع المذكر، وقيل: للتأنيث وعليه صاحب "المفتاح"
(1)
.
199 -
منها التي للشرع عَزْوها عُقِلْ
…
مرتَجَلٌ منها ومنها منتقِلْ
يعني أن من
أقسام الحقيقة
، الحقيقةُ الشرعية، وباقي الأقسام هو الحقيقة العرفية، والحقيقة اللغوية.
أما الحقيقة الشرعية: فتقريبها للذهن: أن يكون اللفظ موضوعًا وضعًا عامًّا شاملًا لجميع الأفراد الداخلة في
(2)
مُسَمّاهُ، فيسمِّي الشرع بعض تلك الأفراد بذلك الاسم العام، كالصوم فإنه وُضِع لكل إمساك، فمن أمسك عن الكلام فقد صام لغةً، كما قال تعالى:{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم/ 26] أي إمساكًا عن الكلام، بدليل قوله:{فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم/ 26]. ومن أمسك عن الجري فقد صام
(1)
وهو: يوسف بن أبي بكر بن محمد السّكّاكي الخوارزمي (ت 626). وكتابه "مفتاح العلوم" من أشهر كتب العربية الجامعة لفنونها.
(2)
ط: تحت.
لغة، ومنه قول النابغة
(1)
:
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة
…
تحت العَجاج وأخرى تعْلُك اللُّجُما
فقوله: "صيام" أي ممسكة عن الجري، وقيل: عن العلف.
ومن الصوم بمعنى الإمساك عن المشي قول امرئ القيس
(2)
:
كأن الثريا عُلِّقت في مَصامِها
…
بأمْراسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جندل
فقوله: "مَصامِها" يعني مكان صومها أي إمساكها عن المشي.
وقد خص الشرعُ هذه الحقيقة ببعض أفرادها وهو: إمساك البطن والفرج عن شهوتيهما بنيَّةٍ من الفجر إلى الغروب، دون غير ذلك من الأفراد التي يصْدُق عليها الصوم لغة.
وأما الحقيقة العرفية فهي أن يختصّ الاستعمال عرفًا ببعض ما دلَّ عليه اللفظ لغة، كالدابة فإنها في اللغة لكل ما دبَّ، وفي العرف تستعمل في بعض ما يدب دون بعض، فالنوع الذي تستعمل فيه من الدواب عُرْفًا هو حقيقتها العرفية.
والحقيقة اللغوية هي التي لم ينقلها عن أصلها استعمالٌ شرعي ولا عرفي.
وأما الحقيقة العقلية فلا ذِكْر لها في الأصول، وإنما تذكر في فنِّ البيان وهي: إسناد الفعل ونحوه لمن هو له في اعتقاد المتكلم، كقول الموحِّد:"أنبتَ اللَّهُ البقلَ"، وكقول الطبائعي:"أنبتَ الربيعُ البقلَ".
(1)
"ديوانه": (ص/ 240). والبيت من رواية ابن السكيت للديوان.
(2)
"ديوانه": (1/ 243).
وقول المؤلِّف: "منها" أي من أنواع الحقيقة: الحقيقة التي عقل عزوها للشرع فقيل لها: حقيقة شرعية.
وقول المؤلف: "مرتجل منها" إلخ، يعني أن الحقيقة الشرعية منها ما هو مرتجل، أي موضوع وضعًا مؤتنفًا من غير نقل من اللغة، ومنها ما هو منقول من اللغة، وقد قدمنا أن نقله من اللغة هو خصوصه شرعًا ببعض مدلوله اللغوي، وكون الشرعية منها مرتجل ذكره المؤلف هنا
(1)
تبعًا لحلولو ناقلًا عن الرَّهوني
(2)
، والظاهر أنه غير صحيح وأن الحقيقة الشرعية ليس فيها مرتجل ألبتة كما صرح به الشَّارِمْساحي
(3)
في "شرح ابن الجلاب"
(4)
وهو الحق خلافًا لما ذكره المؤلف، والاستقراء التام دليل على ذلك.
200 -
والخُلْفُ في الجواز والوقوعِ
…
لها من المأثُوْر والمَسْموعِ
يعني أنهم اختلفوا في جواز وقوع الحقيقة الشرعية. والقائلون
(1)
"النشر": (1/ 121).
(2)
ذكره الرهوني في "شرح مختصر ابن الحاجب": (1/ 353 - 355).
(3)
هو: عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عمر المصري الشارِمْساحي الفقيه المالكي (ت 669)، له شرح على مختصر ابن الجلاب المسمى بـ "التفريع". انظر:"الديباج المذهب": (ص/ 142 - 143). وشارِمْساح بلدة بمصر. انظر "معجم البلدان": (3/ 308).
(4)
ابن الجلاب هو: عبيد اللَّه بن الحسين المالكي (ت 378)، وكتابه "التفريع" مشهور وهو من أوائل المختصرات في المذهب، وعليه شروح كثيرة، طبع عن دار الغرب 1417 هـ. انظر "ترتيب المدارك":(7/ 76)، و"الديباج":(ص/ 146).
بجوازها عقلًا اختلفوا أيضًا هل واقعة أم لا؟
فالذين قالوا لا تجوز عقلًا هم المعتزلة لا غيرهم، وحُجَّتهم في منع إمكان الشرعية: أن بين اللفظ والمعنى مناسبة مانعة من نقله إلى غيره، ويلزم على هذا منع العرفية أيضًا.
والذين قالوا ليست الشرعية واقعة منهم: القاضي الباقلاني، وابن القشيري، وبعض الحنابلة والشافعية زاعمين أن اللفظ مستعمل في معناه اللغوي، والشرع زاد شروطًا زائدة على اللغوي، فلفظ الصلاة -مثلًا- على هذا القول مستعمل في الشرع في معناه اللغويّ وهو الدعاء بخير، لكن اشترط الشرع في الاعتداد به أمورًا زائدة كالركوع والسجود. وردَّ هذا القول إمام الحرمين في "البرهان"
(1)
بالإجماع على أن الركوع والسجود من الأركان التي هي من نفس
(2)
الصلاة لا أنها شروط؛ لأن الشرطَ خارج عن الماهية. وردَّه غيرُ إمام الحرمين بأن فيه جَعْل الأعظم شرطًا والأقل مشروطًا وهو خلاف القياس.
وفي الشرعية قولٌ آخر لم يذكره الناظم في النظم وهو: أن الحقيقة الشرعية واقعة في الفروع العملية لا في أصول الدين، فتقع في الصوم والزكاة -مثلًا- ولا تقع في الكفر والإيمان على هذا القول، والظاهر وقوعها في الكل والعلم عند اللَّه تعالى.
201 -
وما أفادَ لاسمِه النبيُّ
…
لا الوضعُ مطلقًا هو الشرعِيُّ
(1)
(1/ 134).
(2)
ط: تفسير!
يعني أن الحقيقة الشرعية هي: ما استُفِيْدت تسميتها من جهة الشرع لا من مطلق الوضع اللغوي، فالصوم -مثلًا- سُمِّي به إمساك البطن والفرج كما تقدم، وهذه التسميه غير مستفادة من مطلق الوضع، لأن الوضع لا يخص الصوم بذلك الإمساك دون غيره من سائر الإمساكات، وإنما اسْتُفيد خصوصه به وانصرافه إليه عند الإطلاق من جهة الشارع، وقد بينا معنى هذا فيما مضى.
202 -
وربما أطلِقَ في المأذون
…
كالشُّرْبِ والعِشاءِ والعيدينِ
يعني أنه قد يطلق لفظ الشرعي على ما أَذِن فيه الشرع من واجب ومندوب ومباح، فالشرعي في البيت قبل هذا مراد به المعنى، وهذا مراد به اللفظ على سبيل الاستخدام، فالواجب كقولك:"صلاة العشاء مشروعة" أي واجبة، والمندوب كقولك:"من النوافل ما تشرع فيه الجماعة" أي تُنْدَب كالعيدين، والمباح كأنْ تقول في شُرْب الحائض والمسافر في رمضان:"هذا الشرب مشروع".