الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب السنَّة
السنة في اللّغَة الطريقة، ومنه قول لبيد
(1)
:
من معشَرٍ سنَّت لهم آباؤهم
…
ولكل قومٍ سنَّةٌ وإمامُها
واصطلاحًا عرَّفها المؤلف بقوله:
490 -
وهيَ ما انضافَ إلى الرَّسول
…
من صفةٍ كَلَيْس بالطَّويل
491 -
والقولِ والفعلِ وفي الفعلِ انحَصَرْ
…
تقريرُه كذي الحديثُ والخبَرْ
يعني أن السنة اصطلاحًا هي ما انتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الصفات ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، ومن الأقوال والأفعال، ويدخل في الأفعال تقريره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقر أحدًا على باطل كما يأتي، وأشار إلى أن التقرير فِعْل ضِمْني بقوله:"وفي الفعل انحصر تقريره" ولا سيما إذا سُرَّ بالفعل الذي قُرِّر عليه كسرُوْره من قول مُجزِّزٍ في أسامة وزيد: هذه الأقدام بعضُها من بعض
(2)
. ومن ثمَّ أخذ بعض العلماء ثبوت النسب بالقافة.
ويدخل في الفعل الإشارة والهمُّ، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم بباطل، ومثال الإشارة: إشارته لكعب بن مالك أن يضع شَطْر دينه على ابن أبي حَدْرَد
(3)
.
(1)
"ديوانه": (ص/ 179) ضمن معلقته.
(2)
أخرج البخاري رقم (6770)، ومسلم رقم (1459) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
أخرجه البخاري رقم (457)، ومسلم رقم (1558) من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
ومثال الهم: همه بتنكيس الرِّداء في الاستسقاء، ولذلك قال الشافعي بسُنِّيته
(1)
.
وقوله: "كذي الحديث" إلخ، يعني أن الحديث والخبر والسنة ألفاظ مترادفة، ولما بيَّن أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم سنة بيَّن أنه معصوم هو وجميع الأنبياء من الوقوع في المنهي عنه بقوله:
492 -
والأنبياء عُصِموا مما نُهوا
…
عنه. . . . . . . . . . . .
العِصْمة -بالكسر- تخصيص القدرة بالطاعة فلا تقع منهم معصية، وأجاز البعض عليهم خصوص صغيرة غير الخسة مع عدم إقرارهم عليها.
فإن قيل: قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} [طه/ 121]، وقال في يوسف:{وَهَمَّ بِهَا} [يوسف/ 24]، وذكر عن إخوة يوسف في سورة يوسف ما دل على قطع الرحم والعقوق والكذب.
فالجواب عن قصة آدم: أنه نسيَ العهد فأكل الشجرة ناسيًا، وسبب نسيانه غرور الشيطان له وحلفه باللَّه، لأن آدم لا يخطر في عقله أن أحدًا يحلف باللَّه على الكذب، وذكر اللَّه أنه ناس مغرور قال:{ولَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه/ 115]، وقال:{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف/ 22].
ويُجاب عن هم يوسف بأنّها خَطْرة قَلْب لم يُصَمِّمْ عليها، وما كان من الهمِّ كذلك لا مؤاخذة به. وأَجَابَ البعضُ بأن الهمَّ لم يقع منه أصلًا
(1)
انظر "الأم": (2/ 549 - 550)، وحديث قلب الرداء أخرجه البخاري رقم (1005)، ومسلم رقم (894) من حديث عبد اللَّه بن زيد رضي الله عنه.
لتعليقه على الشرط بقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف/ 24].
وعن إخوة يوسف بأن التحقيق أنهم ليسوا أنبياءَ
(1)
.
فإن قيل: في القرآن ما يدل على نبوتهم وهو قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ -إلى قوله: - وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة/ 136]، ففي ذلك دليل على نزول الوحي إلى الأسباط، والأسباطُ أولاد يعقوب.
فالجواب: أن المراد بالأسباط قبائل بني إسرائيل الاثني عشرة وفيهم أنبياء كثيرون يوحَى إليهم، ويدلُّ لهذا قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف/ 160].
وما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الذنب في قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح/ 2]، والوزر في قوله:{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح/ 2].
فيجاب عنه بأن اللَّه يعدُّ على الأنبياء خلف الأَوْلى كأنه ذنب، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال بعضهم
(2)
:
فصغائرُ الرجلِ الكبيرِ كبائرٌ
…
وكبائرُ الرجلِ الصغير صغائرُ
أو أن المراد بالذنب والوزر ما كان من التقصير في العمل قبل النبوة، ولكن قوله:{وَمَا تَأَخَّرَ} لا يساعد هذا القول. ومما يدل على الجواب الأول قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة/ 43]
(1)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في ترجيح ذلك انظرها في "جامع المسائل": (3/ 295).
(2)
لم أجده.
فالعفو يستلزم ذنبًا وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعل إلا ما أذن اللَّه له فيه كما قال: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور/ 62].
والحاصل عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها، ومن الكذب فيما بلَّغوا عمدًا إجماعًا، ونسيانًا أو سهوًا عند الجمهور، وعصمتهم من الكبائر عمدًا عند الجمهور وهو الحق خلافًا للحشوية، وكذا سهوًا أو نسيانًا على ما اختاره بعض المحققين. وأما الصغائر فأجاز وقوعها منهم كثير إن كانت غير صغائر خسَّة، وأكثر المجوزين يقولون: لم تقع منهم بالفعل.
. . . . . . . . . . . .
…
. . . . . ولم يكنْ لهم تفكُّهُ
493 -
بجائزٍ بل ذاك للتَّشْرِيعِ
…
أو نيَّةِ الزُّلفى من الرَّفيعِ
يعني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يفعلون الجائز للتفكُّهِ أي التلذذ والرغبة في الدنيا، وإنما يفعلون ذلك تشريعًا لأممهم "أو نية الزُّلْفى" أي القربى "من الرفيع" وهو اللَّه تعالى
(1)
، كالأكل والشرب بنيَّة التقَوِّي على العبادة.
494 -
فالصَّمتُ للنبيِّ عن فعلٍ عَلِمْ
…
به جوازُ الفعل منه قد فُهِمْ
(1)
جاء اسم "الرفيع" على أنه من أسماء اللَّه في بعض روايات حديث أبي هريرة المعروف في سرد الأسماء الحسنى، أخرجه ابن أبي الدنيا في الدعاء والطبراني وأبو الشيخ والحاكم:(1/ 63)، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي -كما في الدر المنثور: 3/ 270 - . ولا يصح. وجاء هذا الاسم عن بعض السلف، كما في رسالة المزني في السنة التي ساقها ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية":(ص/ 121).
يعني أنه يعلم من عصمة الأنبياء أن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يُقرُّ أحدًا على باطل، فكل فعلٍ عَلِمَ به وسَكَت عليه فهو جائز إلا إذا عُرِف لسكوته عليه موجب، كما لو أقرّ على ترك الصلاة ذِميًّا كافرًا مؤدِّيًا للجزية.
495 -
ورُبَّما يفعلُ للمكروهِ
…
مُبَيِّنًا أنَّهُ للتنزيهِ
496 -
فصارَ في جانبهِ منَ القُرَبْ
…
كالنهي أن يُشْرَبَ من فَمِ القِرَبْ
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المكروهات ليبيِّن أن كراهته تنزيهية وأنه غير حرام فيصير قربة في حقه لأنه حينئذٍ تبليغٌ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره المؤلف من أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشُّرْب من فَمِ القِرْبَةِ
(1)
، ثم شرب من فَمِ القربة
(2)
ليبيِّن عدم المنع.
497 -
وفعلُه المركوزُ في الجِبِلَّه
…
كالأكل والشُّربِ فليس مِلَّه
يعني أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجِبِلّية أي التي تقتضيها الجِبِلّة البشرية، كالأكل والشرب والقيام والقعود = لا تدخل في حدِّ السنة اصطلاحًا، وذلك هو المراد بقوله:"فليس مِلَّه" وأصل المِلة الشريعة والطريقة، لأن الأفعال الجبلية لم تُفْعَل لأجل التشريع والاستنان بل لأن الطبع البشري
(1)
أخرجه البخاري رقم (5627)، ومسلم رقم (609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري رقم (5629) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه أحمد: (45/ 416 رقم 27428) من حديث أم سليم رضي الله عنها وفيه ضعف. والترمذي رقم (1892)، وابن ماجه رقم (3423) من حديث عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن جدته كبشة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.