الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعقله. فهذا يفتح له من المسموع بحسب استعداده وقوّته ومادّته.
ومنهم: من يسمع بالله، لا يسمع بغيره. كما في الحديث الإلهيّ الصّحيح «فبي يسمع، وبي يبصر» وهذا أعلى سماعا، وأصحّ من كلّ أحد.
والكلام في «السّماع» - مدحا وذمّا- يحتاج فيه إلى معرفة صورة المسموع، وحقيقته وسببه، والباعث عليه، وثمرته وغايته. فبهذه الفصول الثّلاثة يتحرّر أمر «السّماع» ويتميّز النّافع منه والضّارّ، والحقّ والباطل، والممدوح والمذموم.
أنواع المسموع:
فأمّا «المسموع» فعلى ثلاثة أضرب:
أحدها: مسموع يحبّه الله ويرضاه. وأمر به عباده. وأثنى على أهله. ورضي عنهم به.
الثّاني: مسموع يبغضه ويكرهه. ونهى عنه.
ومدح المعرضين عنه.
الثّالث: مسموع مباح مأذون فيه. لا يحبّه ولا يبغضه. ولا مدح صاحبه ولا ذمّه. فحكمه حكم سائر المباحات: من المناظر، والمشامّ، والمطعومات، والملبوسات المباحة. فمن حرّم هذا النّوع الثّالث فقد قال على الله ما لا يعلم. وحرّم ما أحلّ الله. ومن جعله دينا وقربة يتقرّب به إلى الله، فقد كذب على الله، وشرع دينا لم يأذن به الله. وضاهأ بذلك المشركين.
السّماع المرضيّ:
إنّ السّماع المرضيّ أي ذلك الّذي مدحه الله في كتابه. وأمر به وأثنى على أصحابه، وذمّ المعرضين عنه ولعنهم. وجعلهم أضلّ من الأنعام سبيلا. وهم القائلون في النّار وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (الملك/ 10) . وهو سماع آياته المتلوّة الّتي أنزلها على رسوله. فهذا السّماع أساس الإيمان الّذي يقوم عليه بناؤه. وهو على ثلاثة أنواع:
سماع إدراك بحاسّة الأذن. وسماع فهم وعقل. وسماع فهم وإجابة وقبول. والثّلاثة في القرآن.
فأمّا سماع الإدراك: ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجنّ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ (الجن/ 1- 2) . وقوله يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى (الأحقاف/ 30) الآية. فهذا سماع إدراك اتّصل به الإيمان والإجابة.
وأمّا سماع الفهم: فهو المنفيّ عن أهل الإعراض والغفلة. بقوله تعالى فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ (الروم/ 52) ، وقوله إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر/ 22) .
فالتّخصيص هاهنا لإسماع الفهم والعقل. وإلّا فالسّمع العامّ الّذي قامت به الحجّة: لا تخصيص فيه.
ومنه قوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (الأنفال/ 23) . أي لو علم الله في هؤلاء الكفّار قبولا وانقيادا لأفهمهم، وإلّا فهم قد سمعوا سمع الإدراك وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا؛ لأنّ في قلوبهم من داعي التّولّي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه.
وأمّا سماع القبول والإجابة: ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنّهم قالوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا (النور/ 51) . فإنّ هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطّاعة.
والتّحقيق: أنّه متضمّن للأنواع الثّلاثة. وأنّهم أخبروا بأنّهم أدركوا المسموع وفهموه. واستجابوا له.
ومن سمع القبول: قوله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (التوبة/ 47) أي قابلون منهم مستجيبون لهم. هذا أصحّ القولين في الآية.
والمقصود: أنّ سماع خاصّة الخاصّة المقرّبين:
هو سماع القرآن بالاعتبارات الثّلاثة: إدراكا وفهما، وتدبّرا، وإجابة. وكلّ سماع في القرآن مدح الله أصحابه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه: فهو هذا السّماع.
وهو سماع الآيات، لا سماع الأبيات. وسماع القرآن، لا سماع مزامير الشّيطان، وسماع كلام ربّ الأرض والسّماء لا سماع قصائد الشّعراء، وسماع المراشد، لا سماع القصائد، وسماع الأنبياء والمرسلين، لا سماع المغنّين والمطربين.
فهذا السّماع حاد يحدو القلوب، إلى جوار علّام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح. ومحرّك يثير ساكن العزمات، إلى أعلى المقامات وأرفع الدّرجات. ومناد ينادي للإيمان.
ودليل يسير بالرّكب في طريق الجنان. وداع يدعو القلوب بالمساء والصّباح. من قبيل فالق الإصباح «حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح» .
فلم يعدم من اختار هذا السّماع إرشادا لحجّة، وتبصرة لعبرة، وتذكرة لمعرفة، وفكرة في آية، ودلالة على رشد، وردّا على ضلالة، وإرشادا من غيّ، وبصيرة من عمى، وأمرا بمصلحة، ونهيا عن مضرّة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجا من ظلمة، وزجرا عن هوى. وحثّا على تقى. وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء. وعصمة ونجاة، وكشف شبهة، وإيضاح برهان، وتحقيق حقّ، وإبطال باطل.
ونحن نرضى بحكم أهل الذّوق في سماع الأبيات والقصائد. ونناشدهم بالّذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة: هل وجدوا ذلك- أو شيئا منه- في الدّفّ والمزمار؟ ونغمة الشّادن ومطربات الألحان؟ والغناء المشتمل على تهييج الحبّ المطلق الّذي يشترك فيه محبّ الرّحمن، ومحبّ الأوطان، ومحبّ الإخوان، ومحبّ العلم والعرفان، ومحبّ الأموال والأثمان، ومحبّ النّسوان والمردان، ومحبّ الصّلبان.
فهو يثير من قلب كلّ مشتاق ومحبّ لشيء ساكنه. ويزعج قاطنه. فيثور وجده، ويبدو شوقه.
فيتحرّك على حسب ما في قلبه من الحبّ والشّوق والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان. ولهذا تجد لهؤلاء كلّهم ذوقا في السّماع، وحالا ووجدا وبكاء.
ويا لله العجب! أيّ إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات. لعلّ أكثرها قيلت فيما هو محرّم يبغضه الله ورسوله، ويعاقب عليه: من غزل وتشبيب بمن لا يحلّ له من ذكر أو أنثى؟ فإنّ غالب التّغزّل والتّشبيب إنّما هو في