الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن
في تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيه مسائل
المسألة الأولى: في أن الواو العاطفة لمطلق الجمع:
قال أبو علي الفارسي: ((أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق)).
وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه: أنها للجمع المطلق، وقال بعضهم: إنها للترتيب:
الأول: أن (الواو) قد تستعمل فيما يمتنع حصول
الترتيب فيه؛ كقولهم: تقاتل زيد وعمرو، ولو قيل تقاتل زيد فعمرو، أو تقاتل زيد ثم عمرو، لم يصح.
والأصل في الكلام الحقيقة؛ فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب، فوجب ألا يكون حقيقة في التريب؛ دفعا للاشتراك.
الثاني: لو اقتضت (الواو) الترتيب، لكان قوله:(رأيت زيدا وعمرا بعده) تكريرا، ولكان قوله:(رأيت زيدا وعمرا قبله) متناقضا، ولما لم يكن كذلك بالإجماع، صح قولنا.
فإن قلت: يجوز أن يكون الشيء بإطلاقه لا يفيد حكما، ثم إذا أضيف إليه شيء آخر، تغير عما كان عليه، قوله:(زيد في الدار) يفيد الجزم، فإذا أدخلت عليه الهمزة، فقيل:(أزيد في الدار؟) صار للاستخبار، وبطل معنى الجزم.
قلت: حاصل هذا السؤال يرجع إلى أن قوله: (قبله) أو (بعده) كالمعارض لمقتضى الواو، إلا أن التعارض خلاف الأصل، فالمفضى إليه وجب ألا يكون.
الثالث: قوله تعالى في سورة البقرة: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)[البقرة:58] وفي الأعراف: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا)[الأعراف:161] والقصة واحدة، وقوله تعالى:(واسجدي واركعي)[آل عمران:43] مع أن من شرعها تقدم الركوع، وقوله تعالى:(فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله)[النساء:92] وقوله تعالى: أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) [المائدة:33]، وقوله تعالى:(والسارق والسارقة)[المائدة:38]، وقوله:(والزانية والزاني)[النور:2] ففي شيء من هذه المواضع لاتفيد الترتيب.
الرابع: السيد إذا قال لعبده: (اشتر اللحم والخبز) لم يفهم منه الترتيب.
الخامس: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قيل له، حين أرادوا السعي بين الصفا والمروة:(بأيهما نبدأ؟ فقال ابدءوا بما بدأ الله به) ولو كانت الواو للترتيب، لما اشتبه ذلك على أهل اللسان، ولما احتيج في بيان وجوب الابتداء من الصفا، إلى الاستدلال بأنه مذكور أولا؛ فوجب أن تقع به البداءة.
السادس: لو كانت (الواو) للترتيب، لوجب أن القائل إذا قال:(رأيت زيدا وعمرا) ثم علم أنه رآهما معا- أن يكون كاذبا، وبالإجماع ليس كذلك.
السابع: قال أهل اللغة واو العطف في الأسماء المختلفة، كواو الجمع وباء التثنية في الأسماء المتماثلة؛ فإنهم لما لم يتمكنوا من جمع الأسماء المختلفة بواو الجمع، استعملوا فيها واو العطف.
ولما كان قولهم: (جاءني الزيدان، واجتمع الزيدون) يفيد الاشتراك في الحكم، ولا يفيد الترتيب فيه، فكذا القول في واو العطف وواو الجمع؛ يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك.
فإن قلت: واو العطف وواو الجمع يجوز أن يشتركا في إفادة الاشتراك، ثم واو العطف يختص بفائدة زائدة، وهي الترتيب.
قلت: إنهم نصوا على أن فائدة إحداهما عين فائدة الأخرى، وذلك بنقي الاحتمال المذكور.
أحدهما: أن واحدا قام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:(من أطاع الله ورسوله، فقد اهتدى، ومن عصاهما فقد غوى) فقال عليه الصلاة
والسلام: (بئس الخطيب أنت؛ هلا قلت: ومن عصى الله ورسوله، فقد غوى) ولو كانت الواو للجمع المطلق، لما افترق الحال بين ما علمه الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم وبين ما قاله الرجل.
وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع شاعرا يقول [الطويل]:
(كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا)
فقال له عمر رضي الله عنه: (لو قدمت الإسلام على الشيب، لأجزتك) وهذا يدل على أن التأخير في اللفظ، يدل على التأخير في الرتبة.
وروي أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا لابن عباس رضي الله عنهما: لم تأمرنا بالعمرة قبل الحج، وقد قال الله تعالى:(وأتموا الحج والعمرة لله)؟ [البقرة:196] وهو كانوا فصحاء العرب؛ فثبت أنهم فهموا من الواو الترتيب.
وثانيها: إذا قال الزوج لامرأته التي لم يدخل بها: (أنت طالق، وطالق) طلقت طلقة واحدة، ولم تلحقها الثانية، ولولا أن الواو تقتضي الترتيب. للحقتها الثانية، كما أنها تطلق طلقتين، إذا قال لها:(أنت طالق طلقتين).
وثالثتها: إذا قال: (أيت زيدا وعمرا) فالترتيب يستدعي سببا، والترتيب في الوجود صالح له؛ فوجب جعله سببا إلى أن يذكر الخصم سببا آخر.
ورابعها: أن الترتيب (على سبيل التعقيب) وضعوا له (الفاء) والترتيب (على سبيل التراخي) وضعوا له (ثم).
ومطلق الترتيب، وهو: القدر المشترك بين هذين النوعين، معنى معقول أيضًا؛ فلا بد له من لفظ يدل عليه، وما ذاك إلا (الواو).
فإن قلت: الجمع المطلق معنىً معقول أيضًا؛ فلابد له من لفظ يدل عليه، وماذاك إلا (الواو)!!.
قلت: لما حصل التعارض، وجب الترجيح، وهو معنا؛ وذلك لأنا لو جعلناه للترتيب المطلق، كان معنى الجمع المطلق جزءا من المسمى، ولازما له؛ فجاز جعله مجازا؛ بسبب الملازمة.
وأما لو جعلناه للجمع المطلق، لم يكن الترتيب المطلق لازما له؛ فلا يمكن جعله مجازا عنه؛ لعدم الملازمة
والجواب عن الأول: أن الواو في قوله: (،من عصى الله ورسوله) لا تقتضي الترتيب لأن معصية الله تعالى ومعصية ريوله صلى الله عليه وسلم لا تنفك إحداهما عن الأخرى، فهذا بأن يدل على فساد قولكم- أولى، بل السبب في أن قوله:(ومن عصى الله ورسوله) إفراد لذكر الله تعالى عن ذكر غيره؛ فكان أدخل في التعظيم.
وأما أثر عمر رضي الله عنه: فهو محمول على أن الأدب أن يكون المقدم في الفضيلة مقدما في الذكر، وأما أثر ابن عباس رضي الله عنهما: فهو معارض بأمر ابن عباس إياهم بتقديم العمرة على الحج.
وعن الثاني: أن السبب في أن الطلقة الثانية لا تلحقها: أن الطلاق الثاني -ليس تفسيرا للكلام الأول، والكلام الأول تام؛ فبانت به، وأما إذا قال:(أنت طالق طلقتين) فالقول الأخير في حكم البيان للأول؛ فكان تمام الكلام بآخره.
وعن الثالث: أن الابتداء بالذكر، لما كان دليلا على الترتيب، لم تكن بنا حاجة إلى جعل الواو للترتيب.