الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدها: الاستثناء فيما يجوز دخوله من غير ظن ولا علم، وهو من الأزمنة، والبقاع، والمحال، والأحوال، وهذا من الأزمنة التي كانت تقبله الصيغة لا أنها تتناوله، فلا تناقض بين كون الأمر للمرة الواحدة، وبين استثناء بعض الأزمنة التي تقبلها تلك المرة.
قوله: (التكرار يكون في السنة، والشهر إلى اخره).
مثله باليوم كالصلوات الخمس، والأسبوع لصلاة الجمعة، والشهركصوم الأيام البيض، والسنة كرمضان.
(تنبيه)
قال التبريزي: ويدل أيضا على أن الأمر لمطلق الفعل صحة سقوط العتب، واستقامة العذر من؟ الممتثل مرة؟ حيث لا قرينة كقولنا:(قل)، ويشهد له حصول صدق الوعد، والإخبار بالمرة الواحدة، كقولك (فعلت)، (وافعل) وتققه أن مسمى المصدر يتضمنه جميع أمثلة الأفعال، لأنه مورد التصرف، ومعقود وجوه اختلاف الأوزان، فلا يتميز بعضها عن إلا بخصوصياتها من غير تعيين زمان الوقوع بالوعد والإخبار ماضيا ومنتظراو أو تعلق الطلب والكراهية بالمترتب منه أمرا، ونهيا، وذلك يوجب الاشتراك فيما وراء الخصوصيات.
قال: وهذا دليل واضح في نظر المصنف، وهو تصفح، وليس بقياس.
قال: ووجه آخر غريب، وهو أن الحكمة تقتضي تقدم وضع اسم أصل المعنى على وضع اسمه يوصف، فإن نفس المعنى أصل بالإضافة إلى الموصوف، فإنه جنس للخاص المفضول، فيتقدم عليه بالطبع، والذهن.
والقصد، فيجب أن يكون الوضع له متقدما على الوضع للموصوف أيضا، هذا بالنظر إلى المعنى، وبالنظر إلى الموضوع أيضا، وهذا اللفظ يعلم أن وضع المفرد يتقدم على وضع المركب، وقد دل الاستقراء على اعتبار هذين المعنيين، فإن موضوع المفردات كلها أصل بالإضافة إلي موضوع المركبات منها، كمسمى الرجل بالإضافة إلى الرجل الطويل، والأسود بالإضافة إلى الأسود المشرقي، وهلّم جرا، وإذا فهم هذا فنقول: طلب الماهية أصل بالإضافة إلى طلبها أبدا أو مرة، والنظر في لفظ مفرد، فتعين الوضع له واجب بالطبع، وموجب الحكمة، وحكم للاستقراء.
قال: ووجه آخر لا بأس به: لو كان الأمر موضوعا لأحدهما لكان التصريح بالمعنى الآخر مناقضة للوضع، ولو كان للقدر المشترك لكان التصريح إتماما وبيانا والثاني أظهر.
وتطرد هذه الأدلة كلها في مسألة الفور والتراخي.
قلت: ويرد عليه في الوجه الأول أنه قد صار حيث قال: سقط العتب، وحصل العذر بالمرة الواحدة، والخصم لا يسلم شيئا من ذلك، وكذلك عند الخصم لا يصدق الإخبار بقوله:(فعلت) مقتضى الأمر، إلا أن يصرح بالدوام، فهذه مصادرة من غير حجة.
وقوله: إن مسمى المصدر قدر مشترك بين جميع الأفعال مسلم، ولكن العرب وضعت المصدر المنكر لمطلق الفعل اتفاقا، واختلفت أوضاع الأفعال، فالنهي للتكرار على الصحيح، والأمر عند الخصم كذلك، والاعتماد على الممصدر لا يتجه ألبتة.
ومن العجب قوله: هذا دليل واضح، وهي في غاية البعد.
وكذلك قوله في الثاني: (إن طلب الماهية لأصل الوضع لها، لأنها سابقة) مسلم، ولكن الكلام في لفظ (الفعل) الذي هو صيغة الأمر.
فإن قلت: إنها وضعت للناهية فقط فأين الحجة؟ فهذا أول المسألة، وكذلك قوله في الثالث: إن التصريح بخلاف التكرار غير مناقض كله مصادرة.
المسألة الخامسة
قال الرازي: اختلفوا في أن الأمر المعلق بشرط أو صفة، هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارهما، أم لا؟
مثال الصفة: قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)[المائدة:38].
ومثال الشرط: (إن كان) أو (إذا كان) زانيا، فارجمه.
فنقول: كل من جعل الأمر المطلق مفيدا للتكرار، قال به هاهنا أيضا.
وأما القائلون بأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، من جهة ورود الأمر بالقياس، فها هنا مقامان:
المقام الأول: في أنه لا يفيده من جهة اللفظ، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن السيد إذا قال لعبده: (اشتر اللحم، إن دخلت السوق) لا يعقل منه التكرار، حتى لو اشتراه دفعة واحدة، لا يلزمه الشراء ثانيا.
وثانيها: لو قال لامرأته: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) لا يتكرر الطلاق بتكرر دخولهما في الدار.
وكذلك، لو قال:(إن رد الله علي مالي أو دابتي أو صحتي، فله علي كذا)
لم يتكرر الجزاء بتكرر الشرط، وكذا لو قال الرجل لوكيله:(طلق زوجتي، إن دخلت الدار) لم يثبت على التكرار.
وثالثها: أجمعنا على أن الخبر المعلق على الشرط، كقوله:(زيد سيدخل الدار، لو دخلها عمرو) فدخلها عمرو، ودخلها زيد، فإنه يعد صادقا، وإن لم يتكرر دخول زيد عند دخول عمرو، فوجب أن يون في هذه الصورة كذلك، والجامع دفع الضرر الحاصل من التكليف بالتكرار.
ورابعها: أن اللفظ ما دل إلا على تعليق شيء والمفهوم من تعليق شيء أعم من تعليقه عليه في كل الصور، أو في صورة واحدة، لأنه يصح تقسيم ذلك المفهوم إلى هذين القسمين، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فإذن تعليق الشيء لا يدل على تكرار ذلك التعليق.
المقام الثاني: في أنه يفيده من جهد ورود الأمر بالقياس، والدليل عليه: أن الله تعالى لو قال: (إن كان زانيا، فارجمه) فهذا يدل على أنه تعالى جعل الزنا علة لوجوب الرجم، ومتى كان كذلك، لزم تكرر الحكم عند تكرر الصفة.
بيان الأول: أن القائل إذا قال: (إن كان الرجل عالما زاهدا، فاقتله، وإن كان جاهلا فاسقا، فأكرمه) فهذا الكلام مستقبح في العرف، والعلم بذلك ضروري.
فالاستقباح: إما أن يكون، لأنه يفيد أن هذا القائل جعل الجهل والفسق موجبين للتعظيم، أو لأنه لا يفيد ذلك، والثاني باطل، لأنه لو لم يفد العلية، ولا منافاة أيضا بين الجهل، وبيم استحقاق التعظيم بسبب آخر من كونه نسبيا، شجاعا، جوادا، فصيحا، فحينئذ لم يكن إثبات استحقاق التعظيم، مع كونه جاهلا، فاسقا) على خلاف الحكمة، فكان يجب ألا يثبت، وحيث ثبت،
علمنا فساد هذا القسم، وأن ذلك الاستقباح إنما حصل، لأنه يفيد أن ذلك القائل جعل جهله وفسقه علة لاستحقاق الإكرام، فثبت أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة.
فإذا صدر ذلك من الله تعالى: أفاد ظن أن الله تعالى جعل ذلك الوصف علة، وذلك يوجب تكرر الحكم عند تكرر الوصف، باتفاق القائسين، فثبت أن قول الله تعالى:(إن كان زانيا، فارجمه) يفيد تكرار الرجم عند تكرار الزنا.
فإن قيل أولا: هذا يشكل بقوله: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، (إن دخلت السوق، فاشتر اللحم) فإنه لا يتكرر الأمر بشراء اللحم عند تكرر دخول السوق.
ثم نقول: لا نسلم أنه يفيد ظن العلية.
أما قوله: (إن كان الرجل عالما، فاقتله) فهذا الاستقباح إنما جاز، لأن كونه عالما ينافي جواز القتل، فإثبات هذا الحكم مع قيام المنافي يوجب الاستقباح.
سلمنا أنه يفيد العلية في هذه الصورة، فلم قلت: إن في ساذر الصور يجب أن يكون كذلك؟
سلمنا أنه في جميع الصور يفيد العلية، فلم قلت: إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم؟ فإن السرقة، وإن كانت موجبة للقطع، لكن يتوقف إيجابها لهذا الحكم على شرائط كثيرة.
والجواب: أنه قوله: (إن دخلت الدار، فأنت طالق) فهذا يفيد ظن أن هذا الإنسان جعل دخول الدار علة لوقوع الطلاق، وإذا جعل الإنسان شيئا علة لحكم، لم يلزم من تكرر ماجعله تكرر ذلك الحكم.
ألا ترى أنه لو قال: (أعتقت عبدي غانما لسواده، وبعله كونه أسود) وكان له عبد آخر أسود، فإنه لا يعتق عليه ذلك العبد.
ومعلوم أن التنبيه على العلية لا يزيد على التصريح بها.
أما إذا علمنا أو ظننا أن الشارع جعل سيئا علة لحكم، فإنه يلزم من تكرر ذلك الشيء تكرر ذلك الحكم بإجماع القائسين، فثبت أنه لا يلزم من عدم تكرر الحكم عند تكرر المعلق عليه، عندما يكون التعليق صادرا عن العبد، ألا يتكرر عند ما يكون التعليق صادرا من الله تعالى.
فإن قلت: هذا التكرار لا يكون مستفادا من اللفظ، بل يكون مستفادا من الأمر بالقياس.
قلت: هذا هو الحق، وعند هذا يظهر أنه لا مخالفة بين هذا المذهب، وبين ظاهر المذهب المنقول عند الأصوليين، من أنه لا يفيد التكرار وهو حق.
ونحن نعنى به: أنه يفيد ظن العلية، فإذا انضم الأمر بالقياس، حصل من مجم، عهما إفادة التكرار، ولا منافاة بين هذا المذهب، وبين ماقالوه.
قوله: (الاستقباح إنما جاز، لأن كونه فاسقا بنافي جواز التعظيم):
قلنا: لا نسلم حصول المنافاة؛ لأن الفاسق قد يستحق الإكرام بجهات أخر، والأصل تخريج الحكم علي وفق الأصل.
قوله: (لم قلت: إنه لما حصل ظن العلية في الصورة التي ذكرتموها، حصل ظن العلية في سائر الصور؟):
قلنا: لوجهين:
أحدهما: أنا نقيس عليه سائر الصور، والجامع هو: أن الحكم إذا كان مذكورا مع علته، كان أقرب إلي القبول، وذلك مصلحة الملكف، فيناسب الشرعية.
الثاني: أنا نعد صورا كثيرة، ونبين حصول ذلك الظن فيها، ثم نقول: لا بد بينها من قدر مشترك، وذلك المشترك: إما ما ذكرناه من ترتيب الحكم على الوصف، أو غيره:
والثاني مرجوح؛ لأن الأصل عدد سائر الصفات، فتعين الأول، فعلمنا أن ترتيب الحكم على الوصف، أينما كان، فإنه يفيد ظن العملية.
قوله: (لم قلت: إنه يلزم من تكرر العلة تكرر الحكم؟):
قلنا: هذا متفق عليه بين القائسين، فلا يكون المنع فيه مقبولا، والله أعلم.
المسألة الخامسة
الأمرالمعلق بشرط أو صفة هل يقتضي التكرار بتكررها أم لا؟
(تنبيه)
قال القرافي: القائلون بالتكرار حالة عدم التعليق قالوا هاهنا به
بطريق الأولى لأن ترتيب الحكم على الوصف يدل على عليّة الوصف لذلك الحكم.
........................................
والقاعدة أيضا: أن التعاليق اللغوية أسباب، فرن جعل الشرط صفة مشتقة الأمران اللذان يدلان على العلية.
والقاعدة أيضا الثالثة: أن الحكم يتكرر بتكرر علّيته، فيكون الأمر، هاهنا متكررًا، لأن الأمر يقتضي ذلك، ولأن العلة تقتضيه، فكان التكرار أوكد من المسألة السابقة.
قوله: (الخبر المعلق على الشرط نحو قولنا: زيد يدخل الدار لو يدخلها عمر).
وجعل (لو) حرف شرط، وكذلك جعل صاحب (المفصّل).
وفي التحقيق هو ليس بشرط، لأن من شرط الشرط أن تختص بالمستقبل، (ولو) تدخل على الماضي، فنقول: لو جئتني أمس أكرمتك اليوم، وإنما شابهت الشرط من جهة أن فيها ارتباطا كما في الشرط.
قوله: (يصح تقسيم التعليق إلى المرة الواحدة، والتكرار، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد منهما).
قلنا: القائل بالتكرار لا يصح عنده التقسيم، كما لا يصح تقسيم صيغة العموم إلى العموم والخصوص.
ففي هذه مصادرة على مذهب الخصم بغير دليل.
فإن قال: الفرق يقتضي ذلك، والأصل عدم النقل والتغيير.
قلنا: هذه المقدمة التي ادّعوها إن صدقت فلا حاجة إلى الزيادة عليها مع أن الحصم يمنع صحة ذلك عرفا ولغة.
قوله: (إن قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرر الدخول).
قلنا: القاعدة: (أن من جعل علة معينة يحكم بتعينه تكرر حكمه الخاص به، الذي جعله هو معللا من قبله، أما حكم غيره فلا يترتب عليه علّيته هو. فإذا كان السبب في إكرام غيرك فلا، وهاهنا جعل المعلق دخول الدار سببا وعلّة لطلا امرأته، والطلاق حكم للشارع، لأنه ليس حكما لاله، فإذا تكررت عليته، فلا يلزم أن يتكرر معها حكم الشارع، لأنه ليس حكما للمعلق كما أن الشارع إذا نصب علته للحكم لا يلزم أن يترتب عليها حكم أحد من المكلفين، بل حكم الله تعالى فقط، فالحاصل أبدا أن العلة للمعلل حيث علل، إنما يتكرر معها حكم المعلل لا حكم غيره، والطلاق، والعتاق، وجميع ذلك أحكام شرعية، ليست أحكاما للمعلق فلا يتكرر، ولو قال أحد، إني قد جعلت دخول الدار علّة لطلاق امرأتي، لا يلزمه بذلك طلاق، لأنه ليس له أن ينصب عللا شرعية، إنما نصب العلل الشرعية للشارع، وإنما لزم الطلاق بالتعليق، لأن الشارع أذن له أن يجعل أي شيء شاء علة لطلاق امرأته بطريق خاص، وهو التعليق فقط على حسب ما يقتضيه لفظ التعليق.
فإذا قال: (إن دخلت) لم يجعله الشارع يتكرر، وإن قال:(كلما دخلت) جعله يتكرر، لأن الضيغة تقتضي التكرار لغة، فإن نصب علة من غير تعليق جعله يتكرر، لأن الصيغة تقتضي التكرار لغة، فإن نصب علة من غير تعليق لم تصر علة، وإن جعل ما ليس للتكرار لم يصر للتكرار، لأنه لم يؤذن له في ذلك، والأصل في الأحكام الشرعية أن تكون للشارع، وأما قوله (إن دخلت السوق فاشتر اللحم) لم يتكرر للقرينة العرفية، لئلا تفنى دراهمه فيما لا ينتفع به، وكذلك (إن دخلت الدار فطلق امرأتي) إنما يفهم منه التطليق مرة واحدة، وأنه جعل الدخول سببا لولاية الوكيل على الطلاق لا الطلاق نفسه، ولا تتكرر ولايته بالدخول، لأن العادة اقتضت أن.
ذلك مرة واحدة، ثم قوله:(أنت طالق) تعليق إنشاء لا أمر، وكذلك (فأنت حر).
وأصل المسألة: إنما هو في الأمر، غير أن المحسن لهذا يحمل التسوية من جهة أن المعلق عليه علة لما علق عليه كيف كان.
قوله: (لا منافاة بين الفسق والإكرام، فإن الفاسق قد يستحق الإكرام بسبب آخر)
قلنا: أما المنافاة فحاصلة جزما بالنظر إلى الفسق، وهو المنطوق به في اللفظ، وأما سبب آخر يذكره القائل، بل صرح بالمنافي فقط، فصح كلام الخصم، وإنما يحسن ما ذكرتموه من الجواب أن لو قال: أكرم زيدا وهو في نفسه يعلم السامع من أنه فاسق، ولم يصرح الآمر بالفسق، فهاهنا نقول: السامع يحتمل أن يكون أمر بإكرامه لشجاعته، أو لغير ذلك، أما مع التصريح فالمنافاة أو التعليق أن التعليل حاصل جزما، بمعنى أن الظن فيه حاصل جزما، والتعليل أولى، لأنه ليس فيه تعارض، والمانع فيه تعارض بين المقتضي والمانع، فإنه لا تصح الإشارة للمانع إلا عند قيام المقتضي على ما سيأتي في القياس إن شاد الله تعالى فالاستقباح مشترك، وعدم التعارض مرجح
المسألة السادسة
قال الرازي: في أن مطلق الأمر لا يفيد الفور، فالت الحنفية: إنه يفيد الفور، وقال قائلون: إنه يفيد التراخي، وقالت الواقفية: إنه مشترك بين الفور والتراخي.
والحق أنه موضوع لطلب الفعل، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور، وبين طلبه على التراخي، ومن غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فورا أو تراخيا.
لنا وجوه:
أحدها: أن الأمر قد يرد عندما يكون المراد منه الفور تارة، والتراخي أخرى، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، دفعا للاشتراك والمجاز، والموضوع لإفادة القدر بين القسمين لا يكون له إشعار بخصوصية كل واحد من القسمين، لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ، وغير لازمة له، فثبت أن اللفظ لا إشعار له لا بخصوص كونه فورا ولا بخصوص كونه تراخيا وثانيها: أنه يحسن من السيد أن يقول: (افعل الفعل الفلاني في الحال أو غدا) ولو كان فورا داخل لفظ (افعل) لكان الأول تكرارا، والثاني نقضا، وأنه غير جائز.
وثالثها: أن أهل اللغة قالوا: لا فرق بين قولنا: (يفعل) وبين قولنا: (افعل) إلا أن الأول خبر، والثاني أمر، لكن قولنا:(يفعل) لا إشعار له بشيء من الأوقات، فإنه يكفي في صدق قولنا:(يفعل) إتيانه به في أي وقت كان من
أوقات المستقبل، فكذا قوله:(افعل) وجب أن يكفي في الرتيان بمقتضاه الإتيان به في أي وقت كان من أوقات المستقبل، وإلا فحينئذ يحصل بينهما فوق في أمر آخر سوى كونه خبرا أو أمرًا
ورابعها: أن أهل اللغة قالوا في لفظ (افعل): إنه أمر، والأمر قدر مشترك بين الأمر بالشيء على الفور، وبين الأمر به على التراخي، لأن الأمر به على الفور أمر مع قيد كونه على الفور.
وكذلك الأمر به على التراخي: أمر مع قيد كونه على التراخي، ومتى حصل المركب، فقد حصل المفرد، فعلمنا أن مسمى الأمر قدر مشترك بين الأمر مع كونه فورا، وبين الأمر مع كونه متراخيا.
وإذا ثبت أن لفظ (افعل) للأمر، وثبت أن الأمر قدر مشترك بين هذين القسمين، ثبت أن لفظ (افعل) لا يدل إلا على قدر مشترك بين هذين القسمين.
واحتج المخالف بأمور:
أحدها: قوله تعالى لإبليس: (مامنعك ألا تسجد إذ أمرتك)[الأعراف:12] عابه على أنه لم يأت في الحال بالمأمور به، وهذا يدل على أنه أوجب عليه الإتيان بالفعل، حين أمره به إذ لو لم يجب ذلك، لكان لإبليس أن يقول:(إنك أمرتني، وما أوجبت عليّ في الحال، فكيف أستحق الذم بتركه في الحال؟!).
وثانيها: قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)[آل عمران:133] وقوله: (فاستبقوا الخيرات)[آلمائدة:48]
وثالثها: لو جاز التأخير، لجاز: إما إلي بدل، أو إلى بدل: والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل.
أما فساد القسم الأول: فهو أن البدل هو: الذي يقوم مقام المبدل منه من كل الوجوه، فإذا أتى بهذا البدل، وجب أن يسقط عنه التكليف، وبالاتفاق ليس كذلك.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: البدل قائم مقام المبدل منه، في ذلك الوقت، لا في كل الأوقات؟: فلا جرم لم يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل!!
قلت: إذا كان مقتضى الأمر بالإتيان بتلك الماهية مرة واحدة، في أي وقت كان، وهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى، فقد تأدى ما هو المقصود من الأمر بتمامه، فوجب سقوط الأمر بالكلية، بل ذلك العذر يتمشى بتقدير أن يقتضي الأمر التكرار ولكنه باطل.
وأما فساد القسم الثاني، وهو القول بجواز التأخير لا إلى بدل فذلك يمنع من كونه واجبا لأنه لا يفهم من قولنا: إنه ليس بواجب، إلا أنه يجوز تركه من غير بدل
ورابعها: لو جاز التأخير، لجاز إما إلى غاية معينة، بحيث إذا وصل المكلف إليها لا يجوز له أن يؤخر الفعل عنها، أو يجوز له التأخير أيدًا، والقسمان باطلان، فالقول بجواز التأخير باطل، إنما قلنا:(إنه لا يجوز له التأخير إلى غاية) لأن تلك الغاية: إما أن تكون معلومة للمكلف، أو لا تكون:
فإن كانت معلومة له، فتلك الغاية ليست إلا أن تصير بحيث يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل بأدائه، فاته ذلك الفعل، بدليل أن كل من قال بجواز التأخير
إلى غاية معلومة قال: إن تلك الغاية هي هذا الوقت، فالقول بإثبات أخرى خرق للإجماع، وإنه غير جائز.
لكن القول بجواز التأخير إلي هذه الغاية باطل، لأن الظن، إن لم يكن لأمارة، جرى مجرى ظن السوداوي، فلا عبرة به.
وإن كان لأمارة، فكل من قال بهذا القسم قال: إن تلك الأمارة: إما المرض الشديد أو علو السن، وهذا أيضا باطل لأن كثيرا من الناس يموت فجأة وذلك يقضي أنه ماكان يجب عليهم ذلك الفعل في علم الله تعالى مع أن ظاهر ذلك الأمر للوجوب.
وإنما قلنا: إن تلك الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة، لأنه على غير هذا التقدير يصير مكلفا بألا يؤخر الفعل عن وقت معين، مع أنه لا يعرف ذلك الوقت، وهو تكليف ما لا يطاق.
وإنما قلنا إنه لا يجوز أبدا، لأن التأخير أبدا تجويز أبدا، وإنه ينافي القول بوجوبه.
وخامسها: أن السيد، إذا أمر عبده بأن يسقيه الماء، فهم منه التعجيل، واستحسن العقلاء ذم العبد على التأخير، والإسناد إلى القرينة خلاف الأصل، فالأمر يفيد الفور.
وسادسها: أجمعنا على أنه يجب اعتقاد وجوب الفعل على الفور، فنقول: الفعل أحد موجبي الأمر، فيجب على الفور، قياسا على الإعتقاد، والجامع تحصيل المصلحة الحاصلة، بسبب المسارعة إلي الامتثال.
وسابعها: أن الزمر يقتضي إيقاع الفعل، فأشبه العقود في البياعات، فلما وقع العقد عقيب الإيجاب والقبول، فالأمر وجب أن يكون مثله، وتحريره: أنه استدعاء فعل بقول مطلق، فيقتضي التعجيل، كالإيجاب في البيع.
وثامنها: أن الأمر ضد النهي، فلما أفاد النهي وجوب الانتهاء على الفور، وجب في الزمر أن يفيد الوجوب على الفور
وربما أوردوا هذا على طريق آخر، فقالوا: ثبت أن الأمر بالشيء نهي عن تركه، لكن النهي عن تركه يوجب الانتهاء عن تركه في الحال، والانتهاء عن تركه في احلال لا يمكن إلا بالإقدام على الفعل في الحال، فثبت أن الأمر يوجب الفعل في الحال.
وتاسعها: أجمعنا على أنه لو فعل عقيبه، يقع الموقع، ويخرج عن العهدة، وطريقة الاحتياط تقتضي وجوب الإتيان به على الفور، لتحصيل الخروج عن العهدة بيقين.
والجواب عن الأول: أنه حكاية حال، فلعل ذلك الأمر كان مقرونا بما يدل على الفور، وعن الثاني أن قوله:(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)[آل عمران:133] مجاز من حيث ذكر المغفرة، وأراد ما يقتضيها، وليس في الاية أن المقتضي لطلب المغفرة هو الإتيان بالفعل، على سبيل الفور، على أن هذه الآية لو دلت على وجوب الفور، لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور.
وعن الثالث والرابع: أنه يشكل بما إذا صرح وقال: أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أي وقت شئت، فكل ما جعلوه عذرا في هذه الصورة فهو
عذرنا عما ذكروه، وكذلك يشكل بالكفارات والنذور وكل الواجبات الموسعة
وعن الخامس أنه معارض بما إذا أمر السيد غلامه بشيء، ولم يعلم الغلام حاجة السيد إليه في الحال، فإنه لا يفهم التعجيل، فإن حملتم ذلك على القرينة، ألزمناكم مثله.
فإن قلت: إن السيد يعلل ذمه لعبده، بأنني أمرته بشيء، فأخره، ولولا أن الأمر للفور، وإلا لما صح هذا التعليل
قلت: وقد يعتذر العبد فيقول أمرتني بأن أفعل وما أمرتني بالتعجيل، وما علمت بأن في التأخير مضرة.
وعن السادس: أنه يبطل بما لو قال: (افعل في أي وقت شئت) وبالنذور والكفارات، ويبطل أيضا بالخبر، فإنه لو قال الشارع، (يقتل زيد عمرا) فهاهنا يجب الاعتقاد في الفور ولا يجب حصول الفعل في الفور.
ولأن الاعتقاد غير مستفاد من الأمر فلا يجب حصول الفعل في الفور، لأن من ركب الله العقل فيه فإذا نظر علم أن امتثال أمر الله تعالى واجب.
وعن السابع: أنه يبطل بقوله: (افعل في أي وقت شئت) ولأن الجامع الذي ذكروه وصف طردي وهو غير معتبر.
وعن الثامن: أن النهي يفيد التكرار، فلا جرم يوجب الفور والأمر لا يفيد التكرار فلا يلزم أن يفيد الفور.
وعن التاسع، وهو طريقة الاحتياط: أنه ينتقض بقوله: افعل في أي وقت شئت
واعلم: أن هذا النقض يرد على أكثر أدلتهم وهو لازم لا محيص عنه
المسألة السادسة
الأمر لا يفيد الفور
قال القرافي: فيها خمسة مذاهب:
1 -
الفور
2 -
التراخي
3 -
الاشتراك بينهما
4 -
القدر المشترك
5 -
الوقف
قال سيف الدين: من الواقفية من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أم لا؟
.....................................
.........................................
وأما المبادر فإنه ممتثل قطعا، لكن هل يأثم بالتأخير؟
مختلف فيه:
فمنهم من قال بالتأثيم
ومنهم من نفاه
ومنهم من توقف في المبادرة أيضا، وخالف في ذلك إجماع السلف.