الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تنبيه)
قال التبريزي: من لا يقول بكلام النفس يتعين عنده جمل الأمر على العبارات
والقائلون بكلام النفس منهم من جعله حقيقة في العبارة مجازا في المعنى، [ومنهم من عكس، مجاز في العبارة] لأنه حيث فهم المعنى صح الإطلاق، وإن كان التعبير عنه قد يكون بتحريك الرأس، ولمح الطرف، ولو قال لعبده: مهما نظرت إلى السماء فقد أمرتك بالكلام، فنظر، ولم يقم استحق العتب، ولو كان الأمر العبارة لكان خلفا ومحالا، ولا يمكن أن يقال: إن قوله في التعليق: (فقد أمرتك)، أمر عام بالقيام في كل حال ينظر فيها إلى السماء وقد خالفه، لأنا نقول: ذلك مفهوم من قوله: أمرتك بالقيام عند نظري إلى السماء، وبينهما فرق؛ لأن الأول: تعليق الأمر، والثاني: تقييد المأمور به، والكلام فيما إذا أرد المعنى الأول
ويشهد له: قول بريرة للنبي عليه السلام: (أتأمررني يا رسول الله)، وإنما صدر عنه عليه السلام:(لو راجعته)، وأين هو من صيغة الأمر ليشتبه.
(سؤال)
قال سراج الدين: (في النائم، والساهي، ونحوهما: لا نسلم أنه صدق أنه قال لغيره حتى يوجد الحد، فلا يرد النقض)
يريد: أنه إنما يصدق
أنه قال لغيره إذا قصد ذلك الغير بالقول، وهو لم يقصده، فلا يصدق الحد فلا نقض.
.....................................
..................................
..................................
.................................
................................
المسألة الثالثة: في ماهية الطلب
قال الرازي: اعلم أن تصور ماهية الطلب حاصل لكل العقلاء على سبيل الاضطرار، فإن لم يمارس شيئا من الصنائع العلمية، ولم يعرف الحدود والرسوم قد يأمر وينهي، ويدرك تفرقة بديهية بين طلب الفعل، وبين طلب الترك، وبينهما وبين المفهوم من الخبر، ويعلم زن ما يصلح جوابا لأحدهما، لا يصلح جوابا للآخر، ولولا أن ماهية الطلب متصورة تصورا بديهيا وإلا لما صح ذلك.
ثم نقول: معنى الطلب ليس نفس الصيغة، لأن ماهية الطلب لا تختلف.
باختلاف النواحي والأمم، وكان يحتمل في الصيغة التي وضعوها للخبر، زن يضعوها للأمر، وبالعكس، فماهية الطلب ليست نفس الصيغة، ولا شيئا من صفاتها، بل هي ماهية قائمة بقلب المتكلم تجري مجرى علمه وقدرته وهذه الصيغ المخصوصة دالة عليها.
ويتفرع على هذه القاعدة مسائل:
المسألة الأولى: أن تلك الماهية عندنا شيء غير الإرادة، وقالت المعتزلة: هي إدارة المأمور به.
لنا وجوه:
أولها: زن الله تعالى ما أراد من الكافر الإيمان، وقد أمره به، فدل على أن حقيقة الأمر غير حقيقة الإدارة، وغير مشروطة بها، وإنما قلنا: إنه تعالى ما أراد منه الإيمان، لوجهين:
أحدهما: أنه تعالى لما علم منه أنه لا يؤمن، فلو آمن، لزم انقلاب علمه جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فصدور الإيمان منه محال، والله تعالى عالم بكونه محالا، والعالم بكون الشيء محال الوجود، لا يكون مريدا له بالإتفاق، فثبت أن الله تعالى لا يريد الإيمانمن الكافر.
وتمام الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه سيأتي في مسألة (تكليف ما لا يطاق) إن شاء الله تعالى.
الثاني: هو أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على وجود الداعي، والداعي مخلوق لله تعالى، دفعا للتسلسل، وعند حصول الداعي، يجب وقوع الفعل،
وإلا لزم وقوع الممكن لا عن مرجح، أو افتقاره إلى داعية أخرى، وإلا لزم التسلسل، إذا كانت الداعية مخلوقة لله تعالى، وعند وجود الداعي يجب حصول الفعل، فالله تعالى خلق في الكافر ما يوجب الكفر، فلو أراد في هذه الحالة وجود الإيمان، لزم كونه مريدا للضدين، وذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا.
فثبت بهذين الوجهين أن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر، وأما أنه تعالى أمر الكافر بالإيمان فذلك مجمع عليه بين المسلمين.
وإذا ظهرت المقدمتان، ثبت أنه وجد الأمر بدون الإرادة، وإذا ثبت ذلك، ثبت أن حقيقة الأمر مغايرة لحقيقة الإرادة وغير مشروطة بها.
فإن قيل: مالمراد من قولك: أمر الكافر بالإيمان؟
إن أردت به: أنه أنزل لفظا يدل على كونه مريدا لعقابه في الاخرة، إذا لم يصدر منه الإيمان، فهذا مسلم لكن معناه: نفس إدارة العقاب لا غير، فلا يحصل مطلوبكم من أنه أمر بما لم يرد.
وإن عنيت شيئا آخر، فاذكره، سلمنا ذلك، لكن لا نسلم أنه ما أراد الإيمان، ولا نسلم أن إيمانه محال، وسيأتي تقرير هذا المقام في مسألة (تكليف ما لا يطاق).
سلمناه؛ لكن لا نسلم أن المحال غير مراد.
بيانه هو: أن الإرادة من جنس الطلب وإذا جوزت طلبت المحال مع العلم بكونه محالا، فلم لا تجوز إرادته مع العلم بكونه محالا؟
والجواب: قوله: (الأمر بالشيء عبارة عن الإخبار عن إرادته عقاب تاركه).
قلت: لو كان كذلك، لتطرق التصديق والتكذيب إلى قولهك آمنوا، لأن الخبر من شأنه قبول ذلك، ولأن سقوط العقاب جائز، أما عندنا: فبالعفو، وأما عندهم: ففي الصغائر قبل التوبة، وفي الكبائر بعدها، ولو تحقق الخبر عن وقوع العقاب، لما جاز ذلك.
قوله: لم قلت: إن إرادة المحال ممتنعة!؟
قلنا: هذا متفق عليه بيننا وبينكم.
وأيضا: لأن الإرادة صفة من شأنها ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر، وذلك في المحال محال، والعلم به ضروري.
وثانيها: أن الرجل قد يقول لغيره: (إني أريد منك هذا الفعل، لكنني لا آمرك به) ولو كان الأمر هو الإرادة، لكان قوله:(أريد منك الفعل، ولا آمرك به) جاريا مجرى أن يقال: (أريد منك الفعل، ولا أريده منك) وقوله: (آمرك بهذا الفعل، ولا آمرك به) ومعلوم أن ذلك صريح التناقض، دون الأول.
وثالثها: أن الحكيم قد يأمر عبده بشيء في الشاهد، ولا يريد منه أن يأتي بالمأمور به، لإظهار تمرده وسوء أدبه.
فإن قلت: ذلك ليس بأمر، وإنما تصور بصورته!!
قلت: التجربة إنما تحصل بالأمر، فدل على أنه أمر.
ورابعها: أنه سيظهر إن شاء الله تعالى في (باب النسخ) أنه يجوز نسخ ماوجب من الفعل قبل مضى مدة الامتثال، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة والكراهة، لزم أن يكون الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد، في الوقت الواحد من الوجه الواحد، وذلك باطل بالاتفاق
واحتج الخصم بوجهين:
الأول: أن صيغة (أفعل) موضوعة لطلب الفعل، وهذا الطلب:
إما الإرادة، أو غيرها، والثاني باطل، لأن الطلب الذي يغاير الإرادة: لو صح القول به، لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الأذكياء، لكن العقلاء من أهل اللفة وضعوا هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد، وما ذاك إلا الإرادة، فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة.
الثاني: أن إرادة المأمور به، لو لم تكن معتبرة في الأمر، لصح الزمر بالماضي، والواجب، والممتنع، قياسا على الخبر، فإن إرادة المخبر عنه، لما لم تكن معتبرة في الخبر، صح تعلق الخبر بكل هذه الأشياء
والجواب عن الأول: لا نسلم أن الطلب النفساني الذي يغاير الإرادة غير معلوم للعقلاء، فإنهم قد يأمرون بالشيء، ولا يريدونه، كالسيد الذي يأمر عبده بشيء ولا يريده، ليمهد عذره عند السلطان.
وعن الثاني: أنه لا بد من الجامع، وعلى أن القائل بتكليف ما لا يطاق يجوزه، والله أعلم.
المسألة الثانية: أن هذا الطلب معنى يقتضي ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو جانب الترك على جانب الفعل.
وعلى التقديرين؛ فالترجيح قد يكون مانعا من الطرف الآخر، كما في الوجوب والحظر، وقد لا يكون؛ كما في الندب والكراهة.
والتفاوت بين أصل الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض تفاوت بالعموم والخصوص.
وأيضا: فهنا لفظ دال على أصل الترجيح، ولفظ دال على الترجيح المانع من النقيض، وعلى التقديرين: فالمعتبر: إما اللفظ الدال عليه، كيف كان اللفظ، وإما اللفظة العربية، فها هنا أقسام ستة:
أحدها: أصل الترجيح، وثانيها: الترجيح المانع من النقيض.
وثالثها ورابعها: مطلق اللفظ الدال على الأول أو الثاني.
وخامسها وسادسها: اللفظة العربية الدالة على الأول أو الثاني.
ثم أن بالخيار في إطلاق لفظ الأمر على أيها شئت، أو عليها بأسرها، أو علي طائفة منها، بحسب الاشتراك، فهذا حظ البحث العقلي.
وأما البحث اللغوي، فهو أن نقول:
جعل الأمر اسما للصيغة الدالة على الترجيح أولى من جعله اسما لنفس الترجيح، ويدل عليه وجوه:
أحدها أن أهل اللغة قالوا: الزمر من الضرب: اضرب، ومن النصر: انصر، جعلوا نفس الصيغة أمرا،
وثانيها: لو قال: (إن أمرت فلانا، فعبدي حر) ثم أشار بما يفهم منه مدلول هذه الصيغة، فإنه لا يعتق، ولو كان حقيقة الزمر ما ذكرتم، لزم العتق، ولا يعارض هذا الحكم بما إذا خرس وأشار، فإنه لا يعتق، لأنا نمنع هذه المسألة.
وثالثها: أنا لو جعلناه حقيقة في الصيغة، كان مجازا في المدلول، تسمية للمدلول باسم الدليل، ولو جعلناه حقيقة في المدلول، كان مجازا في الدليل؛
تسمية للدليل باسم المدلول، والأول أولى، لأنه يلزم من فهم الدليل فهم المدلول، ولا يلزم من فهم المدلول فهم الدليل، بل فهم دليل معين.
ورابعها: أن الإنسان الذي قام بقلبه ذلك المعنى ولم ينطق بشيء لا يقال: إنه أمر ألبتة بشيء.
وإذا قيل: (أمر فلان بكذا) تبادر الذهن إلى اللفظ دون ما في القلب، وذلك يدل على أن لفظ الأمر اسم للصيغة، لا للمدلول.
احتج المخالف بالآية، والأثر والشعر، والمعقول:
أما الآية: فقوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)[المافقون:1] الله تعالى كذبهم في شهادتهم، ومعلوم أنهم كانوا صادقين في النطق اللساني، فلا بد من إثبات كلام في النفس، ليكون الكذب عائدا إليه.
وأما الأثر، فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(زورت في نفسي كلاما، فسبقني إليه أبو بكر)
وأما الشعر: فقول الأخطل [الكامل]:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
وأما المعقول: فهو: أن هذه الألفاظ مفردات، فلو سميت كلاما، لكانت: إنما سميت بذلك، لكونها معرفات للمعنى النفساني، فكان يجب تسمية الكتابة والإشارة كلاما، وإنه باطل.
والجواب عن الأول: أن الشهادة هي الإخبار عن الشيء مع العلم به، فلمّا لم يكونوا عالمين به، فلا جرم كذبهم الله تعالى في ادعائهم كونهم شاهدين.