الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني في المسائل المعنوية
والنظر فيها في أمور أربعة
النظر الأول في الوجوب
والبحث: إما عن أقسامه، أو أحكامه:
أما أقسامه: فاعلم: أنه بحسب المأمور به ينقسم إلى معين، وإلى مخير، ويحسب وقت المأموربه: إلى مضيق، وموسع.
وبحسب المأمور: إلى واجب على التعيين، وواجب على الكفاية
المسألة الأولى: قالت المعتزلة: الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي وجوب الكل على التخيير، وقالت الفقهاء: الواجب واحد لا بعينه.
واعلم: أنه لا خلاف في املعنى بين القولين، لأن المعتزلة قالوا: المراد من قولنا: الكل واجب على البدل هو: أنه لا يجوز للمكلف الإخلال بجميعها، ولا يلزمه الجمع بينها، ويكون فعل كل واحد منها موكولا إلي اختياره.
والفقهاء عنوا بقولهم: (الواجب واحد لا بعينه) هذا المعنى بعينه؛ فلا يتحقق الخلاف أصلا.
بل هاهنا مذهب يرويه أصحابنا عن المعتزلة، ويرويه المعتزلة عن أصحابنا، واتفق الفريقان على فساده، وهو: أن الواجب واحد معين عند الله تعالى. غير معين عندنا، إلا أن الله تعالى علم أن الله تعالى علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه.
والدليل على فساد هذا القول: أن التخيير معناه: أن الشرع جوز له ترك كل واحد منها، بشرط الإتيان بالآخر وكونه واجبا على التعيين عند الله تعالى معناه أنه تعالى منعه من تركه على التعيين والجمع بين جواز الترك وعدم جوازه متناقض، فصح ما ادعيناه أنه يمتنع أن يكون كل واحد منها واجبا على التعيين.
فإن قلت: لانسلم أن التخيير ينافي تعيينه عند الله تعالى: بيانه: أن الله تعالى، وإن خير بين الكفارات، لكنه علم أن المكلف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب، فلا يحصل الإخلال بالواجب.
أو نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن لاختيار المكلف تأثيرا في كون ذلك الفعل المختار واجبا؟
أو نقول: لا يمتنع أن يكون ماعدا ذلك الفعل المعين مباحا، ويسقط به الفرض، كما يقولون: إن الإتيان بالفعل المحظور قد يسقط به الفرض كالصلاة في الدار في الدار المغصوبة.
قلت: الجواب عن الأول: أن الله تعالى؛ لما خيرنا بين الأمرين، فقد أباح لنا ترك كل واحد منهما؛ بشرط الإتيان بالثاني، ووجوبه على التعيين: معناه: أنه تعالى لم يجوز لنا تركة ألبتة، فلو خير الله تعالى بينه وبين غيره مع أن جعله واجبا على التعيين لكنا قد جمع بين جواز الترك، وبين المنع منه.
أما قوله: (إن لاختيار المكلف تأثيرا):
قلت: لانزاع في تحقق الوجوب قبل الاهتيا، فمحل الوجوب، إن كان واحدا معينا فهو باطل، لأن التخيير ينافي التعيين.
وإن كان واحدا غير معين فهو محال؛ لأن الواحد الذي يفيد كونه غير معين ممتنع الوجود، وما يكون ممتنع الوجود يمتنع زن يقع التكليف بفعله.
وإن كان الواجب هو الكل بشرط التغيير، فذاك هو المطلوب.
قوله: (لم لا يجوز أن يسقط الواجب بفعل ما ليس بواجب؟)
قلنا: لأن الأمة أجتمعت على أن الآتي بواحدة من الخصال الثلاث المشروعة في الكفارة، لو كفر بغيرها من الثلاث، لأجزأته، ولكن فاعلا لما وقع التكليف به، وذلك يبطل ماذكروه.
واحتج المخالف بأن لفعل الواجب أثرا، ولتركه أثرا، وكلا الأثرين يدلان على أن الواجب واحد.
أما طرف الفعل، فقالوا: هذا الفعل له صفات: كونه بحيث يسقط الفرض به، وكونه واجبا، وكونه بحيث يستحق عليه ثواب الواجب، وكونه الواجب، وكونه بحيث ينوي بفعله أداء الواجب، وكل هذه الصفات تقتضي أن أكون الواجب واحدا معينا.
فأولها: سقوط الفرض، فقالوا: لو لم يكن الواجب واحدا معينا لكنا المكلف، إذا أتى بكلها دفعة واحدة: فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل المكلف، إذا أتى بكلها دفعة واحدة: فإما أن يكون سقوط الفرض معللا بكل واحد منها؛ فيكون قد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال؛ لأن ذلك الأثر مع أحد المؤثرين يصير واجب الوجود بذاته، وواجب الوجود بذاته يستحيل أن يكون واجب الوجود بغيره، فهو مع هذا المؤثر يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر الثاني، ومع المؤثر الثاني يمتنع أن يكون معللا بالمؤثر
الأول، فإذا وجد المؤثران معا، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجا إليهما معا وغنيا عنهما معا، وذلك محال.
وإما أن يكون سقوط الفرض بالمجموع، فذلك محال؛ لأنه يلزم أن يكون المجموع واجبا، وقد فرضنا الإتيان بالكل غير واجب.
،إما أن يكون سقوط الفرض بواحد منها؛ فذلك الواحد إما أن يكون معينا، أو غير معين:
والأول باطل؛ لأن الأثر المعين يستدعي مؤثرا معينا موجودا، وكل موجود، فهو في نفسه معين ولا إبهام ألبتة في وجود الخارجي؛ إنما الإبهام في الذهن فقط.
وإذا امتنع وجود واحد غير معين، امتنع الإتيان به، وإذا امتنع الإتيان به، امتنع أن يكون الإتيان به علة لسقوط الفرض
ولما بطل هذا، ثبت أن علة سقوط الفرض: هو الإتيان بواحد منها معين عند الله تعالى، وهو المطلوب.
وثانيها: كونه واجبا فإذا أتى المكلف بكلها: فإما أن يكون المحكوم عليه بالوجوب مجموعها، أو كل واحد منها، وعلى التقديرين، ويلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين، لا على التخيير وهو باطل.
أو واحدا غير معين، وهو باطل، لأن غير المعين يمتنع وجوده، فيمتنع إيجابه.
أو واحدا معينا في نفسه غير معلوم لنا، وهو المطلوب.
وثالثها: أن يستحق عليه ثواب الواجب، فإذا أتى المكلف بكلها: فإما أن
يستحق ثواب الواجب على كل واحد منها، أو على مجموعها؛ وعلى التقديرين يلزم أن يكون الكل واجبا على التعيين، وإما ألا يستحق ثواب الواجب منها إلا على واحد، فذلك الواحد: إما أن يكون معينا، أو غير معين:
والثاني محال؛ لأن استحقاق ثواب الواجب على فعله حكم ثابت له معين، والحكم الثابت المعين يستدعي محلا معينا، ولأن فعل شيء غير معين محال؛ فعلمنا أن ذلك الواحد معين في نفسه غير معلوم للمكلف.
وربما أوردوا هذا الكلام على وجه آخر: وهو أنه إذا أتى بالكل: فإما أن ينوي الوجوب في فعل كل واحد، أو في فعل واحد دون الباقي، وتمام التقرير كما تقدم.
وأما طرف الترك، فأثره استحقاق العقاب؛ فالمكلف، إذا أخل بها أسرها: فإما أن يستحق العقاب على ترك كل واحد منها، فيكون فعل كل واحد منها واجبا على التعيين، هذا خلف أو علي ترك واحد منها، وهو: إما أن يكون معينا أو غير معين، والثاني محال.
أما أولا فلأنه إذا لم يتميز واحد منها عن الاخر بصفة الوجوب، كان إسناد استحقاق العقاب إلى واحد منها دون الاخر ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الاخر لمرجح وهو محال.
وأما ثانيا: فلأن استحقاق العقاب على الترك حكم معين؛ فيستدعي محلا معينا لاستحالة قيام المعين بغير المعين.
وأما ثالثا: فلأن استحقاق العقاب على الترك يستدعي إمكان الفعل، ولاإمكان لفعل شيء غير معين
ولما بطل هذا القسم: ثبت أنه معلل بترك واحد معين عند الله تعالى وهو المطلوب.
وأما الذين زعموا أن الواجب واحد غير معين، فقد احتجوا عليه، بأن الإنسان إذا عقد على قفيز من صبرة، فالمعقود عليه قفيز واحد لا بعينه، وإنما يتعين باختيار المشتري أخذ قفيز منها، فقد صار الواحد الذي ليس بمتعين في نفسه معينا باختيار المكلف.
وكذا إذا طلق زوجة من زوجاته لا بعينها، أو أعتق عبدا من عبيده لا بعينه، وكذا القول في عقد الإمامة لرجلين دفعة واحدة، والخاطبين لامرأة واحدة، فإن الجمع فيه حرام.
والجواب عن الأول: أنه يسقط الفرض عندنا بكل واحد منها.
قوله: (يلزم أن يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة):
قلنا: هذه الأسباب عندنا معرفات، لا موجبات، ولا يمتنع أن يجتمع على المدلول الواحد معرفات كثيرة.
وعن الثاني: إن أردت بقولك: (هي واجبة كلها) أنه يلزم فعلها بعد أن صارت مفعولة، فذلك محال، وغير لازم.
ولا يبقى بعد هذا إلا أن يقال: إنها قبل دخولها في الوجود، هل كانت بحيث يجب تحصيلها: إما على الجمع، أو على البدل؟
وجوابنا أن نقول: أما الجمع، فلا، وزما البدل، فنعم؛ بمعنى أنها بعد وجودها يصدق عليها، أنها كانت قبل وجودها بحيث يجب تحصيل أي واحد منها اختار المكلف، بدلا عنه صاحبه، وذلك لا يقدح في قولنا.
وأيضا، فهذه الشبهة والتي قبلها لازمة للمخالف، إذا قال:(الواجب هو ما يختاره المكلف) لأنه إذا أتى بالكل، فقد اختار كلها؛ فوجب أن يسقط الفرض بكل واحد منها، وأن يكون كل واحد منها واجبا؛ وحينئذ يلزمه ما أورده علينا.
وعن الثالث: قال بعضهم: إنه يستحق ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا، ويمكن أن يقال: إنه يستحق على فعل كل واحد منها ثواب الواجب المخير، لا ثواب الواجب المعين، ومعناه: أنه يستحق على فعلها ثواب فعل أمور كان له ترك كل واحد منها؛ بشرط الإتيان بالآخر، لا ثواب فعل أمور كان يجب عليه الإتيان بكل واحد منها على التعيين.
وعلى هذا التقدير، يسقط السؤال، وهو الجواب عن قوله: كيف ينوي؟
وعن الرابع: قال بعضهم: يستحق عقاب أدونها عقابا، ويمكن أن يقال: لم لا يجوز أن يستحق العقاب على ترك مجموع أمور كان المكلف مخيرا بين ترك أي واحد منها كان بشرط فعل الآخر؟
وعن الخامس: أنه ليس العقد بأن يتناول قفيزا من الصبرة أولى من أن يتناول القفيز الآخر، لفقدان الاختصاص، فوجب أن يكون كل قفيز منها قد تناوله العقد، لكن على سبيل البدل؛ على معنى أن كل واحد منها لا اختصاص لذلك العقد به على التعيين، وللمشتري أن يختار أي قفيز شاء، وإذا اختاره، تعين ملكه فيه، فتعين الملك في القفيز المعين كسقوط الفرض في الكفارة.
وكذا إذا طلق زوجته من زوجاته، لا بعينها، أو أعتق عبدا من عبيده، لا بعينه: أن كل واحد منهن طالق على البدل، وكل واحد منهم يعتق على البدل؛
على معنى أنه لا اختصاص للطلاق أو العتق بواحد معين، وأن أي امرأة اختار مفارقتها تعينت الفرقة عليها، وحلت له الأخرى وأي عبد اختار عتقه، تعينت فيه الحرية، وكان له استخدام الباقين، والله أعلم.
فرع: الأمر بالأشياء قد يكون على الترتيب، وقد يكون على البدل، وعلى التقديرين؛ قد يكون الجمع محرما، ومباحا، ومندوبا.
مثال المحرم في الترتيب: أكل الميتة، وأكل المباح، وفي البدل: تزويج المرأة من كفئين
ومثال المباح في الترتيب: الوضوء والتيمم، وفي البدل: ستر العورة بثوب بعد ثوب.
ومثال المندوب في الترتيب: الجمع بين خصال كفارة الفطر.
وفي البدل: الجمع بين خصال كفارة الحنث، والله أعلم.
القسم الثاني في المسائل المعنوية
المسألة الأولى
في الواجب المخير
...............................
قال القرافي: قال سيق الدين: أطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع.
واتفق الكل على جواز ترك البعض.
وقال أبو الحسن البصري: المراد بوجوب الجميع أنه يحرم ترك الجميع، فيكون خلافا في اللفظ دون المعنى.