الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(قام) حصول القيام في الزمن الماضي، فلم يجعلوا له مسمى إلا وقوع ذلك المعنى، وذلك هو الصدق، ولو كان الاحتمال من جهة الوضع لقالوا:(قام) مدلوله: إما القيام في الزمن الماضي أو عدمه، وكذلك جميع تفاسير اللغة في الماضي، والمستقبل، والجمل الاسمية من الأسماء، والأفعال، والحروف، وإنما يفسرونها بوقوع ذلك المعنى ليس إلا، فظهر أن العرب لم تضع الخبر إلا للصدق، وحينئذ يتجه قياس الأمر عليه في منع النقيض من جهة الوضع، وإن احتمل النقيض من جهة المأمور، فيترك ولم يوضع للترك كما أن الخبر قد يدخله الكذب. ولم يوضع له.
والجامع بين البابين إما ذكره في اكلتاب، وإما لأن لفظ الأمر، ولفظ الفعل الماضي والمضارع، والجميع مشتق من مصدر واحد، وإذا اتحد الأصل وجب أن تتساوى الفروع إلا فيما اتفقا فيه على عدم المساواة، أو الجامع بينهما بأن العرب عادتها أن تحمل الشيء على ضده، كما تحمله على مثله، كما حملت (لا) على (أن) في نصب المضارع، و (الغدايا) على (العشايا) في الجمع، (وحدث) على (قدم)، فتضم الدال من (حدُث) وأصله الفتح.
(سؤال)
هذا إثبات للقواعد القطعية بالقياس الذي لا يفيد إلا الظن
.
سلمنا صحة التمسك بالمظنون، لكن هذا قياس في اللغة، ونحن نمنعه، سلمناه، لكن في آحاد الألفاظ التي لا يترتب عليها إلا حكم جزئي فرعي، أما قاعدة كلية كالزمر فلا.
قوله: (لو لم تكن مصلحة المأمور به راجحة لكان خاليا عن المصلحة)
قلنا: هذا التقسيم غير حاصر، لأن الأمر قد يكون للمصلحة الخالصة كما
يكون للمصلحة الراجحة، وكذلك النهي كما يكون للمفسدة الخالصة يكون للمفسدة الراجحة، ونفي بالخالص ما ليس له معارضا مطلقا من ضده، وبالراجح ما له معارض مرجوح، كما قال الله تعالى في الخمر والميسر:(وإثمهما أكبر من نفعهما)[البقرة:219]، فأشار إلى أن مفسدتهما راجحة لا خالصة، وغالب الواقع في الشرائع المصالح، والمفاسد الراجحة دون الخالصة، فعلى هذا بقيت الخالصة لم يذكرها، فلم يكن التقسيم حاصرا.
قوله: (إن كان خاليا عن المصلحة كان مفسدة صرفة، فلا يجوز الأمر به).
قلنا: عليه سؤالان:
الأول: لا نسلم أنه يلزم من الخلو عن المصلحة حصول المفسدة لجواز الخلو عنهما، وهو أحد أسباب الإباحة (الخلو عنهما)، والسبب الآخر لمساواتهما فيه وتفاوتهما.
الثاني: لا نسلم أنه لا يجوز ورود الأمر بمثل هذا وامتناع، وإنما يتجه على الحسن والقبح العقليين، وذلك مذهب المعتزلج، ولا يقولون به، فلا يتجه أن نقول: لا يجوز ورود الأمر به، فإن قلت: أوجه المقدمة بطريق آخر فأقول: الظاهر أن واضع هذه اللغة حكيم لأجل ما وجد فيها من الأسرار البديهية، والمقاصد الجليلة، وإذا كان حكيما فلا يضع (الأمر) إلا لطلب ما فيخ مصلحة خالصة، أو راجحة.
أما الماوي والخالي عنهما فلا، وبحثنا في هذه المقدمة إنما هو في أن المأمور راجح المصلحة فقط لا أنه واجب، وقد حصل الغرض بهذا.
قلت: سلمنا أن الواضع حكيم، وأنه ما وضع الأمر إلا لراجح المصلحة،
أو الخالص، لكن لا يفيدك ذلك في أن كل شيء استعمل فيه صيغة الأمر فهو كذلك، لأن المستعمل قد يوافق الواضع، وقد لا يوافقه، كما تقدم في أنه قد يستعمل اللفظ الموضوع كذبا ومجازا، وكلاهما خلاف الوضع فكون المزمور راجحا في نفسه إنما يعلم من دليل خارج، لا من نفس الأمر.
فإن قلت: الأصل في الاستعمال الحقيقة وألا يستعمل اللفظ إلا فيما وضع له، فيغلب على الظن عدم المجاز.
قلت: لا نسلم أن وضع الاستعمال في غير الراجح لمصلحة [راجحة] أو خالصة، يكون مجازا، بل ذلك كما تقول:(ليت) وضع لتمني ما فيه مصلحة، ولو قال الإنسان: ليت لي مفسدة كان ذلك حقيقة فإنه تمنّ، واستعمل (ليت) في موضوعه وهو التمني، وإن كان لا مصلحة هنالك، ولذلك وضعت العرب في لغتها أن المقدم في الذّكر يكون أشرف، فإن قدم آخر في لفظه الخسيس على الشريف لم يكن ذلك مجازا.
وكذلك التخيير وضعته العرب ليكون المتساويين، فلو خيّر واحد بين المختلفات لا يقال: لفظه مجاز، فلو قال قائل قائل لعبده:(خيرتك بين الصلاة والفجور، أو إن شئت فصل أو فافجر) لا يقول أحد: إن هذا مجاز فكذلك هاهنا لو قالت العرب: لا تطلب لا مصلحة، فطلب هو ضدها، صدق عليه أنه طالب، وأن الحفظ حقيقة كسائر النظائر المذكورة، وإنما يكون اللفظ مجازا أن لو وضعت العرب الأمر اسما للمصلحة، فاستعمل في غير مصلحة كان مجازا، كلفظ المصلحة إذا أطلق على المفسدة كان مجازا، ولكن هاهنا ما وضعته للمصلحة، بل للطلب، وقالت: لا تطلبوا إلا مافيه مصلحة، فهذا شيء أمرت به المتكلم، ولم يكن مسمى الصيغة كما قالت العرب:(لا) للنفي، ولا تنفوا إلا المنفي، فإذا قالت الذي عليه الدين:
(ما لصاحبي علىّ شيء) فهو كاذب، فلفظه حقيقة، ولم يوافق مقصود.
العرب، فتأمل هذه القاعدة، وفرق بين أن يوضع اللفظ اسما لمعني فيستعمل في غيره، وبين أن تضع لمعنى وتقول: هذا المعنى لا يقصد إلا عند شرط مخصوص فيقصده المتكلم عند عدم ذلك الشرط، والأمر من ذلك وضع للطلب، وقالوا: لا تطلبوا إلا ما هو راجح الفعل، فلا يلزم من مخالفة المتكلم ذلك دخول المجاز في لفظه، فتأمل هذا الموضع، فكل من لا يعرفه إذا قيل له في تلك النظاذر كلها: إنها مجاز، لأنها في غير موضوعها، ربما عسر الجواب عليه.
قوله: (إذا ثبت أن المصلحة راجحة لا يجوز ورود الإذن في الترك):
قلنا: أجمع المسلمون بل جميع العقلاء على أن المصلحة الخالصة والراجحة إن كانت في المرتبة الدنيا كان حكمها الندب، أو في المرتبة العليا كان حكمها الوجوب، ويفرقا المندوب باعتبار عظم المصلحة حتى تكون أعلى مراتب المندوب يليه أدنى مراتب الوجوب، وكذلك نقول في طرف المصلحة بالنسبة إلى المكروه والمحرم.
وعلى هذا التقدير لا يمكن أن مجود رجحان المصلحة لا يجوز ورود الإذن في تركه، بل جاز أن يكون من المندوبات، ويرد الإذن بتركه.
قوله: (تفويت المصلحة الخالصة قبيح فأوجب أن يكون قبيحا شرعا، لقوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون قبيحا فهو قبيح)
قلنا: عليه أسئلة:
الأول: لا نسلم أنه قبيح في العرف، بل أهل العرف ينتهي تارة عندهم إلى حد الإلزام، وتارة لا نتهي، وإن استحسنت ورجحت مصلحته عندهم، كالدار المزخرفة ونحوها حسنة، وفيها مصالح، لا يسلكون بذلك مسلك الإلزام لأنفسهم مع القدرة عليهم، ومطالب العرف انقسمت إلي ما لا حرج في تركه، وإلى ما في تركه حرج عرفا.
الثاني: في قوله عليه السلام: (ما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح) فإن هذا الحديث كثر الاستدلال به من الخلافيين والأصوليين.
وعليه سؤال قوي وهو: أنا إذا قلنا: ما رآه زيد قبيحا فهو عند عمرو قبيح، يفهم منه أن ذلك الفعل، فعسر على أوضاعه وقيوده وتخصصاته، وجميع أحواله حتى لو كان الذي رآه زيد قبيحا وهو لبس الفراء في الصيف لكان اللازم في هذه العبارة أن عمرًا رآه قبيحا في الصيف في ذلك الزمان على ذلك الوضع الذي رآه زيد، وعلى هذا التقدير يقول أهل العرف: إنما رآه قبيحا في الصيف في ذلك الزمان على ذلك الوضع الذي رآه زيد.
وعلى هذا التقدير يقول أهل العرف: إنما رآه قبيحا في أمر دنياهم لا في أمر أخراهم، فإن أمر الآخرة راجع لصاحب الشرع لا لأهل العرف، فيكون عند الله تعالى قبيحا في أمر الدنيا توفية بالصيغة، فلا يحصل مقصود المستدل من الحديث، لزن مقصودهم: ما رآه أهل العرف قبيحا في دنياهم فهو عند الله قبيح في شرعه.
وفسد أنه ما إذا قلنا: ما راه زيد من لباس الفراء في الصيف قبيحا، فهو عند عمرو قبيح في الشتاء، فذلك لا يقول أحد: إنه مفهوم اللفظ، فتأمل ذلك.
وإنما يندفع هذا السؤال بطريق: وهو أن لفظ (عند) يطلق على محامل كثيرة منها (الحكم الشرعي) كقوله تعالى: (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هو اكلاذبون)[النور:13]، أي في حكم الله عند القضاة وولاة الأمور، وإلا فقد لا يأتون بالشهداء، وهو في علم الله صادقون، فلا يمكن تفسير (العندية) إلا بالحكم الشرعي.
ولنا قاعدة: وهي أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دار بين أن يكون مفيدا فائدة عقلية أو شرعية، فحمله علي الشريعة أولى لأنه عليه
السلام إنما بعث مشرعا، وإذا تقرر هذا نقول: إن حملنا لفظ (عند) على العلم أي لعلمه قبيحا، كما هو عندهم، وهذا معلوم بالفعل وحكم عقلي فلا يفيد لفظه عليه السلام حكما شرعيا، وإن حكمه أفاد حكمها شرعيا لا عقليا، فكان أولى، وبهذا يتم الاستدلال لهم.
الثالث فيه أيضا: فإن قوله: (المسلمون) صيغة عموم، فإن جعلناها كليه لزم أن يكون كل ما رآه كل واحد من المسلمين يكون عند الله كذلك، والواحد في نفسه ليس عرفا، ولا قائل به، فيتعين معنى الحديث: ما أجمع المسلمون عليه فهو حكم الله تعالى في الحسن والقبح، ونحن نقول به، وإنما النزاع في الفوائد من غير إجماع.
الرابع: أن هذا الإستدلال على أن الأوامر في الشرع للوجوب، وهو موضع النزاع، فإن مسائل أصول الفقه إنما يقصد فيها لسان اللغة، وأما بيان الشرع فهو لنا على ما يتقرر في اللغة، بقوله تعالى:(وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا)[طه:113]
قوله: (ذلك لازم في جميع التكاليف)
تقريره أن التكاليف وجميع الشرائع إنما في مصالح العباد، فإذا قلتم: إن إلزام الشارع العبد استفاء مصلحته قبيح لا يلزم ألا يثبت واجب الشريعة ألبتة.
هذا غير لازم، فإن الشرع ما حتم على العباد استيفاء مصالحهم أي مصلحة كانت، بل المصالح التي في المرتبة العليا، بخلف مصالح المندوبات، والأصل فيها أن تكون دونها في المرتبة، وأنتم ادعيتهم مطلق المصلحة الخالصة، وهذا لم يوجد في الشرع مثله.
بل قسم الشرع المصالح الخالصة والراجحة قسمين: ما علا وعظم ألزمه، وما لا فلا.
قوله: (إفضاء المنع من الترك إلى الوجود أكثر من إفضائه إلي العدم).
قلنا: عليه مناقشة لفظية، فإن صيغة المفاضلة إنما تصدق مع الاشتراك، وهو لا يفضي إلى العدم أصلا، فلا تصدق المفاضلة.
قوله: (المفضي إلى الراجح راجح في الظن)
قلنا: المفضي إلى الشيء وسلية لحصوله، القاعدة: أن الوسائل تبع للمقاصد ودونها في الرتبة، فوسيلة الواجب واجبة، ودونه في الوجوب، ووسيلة المندوب مندوبة، ودونه في الندب، ووسيلة المباح مباحة غير أنها لا يمكن أن تكون أدنى منه، لتعذر ذلك في المباح، لضرورة الاستواء.
إذا تقرر هذا فنقول: المصالح الخسيسة التي لا تنهض للإلزام لا عرفا ولا شرعا المنع من الترك فيها وسيلة لفعلها الراجح، وهي في أنفسها لم تنهض لقضايا الإلزام، فوسيلتها أولي لذلك، أي لا تنهض لما تقدم أن الوسائل أخفض رتبة من المقاصد، فلا تفيد هذه المقدمة.
سلمنا عمومه لما فيه من الألف واللام، لكن نقول بالموجب فيه، لأنا نقتضي به والقضاء أعم من كونه بالوجوب أو بالندب، فما تعين الوحوب للقاء، فلا يحصل المطلوب، فمتي أفتى بالندب، فقد أفتى وقضى بالضرورة.
قوله: (لو لم نعمل بالراجح لعلمنا بالمرجوح).
قلنا: لا نسلم أنه يلزم من ترك الراجح العمل بالمرجوح، لأن الشاهد.
العدل إذا شهد وحده في (الزنا) فإن الراجح صدقه، ولم يعمل به وما لزم من ترك العمل به العمل بالمرجوح الذي هو كذبه، بل تركنا صدقه وكذبه، وكذلك كل بينة ردت، وأمارة بطلت، لعدم الاعتبار في الشرع،
قوله: (وجب العلم في الفتوى، والشهادة، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات، وجهات القبلة، وإنما عمل بذلك تغليبا للراجح)
قلنا: لا نسلم أنه لأجل مفهوم الراجح، ولم يعتبر الشرع قط مطلق الرجحان، بل اغتبر في كل موطن ظنا مخصوصا، فلم يعتبر الشاهد الواحد مع قوة الظن بشهادته، ولا فتيا المسلم كيفما كانت، بل حتى يشتهر بالعلم في نظره، وكذلك المفهوم لا يجري فيه كل من غلب على الظن صدقه، بل هو من أهل الخبرة، وكذلك لا نجد موطنا في الشريعة اعتبر الشارع فيه مطلق الظن، بل لا بد من خصوصيته، وحينئذ لا يتم مقصود المستدل، لأنه لم يحصل له إلا مواضع القطع، وهو واقع بين أمور شديدة الاختلاف، فإن الأمر للوجوب من قيم المتلفات، وأروش الجنايات.
قوله: (تلك الصيغة الموضوعة للوجوب، إما صيغة (افعل) أو غيرها، والثاني باطل بالإجماع، أما الخصم فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق، وأما عندنا فلأنا نقول به في غير صيغة (افعل).
قلنا: لا نسلم أن الخصم لم يقل بغير (افعل)، لأن الإجماع منعقد على أنه وضع للوجوب لفظ (الوجوب)، و (الإلزام)، و (التحكم)، ونحن أيضا قائلون بذلك، لأن الإجماع منعقد عليه، وقد تقدم أول اللغات أن جملة كبيرة من المعاني لم تضع العرب لها اشتعارات لغة (الفرس) ولغة (الروم)، وأن أنواع الطعوم والروائح مما تشتد الحاجة إليها، ولم تضع
لها، بل اكتفت بالإضافة بين الجنس وذلك النوع، فيقولون: رائحة (المسك) رائحة (العنبر)
قوله: (وكذلك أصناف الاعتمادات لم يوضع لها).
يريد أنواع الحركات باليد والرجل وغيرها لم يوضع لكل نوع لفظ يخصه، وإنما يقال إيحاء بيده وخصوص ذلك الإيحاء ليس له لفظ.
قوله: (اللفظ أخف على اللسان من التركيب)
قلنا: هاهنا أمران:
الوجوب من حيث هو وجوب.
والإيجاب على الغير المعين،
أما الوجوب من حيث هو وجوب، فاللفظ الدال عليه مطابقة بالإجماع، هو لفظ الوجوب ل اأوجبت ولا حتمت، ولم يتعارض في هذا المقام المفرد والمركب على شي واحد، بل المفرد موضوع للمفرد، والمركب موضوع للمركب، وأصل المسألة والدليل إنما ذكر في الوجوب المفرد، فليس هذا موضع الترجيح للمفرد على المركب، بل المصنف يعتقد أن العرب ما وضعت المركبات ألبتة، وإنما وضعت المفردات فقط، فلا يصح منه هذا الجواب، ثم رنا قولنا:(افعل) بمجرده لا يقوم مقام (أوجبت)؛ لأن (أوجبت) جملة فعلية يصح السكوت عليها إجماعا، و (افعل) إذا لم يضم معه فاعل لا يكون جملة، وإن ضم معه حصل التركيب بفاعل مضمر النفس،
ويعبر عنه النحاة بأنه مستتر في الفعل، فحينئذ التعارض واقع بين مركبين، غير أن أحد المركبين جزؤه مفرد.
فإن قلت: هو أخف لكونه لم ينطق به.
قلت: نسلم، لكنه يعارض الإضمار على خلاف الأصل، وأن الأصل
في اللغات القطع والإضمار، وإن التزم في مواطن، ومنعت العرب من إظهاره، فحسبه على خلاف الأصل، وإن كان الأصل في ذلك المضمر، الإضمار لمنع العرب من إظهاره، وجعله أصلًا في نفسه.
ويمكن أن يقال: صيغة (افعل) تفيد الطلب والمطلوب معنا بلفظة واحدة.
فإنه يفهم من قولنا: (صم) الصيام، وطلبه، والوحوب ونحوه إنما يفيد الوجوب فقط، فكان الأول أولى.
قوله: (الوجوب ليس لازما لأصل الترجيح، فلا يمكن جعله مجازا عنه).
قلنا: قد تقدم الجواب عن هذا مرارا، وأنه مبني على زن الملازمة شرط المجاز، وأن دلالة اللفظ، والدلالة باللفظ واحدة، وأنه باطل.
قوله: (إنما يلزم الاشتهار إذا سلم المعارض).
تقريره: أن الوضع حاصل، والدليل عليه موجود، ولكن حصلت شبهات في الوجود من استعمال لفظ الأمر في غير الوجوب، وغير ذلك مما اعتمد عليه الخصم، فهذه الشبهات أوجبت وقوف الدواعي عن إيصال ذلك إلى غاية الضرورة في النقل والجلاء.
قوله: (حمل الأمر على الوجوب يفيد القطع بعدم مخالفة الأمر).
قلنا: كيف يحصل القطع، ومن الناس من قال: إنه [وضع للتحريم والكراهج مع نفيه الأحكام، كما نقله أو ل المسألة، فلعل مراد المتكلم بهذا اللفظ التحريم، فيحصل] الذم بالإقدام والإخلال بصيغة الأمر.
سلمنا انحصار مسماه في الوجوب والندب، ولكن علي تقدير كونه للندب، ففعله بنية الوجوب قد يقتضي المعصية، واستحقاق الذم مع الجهل.
المركب، فما حصل الاحتياط، فإن الإنسان في الشريعة لو اعتقد أن المندوب واجب ربما عصى فرن المندوب قد يكون ضروريا في الدين، فاعتقاد وجوبه جحد لما علم بالضرورة من الدين من ذلك الندب، وجحد الحكم الضروري كفر إجماعا، فهذا خطر عظيم لم نأمنه، أو ما دونه من الخطر، وقد يكون ذلك الوصف الخاص من الندبية مقصود الأمر، واللفظ موضوع له، فما قطعنا بعدم مخالفة الأمر.
قوله: أما لو حملناه على الندب بتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم مخالفة الأمر.
قلنا: لا نسلم، فإنا إذا حملناه على الندب بتقدير أن يكون المأمور به مندوبا حصل القطع بعدم مخالفة الأمر.
قوله: أما لو حملناه على الندب فله الترك، لكن الفعل هو المقصود، وجواز الترك يقع، فإذا ترك لا يكون المقصود أملهم من الندب الذي هو الفعل [قد] حصل.
قوله: (أما لو كان واجبا ونحن قد جوزنا له الترك كان الترك مخالفا للأمر).
قلنا: مخالفة الأمر لم تنشأ عن اعتقادنا أنه للندب، إنما نشأت عن تركه هو، وقد لا يترك فيحصل مقصود الوجوب الذي هو مصلحة الفعل، فالمتجة أن تقول: يلزم، وإلا جوزنا له الترك أن يتر في كثير من الصور فيضيع الواجب، وإن فعل فعل بنية الندب، والواجب بنية الندب لا يجزئ إجماعا
قوله: (فإذا كان حمله على الوجوب أحوط وجب عليه لقوله عليه السلام: (دع ما يريبك إلي ما لا يريبك).
قلنا: عليه سؤلان:
الأول أن هذه صيغة أمر، فالاستدلال به على أن الأمر للوجوب لا يتجه، لأن الخصم يمنع هنا يمنع أصل المسألة، فلا يجب ما ذكر من الإحتياط.
الثاني: أن هذا الحديث المراد به إنما هو الورع عن الشبهات، وهو مندوب إليه إجماعا، فالاستدلال به على الوجوب لا يتم
قوله: (ترجيح الطريق الآمن على الخوف من موجبات العقول)
قلنا: ذلك قد يكون في العقل، والعادة أولى، وقد يكون متحتما، فلم قلتم: إن هذا من المحتم؟ فرن الخوف إذا قلّ لا يوجب العقل الإحتراز منه، ولا العادة، بل ربما كان الاعتماد على الغالب حسنا عادة وعقلا في سائر الاسفار والمتاجر، فإنه لا يخلو في الغالب عن نوع من الخوف والخطر.
تقريره: الأمر إذا ورد جوّزنا أنه متردد بين الوجوب والندب، فاعتبار الوجوب يتطرق إليه الخطأ أن يكون الحق الندب، واعتقاد الندب يتطرق إليه الخطأ لاحتمال الوجوب، والاحتياط في الاعتقاد عن احتمال الخطأ، أما مصلحة الفعل، فإنه يحصل الاحتياط فيها لأنه إذا قال له: أسرج الدابة، وأراد الندب أو الوجوب حصلت المصلحة المقصودة من الفعل على التقديرين إذا فعل، لكنه بنية الوجوب فيكون ملتزما، لاحتمال الخطأ في نية الوجوب
ليخرج عن عهدة الفعل، فإنه إن فعله بنية الندب لا يجزئه على تقدير كونه واجبا.
قوله: (العلم بكون الصيغة للوجوب إما أن يكون عقليا زو نقليا والأول باطل لأن العقل لا مجال له في اللغات)
تقريره: أن العقل لا يستقل إلا في ثلاث مواطن:
إيجاب الواجبات.
واستحالة المستحيلات.
وجواز الجائزات.
وأما وقوع أحد طرفي الجائز فلا يستقل به لا بد معه من قرينة من الحس أو غيره، ووضع اللفظة المعينة للمعنى المعين فمن قبيل الجائزات ولا يستقبل العقل به.
ومراده: أن العقل لا مجال له في اللغات أي على سبيل الاستقلال، وإلا فلا بد من العقل في اللغات أو غيرها، ومتى فقد العقل لا يحصل الشعور بشيء من هذه العلوم ألبتة، وهذه حجة القاضي أبي بكر، وقد كررها في كتبه رحمه الله في عدة مواضع أن الزمر للوجوب، والصيغة للعموم، والأمر للتكرار، والفور، ونحو ذلك، وتناقلها الناس بعده.
قوله: (التواتر باطل، وإلا لعرفه كل أحد بالضرورة)
قلنا: لا نسلم أنه يلزم من التواتر حصول العلم للكل، لأن التواتر قد يختص بالبعض، بل المدينة الواحدة قد يتواتر في جامعها سقوط المؤذن من المنار، ولا يعلم بقية أهل المدينة خارج الجامع ذلك، وإذا كان ذلك في المدينة الواحدة، فأقطار الدنيا أولى بذلك، والعلماء يقولون: إن مسائل
أصول الفقه يحصل بها العلم لمن كثر اطلاعه، واشتد بحثه عن موارد الشريعة وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، ومناظراتهم، وفتاويهم وغير ذلك.
ومعلوم أن هذا الحديث من الاطلاع لا يحصل لكل واحد، بل ولا لأكثر الناس، وإنما يحصل للأفراد القليلة، ولا يقول أحد: إن أصول الفقه يكون معلوما لكل أحد، بل ولا مظنونا، بل ولا مشعورا به، بل الغالب على الناس الجهالات، والإعراض عن العلوم، بل عن الشرائع اللازمة.
قوله: (أهل اللغة قالوا: لا فرق بين الأمر والسؤال إلا في المرتبة)
قلنا: بعض الناس قال ذلك، ولا نسلم أن قوله حجة
ويدلك على ذلك: أن الرتبة لم يقل بها الأكثرون، فكيف يدعونها فرقا، وأصحابنا كلهم على عدم اعتبارها.
قوله: (وذكر الأمر للوجوب، والندب، والاشتراك، والمجاز خلاف الأصل).
قلنا: المجاز لا زم كل تقدير، فإنه إن جعل حقيقة في (الوجوب) كان ورورده في الندب مجازا، وإن كان حقيقة في القدر المشترك كما قال الخصم، كان استعماله في الوجوب مجازا، لأن استعمال لفظ الأعم في الأخص مجازا اتفاقا، لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فلما كان المجاز لا زما على كل تقدير، كان الترجيح معنا، لأن اللفظ يكون أكثر فائدة، لإفادته خصوص الوجوب مع مطلق الرجحان، ويكون موضوعا لأهم المطالب، ويكون أحوط للذمة والعرض.
قولهم: (لم لا يجوز أن يعلم بدليل مركب العقل والنقل؟: كقولنا تارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب، فتارك المأمور به يستحق العقاب)
قلنا: لا نسلم أنه مركب من العقل والنقل، بل هذا نقل صرف، ونصب العقل تفطنة لاندراج الأوسط تحت الأصغر حتى يثبت له الأكثر الثابت بالأوسط، والتفطن ليس مقدمة لأخرى غير المقدمتين الصغرى والكبرى، وإلا لكان كل قياس ثلاث مقدمات، لأنه لا بد في كل قياس من التفطن، وإنما يكون الدليل مركبا من العقل والنقل إذا كانت إحدى مقدماته عقلية، وهاهنا ليس كذلك، بل [الجميع نقلي]، وتحرير هذا السؤآل يتوقف على تفسير الدليل السمعي ماهو؟
فإن فسرناه بما هو مراد الشارع باللفظ الصادر عنه لم يكن هذا الدليل سمعيا، لأن الشارع لم يرد بكلمة من هذه الكلمات أن الأمر للوجوب.
وإن فسر بما هو دليل اللفظ مطابقة لن يكون هذا الدليل سمعيا أيضا، لأنه ليس فيه لفظ يدل على أن الأمر للوجوب، وإن فسر بما يدل التزاماً بلفظ مفرد فكذلك.
وإن فسر بما يدل كيف بهذا الدليل سمعيا، لأن مجموع اللفظين يدل بالالتزام على أن الأمر للوجوب لا يكون للعقل فيه مدخل على هذا التقدير.
ومما يعضد القسم القسم الأول صحة قولنا: إن الشرع لم يرد ببيع [الخور والخنزير وسيلة المحرمات، وإن كان قوله عز وجل: (وأحل الله البيع وحرم الربا) [البقرة:275] يدل عليه، فإنه لا يلزم من التخصيص نفي الدلالة:(فلا تقل لهما أف)[الإسراء:23] وإن لم يدل التزاما، ونظائره كثيرة، سلمنا أنه مركب من العقل والنقل، لكنا بينا أنه لا ينتج، لأن كبراه جزئية، ومن شرط الشكل الأول أن تكون كبراه كلية.
سلمنا صحة إنتاجه لكن إذا تركب من العقل والنقل، ومن هاتين المقدمتين لا يفيد إلا الظن فرن تلك المقدمتين محتملتان للمجاز، والنقل، والاشتراك، وغير ذلك، فلا يفيد إلا الظن، فيكون هذا القياس كخبر الواحد الذي منع أنه يفيد العلم.
قوله: (لا نسلم أن هذه المسألة قطعية، ولا تفيد في المباحث اللغوية.
قلنا: قد بينا كلام الأبياري، وأن مسائل أصول الفقه قطعية، وأن مدركها ليس موضوعا في الكتب، بل حصل للعماء بكثرة الاطلاع والبحث، فصارت عندهم كسخاء حاتم، وشجاعة علي، فلا يمكن أن يوضع في الكتب ما يفيد القطع بذلك، بل إنما حصل القطع لمن حصل له ذلك بكثرة الاطلاع، وحينئذ الموضوع في الكتب إنما هو ثبته على أصل المدرك لا نفس المدرك.
قوله: (لا يقين في المباحث اللغوية)
قلنا: قد تقدم أن الوضع من حيث هو وضع لا يفيد اليقين، أما مع السياقات والقرائن الحالية، والمقالية، وغير ذلك فلا نسلم أنها لا تفيد اليقين وقد صرح المصنف رحمه الله بذلك، وادعاه بعد أن تبين عدم العلم من جهة الوضع وحده، وقرر ذلك في اللغات.
قوله: (السؤال يدل على الإيجاب هو الطلب الجازم، وإن كان لا يلزم منه الوجوب)
تقريره: أن الإيجاب هو الطلب الجازم، ونحن إذا قلنا: اللهم توفنا مسلمين، فطلبنا لذلك جازم لا تردد فيه.
ونعني بالوجوب المؤاخدة علي تقدير عدم الفعل، ونحن في هذه الصورة طالبون فقط طلبا جازما، وأما طلب الله تعالى من عباده وإيجابه عليهم، ومعاقبتهم إذا أخلّوا.