الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام في الأوامر والنواهي
وهو مرتب على مقدمة وثلاثة أقسام
أما
المقدمة ففيها مسائل:
قال الرازي: المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول المخصوص، واختلفوا في كونه حقيقة في غيره؛ فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضا، والجمهور على أنه مجاز فيه.
وزعم أبو الحسين البصري: أنه مشترك بين القول المخصوص، وبين الشيء، وبين الصفة، وبين الشأن والطريق، والمختار: أنه حقيقة في القول المخصوص فقط.
لنا: أنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص؛ فوجب ألا يكون حقيقة في غيره؛ دفعا للاشتراك.
ومن الناس من استدل على أنه ليس حقيقة في الفعل بأمور:
أحدها: لو كان لفظ الأمر حقيقة في الفعل، لاطرد؛ فكان يسمى الأكل أمرا؛ والشرب أمرًا.
وثانيها: ولكان يشتق للفاعل اسم الآمر، وليس كذلك؛ لأن من قام أو قعد، لا يسمى آمرًا
وثالثها: أن للأمر لوازم، ولم يوجد شيء منها في الفعل؛ فوجب ألا يكون الأمر حقيقة في الفعل.
بيان الأول: أن الأمر يدخل في الوصف بالمطيع والعاصي، وضده النهي، ويمنع منه الخرس والسكوت؛ لأنهم يستهجنون في الأخرس والساكت أن يقال: وقع منه أمر.
وعدوا الأمر مطلقا من أقسام الكلام، كما عدوا الخبر مطلقا منه، وكل ذلك ينافي كون الأمر حقيقة إلا في القول.
ورابعها: أنه يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال: إنه ما أمر به، ولكن فعله.
وهذه الوجوه ضعيفة.
أما الأول: فلأنا لا نسلم أن من شأن الحقيقة الاطّراد، وقد تقدم بيان هذا المقام، سلمناه؛ لكن لا نسلم أنه لا يصح أن يقال للأكل والشرب أمر.
وعن الثاني: ما تقدم في باب المجاز؛ أن الاشتقاق غير واجب في كل الحقائق.
وعن الثالث: أن العرب إنما حكم، بتلك الصفات في الأمر، بمعنى القول؛ فإن ادعيتهم: أنهم حكموا به في كل ما يسمى أمرًا فهو ممنوع.
وعن الرابع: لا نسلم أنهم جوزوا نفيه مطلقاً
واحتج القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين:
أحدهما: أن أهل اللغة يستعملون لفظة الأمر في الفعل، وظاهر الاستعمال الحقيقة
بيان الاستعمال: القرآن، والشعر، والعرف:
أما القرآن: قوله سبحانه وتعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) [هود:
40] والمراد منه: العجائب التي فعلها الله تعالى، وقوله تعالى:(أتعجبين من أمر الله)[هود:73] وأراد به الفعل، وقوله:(وما أمر فرعون برشيد)[هود:97]، (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) [القمر:50] وقوله: (تجري في البحر بأمره)[الحج: 65] وقوله: (مسخرات بأمره)[الأعراف:54].
وأما الشعر فقوله [الوافر]:
(لأمر ما يسود من يسود)
وأما العرف: فقول العرب في خبر الزباء:
(لأمر ما جدع قصير أنفه)
ويقولون: (أمر فلان مستقيم، وأمره غير مستقيم) وإنما يريدون: طرائقه وأفعاله، وأحواله، ويقولون:(هذا أمر عظيم)، كما يقولون:(خطب عظيم ورأيت من فلان أمر هالني) وأما أن الأصل في الإطلاق الحقيقة، فقد تقدم.
وثانيهما: أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول، وبين جمعه بمعنى الفعل؛ فيقال في الأول: أوامر، وفي الثاني: أمور، والاشتقاق علامة الحقيقة.
واحتج أبو الحسين على قوله بأن من قال: (هذا أمر) لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد!!
فإذا قال: (هذا أمر بالفعل، أو أمر فلان مستقيم، أو تحرك هذا الجسم لأمر، أو جاء زيد لأمر) عقل السامع من الأول القول، ومن الثاني الشأن، ومن الثالث: أن الجسم تحرك الشيء، ومن الرابع: أن زيدا جاء لغرض من الأغراض، وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل.
والجواب عن الأول: أنا لا نسلم استعمال هذا اللفظ في الفعل من حيث إنه فعل.
أما قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا)[هود:40] فلم لا يجوز أن يكون المراد منه القول أو الشأن؟ والفعل يطلق عليه اسم الأمر؛ لعموم كونه شأناً، لا لخصوص كونه فعلا، وكذا الجواب عن الآية الثانية.
وأما قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد)[هود:97] فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول؟ بل الأظهر ذلك؛ لما تقدم من قوله: (فاتبعوا أمر فرعون)[هود:97]، أي: أطاعوه فيما أمرهم به!!
سلمنا أنه ليس المراد منه القول، لم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقه؟!
وأما قوله تعالى: (وما أمرنا إلا كواحدة)[القمر:50] فنقول:
لا يجوز رجراء اللفظ على ظاهره: أما أولا، فلأنه يلزم زن يكون فعل الله تعالى واحدا، وهو باطل.
وأما ثانيا: فلأنه يقتضي أن يكون كل فعل الله تعالى لا يحدث إلا كلمح البصر في السرعة، ومعلوم أنه ليس كذلك، وإذا وجب صرفه عن الظاهر، سلمنا أن المراد منه تعالى: من شزنه إذا أراد شيئا، وقع كلمح البصر.
وأما قوله: (تجري في البحر بأمره)[الحج:65](مسخرات بأمره)[الأعراف:54] فلا يجوز حمل الأمر هنا على الفعل، لأن (الجري) و (التسخير) إنما حصلا بقدرته، لا بفعله، فوجب حمله على الشأن والطريق. سلمنا أن لفظ الأمر مستعمل في الفعل، فلم قلت: إنه حقيقة فيه؟!
فإن قلتم: لأن الأصل في الكلام الحقيقة، قلنا: والأصل عدم الاشتراك، على ما تقدم.
وقد تقدم بيان أنه إذا دار اللفظ بين الاشتراك والمجاز، فالمجاز أولى.
والجواب عن الثاني: لم لا يجوز أن تكون الأمور جمعا للأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل؟!
سلمناه؛ لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة؛ علي ماتقدم بيانه.
فأما ما احتج به أبو الحسين، فهو بناء على تردد الذهن عند سماع تلك اللفظة بين تلك المعاني، وذلك ممنوع، فرن الذي يزعم أنه حقيقة في القول يمنع من ذلك التردد، اللهم إلا إذا وجدت قرينة مانعة من حمل اللفظ علي القول، كما إذا استعمل في موضع لا يليق به القول؛ فحينئذ يصير ذلك قرينة في أن المراد منه غير القول والله أعلم.
قال القرافي: على هاتين الصيغتين إشكال وهو:
أنهما على وزن فواعل، وفواعل جمع فاعلة نحو: كوافر جمع كافرة، وصواحب جمع صاحبة، ومفردهما (فَعلٌ)، (أمر) و (نهى)، ولا يجمع على فواعل.
مع أن الفقهاء والأدباء اتفقوا على هذين الجمعين، فيلزم اجتماعهما على الخطأ. عنه أجوبة:
أحدها: أن يمتنع (أوامر) فواعل، بل (أفاعل)، فإن جمع (أمر)(أُمُر) على وزن (فُعُل)، ثم يجمع على (أفاعل) نحو كَلب وأكلب.
وأكالب، فيكون (أوامر) جمع الجمع، وهذا لا يتم في نواهي، فإن النون في الكلمة، فتجعله من باب التغليب، نحو: الغدايا، والعشايا، فإن الأصل في (فعائل): أن تكون جمع (فعيلة) نحو زكية وزكايا، وسرية وسرايا، فتكون هذه الصيغة أصلا في (عشية)، وأما (غدايا) فجمع (غدوة) وليس جمع فعلة على فعائل، بل جمعوه جمع (عشايا) لأنه ضده، ومقابله.
والعرب تحمل اللفظ على ضده كما تحمله على مثله، كذلك تكون (نواهي) محمولا على أوامر، لأن الأمر ضد النهي، وكذلك قالوا: (أخذ
ماحدث وما قدم)، فضموا الدال من (حدث) وهي مفتوحة، لأنها مع قدم وهي ضدها فسووا بينهما في ضم العين من الكلمة، وكذلك حملوا (لا) النافية على (أنَّ) المؤكدة فنصبوا بها تشبيها لها (بأنَّ) لأنها ضدها وهو كثير في لسانهم.
وثانيها: أنه نقل عن العرب: (أمرته آمرة، ونهته ناهية) فيكون هذان اللفظان جمع (آمرة وناهية)
قال أبو الحسين في (المعتمد): قال أئمة: (أوامر) جمع آمرة، و (أمر) لم يجمع أصلا.
وقال سيف الدين الآمدي: وقال الأيباري في (شرح البرهان): هو عند الأصوليين جمع (آمر).
وسيبويه، وأبو عليّ، وغيرهما من النحاة يمنعون ذلك، ويقولون: لايجمع (فعل) على (فواعل).
غير أن الجوهري في (الصحاح) قال: يقول أمرته أمرًا وجمعه (أوامر) وهذا غير معروف عند أئمة العربية.
وقال بعض الناس: هو جمع (أوامر) اسم فاعل، وفاعل لو كان اسما لمذكر جمع على (فواعل) نحو خاتم وخواتم، وقابل وقوابل، أو صفة لمذكر لم يجمعه على فواعل، وقد شذّ: فارس وفوارس، وهالك وهوالك، أما (فارس) فلعدم الللبس؛ لأنه لا يتصف به مؤنث، وأما (هالك) فقصدت النفس وهي مؤنثة.
وقيل: المراد الصيغة، فقد سمي الصيغة (أمر) يجوز، أو المؤنث جمع فواعل نحو فاطمة وفواطم في الأسماء، وكاتبه وكواتب في الصفات.
قال: والظاهر أن الأصوليين قصدوا ما ذكره صالحب (صاحب)
قال: والأمر مصدر لا يثنى، ولا يجمع إلا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه، وإلا تميزت عند النحاة بتعدد المحال.
فقد منع سيبويه جمع (العلم) ولم ينظر إلي معتقداته، فلا يصح جمع (الأمر) إلا إذا تحقق اختلاف أنواعه، ولا يكفي تعدد التعلق، وإنما جمع لأن (أمر) الوجوب يباين (أمر) الندب باعتباره لا باعتبار متعلقاته.
قال: والقول في النواهي كما تقول في الأوامر
وثالثها: أن فواعل قد ورد في غير المؤنث، فقالوا (فوارس) و (هوالك) جمع (فارس) و (هالك) فيكون هذا مثله، وترك على الزول.
هب أنه صح ما ذكرتموه لكنه ينبغي أن يسمع من العرب الجمع الذي هو جمعه كما سمع في (أكلب)
وعلى الثاني: أنهم كما قالوا (أمره) قالوا: (أمرا)، فكما جمعوا (أمرا) ينبغي أن يجمعوا (أمرا) بطريق الأولى فإنه المشهور.
وعلى الثالث: أنه شاذ، بل المشهور (فرسان) و (هلكى) هو الجمع المعتبر.
(المسألة الأولى)
قال القرافي: قوله: (الأمر حقيقة في القول المخصوص)
معنى هذه المسألة: أن لفظ (أمر)[ألف، ميم، راء] موضوع للقدر المشترك بين سائر صيغ الأوامر من صل، وصم، وسافر، ونحوها
فمسمى هذا اللفظ (لفظ)، ومسمى ذلك اللفظ الذي هو المسمى:(الوجوب أو الندب) على الخلاف، فمسمى الأمر لفظ، ومسمى مسماه معني لا لفظ.
(أمثلة)
نحو الأكل، يقال:(كنا في أمر) أي: نأكل أو نجاهد
والشيء: نحو قولك: اذتني بأمر، يشهد لك بأي شيء من الأشياء.
والصفة: كقول الشاعر [الوافر]:
عزمت على إقامة ذي صباح
…
لأمر ما يسود من يسود
أي لصفة توجب السيادة لمن هو أهل لها: وقابل لوقوعها فيه
والشأن: كقوله تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه)[النحل:4] أي شأننا فيما نريده أنه لا يتأخر عن الوقت الذي أريد فيه.
والطريق: كقولك: أمر خرسان إظهار الخيلاء، أي عادتهم، والطريق العادة، ولكل بلد طريق وعادة.
قوله: (لو كان حقيقة في الفعل، لأطرد، فيقال للأكل أمرا)
قلنا: وإنه كذلك، وكيف لا يجوز ذلك، وكل فعل يسمى أمرا
قوله: (لو كان حقيقة في الفعل، لأطرد فيقال للأكل أمرا)
تقريره: أن الأصل في الفعل المتعدى أن يشتق منه اسم الفاعل، واسم المفعول، فكما تقول: ضرب زيد عمرا، فزيد ضارب، وعمرو مضروب، كذلك إذا أكل زيد الخبز، تقول: زيد آمر، والخبز مأمور إن كان الأمر حقيقة في الفعل، وكذلك جميع الأفعال، ولكنهم لم يقولوا ذلك، فلا يكون حقيقة في الفعل.
قوله: (الأمر له لوازم لم توجد في الفعل)
قلنا: القاعدة: أن اللفظ المشترك يجوز، بل يجب أن يكون لكل مسمى من مسمياته لوازم ليست لغيره، فمن لوازم (الحدقة) الإبصار دون الذهب، ومن لوازم (الذهب) الاصفرار، ومن لوازم (عين الماء) الإرواء، ولم تقع الشركة بينهما في ذلك مع أن لفظ (العين) حقيقة في الجميع على سبيل الاشتراك، كذلك هاهنا لكل مسمى لوازم لا يلزم وجودها في الآخر، ولا يلزم من ذلك كون لفظ الأمر غير مشترك، ولذلك عندهم الأمر من أقسام
الكلام لا يمنع كون لفظ الأمر مشتركا، فيكون أحد مسمياته من الكلام وبقيتها ليست منه.
قوله: (يصح نفي الأمر عن الفعل، فيقال: ما أمرته لكنه فعله)
قلنا: إذا كان اللفظ مشتركا بين مسميات، صح سلب كل واحد منهما عن الاخر، ولا يلزم من ذلك عدم الاشتراك في اللفظ، كما يقول: الحدقة ليست بعين، ويريد الذهب، ويقول: الذهب ليس بعين ويريد الحدقة.
قوله: (لان نسلم أن شأن الحقيقة الاطراد)
قلنا: الأصل والغالب ذلك، والأصل إلحاق الأحكام بالغالب، وأما كون (الأبلق) لا يقال لغير الفرس، ونحو ذلك فقليل.
قوله: (الاشتاق غير واجب)
قلنا: لكنه الغالب، وغيره في غاية الندرة، فجعل محل النزاع من قبيل الغالب أولى، وكون الرائحة لا يشتق منها في غاية الندرة مع زنهم قد اشتقوا منها، وقد تقدم بيانه في باب المجاز والحقيقة.
قوله: (استعمل الأمر في الفعل، والأصل في الاستعمال الحقيقة)
قلنا: معنى قوله (الأصل في الكلام الحقيقة) أي: هي المتبادرة في الذهن، الراجحة عند العقل، والرجحان إنما يكون مع الانفراد، فلم قلتم إن الرجحان والمبادرة مع الاشتراك، بل الإجمال هو الواقع، وعدم الفهم بالكلية، فظهر أن قول القائل: الأصل في الكلام الحقيقة لا يتم على إطلاقه، بل يشترط الانفراد، وعلى ظهور المنع في هذه المقدمة متيّسر، وهو أولى من المعارضة التي ذكرها الإمام في الجواب؛ لأن المنع أبدًا مقدم؛ لأنه إفساد لنفس الدليل، والمعارضة تسليم له.