المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سؤالالمجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب - نفائس الأصول في شرح المحصول - جـ ٣

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثامنفي تفسير حروف تشتد الحاجة في الفقه إلى معرفة معانيها وفيه مسائل

- ‌المسألة الأولى: في أن الواو العاطفة لمطلق الجمع:

- ‌المسألة الثانية: الفاء للتعقيب على حسب ما يصح:

- ‌المسألة الثالثة: لفظة (في) للظرفية محققا، أو مقدرا:

- ‌المسألة الرابعة: المشهور أن لفظة (من) ترد:

- ‌المسألة السادسة: لفظة (إنما) للحصر؛ خلافا لبعضهم، لنا ثلاثة أوجه:

- ‌(سؤال)قال العلماء: ذمه لكونه جمع بينهما في الضمير، لأن الجمع يوهم (التسوية)

- ‌(قاعدة)الترتيب له سببان: أداة لفظية كـ (الفاء)، و (ثم)، وطبيعة زمانية

- ‌(فائدة)من أحسن ما استدل به على أن (الواو) لا تقتضي الترتيب قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت، ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر) [

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: نقل عن جماعة أنها للترتيب مطلقا، وعن الفرء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع

- ‌((سؤال))التعاليق اللغوية أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم

- ‌(تنبيه)زاد سراج الدين فقال: لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يجب دخول (الفاء) علي المذكور عقيب الشرط لنجعله جزاء

- ‌(فائدة)في (البرهان) قال: (الفاء) للترتيب، والتعقيب، والتسبيب

- ‌(فائدة)قال العلماء: (في) تكون للسببية، والظرفية

- ‌(تنبيه)وأما إذا قلنا: هو مصلوب في الجذع، فهذا ليس من هذا الباب، بل (في) هاهنا مجاز في الإفراد

- ‌(فائدة)في دخول الغاية في المغيا أربعة مذاهب:

- ‌(تنبيه)اتفق النحاة - فيما علمت - على أن المعطوف بـ (حتى) لا بد وأن يكون داخلا في حكم ما قبلها

- ‌(فائدة)لفظ (إلى) مشترك بين حرف الجر المتقدم، وبين واحد الآلاء، التي هي النعم

- ‌(فائدة)(الباء) لها سبعة معان:

- ‌(فوائد عشر)

- ‌الباب التاسع

- ‌ فائدة زائدة

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: فرض الخلاف في الكلام القديم محال

- ‌(فائدة)(الحشوية) من المشايخ من يرى: أنه لفظ يقال بسكون الشين

- ‌(تنبيه)مراده بقوله: (خلافا للحشوية):

- ‌(فائدة)المرجئة من الإرجاء وهو التأخير

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: هذه المسألة مثل التي قبلها، ما يتعلق بالشرائع والأحكام ظاهرة المراد

- ‌(فائدة)

- ‌(فائدة)

- ‌(سؤال)إنما يتقدم الشرعي على العرفي إذا كان المتكلم هو صاحب الشرع

- ‌(سؤال)إنما يحمل لفظ صاحب الشرع على العرفي دون اللغوي إذا علم مقارنة تلك العادة لزمن الخطاب

- ‌(سؤال)كلامه هاهنا يناقض قوله في مسألة الحقيقة المرجوحة والمجاز

- ‌(سؤال)قال النقشواني: لفظ الملامسة يتناول الجماع وغيره

- ‌الكلام في الأوامر والنواهي

- ‌ المقدمة ففيها مسائل:

- ‌(فائدة)

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي: والمختار أنه مجاز في الكل

- ‌(تنبيه)

- ‌ حد الأمر

- ‌(تنبيه)ماذكره من حد الطاعة بموافقة الآمر يقتضي أن الطاعة لا تدخل في ترك النواهي

- ‌(تنبيه)الفرق بين الاستعلاء والعلو

- ‌(تنبيه)هذا الحدود إنما تجئ على القول بأن حقيقة الكلام، وأنواعه ليست بديهية

- ‌(تنبيه)قال التبريزي: من لا يقول بكلام النفس يتعين عنده جمل الأمر على العبارات

- ‌(سؤال)قال سراج الدين: (في النائم، والساهي، ونحوهما: لا نسلم أنه صدق أنه قال لغيره حتى يوجد الحد، فلا يرد النقض)

- ‌فرع:الأمر اسم لمطلق اللفظ الدال على مطلق الطلب، أو اللفظ العربي الدال على مطلق الطلب

- ‌(فائدة)قد تقدم في أول الكتاب أن حكم الذهن بأمر على أمر قد يكون مع الجزم وبدونه

- ‌(فائدة)قال بعض العلماء: قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا الله) (آل عمران:18] يحتمل الإخبار

- ‌(فائدة)استدل جماعة من العلماء على أن الكلام موضوع لما في النفس بقوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول) [

- ‌(سؤال)

- ‌(تنبيه)إرادة المأمور بهوإرادة استعمال اللفظ في الطلبوكون إرادة المأمور به تقييدا للصيغة أمر به

- ‌تنبيه

- ‌ سؤال:

- ‌(تنبيه)تقدم في حد الأمر الفرق بين الاستعلاء والعلو وحقيقتهما

- ‌القسم الأولفي المباحث اللفظية، وفيه مسائل:

- ‌(سؤال)

- ‌سؤالالمجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب

- ‌(سؤال)

- ‌(فائدة)

- ‌(سؤال)

- ‌(بيان)

- ‌(تنبيه)النكرات قسمان:

- ‌(سؤال)قال التبريزي: التردد بين الضرر وعدمه على نحو من التقارب، أو التنازع في كونه كذلك يحسن التحذير منه عرفا، والأمر متردد بين الوجوب وعدمه، والنزاع فيه، فيحسن التحذير منه

- ‌سؤال

- ‌(تنبيه)

- ‌(فائدة)الأولى: الظاهرية قالوا بوجوب التمسك، لقوله عليه السلام: (مالكم تدخلون عليّ قلحا استاكوا)

- ‌(سؤال)هذا إثبات للقواعد القطعية بالقياس الذي لا يفيد إلا الظن

- ‌(سؤال)الوجوب هو الطلب الجازم، وهو الذي وضعت له الصيغة والإيجاب أضداد

- ‌(تنبيه)قال التبريزي: أحسن ما تمسك به على المسألة عمل الصحابة رضوان الله عليهم

- ‌(تنبيه)القائلون بأن الأمر بعد الحظر للإباحة: اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب:

- ‌(قاعدة)الفعل المكلف به ممكن

- ‌(تنبيه)ينبغي أن يعلم أن مقتضى ما قاله القائل بالتكرار ما وجد في الاستعمال لا لغة ولا عرفا ولا شرعا

- ‌(تنبيه)الفرق بين قولنا: (افعل) وبين قولنا: (كن فاعلا)

- ‌(تنبيه)

- ‌(سؤال)قال النقشواني: المجاز لا زم له قطعا أو الاشتراك

- ‌(تنبيه)

- ‌(تنبيه)قال إمام الحرمين في (البرهان): أجمعت الأمة على أنه لا يجب الاعتناء بالعزم في كل وقت لا يتفق الامتثال فيه

- ‌(سؤال)قال النقشواني: الأمر للفور

- ‌‌‌(تنبيه)قال التبريزي: التمسك على الفور بالاحتياط ضعيف

- ‌(تنبيه)

- ‌(فائدة)قال ابن التلمساني في (شرح المعالم): قال بمفهوم الشرط الشافي ونفاه مالك وأبو حنيفة

- ‌(تنبيه)وقع في مذهبنا، ومذهب الشافعي أغلاط ينبغي أن نعلمها حتى يتحرز من أمثالها

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: مفهوم الموافقة يسمى فحوى الخطاب، ولحن الخطاب

- ‌(سؤال)

- ‌(قاعدة)الله تعالى شرع الأحكام وشرع لها أسبابا

- ‌(قاعدة)التكليف لا يكون إلا بسبب مقدور

- ‌(تنبيه)قال التبريزي: الاستدلال من المصنف ضعيف؛ لأن التعلق بالإشراق اللفظي في مقام اختلاف الوضع مكابرة في الحقائق

- ‌‌‌(تنبيه)

- ‌(تنبيه)

- ‌(قاعدة)لفظ الشرط أصل التعليق

- ‌ الأمر المقيد بعدد

- ‌(سؤال)قال النقشواني: قوله: (إذا كان الناقص علة ثبت الحكم في الزائد)

- ‌‌‌(سؤال)

- ‌(سؤال)

- ‌ الأمر المقيد بالاسم

- ‌‌‌(تنبيه)

- ‌(تنبيه)

- ‌ الأمر المقيد بالصفة

- ‌(قاعدة)تعاطي المحرمات مع قيام موجب الطبع وداعيته أخف في نظر الشرع من تعاطيها مع عدم الداعية

- ‌(سؤال)

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: إن قول المصنف في أول أدلته: (لو دل الدليل إما بلفظه أو معناه) الحصر غير ثابت

- ‌(تنبيه)قال التبريزي: (المفهوم يتفاضل في القوة فأضعفها مفهوم اللقب، ثم مفهوم اسم الجنس، واسم المعنى

- ‌(تنبيه)عبر تاج الدين في (فهرسة المسألة)، فقال: تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات لا ينفي تعلقه بالأخرى

- ‌(تنبيه)

- ‌(تنبيه)

- ‌القسم الثاني في المسائل المعنوية

- ‌(قاعدة)متعلق التكليف أبدا أعم من متعلق الحكم في حق المطيع

- ‌(قاعدة)مفهوم أحد الأشياء قد يشترك بينها لصدقه على كل واحد منها

- ‌(قاعدة)

- ‌(قاعدة)التخيير يطلق على ثلاث معان:

- ‌(قاعدة)الكليات ثلاثة:

- ‌(سؤال)

- ‌(فائدة)متعلق الوجوب في الواجب المخير

- ‌(فائدة)

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي فقال: ادعت المعتزلة استحالة الوجوب والتخيير، فنقض عليهم بخصال الكفارة

- ‌(تنبيه)

- ‌(قاعدة)يؤول مذهب الفقهاء إلى أن كل واجب موسع يلزمه واجب مخير

- ‌(قاعدة)الواجب الموسع تارة يكون كل واحد من أجزاء زمانه سببا كأوقات الصلوات وأيام النحر

- ‌(تنبيه)

- ‌ الواجب على سبيل الكفاية

- ‌(قاعدة)لا يجوز خطاب المجهول، ويجوز الخطاب بالمجهول

- ‌‌‌(سؤال)

- ‌(سؤال)

- ‌(سؤال)كيف سوى الشرع بين الفاعل وغير الفاعل في فروض الكفاية

- ‌(فائدة)

- ‌(فائدة)قال سيف الدين: من الناس من منع صدق الوجوب على فرض الكفاية؛ لأنه يسقط بفعل الغير، وهو باطل

- ‌(قاعدة)الذي يوصف بأنه فرض كفاية له شرطان:

- ‌(تنبيه)

- ‌‌‌(تنبيه)

- ‌(تنبيه)

- ‌‌‌‌‌(سؤال)

- ‌‌‌(سؤال)

- ‌(سؤال)

- ‌(تنبيه)لا نزاع في أن المقاصد تتوقف على الوسائل، إنما النزاع في أنه إذا ترك

- ‌(سؤال)

- ‌(تنبيه)زاد التبريزي في استدلاله فقال: (إيجاب الشيء طلب [لتحصيله، وتحصيله تعاطي سبب حصوله، فيحصل بالضرورة طلب الشيء، ويتضمن طلب] ما لا يتم هو إلا به

- ‌(سؤال)مالفرق بين هذه المسألة، والمسألة التي بعدها أن الأمر بالشيء نهي عن ضده

الفصل: ‌سؤالالمجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب

‌سؤال

المجاز لا بد له من علاقة، ولا علاقة في هذه المعاني، بل بعضها في غاية البعد عن الحقيقة نحو التهديد، فإنه بعيد من الإيجاب

.

جوابه: أنها من مجازات التشبيه

وتقريره: أن الندب والتأديب والإرشاد فيها معنى الرجحان، وهو مشابه للوجوب، لوجوده في الوجوب والإباحة جواز الإقدام، وهو صفة الوجوب، لأن كل ما وجب جاز فعله.

(والتهديد، كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم)[فصلت:40]

معناه: أنتم بصفة من بعد عن الخير والانضباط، فشأنكم أن تؤمروا بالمفاسد لقبح ما أنتم عليه، كقوله عليه السلام:(من شرب الخمر فليشقص الخنازير) أي من وصل هذه الغاية فينبغي أن يكون جزارا للخنازير.

وهذا الكلام من الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية التهديد الدال على تمكن الغضب، وهو أمر لهم على تقديره كونهم موضوفين بهذه الصفة، والأمر المقدر مشابه المحقق في كونه أمرا، والإلزام بضد هذا، أي: أنتم بصفة من يؤمر بأكل السيبات، ويلزم دار الكرامات، فهو يشبه الإيجاب، والتعجيز والسخرية فيه طلب إظهار العجز والامتهان بهم، ففيه طلب حصل به التشبيه للوجوب، لأن الأمر طلب لمصلحة الفعل، وهذه أوامر لمصالح أخرى غير مصلحة الفعل، فاشتركا في مفهوم الطلب، وإن اختلفت مقاصده، والرهانة لأجل الإهانة، والتسوية طلب لمقصود.

ص: 1187

التسوية، والدعاء أمر محقق، لأنه طلب جازم لمصلحة الفعل، وإنما يمتنع إطلاقه أدبا مع الله تعالى، والنهي طلب في طرق العدم، فهو يشابه الأمر في مفهوم الطلب الجازم والاحتقار طلب لإظهار الحقارة، والتعجب والخبر فيهما مشابهة صورة التركيب اللفظي كما قلنا في المجاز في التركيب وإن العلاقة فيه مشابهة صورة اللفظ

والفرق بينه وبين مجاز الاستعارة: أن المستعار اعتبر فيه اللفظ والمعنى أيضا بالتخيل في محل المجاز، وفي التركيب اعتبر اللفظ فقط.

قوله: (يدعى الفرق بين (افعل) و (لا تفعل) عند من يعتقد أن اللفظ موضوع للكل حقيقة أم لا؟)

الأول: ممنوع، والثاني، مسلم، ولا يحصل المقصود)

قلنا: نحن ندعى ذلك عند أهل العرف، والعرف حجة على الفريقين، لأن الأصل عدم النقل والتغيير.

ص: 1188

المسألة الثانية

قال الرازي: الحق عندنا أن لفظة (افعل) حقيقة في الترجيح المانع من النقيض، وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين، وقال أبو هاشم: إنه يفيد الندب ومنهم من قال بالوقف، وهو فرق ثلاث:

الفرقة الأولى: الذين يقولون: إنه حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو ترجيح الفعل على الترك، ثم الوجوب يمتاز عن الندب، بامتناع الترك، والندب يمتاز عن الوجوب، بجواز الترك، وليس في الصيغة إشعار بهذين القيدين.

ويليق بمذهب هؤلاء أن يقولوا: إنه يجب حمله على الندب، لأن اللفظ يفيد رجحان الفعل على الترك، وليس فيه ما يدل على المنع من الترك، وقد كان جواز الترك معلوما بحكم الاستصحاب، وإذا كان كذلك، كان جواز الترك بحكم الاستصحاب، ورجحان الفعل بدلالة اللفظ، ولا معنى للندب إلا ذلك.

الفرقة الثانية: الذين قالوا: إن صيغة (افعل) موضوعة للوجوب والندب على سبيل الاشتراك اللفظي، وهو قول المرتضي من الشيعة.

الفرقة الثالثة: الذين قالوا: إنها حقيقة: إما في الوجوب فقط، أو في الندب فقط أو فيهما معا بالاشتراك، لكنا لا ندري، ماهو الحق من هذه الأقسام الثلاثة، فلا جرم توقفنا في الكل، وهو قول الغزالي منّا

ص: 1189

لنا وجوه:

الدليل الأول: التمسك بقوله تعالى لإبليس: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)[الأعراف:12] وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق، بل الذم، فإنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الزمر به، هذا هو المفهوم من قول السيد لعبده:(ما منعك من دخول الدار، إذ أمرتك) إذا لم يكن مستفهما، ولو لم يكن الأمر دالا على الوجوب، لما ذمه الله تعالى على الترك، ولكان لإبليس أن يقول: إنك ما ألزمتني السجود.

فإن قلت: لعل الأمر في تلك اللغة كان يفيد الوجوب، فلم قلتم: إنه في هذه اللغة للوجوب؟!

قلنا: الظاهر يقتضي ترتيب الذم على مخالفة الأمر فتخصيصه بأمر خاص خلاف الظاهر.

الدليل الثاني: التمسك بقوله تعالى (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)[المرسلات:48] ذمهم على أنهم تركوا فعل ما قيل لهم: افعلوه ولو كان الأمر يفيد الندب، لما حسن هذا الكلام، كما إذا قيل لهم:] الأولى أن تفعلوه، ويجوز لكم تركه) فإنه ليس لنا أن نذمهم على تركه.

فإن قلت: إنما ذمهم لا لأنهم تركوا المأمور به، بل لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر، والدليل عليه: قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين)[المرسلات:47]

وأيضا: فصيغة (افعل) قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها، فلعله تعالى إنما ذمهم لأنه كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب.

ص: 1190

والجواب عن الأول: أن المكذبين في قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين)[المرسلات:47] إما أن يكونوا هو الذين تركوا الركوع، لما قيل لهم:(اركعوا) أو غيرهم:

فإن كان الأول: جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع، والويل، بسبب التكذيب، فإن عندنا الكافر كما يستحق العقاب، بترك الإيمان، يستحق الذم والعقاب أيضا، بترك العبادات.

وإن كان الثاني: لم يكن إثبات الويل لإنسان بسبب التكذيب منافيا ثبوت الذم لإنسان آخر، بسبب ترك المأمور به

وعن الثاني: أنه تعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع، لما قيل لهم:(اركعوا) فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرنة.

الدليل الثالث: لو لم يكن الأمر ملزما للفعل، لما كان إلزام الأمر سببا للزوم المأمور به، لكنه سبب للزوم المزمور به، فوجب أن يكون الزمر ملزما للغعل.

بيان الشرطية: أن بتقدير ألا يكون الأمر ملزما للفعل، كان إلزام الأمر إلزاما لشيء، وذلك الشيء لا يوجب فعل المأمور به، فوجب ألا يكون هذا القدر سببا للزوم المأمور به

وبيان أن إلزام الأمر سبب للزوم المأمور به قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم)[الأحزاب: 36].

والقضاء هو الإلزام فقوله تعالي: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) معناه إذا ألزم الله ورسوله أمرا فإنه لا خيرة للمؤمنين في المأمور به

ص: 1191

ويجب هاهنا حمل لفظ الأمر على المأمور به، إذ لو أجريناه على ظاهره لصار المعنى: زنه لا خيرة للمؤمنين في صفة الله تعالى، وذلك كلام عير مفيد

وإذا تعذر حمله على نفس الأمر، وجب حمله على المأمور به، فيصير التقدير أن الله تعالى، إذا ألزم المكلف أمرا، فإنه لا خيرة له في المأموربه وإذا انتفت الخيرة بقي: رما الحظر، وإما الوجوب والحظر منتف بالإجماع، فتعين الوجوب.

فإن قيل القضاء: هو الإلزام، والأمر: قد يرد بمعنى شيء فقوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا)[الزحزاب:36] أي: إذا ألزم الله ورسوله شيئا.

ونحن نعترف بأن الله تعالى، إذا ألزمنا شيئا، فإنه يكون واجب علينا، ولكن لم قلت إنه بمجرد أن يأمرنا بالشيء فقد ألزمنا؟ فإن ذلك عين المتنازع فيه

والجواب: قد بينا أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص، وليس حقيقة في الشيء دفعا للاشتراك ولا ضرورة هاهنا في صرفه عن ظاهره.

إذا ثبت هذا، فقوله: إذا قى الله ورسوله أمرا) معناه: إذا ألزم الله أمرا وإلزام الأمر هو توجيهه على المكلف شاء أم أبى.

وإلزام الأمر غير إلزام المأمور به، فرن القاضي، إذا قضى بإباحة شيء، فقد ثبت إلزام الحكم، ولو لم يثبت المحكوم به، فكذا هاهنا: إلزام الأمر عبارة عن: توجيهه على المكلف، والقطع بوقوع ذلك الأمر.

ثم الأمر إن لم يقتض الوجوب، لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به وإن كان مقتضيا للوجوب، فهو الذي قلناه.

الدليل الرابع: تارك ما أمر الله أو رسوله به، مخالف لذلك الأمر ومخالف.

ص: 1192

ذلك الأمر مستحق للعقاب، فتارك ما أمر الله ورسوله به مستحق للعقاب ولا معنى لقولنا: الأمر للوجوب إلا ذلك.

وإنما قلنا: إن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالفة لذلك الأمر، لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الرخلال بمقتضاه، فثبت أن تارك ما أمر الله أو رسوله به مخالف لذلك الأمر.

وإنما قلنا: إن مخالف ذلك الأمر يستحق العقاب، لقوله تعالى:(فليحذر الذين يخالفون عن أمره> أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليك)[النور:63].

أمر مخالف هذا الزمر بالحذر عن العذاب، والأمر بالحذر عن العذاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب، فدل على أن مخالف أمر الله أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب به.

فإن قيل: لانسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر.

قوله: (موافقة الأمر: عبارة عن الإتيان بمقتضاه):

قلنا: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه، ومالدليل عليه؟

ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين آخرين:

أحدهما أن موافقة الأمر عبارة هن الإتيان بما يقتضيه الأمر، على الوجه الذي يقتضيه الأمر، فإن الأمر، لو اقتضاه على سبيل الندب، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب، كان هذا مخالفة للأمر

ص: 1193

وثانيهما: أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول، مخالفته عبارة عن إنكاره كونه حقا واجب القبول.

سلمنا أن ما ذكرتم يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكن هاهنا ما يدل على أنه ليس كذلك.

فإنه لو كان ترك المأمور به عبارة عن مخالفة الأمر لكن ترك المندوب مخالفة لأمر الله تعالى، وذلك باطل، لأن وصف الإنسان بأنه مخالف لأمر الله تعالى اسم ذم، فلا يجوز إطلاقه على تارك المندوب.

سلمنا أن تارك المندوب مخالف للأمر، فلم قلت: إن مخالف الأمر مستحق للعقاب؟

أما قوله تعالى: (فليحذر الدين يخالفون عن أمره)[النور:63] الآية.

قلنا: لا نسلّم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر، بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر، فلم لا يجوز أن تكون كذلك؟

سلّمنا ذلك، ولكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر.

فلم قلت: إن مخالف الأمر يلزمه الحذر؟

فإن قلت: لفظة (عن) صلة زائدة، قلت: الأصل في الكلام الاعتبار لا سيما في كلام الله سلّمنا دلالة الآية على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر عن العذاب، فلم قلت: يجب عليه الحذر عن العذاب؟

ص: 1194

أقصى ما في الباب: أنه ورد الزمر به، لكن لم قلت: إن الأمر للوجوب؟ فرن ذلك أول المسألة!!

فإن قلت: هب أنه لا يدل على وجوب الحذر، لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب!!

قلت: لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام ما يقتضي نزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب

وعندنا مجرد الاحتنال قائم، لأن هذه المسألة اجتهادية، لا قطعية.

سملنا دلالة الآية على قيام ما يقتضي نزول العذاب، لكن لا في كل أمر، بل في أمر واحد، لأن قوله:(عن أمره) لا يفيد إلا أمرا واحدا.

وعندنا: أن أمرا واحدا يفيد الوجوب، فلم قلت: إن كل أمر كذلك؟ َ

سلّمنا أن كل أمر كذلك، لكن الضمير في قوله:(عن أمره) يحتمل عوده إلى الله تعالى، وعوده إلى رسوله، فالآية لا تدل على أن الأمر للوجوب إلا في حق أحدهما، فلم قلت: إن حق الاخر كذلك؟

والجواب: قوله: (لم قلت: إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه؟))

قلنا: الدليل عليه أن العبد، إذا امتثل أمر السيد، حسن أن يقال:) هذا العبد موافق للسيد، ويجري على وفق أمره) ولو لم يمتثل أمره، يقال:(إنه ما وافقه، بل خالفه) وحسن هذا الإطلاق من أهل اللغة معلوم بالضرورة. فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه.

قوله: (الموافقة: عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر، على الوجه الذي يقتضيه الأمر)

ص: 1195

قلنا لما سلّمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر،

فنقول: لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل، لأن قوله (افعل) لا يدل إلا على اقتضاء الفعل، فإذا لم يوجد الفعل، لم يوجد مقتضى الأمر، وإذا لم يوجد مقتضى الأمر لم توجد الموافقة، وإذا لم توجد موافقة الأمر، حصلت مخالفته، لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة.

قوله: (الموافقة) عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول)

قلنا? هذا لا يمون موافقة للأمر، بل موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق، فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه، فإذا دل الدليل علي حقيقة الأمر، كان الاعتراف بحقيته مستلزما تقرير مقتضى ذلك الدليل.

أما الأمر: فلما اقتضى دخول ذلك الفعل في الوجود، كانت موافقته عبارة عما تقرردخوله في الوجود، وإدخاله في الوجود يقرر دخوله الوجود، فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه.

قوله: (لو كانت مخالفة الأمر عبارة عن ترك المأمور به، لكنا إذا تركنا المندوب، فقد خالفنا الأمر):

قلنا: هذا الإلزام إنما يصح، لو كان المندوب مأمورا به، وإنما يكون المندوب مأمور به، لو ثبت أن الأمر ليس للوجوب، وهذا عين المتنازع فيه،

قوله: (لم يجوز أن يكون قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون أمره)[آلنور:63] أمرا بالحذر عن المخالف، لاأمرًا للمخالف بالحذر؟

قلنا: الدليل عليه وجوه.

ص: 1196

أحدها: أن النحويين اتفقوا على أن تعلق الفعل بفاعله أقوى من تعلقه بمفعوله، فلو جعلناه أمرًا للمخالف بالحذر، لكنا قد أسندنا الفعل إلى الفاعل، ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف لكنا قد أسندنا الفعل إلى المفعول، فيكون الأول أولى.

وثانيها: لو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف، لم يتعين المأمور به.

فإن قلت: المأمور به، ما تقدم، وهو قوله:(الذين يتسللون منكم لواذاً). [النور:63]

قلت: المتسللون منهم لواذا هم الذين خالفوا، فلو أمروا بالحذر عن المخالف، لكانوا قد أمروا بالحذر عن أنفسهم، وهو لا يجوز.

وثالثها: أنّا لو جعلناه أمرًا بالحذر عن المخالف، لصار التقدير:(فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره) وحينئذ يبقى قوله: (أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)[النور:63] ضائعًا، لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين.

قوله: الآية دالة على وجوب الحذر عمن خالف عن الأمر، لا عمن خالف الأمر:

قلنا: قال النحاة: كلمة (عن) للبعد والمجاورة، يقال: جلس عن يمينه، أي: متراخيا عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه، فلما كانت مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمر الله تعالى، لا جرم ذكره بلفظ (عن).

قوله: (لم قلت: إن قوله تعالى: (فليحذر): يدل على وجوب الحذر عن العذاب؟).

ص: 1197

قلنا: لا ندعي وجوب الحذر عن العقاب، ولكنه لا أقلّ من زن يدل على جواز الحذر، وجواز الحذر عن الشيء مشروط بوجود ما يقتضي وقوعه، لأنه لو لم يوجد المقتضي لوقوعه، لكان الحذر عنه حذرا عما لم يوجد، ولم يوجد المقتضي لوقوعه، وذلك سفه وعب، فلا يجوز ورود الأمر به.

قوله: دلت الآية على زن مخالف أمر الله يستحق العقاب، أو على أن مخالف كل زمر يستحق العقاب؟):

قلنا: دت على الثاني، لوجوه:

الأول أنه يجوز استثناء كل واحد من أنواع المخالفات، نحو أن يقول: فليحذر: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني) والاستثناء يخرج من الكلام ما لو لاه لدخل فيه، وذلك يفيد العموم.

الثاني: أنه تعالى رتب استحقاق العقاب على مخالفة الأمر، وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية

الثالث: أنه لما ثبت أن مخالف الأمر في بعض الصور يستحق العقاب، فنقول: إنما استحق العقاب لأن مخالفة الأمر تقتضي عدم المبالاة بالأمر، وذلك بناسبه الزجر، وهذا المعنى قائم في كل المخالفات، فوجب ترتب العقاب على الكل.

قوله: (هب أن أمر الله، أوامر رسوله للوجب، فلم قلتم: إن أمر الآخر كذلك؟):

قلنا: لأنه لا قائل بالفرق.

ص: 1198

الدليل الخامس: تارك المأمور به عاص، وكل عاص يستحق العقاب، فتارك المأمور به يستحق العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك:

بيان الأول: قوله تعالى: (ولا أعصى لك أمرًا)[الكهف:69]

(أفعصيت أمري)[طه:93](ولا يعصون الله ما أمرهم)[التحريم:9]

بيان الثاني: قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده، يدخله نارا خالدا فيها)[النساء]

فإن قيل: لا نسلم أن تارك المأمور به عاص، وبيانه من وجوه:

الأول: قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)[التحريم:9] فلو كان العصيان عبارة عن ترك المأموربه، لكان معنى ق، له:(لا يعصون الله ما أمرهم) زنهم يفعلون ما يؤمنون به، فكان قوله:(ويفعلون ما يؤمرون) تكرارا)

الثاني: أجمع المسلمون على أن الأمر قد يكون أمر إيجاب، وقد يكون أمر استحباب، وتارك المندوب غير عاص، وإلا لاستحق النار، لما ذكرتموه فعلمنا أن المعصية ليست عبارة عن ترك المأمور به.

سلمنا أن المعصية عبارة عن ترك المأموربه لكن إذا كان الأمر أمر إيجاب أو مطلقا؟

الأول: مسلم والثاني ممنوع

بيانه: أن قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم)[التحريم:9] حكاية حال، فيكفي في تحقيقها تنزيلها على صورة واحدة، فلعل ذلك الأمر كان أمر إيجاب، فلا جرم كان تركه معصية

ص: 1199

سلمنا أن تارك المأمور به عاص مطلقا، فلم قلت: إن العاصي يستحق العقاب، والآية المذكورة مختصة بالكفار، لقرينة الخلود؟

والجواب: قد بينا أن تارك المأمور به عاص.

قوله: (لو كان كذلك) لكان قوله: (ويفعلون ما يؤمرون) تكرارا:

قلنا: لا نسلم، بل معنى الآية والله أعلم:(لا يعصون الله ما أمرهم) به في الماضي، (ويفعلون ما يؤمرون) به في المستقبل.

قوله: (الأمر قد يكون أمر استحباب):

قلنا: لا نسلم كون المستحب مأمورا به حقيقة بل مجازا، لأن الاستحباب لازم للوجوب، وإطلاق اسم السبب على المسبب جا ئز.

فإن قلت:: (ليس الحكم بكون هذه الصفة للوجوب، محافظة على عموم قوله: (ومن يعص الله ورسوله)[النساء:14] أولى من القول بأن المستحب مأمور به، محافظة على صيغ الأوامر الواردة في المندوبات (:

قلت: بل ما ذكرناه أولى للاحتياط، ولأنا لو حملناه على الوجوب، لكان أصل الترجيح داخلا فيه، فيكون لازما للمسمى، فيجوز جعله مجازا في أصل الترجيح.

أما لو جعلنا لأصل الترجيح، لم يكن الوجوب لا زماً، فلا يمكن جعله مجازا عن الوجوب، فكان الأول أولى.

قوله: (هذه الآية حكاية حال):

ص: 1200

قلنا: الله تعالى رتب اسم المعصية على مخالفة الأمر، فيكون المقتضي لاستحقاق هذا الاسم هذا المعنى فيعم الاسم لعموم ما يقتضي استحقاقه

قوله: (الآية مختصة بالكفار بقرينة الخلود)

قلنا: الخلود هو المكث الطويل لا الدائم، والله أعلم.

واعلم أن هذا الدليل قد يقرر علي وجه آخر، فيقال:

إنما قلنا: إن تارك المأمور به عاص، لأن بناء لفظة العصيان على الامتناع، ولذلك سميت العصا عصا، لأنه يمتنع بها، وتسمى الجماعة عصا، يقال: شققت عصا المسلمين، أي: جماعتهم، لأنها يمتنع بكثرتها، وهذا كلام مستعص على الحفظ، أي ممتنع وهذا الحطب مستعص على الكسر.

وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أنا نعصي الله، لما عصانا) أي: لم يمتنع عن إجابتنا.

فثبت أن العصيان عبارة عن الامتناع عما يقتضيه الشيء، وإذا كان لفظ (افعل) مقتضيا للفعل، كان عدم الإتيان به والامتناع منه عصيانا، لا محالة.

وإنما قلنا: إن تسمية تارك المأمور به بالعاصي، تدل على أن الأمر للوجوب، لوجهين:

أحدهما: أن الإنسان إنما يكون عاصيا للأمر وللآمر، إذا أقدم على ما يحظره الآمر، ويمنع منه، ألا ترى أن الله تعالى: لو أوجب علينا فعلا، فلم نفعله.

ص: 1201

لكنّا عصاة، ولو ندبناه إليه، فقال:(الأولى أن تفعلوه، ولكم ألا تفعلوه) فلم نفعله لم نكن عصاة.

ولهذا يوصف تارك الواجب بأنه عاص لله تعالى، ولا يوصف تارك النوافل بذلك.

الثاني: أن العاصي للقول مقدم على مخالفته، وترك موافقته، فليس تخلو مخالفته: إما تكون بالإقدام على ما يمنع الأمر فقط، أو قد تثبت بالإقدام علي ما لا يتعرض له الزمر بمنع ولا إيجاب.

وهذا الثاني باطل، لأنا لو كنّآ عصاة للأمر بفعل ما لم نمنع منه، لوجب إذا أمرنا الله بالصلاة غدا، فتصدقنا اليوم أن نكون عصاة لذلك الأمر، بتصدقنا اليوم فبان أن مخالفة الأمر، إنما تثبت بالإقدام على ما يمنع منه، فإذا كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر، والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه، فالمقدم على مخالفة مقتضاه مقدم على ما يحظره الآمر، ويمنع منه فثبت أن ترك المأمور به يحظره الآمر ويمنع منه، وهذا هو معنى الوجوب.

الدليل: أنه عليه الصلاة والسلام دعا أبا سعيد الخدري، فلم يجبه، لأنه كان في الصلاة، فقال: ما منعك أن تستجيب، وقد سمعت قوله تعالى:(يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول)[الأنفال:24] فذمه على ترك الاستجابة عند مجرد ورود الأمر، فلولا أن مجرد الأمر للوجوب، وإلا لما جاز ذلك.

فإن قيل: هذا خبر واحد، فلا يجوز التمسك به في مسألة علمية:

ص: 1202

وأيضا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ماذمه، ولكنه أراد أن يبين له أن دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم مخالف لدعاء غيره.

والجواب عن الأول: أنّا بينّا أن المباحث اللفظية لا يرجى فيها اليقين، وهذه المسألة، وإن لم تكن في نفسها عملية، لكنّها وسيلة إلى العمل، فيجوز التمسك فيها بالظن، لأنه لا فرق في العقل بين أن يحصل ظن الحكم، وبين أن يحصل العلم بوجود ما يقتضي ظن الحكم في جواز التمسك بهما في العمليات.

وعن الثاني: أن بتقدير ألا يدل الأمر على الوجوب، يكون المانع من الإجابة قائما، وهو الصلاة، فإنها تحرم الكلام، وإذا كان المانع الظاهر قائما، لم يجز من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسأل عن المانع، بلى، إذا كان قوله تعالى:(استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم)[الأنفال:24] يفيد الوجوب، فحينئذ يصح السؤال.

وأيضا، فظاهر الكلام يقتضي اللوم، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر، وذلك لا يكون إلا والأمر للوجوب.

الدليل السابع: هو قوله عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عن كل صلاة).

وكلمة (لولا) تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، فها هنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، فهذا الخبر يدل على

أنه لم يوجد الأمر بالسواك عن كل صلاة، والإجماع قائم على أن ذلك مندوب، فلو كان المندوب مأمورا به، لكان الأمر قائما عند كل صلاة، فلما لم يوجد الأمر، علمنا أن المندوب غير مأمور به.

ص: 1203

فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: هذا الوجه أمارة تدل على أن أراد: لأمرتهم به على وجه يقتضي الوجوب، وليس يمتنع أن يقتضي الأمر الوجوب بدلالة أخرى.

قلت: كلمة (لا) دخلت على الأمر، فوجب ألا يكون الأمر حاصلًا.

الدليل: خبر بريرة فإنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتأمرني بذلك؟

فقال: (لا) إنما أنا شفيع) نفى الأمر مع ثبوت الشفاعة الدالة على الندب، ونفى الأمر عند ثبوت الندبية يدل على أن المندوب غير مأمور به، وإذا كان كذلك، وجب ألا يتناول الأمر الندب.

الدليل: أن الصحابة تمسكوا بالأمر على الوجوب، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار عليه، وذلك يدل على أنهم أجمعوا علي ظاهر الأمر للوجوب.

وإنما قلنا: إنهم تمسكوا بالأمر بالأمر على الوجوب، لأنهم أوجبوا أخذ الجزية من المجوس، لما روى عبد الرحمن أنه عليه الصلاة والسلام قال:(سنوا بهم سنة أهل الكتاب)

وأجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب، بقوله عليه الصلاة والسلام:(فليغسله سبعا).

وأوجبوا إعادة الصلاة عند ذكرها، بقوله عليه الصلاة والسلام:(فليصلها إذا ذكرها).

ص: 1204

وأما أنه لم يظهر من أحد منهم إنكار عليه، وأنه متى كان كذلك، فقد الإجماع، فتمام تقريرهما مذكور في (كتاب القياس).

فإن قيل: كما اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر، فإنهم لم يعتقدوا عند غيرها، نحو قوله تعالى:(وأشهدوا إذا تبايعتم)[البقرة:282] وقوله: (فكاتبوهم، إن علمتم فيهم خيرًا)[النور:33] وقوله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)[النساء:3] وقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا)[المائدة:2].

وإذا ثبت هذا، فليس القول بأنهم لم يعتقدوا الوجود في هذه الأوامر لدليل متصل.

والجواب: أن نقول: لو لم يكن الأمر للوجوب، لامتنع أن يفيد الوجوب في صورة أصلا، ولو يفد الوجوب في شيء من الصور أصلا، لكان دليلهم على وجوب أخذ الجزية شيئا غير عبدالرحمن، ولو كان كذلك، لوجب اشتهار ذلك الدليل، وحيث لم يشتهر، علمنا أنه لم يوجد، ولما لم يوجد كان دليلهم على وجوب أخذ الجزية ظاهر الأمر.

أما لو قلنا بأن الأمر للوجوب، لم يلزم من عدم الوجوب في بعض الأوامر ألا يفيد الوجوب الذي ذكاناه أولى.

الدليل العاشر: لفظ (افعل): إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط، أو في الندب فقط، أو فيهما معا، أو لا في واحد منهما.

ص: 1205

والأقسام الثلاثة الأخيرة باطلة، فتعين الأول، وهو: أن يكون الوجوب فقط.

وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون للندب فقط، لأنه لو كان للندب فقط، لما كان الواجب مأمور به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط.

بيان الملازمة: أن المندوب هو: الراجح فعله مع جواز الترك، والواجب هو: الراجح فعله مع المنع من الترك، فالجمع بينهما محال، فلو كان الأمر للندب فقط، لم يكن الواجب مأمورا به.

فإن قلت: (لو كان الأمر للوجوب فقط، لما كان المندوب مأمورا به):

قلت: التزم هذا لأن كثيرا من الأصوليين صرحوا بأن المندوب غير مأمور به، ولا يمكنك أن تلتزم بأن الواجب غير مأمور به، لأن أحدا من الأمة لم يه.

فثبت أن الأمر لا يجوز أن يكون حقيقة في الندب فقط.

وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن حقيقة في الوجوب والندب معا، لأنه لو كان حقيقة فيهما، لكان: إما أن يكون كونه حقيقة فيهما، بحسب معنى مشترك بينهما، كما يقال: إنه حقيقة في ترجيح في ترجيح جانب الفعل على الترك فقط، من غير إشعار بجوار الترك، وبالمنع منه أو يكون حقيقة فيهما لا بحسب معنى مشترك.

الأول باطل، لأنا لو جعلناه حقيقة في أصل الترجيح، لم يمكن جعله مجازا في الوجوب لأن الوجوب غير ملازم لأصل الترجيح، أعني: القدر المشترك بين الواجب والمندوب، ولو جعلناه حقيقة في الوجوب، كان الترجيح جزاءا من مسماه ولازما له، فيمكن جعله مجازا عن أصل الترجيح، وإذا كان كذلك.

ص: 1206

كان جعله حقيقة في الوجوب، ليكون مجازا في أصل الترجيح أولى من جعله حقيقة في أصل الترجيح، مع أنه لا يكون حقيقة في الوجوب، ولا مجاز فيه.

والثاني: وهو أن يجعل حقيقة في الوجوب والندب، لا بحسب معنى مشترك بينهما، فهذا يقتضي كون اللفظ مشتركا، وقد عرفت أن ذلك خلاف الأصل.

وإنما قلنا: إنها لا يجوز أن يقال: إنه لا يتناول الواجب ولا المنوب أصلا، لأن ذلك على خلاف الإجماع.

ولما ثبت فساد هذه الأقسام الثلاثة، تعين القول بالوجوب والله أعلم.

الدليل الحادي عشر: أن العبد إذا لم يفعل ما أمره به سيده، اقتصر العقلاء من أهل اللغة في تعليل حسن ذمه على أن يقولوا:(أمر سيده، بكذا فلم، فلم يفعله) فدل كون ذلك علة في حسن ذمه على أن تركه لما أمره به ترك للواجب.

فإن قيل: لا نسلم أنهم إنما ذموه لمجرد الترك بل لأجل أمور أخر:

أحدها: أنهم علموا من سيده أنه كره ترك ذلك الفعل.

وثانيها: أن الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده

وثالثها: أن السيد لا يأمر إلا بما فيه نفعه ودفع مضرته، والعبد أيضا يلزمه ايصال المنافع إلى السيد، ودفع المضار عنه.

سلّمنا أنهم ذموه، لمجرد الترك، لكن لا نسلم أن فعلهم صواب، ويدل عليه أمران:

ص: 1207

أحدهما: أنه لو كان المأمور به معصية، لما استحق العبد الذم بتركه، فدل على زن مجرد الترك ليس بعلة للذم.

وثانيهما: أن كثيرا من الأوامر ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بمعنى الندب، فلو كان ترك المأمور به علة للذم، لكان المندوب واجبا وهو محال.

فثبت بهذين الوجهين: أن مجرد ترك المأمور به، لا يمكن جعله علة للذم، وإذا ثبت ذلك، علمنا ما ذكرتموه، من أن العقلاء يعللون حسن ذمه بمجرد ترك المأمور

والجواب: أن السيد إذا عاتب عبده عدم الامتثال، فالعقلاء يقولون:(إنما عاتبه، لأنه لم يمتثل الأمر) ولولا أن علة حسن العتاب نفس مخالفة الأمر، وإلا لما صح هذا الكلام، وبهذا يظهر أن كراهية الترك، لا مدخل لها في هذا الباب.

أما قوله: (الشريعة جاءت بوجوب طاعة العبد لسيده):

قلنا: الشريعة إنما أوجبت على العبد طاعة السيد فيما أوجبه السيد على العبد، ألا ترى أن سيده لو قال له:(الأولى أن تفعل كذا، ولك ألا تفعله) لما ألزمته الشريعة فعله؟

والأمر عند المخالف يجري مجرى هذا القول، فينبغي ألا يجب به على العبد شيء

وأما قوله (السيد لا يأمر عبده بما فيه جر نفع، أو دفع مضرة، وذلك واجب.

ص: 1208

قلنا: مجرد هذا القدر لا يفيد الوجوب، إلا إذا أوجبه السيد، ولم يرخص في تركه.

ألا ترى أنه لو قال له: (الأولى أن تفعل كذا، ويجوز ألا تفعله) جاز له ألا يفعل؟ وكذلك لو علم أن غيره يقوم مقامه في دفع المضرة.

قوله: (يشترط في جواز هذا التعليل ألا يكون المأمور به معصية)

قلنا: هب أن هذا الشرط معتبر، ولكن يجب فيما وراءه إجراء اللفظ على ظاهره.

قوله: (لو كان ترك المأمور به علة للذم، لما جاز ترك المندوب)

قلنا: هذا إنما يصح، لو كان المندوب مأمورا به، وهذا أول المسألة، والله أعلم.

الدليل الثاني عشر: لفظ (افعل) دال على اقتضاء الفعل ووجوده فوجب أن يكون مانعا من نقيضه قياسا على الخبر فإنه لما دل على المعنى كان مانعا من نقيضه.

والجامع بين الصورتين أن اللفظ لما وضع لأفادة معنى فلا بد أن يكون مانعا من النقيض، تكميلا لذلك المقصود، وتقوية لحصوله.

فإن قيل: لا نزاع في أن ما دل على شيء، فإنه يمنع من نقضيه لكن لم لا يجوز أن يقال: مدلول قوله: (افعل) هو: أن الأولى إدخاله في الوجود، فلا جرم يمنع من عدم هذه الأولوية؟

والجواب: أن الفعل مشتق من المصدر، فإشعاره لا يكون إلا بالمصدر.

ص: 1209

والمصدر في قولنا: (ضرب، يضرب، اضرب) هو: الضرب لا أولوية الضرب، فإشعار لفظ الخبر والأمر بالضرب، لا بأولوية الضرب.

وإذا كان إشعار الأمر والخبر ليس بأولوية الضرب، بل بنفس الضرب، وثبت أن المشعر بالشيء مانع من نقيضه وجب أن يكون لفظ اضرب مانعا من عدم الضرب، لا من عدم أولوية الضرب، ولأجل هذا كان الخبر مانعا من النقيض، والله أعلم.

الدليل الثالث عشر: الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعا من الترك.

وإن قلنا: إنه يفيد الرجحان، لأن المأموربه إن لم تكن مصلحته راجحة، لكان إما أن يكون خاليا عن المصلحة أو تكون مصلحته مرجوحة أو تكون مساوية للمفسدة.

فإن كان خاليا عن المصلحة كان محض المفسدة. فلا يجوز ورورد الأمر به

وإن كان مصلحته مرجوحة، لذلك القدر من المصلحة يصير معارضا بمثله من المفسدة، فيبقى القدر الزائد من المفسدة خاليا عن المعارض، فيكون ورود الزمر به أمرا بالمفسدة الخالصة، فيعود إلى القسم الأول.

وإن كانت مصلحته معادلة لمفسدته، كان ذلك عبثا، وهو غير لا ئق بالحكيم.

وإذا بطلت هذه الأقسام، لم يبق إلا أن تكون مصلحة خالية من المفسدة، وإن كان فيه شيء من المفاسد، ولكن تكون مصلحته زائدة.

ص: 1210

وعلى التقديرين يثبت رجحان المصلحة.

وإذا ثبت هذا، فنقول: وجب ألا يرد الإذن بالترك، لأن الإذن في تفويت المصلحة الراجحة إذن في تفويت المصلحة الخالصة، لأنه إن وجدت مفسدة مرجوحة، فتصير هي معارضة بما يعادلها من المصلحة، فيبقى الزائد من المصلحة مصلحة خالصة.

وإن لم يوجد مفسدة أصلًا، كانت المصلحة خالصة، فيكون الإذن في تفويته إذنا في تفويت المصلحة الخالصة عن شوائب المفسدة، وذلك غير جائز عرفا، فوجب ألا يجوز شرعاً، لقوله عليه الصلاة والسلام:(ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح)، فمقتضى هذه الدلالة ألا يوجد شيء من المندوبات ألبتة ترك العمل به حق البعض، تخفيفا من الله تعالى على العباة، فوجب أن يبقى أن يبقى الباقي على حكم الأصل.

فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بوجه آخر، وهو: أنه كما أن الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح عرفا، فكذا إلزام المكلف استيفاء المصلحة، بحيث لو لم يستوفيها، لاستحق العقاب قبيح أيضًا، لأنه يصير حاصل الأمر: أن يقول الشرع: (استوف هذه المنافع لنفسك، وإلا عاقبتك) وهذا قبيح.

والجواب: ماذكرتموه قائم في كل تكاليف، فلو كان ذلك معتبرا، لما ثبت شيء من التكاليف.

الدليل الرابع عشر: لا شك أن الأمر يدل على رجحان طرف الوجود على طرف العدم، فنقول: هذا الرجحان لا ينفك عن قيدين:

أحدهما: المنع من اتلرك، والآخر: الإذن في الترك.

ص: 1211

ولا شك أن إفضاء المنع من الترك إلي الوجود أكثر من إفضائه إلى العدم، ولا شك أن إفضاء الإذن في الترك إلى العدم أكثر من إفضائه إلى الوجود.

ولا شك أن الذي يكون أكثر إفضاء إلى الشيء الراجح، راجح في الظن على ما يكون أكثر إفضاء إلى المرجوح، فإذن شرعية المنع من الترك، راجح في الظن على شرعية الإذن في الترك.

والراجح في الظن واجب العمل به، بالنص والمعقول.

أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا أقضى بالظاهر).

وأما المعقول: فمن وجهين:

الأول: أن أحد النقيضين: إذا كان راجحا على الآخر في الظن، فلم يعمل بالراجح، لوجب العمل بالمرجوح فيكون ذلك ترجيحا للمرجوح على الراجح، وإنه غير جائز بالضرورة.

الثاني: أنه وجب العمل بالفتوى، والشهادة، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وتعيين القبلة، عند حصول الظن.

وإنما وجب العمل به، ترجيحا للراجح على المرجوح وذلك المعنى حاصل هاهنا، فوجب العمل به.

الدليل الخامس عشر: الوجوب: ينبغي أن تكون له صيغة مفردة في اللغة، وتلك الصيغة هي (أفعل) فوجب أن تكون (افعل) للوجوب.

إنما قلنا: إن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة، لأن الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه، والناس قادرون على الوضع، والمانع زائل ظاهرًا،

ص: 1212

والقادر: إذا دعاه الداعي إلى الفعل حال عدم المانع، وجب حصول الفعل منه، فثبت أن الوجوب له صيغة مفردة في اللغة.

وإنما قلنا: إن تلك الصيغة هي صيغة (افعل) لأن تلك الصيغة: إما أن تكون صيغة (افعل) أو غيرها، والثاني باطل بالإجماع.

أما عند الخصم، فلأنه ينكر ذلك على الإطلاق، وأما عندنا: فلأنا لا نقول به في غير صيغة (افعل).

وإذا بطل هذا القسم، ثبت القسم الأول، وإلا لكانت اللغة خالية عن لفظة مفردات دالة علي الوجوب مع أن الدليل قد دل على وجودهما.

فإن قيل: لا نسلم أن الوجوب له صيغة في اللغة.

قوله: (الداعي قائم):

قلنا: لا نسلم أن الداعي قائم.

قوله: (الوجوب معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه):

قلنا: لا نسلم.

سلمناه لكن لم قلت: إنه لا بد من تعريفه باللفظ، ولم لا تكفي فيه قرينة الحال؟

سلمنا شدة الحاجة إلى لفظ يدل عليه، لكنه قد وجد، وهو قوله: أوجبت، وألزمت، وحتمت.

فإن ادعيت: أنه لا بد من اللفظ المفرد، طالبناك بالدلالة عليه.

ص: 1213

سلّمنا قيام الدلالة وحصول الداعي، فلم قلت: إنه لا مانع؟

ثم نقول: المانع هو أن اللغات توقيفية، لا اصطلاحية، وإذا كان كذلك كانوا ممنوعين من وضع الألفاظ للمعاني.

سلّمنا قيام الداعي، وزوال المانع، فلم قلت بأنه يجب الفعل؟

ثم نقول: ما ذكرتموه من الدليل منقوض، ومعارض.

أما النقض: فلأن الحاجة إلى الحاجة إلى وضع لفظ يدل على الحال، ولفظ آخر يدل على الاستقبال على التعيين شديدة مع أنه لم يوجد ذلك في اللغة، وأيضا فأصناف الروائح مختلفة، والحاجة إلى تعريفها شديدة، مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة، وكذا أصناف الاعتمادات متميزة، مع أنه لم توضع لها ألفاظ مفردة.

وأما المعارضة: فمن وجهين:

أحدهما: أن الوجوب، كما أنه معنى تشتد الحاجة إلى التعبير، عنه فكذا أصل الترجيح، أعني القدر المشترك بين الوجوب والندب.

والندب: معنى تشتد الحاجة إلى التعبير عنه، فوجب أن يضعوا له لفظا، ولا لفظ له سوى (افعل) فوجب كونه موضوعا له.

ومن قال: إنه للندب وحده، قال: الندبية معنى تشتد الحاجة إلى تعريفها، فلا بد من لفظ، ولا لفظ سوى هذا، فوجب كونه للندب.

ومن قال بالاشتراك قال: قد يحتاج الإنسان إلى التعبير عن أحد هذين

ص: 1214

الأمرين، على سبيل الإبهام، فلا بد من لفظ، ولا لفظ له إلا هذا، فوجب كونه موضوعا لهما بالاشتراك.

وثانيهما: أن الوجوب: معنى تشتد الحاجة إلي التعبير عنه، فلو كانت صيغة (افعل) موضوعة له، لوجب أن يعرف ذلك كل أحد، ولو عرفه كل أحد، لزال الخلاف، فلما لم يزل، علمنا أنه غير موضوع له سلمنا أنه لا بد من لفظ، وأن ذلك اللفظ هو:(افعل) فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضًا بالاشتراك؟

ثم نقول: الدليل الذي ذكرتموه يقتضي إثبات اللغة بالقياس، وهو غير جائز.

والجواب: قوله: لا نسلم شدة الحاجة إلى التعبير عن معنى الوجوب، قلنا: الدليل عليه أن الإنسان الواحد لا يستقل بإصلاح كل ما يحتاج إليه، بل لا بد من الجمع العظيم، حتي يتعين كل واحد منهم صاحبه في مهامه، لتنتظم مصلحة الكل، وإذا احتاج الإنسان إلى فعل يفعله الغير، لا محالة، وأن ذلك الغير لا يعلم منه ذلك إلا إذا عرفه، فحينئذ يحتاج إلى أن يعرفه أنه لا بد وأن يأتي بذلك الفعل، وأنه لا يجوز له الإخلال به، فثبت أن هذا المعنى، مما تشتد الحاجة إلى تعريفه.

قوله: (هب أنه لا بد من تعريفه، فلم قلت: إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ).

قلنا: (هب أنه لا بد من تعريفه، فلم قلت: إن ذلك التعريف لا يحصل إلا باللفظ؟)

قلنا: لأنهم إنما اتخذوا العبارات معرفات لما في الضمائر دون غيرها، لأجل أن الإتيان بالعابرات أسهل من الإتيان بغيرها، وهذا المعنى قائم في مسألتنا فوجب القول به.

ص: 1215

قوله: (لم لا يكفي فيه قوله: أوجبت، وألزمت؟)

قلنا: لأن اللفظ أخف على اللسان من المركب، فيغلب على الظن أن الواضع وضع لفظا مفردا لهذا المعنى قياسا على سائر الألفاظ المفردة.

قوله: (لم قلت: إنه لا مانع؟)

قلنا: لأن الموانع بأسرها كانت معدومة والأصل بقاء ذلك العدم، فيحصل من هذا ظن أنه لا مانع، والدليل الذي ذكرناه ظني، فيكون ذلك كافيا في تقريره.

قوله: (اللغات توقيفية، فلعلهم منعوا عن الوضع):

قلنا: الأصل في كل أمر بقاؤه على ماكان، والأصل عدم التوقيف، وعدم المنع من الوضع، فيحصل ظن بقاء ذلك.

قوله: لم قلت: إنه إذا وجد الداعي في حق القادر، وانتفى الصارف وقع الفعل؟

قلنا: الدليل عليه أن القادر على الفعل، إن لم يكن متمكنا من الترك، فقد تعين الفعل رن لم يكن متمكنا من الترك، فقد تعين الفعل وإن كان متمكنا من الترك، فعند الداعي، إما أن يترجح أو لا يترجح:

فإن لم يترجح ألبتة، لم يكن الداعي داعيا، وذلك محال، وإن ترجح، وجب الوقع، وتمام تقرير هذا الكلام في كتبنا العقلية.

وأما النقوض: فهي مندفعة، لأنا لا نسلم أن اشتداد الحاجة إلى اشتداد الحاجة إلى تعيين الحال، والاستقبال، والروائح المخصوصة، والاعتمادات المخصوصة مساوية.

ص: 1216

لاشتداد الحاجة إلى التعبير عن معنى الإلزام، فإن الإنسان في تمر عليه مدة طويلة، ولا يحتاج إلى التعبير عن تلك الأشياء مع أنه في كل لحظة يحتاج إلى التعبير عن معنى الوجوب.

وأما المعارضة الأولى: فجوابها: أنا لو جعلنا اللفظ حقيقة في الوجوب، كان الترجيح لا زما للمسمى، فأمكن جعله مجازا عن الترجيح.

أما لو جعلناه حقيقة في الترجيح، لم يكن الوجوب لا زما للمسمى، فلا يمكن جعله مجازا عنه، فكان ذلك أولى.

قوله: (الحاجة إلى التعبير عن الندبية شديدة):

قلنا: لكن الوجوب أولى، لأن الواجب لا يجوز الإخلال به، والمندوب يجوز الإخلال به، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به.

وأما المعارضة الثانية: فهي: (أن اللفظ، لو كان للوجوب، لاشتهر):

قلنا: هذا إنما يلزم، لم سلم عن المعارض، أما إذا كان له معارض، ولم يظهر الفرق بينه، وبين معارضه إلا على وجه مخصوص غامض، لم يلزم ذلك.

قوله: (هب أن لفظ (افعل) موضوع للوجوب، فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب أيضا بالاشتراك):

قلنا: لما تقدم، أن الاشتراك على خلاف الأصل.

قوله: (هذا إثبات اللغة بالقياس):

قلنا: سنبين في كتاب القياس- إن شاء الله تعالى أنه جائز.

ص: 1217

الدليل السادس عشر: حمله علي الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، وحمله علي الندب يقتضي الشك فيه، فوجب حمله على الوجوب، وإنما قلنا: إن حمله علي الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، لأن المأمور به: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا:

فإن كان واجبا: فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر.

وإن كان مندوبا: فالقول بوجوبه سعي في تحصيل ذلك المندوب بأبلغ الوجوه، وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر، فإذن على كلا التقديرين: هو غير مقدم على مخالفة الأمر.

أما لو كان واجبا، ونحن قد جوزنا له الترك: كان ذلك الترك مخالفة للأمر، فثبت زن حمله على الندب يقتضي الشك في كونه مخالفا للأمر.

وإذا ثبت هذا، فنقول: وجب حمله على الوجوب، للنص والمعقول.:

أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلي ما لا يريبك)

وأما المعقول: فهو: أنه إذا تعارض طريقان: أحدهما آمن قطعا، والآخر مخوف كان ترجيح الآمن على المخوف من موجبات العقول.

فإن قيل: لا نسلم أن حمله على المندوب يقتضي الشك في الإقدام على المحظور.

ص: 1218

قوله: (لأنه بتقدير أن يكون المأمور به واجبا كان حمله على الندب سعيا في الترك وأنه محظور):

قلنا: لا نسلم أنه يمكن زن يكون المأمور به واجبا، فإنا لو علمنا بدلالة لغوية: أن الأمر ما وضع للوجوب، وعلمنا أن الحكيم لا يجوز أن يجرده عن قرينة إلا والمأمور به غير واجب، فإذا حملته على الندب، أمنت الضرر.

سلمنا قيام هذا الاحتمال، ولكن حمله على الوجوب فيه أيضا احتمال للضرر، لأن بتقدير ألا يكون الحق هو الوجوب، كان اعتقاد كونه واجبا، جهلا، وتكون نية الوجوب قبيحة، وكراهة أضداده قبيحة.

والجواب: إذا علمنا أن لفظ (افعل) لا يجوز استعماله إلا في أحد المعنيين: إما الوجوب، أو الندب، فقبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط، أو للندب فقط، أولهما معا فإنا إذا حملنا على الوجوب، قطعنا بأنا ما خالفنا الأمر، وإذا حملناه على الندب، لم تقطع بذلك.

فإذن: قبل أن يعلم ما يدل على كونه للوجوب فقط، أو للندب فقط، يقتضي العقل حمله على الوجوب، ليحصل القطع بعدم المخالفة.

ثم بعد ذلك: قيام الدليل على أنه للندب إشارة إلى المعارض، من ادعاه، فعليه الدليل

قوله: (حمله على الوجوب يقتضي احتمال الجهل):

قلنا: ما ذكرتموه إشارة إلى احتمال الخطأ في الاعتقاد، وهو قائم في الطرفين، وما ذكرناه، فهو احتمال الخطأ في العمل، وهو حاصل على تقدير

ص: 1219

الندب، دون تقدير الوجوب، وإذا اشترك الطرفان في أحد نوعي الخطأ، واختص أحدهما بمزيد خطأ، كان الجانب الخالي عن هذا الخطأ الزائد، أولى بالاعتبار، والله زعلم.

واحتج من أنكر كون الأمر للوجوب، بأمر:

أحدها: أن العلم بكون الأمر للوجوب: إما أن يكون عقليا، أو نقليا: فالأول: باطل، لأن العقل لا مجال له في اللغات.

وأمّا النقل: فإما أن يكون تواترا، أو آحادا:

والتواتر باطل، وإلا لعرف كل واحد بالضرورة أنه للوجوب.

والاحاد باطل، لأن المسألة علمية، ورواية الاحاد لا تفيد العلم.

وهذه الحجة يحتج بها من يقول: لا أدري أن اللفظ موضوع للوجوب فقط، أو للندب فقط، أولهما معا، لأنه لو ادعى الاشتراك، أو الندبية، لزمه أن يقال:

العلم بالاشتراك أو الندبية، إنما يستفاد من العقل أو النقل، إلى اخر التقسيم.

وثانيها: أن أهل اللغة قالوا: لافرق بين الأمر والسؤال إلا من حيث الرتبة، وذلك يقتضي اشتراكهما في جميع الصفات سوى الرتبة، فكما أن السؤال لا يدل على الإيجاب، بل يفيد الندبية، فكذلك الأمر.

وثالثها: أن لفظ (افعل) وارد في كتاب الله وسنة رسوله في الوجوب والندب، والاشتراك والمجاز على خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك، وهو أصل الترجيح، والدال على ما به الاشتراك غير الدال على مابه الامتياز، لا بالوضع، ولا بالاستلزام، فلا يكون لهذه الصيغة إشعار ألبتة.

ص: 1220

بالوجوب، بل لا دلالة فيها إلا على ترجيح جانب الفعل، وأما جواز الترك، فقد كان معلوما بالعقل، ولم يوجد ما يزيل ذلك الجواز.

فإذن: وجب الحكم بأنذلك الفعل راجح الوجود على العدم، مع كونه جائز الترك، ولامعنى للندب إلا ذلك.

والجواب عن الأول: أن نقول: لم لا يجوز أن يعرف ذلك بدليل مركب من النقل والعقل، مثل قولنا: تارك المأمور به عاص، والعاصي يستحق العقاب، فيستلزم العقل من تركيب هاتين المقدمتين النقليتين، أن الأمر للوجب.

سلمناه، فلم لا يجوز أن يثبت بالاحاد، ولا نسلم أن المسألة قطعية؟ وقد بينا أنه لا يقين في المباحث اللغوية.

وعن الثاني: أن عندنا أن السؤال يدل على الإيجاب، وإن كان لا يلزم منه الوجوب، فإن السائل قد يقول للمسئول منه:(لا تخل بمقصودي، ولا تتركه، ولا تخيب رجائي) فهذه الألفاظ صريحة في الإيجاب، وإن كان لا يلزم من هذا الإيجاب الوجوب.

وعن الثالث: أن المجاز، وإن كان على خلاف الأصل، لكنه قد يوجد، إذا دل الدليل عليه، وقد ذكرنا أن الدليل دل على كونها للوجوب، فوجب المصير إليه، والله أعلم.

المسألة الثانية

قال القرافي: قوله: (لنا قوله تعالى لإبليس: (مامنعم ألا تسجد إذ أمرتك ([الأعراف: 12].

ص: 1221

............................................

ص: 1222

...............................................................

ص: 1223

.....................................................

ص: 1224

......................................................

ص: 1225

قلنا هاهنا مزاحم يقتضي الوجوب غير الأمر، وهو قوله تعالى قبل ذلك (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [الحجر:29]

ص: 1226