الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحروف وليس له قصد إلى المعنى الذى يؤديه. وقد يجوز مع هذا أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى، سهل اللفظ، جيد السبك، غير مستكره فج ولا متكلف وخم، ولا يمنعه من أحد الاسمين شئ لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف». (1)
وهذا هو رأيه، أما الرأى الأول فقد عرضه، لأنّ بعضهم يذهب إلى ذلك. وعقد فصلا فى تمييز الكلام تحدث فيه عن صفات الألفاظ الحسنة، وانتهى إلى أنّ الكلام إذا جمع العذوبة والجزالة والسهولة والرصانة مع السلاسة والنصاعة، واشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من الحيف فى التأليف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على
الفهم الثاقب- قبله ولم يرده، وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجه، والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ. (2)
وأعطى الألفاظ أهمية كبيرة، لأنه ليس الشأن فى إيراد المعانى، لأنّ المعانى يعرفها العربى والعجمى والقروى والبدوى، وإنما هو فى جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب. وليس يطلب من المعنى إلّا أن يكون على هذه الأوصاف، وهو ما أشار إليه الجاحظ من قبل، ولكنه جعل التصوير أساس البيان.
ابن سنان:
وعقد ابن سنان الخفاجى (- هـ) فى كتابه «سر الفصاحة» فصولا ضافية تحدث فيها عن صفات الحروف ومخارجها، وفصاحة اللفظة المفردة والألفاظ المؤلفة.
(1) كتاب الصناعتين، ص 8.
(2)
كتاب الصناعتين، ص 57.
والفصاحة- عنده: «الظهور والبيان» (1)، والفرق بينها وبين البلاغة» أنّ الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ والبلاغة لا تكون إلّا وصفا للألفاظ مع المعانى. لا يقال فى كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها بليغة وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغا» (2).
ولكى تكون اللفظة الواحدة فصيحة ينبغى أن تتوفر فيها بعض الشروط قال: «إنّ الفصاحة على ما قدمنا نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ وبحسب الموجود منها تأخذ القسط من الوصف وبوجود أضدادها تستحق الاطّراح والذم. وتلك الشروط تنقسم قسمين:
فالأول منها: يوجد فى اللفظة الواحدة على انفرادها من غير أن ينضم إليها شئ من الألفاظ وتؤلف معه.
والقسم الثانى: «يوجد فى الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض» (3)
فأما الذى يوجد فى اللفظة الواحدة فثمانية أشياء:
الأول: أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وعلة ذلك أنّ الحروف التى هى أصوات تجرى من السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك فى أنّ الألوان المتباينة إذا جمعت كانت فى المنظر أحسن من
الألوان المتقاربة، ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة.
ومثال التأليف من الحروف المتباعدة كثير جل كلام العرب عليه، فأما تأليف الحروف المتقاربة فمثل «الهعخع» ، وقد روى أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدى قال:«سمعنا كلمة شنعاء هى «الهعخع» وأنكرنا تأليفها.
(1) سر الفصاحة، ص 59.
(2)
سر الفصاحة، ص 60.
(3)
سر الفصاحة، ص 65.
وقيل: إنّ أعرابيا سئل عن ناقته فقال: تركتها ترعى الهعخع» (1). وقال ابن سنان: «ولحروف الحلق مزية فى القبح إذا كان التأليف منها فقط وأنت تدرك هذا وتستقبحه كما يقبح عندك بعض الأمزجة من الألوان وبعض النغم من الأصوات» (2).
الثانى: أن يكون لتأليف اللفظة فى السمع حسن ومزية على غيرها وإن تساويا فى التأليف من الحروف المتباعدة كما نجد لبعض النغم والألوان حسنا يتصور فى النفس ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه. ومثاله فى الحروف «ع. ذ. ب» فان السامع يجد لقولهم «العذيب» - اسم موضع و «عذيبة» - اسم امرأة- و «عذب» و «عذاب» و «عذب» و «عذبات» ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ فى التأليف. وليس سبب ذلك بعد الحروف فى المخارج فقط ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدّمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصفة الأولى فى تقديم العين على الذال لضرب من التأليف فى النغم يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد من السامعين أنّ تسمية الغصن غصنا أو فننا أحسن من تسميته عسلوجا، وأنّ أغصان البان أحسن من عساليج الشوحط (3). ومن الكلمات العذبة الجميلة «تفاوح» وقد استعملها المتنبى فقال:
إذا سارت الأحداج فوق نباته
…
تفاوح مسك الغانيات ورنده (4)
وهى فى غاية من الحسن، وقيل: إنّ المتنبى أول من نطق بها على هذا المثال.
(1) سر الفصاحة، ص 57.
(2)
سر الفصاحة، ص 67.
(3)
الشوحط: شجر يتخذ منه القسى.
(4)
الرند: العود، أو الآس، أو شجر طيب الرائحة.
ومثال ما يكره قول المتنبى:
مبارك الاسم أغرّ اللقب
…
كريم الجرشّى شريف النسب (1)
فانك تجد فى «الجرشى» تأليفا يكرهه السمع وينبو عنه، وأين كلمة «النفس» من هذه اللفظة الثقيلة؟
الثالث: أن تكون الكلمة غير متوعرة وحشية كقول أبى تمام:
لقد طلعت فى وجه مصر بوجهه
…
بلا طائر سعد ولا طائر كهل
فان «كهلا» هنا من غريب اللغة، وروى أنّ الأصمعى لم يعرف هذه الكلمة وأنّها ليست موجودة إلّا فى شعر بعض الهذليين وهو قوله:
فلو أنّ سلمى جاره أو أجاره
…
رياح بن سعد ردّه طائر كهل
وقيل: إنّ الكهل الضخم، وهى لفظة ليست قبيحة التأليف لكنها وحشية غريبة لا يعرفها مثل الأصمعى.
ولهذا اعتمد الحذاق من الشعراء على اختيار أسماء المنازل والنساء فى الغزل وتجنبوا ما لا يحسن لفظه، وعابوا على جرير قوله:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
…
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
وذكروا أنّ الوليد بن عبد الملك قال له: أفسدت شعرك ب «بوزع» .
وقد قال ابن سنان: «وأنا أكره من قول كثير بن عبد الرحمن صاحب عزة:
وما روضة بالحزن طيبة الثرى
…
يمجّ الندى جثجاثها وعرارها
ذكر «الجثجاث» لأنه اسم غير مختار، ولو أمكنه ذكر غيره كان عندى أليق وأوفق. ولا أحب أيضا تسمية أبى تمام صاحبه- علاثة- ونداءه بالترخيم فى قوله:
(1) كريم الجرشى: كريم النفس.
قف بالطلول الدارسات علاثا
…
أضحت حبال قطينهن رثاثا
وإن كان الروى قاده إلى ذلك، فليت شعرى من حظر عليه القوافى واقتصر به على الثاء دون غيرها من الحروف» (1).
الرابع: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، ومثال العامية قول أبى تمام:
جليت والموت مبد حرّ صفحته
…
وقد تفرعن فى أفعاله الأجل
فان «تفرعن» مشتق من اسم «فرعون» وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا:
«تفرعن فلان» إذا وصفوه بالجبرية.
ومنه قول أبى نصر عبد العزيز بن نباتة:
أقام قوام الدين زيغ قناته
…
وأنضج كىّ الجرح وهو فطير
فلفظة «فطير» عامية مبتذلة.
ومنه قول أبى تمام:
قد قلت لما لجّ فى صدّه
…
اعطف على عبدك يا قابرى
فان «قابرى» من ألفاظ عوام النساء.
ومن ذلك لفظة «أو جعتها» فى قول ابن نباتة:
فقد رفعت أبصارها كل بلدة
…
من الشوق حتى أوجعتها الأخادع
ولفظة «الجورب» فى قول المتنبى:
تستغرق الكفّ فوديه ومنكبه
…
وتكتسى منه ريح الجورب الخلق
(1) سر الفصاحة، ص 76.
الخامس: أن تكون الكلمة جارية على العرف العربى الصحيح غير شاذّة. ويدخل فى هذا القسم ما ينكره أهل اللغة ويردّه علماء النحو من التصرف الفاسد فى الكلمة، وقد يكون ذلك لأجل أنّ اللفظة بعينها غير عربية كما أنكروا على أبى الشيص قوله:
وجناح مقصوص تحيّف ريشه
…
ريب الزمان تحيّف المقراض
وقالوا: ليس «المقراض» من كلام العرب، ولم يسمع عنهم إلا مثنى.
وقد تكون الكلمة عربية إلا أنّها قد عبّر بها عن غير ما وضعت له فى عرف اللغة، كما قال البحترى:
يشق عليه الريح كلّ عشية
…
جيوب الغمام بين بكر وأيّم
فوضع «الأيم» مكان «الثيب» وليس الأمر كذلك، وإنّما «الأيم» التى لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. ومن ذلك قول
البحترى:
شرطى الإنصاف إن قيل اشترط
…
وصديقى من إذا صافى قسط
وأراد ب «قسط» عدل، لأنّ الأمر عليه، وليس الأمر كذلك وإنّما يقال «أقسط» إذا عدل، و «قسط» إذا جار، ومنه قوله تعالى:
«وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» (1)
وقد يكون على جهة الحذف من الكلمة كقول رؤبة بن العجاج:
قواطنا مكة من ورق الحما
يريد: الحمام
وقد يكون على وجه الزيادة فى الكلمة مثل أن تشبع الحركة فيها فتصير حرفا، كما قال الشاعر:
وأنت على الغواية حين ترمى
…
وعن عيب الرجال بمنتزاح
أى: بمنتزح.
(1) الجن 15.
وقد يكون إيراد الكلمة على وجه الشاذ القليل، كلفظة «باهت» التى جاءت رديئة شاذة فى قول البحترى:
متحيرين فباهت متعجب
…
مما يرى أو ناظر متأمّل
والعربى المستعمل «بهت الرجل يبهت فهو مبهوت» .
ويدخل فى هذا القسم ما يسمى الضرورة الشعرية من إظهار التضعيف، أو مدّ المقصور، أو قصر الممدود، أو تأنيث المذكر على بعض التأويل، أو صرف ما لا ينصرف، وغير ذلك.
السادس: أن لا تكون الكلمة قد عبّر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فاذا أوردت وهى غير مقصود بها ذلك المعنى قبحت وإن كملت فيها الصفات كقول الشريف الرضى:
أعزز علىّ بأن أراك وقد خلت
…
من جانبيك مقاعد العوّاد
فايراد «مقاعد» فى هذا البيت صحيح، إلّا أنّه موافق لما يكره ذكره فى مثل هذا الشأن، لا سيما إضافته إلى من يحتمل إضافته إليهم وهم «العواد» ، ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا فأما إضافته إلى ما ذكره ففيها قبح لاخفاء به.
السابع: أن تكون الكلمة معتدلة غير كثيرة الحروف فانها متى زادت على الأمثلة المعتادة المعروفة قبحت وخرجت
عن وجه من وجوه الفصاحة.
ومن ذلك قول أبى نصر بن نباتة:
فاياكم أن تكشفوا عن رؤوسكم
…
ألا إنّ مغناطيسهن الذوائب
ف «مغناطيسهن» كلمة غير مرضية لطولها.
ومنه قول أبى تمام:
فلأذربيجان اختيال بعد ما
…
كانت معرّس عبرة ونكال
سمجت ونبهنا على استسماجها
…
ما حولها من نضرة وجمال
فقوله «فلأذربيجان» كلمة رديئة لطولها وكثرة حروفها وهى غير عربية، وكذلك قوله «استسماجها» ردئ لكثرة الحروف وخروج الكلمة بذلك عن المعتاد فى الألفاظ إلى الشاذ النادر.
ومنه قول المتنبى:
إنّ الكريم بلا كرام منهم
…
مثل القلوب بلا سويداواتها (1)
ف «سويداواتها» كلمة طويلة جدا.
الثامن: أن تكون الكلمة مصغرة فى موضع عبر بها فيه عن شئ لطيف أو خفى أو قليل أو ما يجرى مجرى ذلك، فانها تحسن به. ومن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة:
وغاب قمير كنت أرجو طلوعه
…
وروّح رعيان ونوّم سمّر
وهذا تصغير مختار فى موضعه، فأما الأسماء التى لم ينطق بها إلّا مصغرة كاللجين والثريا فليس للتصغير فيهما حسن يذكر، لأنّه غير مقصود بهما ما ذهب إليه ابن سنان.
ومعظم هذه الشروط تدخل فى فصاحة الألفاظ المؤلفة، والإخلال بها قد يؤدى إلى زيادة القبح والتنافر فى الكلام، لأنّه حين تكون الألفاظ مجتمعة تحتاج إلى دقة فى التركيب واختيار اللطيف منها. يقول ابن سنان متحدثا عن الشرط الأول:«إنّ الأول منها أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج، وهذا بعينه فى التأليف وبيانه أن يجتنب الناظم تكرر الحروف المتقاربة فى تأليف الكلام كما أمرناه بتجنب ذلك فى اللفظة الواحدة، بل هذا فى التأليف أقبح، وذلك أنّ اللفظة المفردة لا يستمر فيها من تكرار الحرف الواحد أو تقارب الحرف مثلما يستمر فى الكلام المؤلف إذا طال واتسع» (2).
(1) سويداء القلب: حبته، وجمعها سويداوات.
(2)
سر الفصاحة، ص 107.