الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونظر ابن الأثير إلى هذا الأسلوب نظرة أعمق وقال عنه: «وهذا النوع وما يليه هو خلاصة علم البيان التى حولها يدندن وإليها تستند البلاغة وعنها يعنعن. وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنه ينتقل فيه من صيغة كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماض، أو غير ذلك. ويسمى أيضا «شجاعة العربية» ، وإنما سمى بذلك لأن الشجاعة هى الإقدام، وذاك أنّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه، وكذا هذا الالتفات فى الكلام فان اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (1).
[اقسامه]
وقسمه إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة.
الثانى: الرجوع من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر ومن الفعل الماضى إلى فعل الأمر.
الثالث: الإخبار عن الفعل الماضى بالمستقبل وعن المستقبل بالماضى.
وأحسن ما فى بحثه الأمثلة الكثيرة التى وشح بها كلامه، وردّه رأى الزمخشرى ومن تابعه فى فائدة أسلوب الالتفات. وقد وضح ابن الأثير رأيه بقوله: «وقال الزمخشرى- رحمه الله إنّ الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنّما يستعمل للتفنن فى الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه. وليس الأمر كما ذكره، لأنّ الانتقال فى الكلام من أسلوب إلى أسلوب إن لم يكن إلّا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للاصغاء إليه، فان ذلك دليل على أنّ السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطا للاستماع، وهذا
قدح فى الكلام لا وصف له، لأنه لو
(1) المثل السائر ج 2 ص 4، وينظر الجامع الكبير ص 98.
كان حسنا لما مل، ولو سلّمنا إلى الزمخشرى ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك فى الكلام المطول، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك، لأنّه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم ويكون مجموع الجانبين معا يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك. ومفهوم قول الزمخشرى فى الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنّما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه لا قصدا لاستعمال الأحسن. وعلى هذا فاذا وجدنا كلاما قد استعمل فى جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه، وكان كلا الطرفين واقعا فى موقعه قلنا:
هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب وهذا قول فيه ما فيه، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشرى مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة».
وكانت طريقته فى إظهار روعة أسلوب الالتفات ضرب الأمثلة والتعليق عليها والوقوف على ما فيها من جمال وتأثير. وهذه الطريقة أنفع فى معالجة البلاغة ولكن لا يمنع أن تكون هناك قواعد عامة تهدى، وقد حصر المتأخرون أسباب الالتفات فى فوائد عامة وخاصة (2)، فمن الفوائد العامه التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر، لما فى ذلك من تنشيط السامع، واستجلاب
(1) المثل السائر ج 2 ص 4 - 5.
(2)
ينظر البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 325.
صفائه، واتساع مجارى الكلام، وتسهيل الوزن والقافية، وهذا ما أشار إليه البلاغيون المتقدمون ورفضه ابن الأثير.
وأما الفوائد الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم، ومنها:
- قصد تعظيم شأن المخاطب، كما فى قوله تعالى:«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (1) فان العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله «الحمد لله» الدالّ على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للاقبال عليه سبحانه، فاذا انتقل إلى قوله:«رَبِّ الْعالَمِينَ» الدال على ربوبيته لجميعهم قوى تحركه، فاذا قال:«الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده، فاذا وصل إلى «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» وهو خاتمة الصفات الدالة على أنّه مالك الأمر يوم الجزاء فيتأهب قربه، ويتقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة فى المهمات. ثم انتقل من خطاب الغائب إلى الحاضر فقال:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» لينسب إلى التعظيم حال المخاطبة والمواجهة على ما هو أعلى رتبة وذلك عن طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال: «الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا، ولم يقل «صراط المنعم عليهم» فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب فى النسبة إليه لفظا وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب فلم يقل «غير المغضوب غضبت عليهم» تفاديا عن نسبة الغضب فى اللفظ حال المواجهة.
- التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه، كقوله تعالى:«وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (2)، أصل الكلام «وما لكم لا تعبدون الذى فطركم» ولكنه أبرز الكلام فى معرض المناصحة
(1) الفاتحة 1.
(2)
يس 22.
لنفسه، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويريهم أنّه لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه ثم انقضى غرضه من ذلك قال:«وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال:«إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» (1).
- أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم فيأتى به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب، كقوله تعالى:«فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (2).
أصل الكلام «إنا كنا مرسلين رحمة منا» ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر للانذار بأنّ الربوبية تقتضى الرحمة للمربوبين للقدرة عليهم، أو لتخصيص النبى- صلى الله عليه وسلم بالذكر أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره، ثم التفت باعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى.
- قصد المبالغة: كقوله تعالى «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ» (3) كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليتعجب منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح لها، إشارة منه إلى سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغى فى الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح.
- قصد الدلالة على الاختصاص: كقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ» (4)، فانه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التى لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل فى الاختصاص وأدل عليه «سقنا» و «أحيينا» .
(1) يس 25.
(2)
الدخان 4 - 6.
(3)
يونس 22.
(4)
فاطر 9.
- قصد الاهتمام: كقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (1). فعدل عن الغيبة فى «قضاهن» و «أوحى» إلى التكلم فى «وزينا السماء الدنيا» للاهتمام بالإخبار عن نفسه، فانه تعالى جعل الكواكب فى سماء الدنيا للزينة والحفظ، وذلك لأنّ طائفة اعتقدت فى النجوم أنّها ليست فى سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه.
- قصد التوبيخ: كقوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» (2). عدل عن الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنّ قائل مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا ومنكرا عليه، ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور فقال:«لقد جئتم» ، لأنّ توبيخ الحاضر أبلغ فى الإهانة له.
وللالتفات أقسام كثيرة ذكرها البلاغيون والذين اهتموا بعلوم القرآن، ويمكن تلخيصها فيما يأتى:
- الالتفات من التكلم إلى الخطاب:
ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأنّه أعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة، كقوله تعالى:«وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (3). الأصل: «وإليه أرجع» فالتفت من التكلم إلى الخطاب. وفائدته أنّه أخرج الكلام فى معرض مناصحته لنفسه وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريده لنفسه ثم التفت إليهم لكونه
(1) فصلت 11 - 12.
(2)
مريم 88 - 89.
(3)
يس 22.
فى مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله. ثم إنّ قومه لمّا أنكروا عليه عبادته لله أخرج الكلام معهم بحسب حالهم فاحتج عليهم بأنّه يقبح منه أنّه لا يعبد فاطره ومبدعه ثم حذرهم بقوله: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
- الالتفات من التكلم إلى الغيبة:
ووجهه أن يفهم السامع أنّ هذا نمط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب، وأنه فى كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه فيكون فى المضمر ونحوه ذا لونين، وأراد بالانتقال إلى الغيبة الإبقاء على المخاطب، فالغيبة أروح له، كقوله تعالى:«إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» (1)، حيث لم يقل «لنا» تحريضا على فعل الصلاة لحق الربوبية.
ومنه قوله تعالى: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (2). فقد قال سبحانه: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» ثم انتقل إلى خطاب الغيبة فقال: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .
- الالتفات من الخطاب إلى التكلم:
ومنه قوله تعالى: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا» (3)، فقد التفت من الخطاب «فاقض ما أنت قاض» إلى التكلم «إنا آمنا بربنا» .
- الالتفات من الخطاب إلى الغيبة:
ومنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ، وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ
(1) الكوثر 1 - 2.
(2)
الدخان 4 - 6.
(3)
طه 72 - 73.
وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (1).
فقد التفت عن «كنتم» إلى «جرين بهم» لفائدة، وهى أنّه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم، ويستدعى منهم الإنكار عليهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت الفائدة.
- الالتفات من الغيبة إلى التكلم:
ومنه قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ» (2). فقد التفت من الغيبة «سبحان الذى أسرى» إلى التكلم «الذى باركنا حوله» .
ومنه: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» (3). فقد التفت من الغيبة «وأوحى» ، إلى التكلم «وزينا» .
- الالتفات من الغيبة إلى الخطاب:
ومنه سورة الفاتحة فقد بدأها سبحانه بقوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ثم انتقل إلى الخطاب فقال «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» . وإنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأنّ الحمد دون العبادة فلما صار إلى العبادة التى هى أخص الطاعات قال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» فخاطب بالعبادة إصراحا بها وتقربا منه بالانتهاء إلى محدود منها.
ومنه قوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» (4) ولم يقل «لقد جاءوا» للدلالة على أنّ من قال مثل قولهم ينبغى أن يكون موبخا عليه منكرا عليه قومه، كأنه يخاطب به قوما حاضرين.
(1) يونس 22.
(2)
الأسراء 1.
(3)
فصلت 12.
(4)
مريم 88 - 89.
ومما ينخرط فى هذا النوع الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس كقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (1). وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفس فانه قال «وَزَيَّنَّا» بعد قوله «ثُمَّ اسْتَوى» وقوله «فَقَضاهُنَّ» و «أوحى» .
ومما ورد فى الشعر قول أبى تمام:
وركب يساقون الركاب زجاجة
…
من السّير لم تقصد بها كفّ قاطب (2)
فقد أكلوا منها الغوارب بالسّرى
…
وصارت لها أشباحهم كالغوارب (3)
يصرّف مسراها جذيل مشارق
…
إذا آبه همّ عذيق مغارب (4)
يرى بالكعاب الرّود طلعة ثائر
…
وبالعرمس الوجناء غرّة آيب (5)
كأنّ بها ضغنا على كلّ جانب
…
من الأرض أو شوقا إلى كل جانب (6)
(1) فصلت 11 - 12.
(2)
الركب: جماعة الراكبين. القاطب: الذى يمزج الخمر بالماء.
(3)
الغارب: الكاهل. السرى: سير الليل.
(4)
الجذيل: تصغير جذل وهو عود ينصب لتحتك به الجمال الجربى.
العذيق: تصغير عذق وهو قنو النخلة. ويكنى بهذين الوصفين عن الرجل المحنك المجرب للأمور.
(5)
الكعاب: الفتاة. الرود: الناعمة. العرمس: الناقة. الوجناء: القوية.
(6)
الضغن: الحقد. يريد أنه كثير الترحال فهو إما كاره لجميع بقاع الأرض أو محب لها.
إذا العيس لاقت بى أبا دلف فقد
…
تقطّع ما بينى وبين النوائب (1)
هنالك تلقى الجود من حيث قطّعت
…
تمائمه والمجد مرخى الذوائب (2)
فقد قال «يصرّف مسراها» مخاطبة الغائب ثم قال بعد ذلك «إذا العيس لاقت بى» مخاطبا نفسه ومبشرا لها بالبعد
عن المكروه والقرب من المحبوب، ثم جاء بالبيت الذى يليه معدولا به عن خطاب غيره وهو خطاب لحاضر، ثم قال «هنالك تلقى الجود» .
- الالتفات من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر:
ومنه قوله تعالى: «قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (3)، فانه إنما قال «شهد الله» و «اشهدوا» ولم يقل «وأشهدكم» ليكون موازنا له وبمعناه لأنّ شهادة الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلّا تهاون بهم ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجئ به على لفظ الأمر.
- الالتفات من الفعل الماضى إلى فعل الأمر:
ومنه قوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (4)، وقد عدل إلى الأمر للعناية بتوكيده فى نفوسهم.
(1) العيس: الإبل البيض. النوائب: المصائب.
(2)
التمائم: جمع تميمة وهى ما يعلق على الصبى ليحفظه. الذوائب:
خصل الشعر.
(3)
هود 53 - 54.
(4)
الأعراف 29.
- الالتفات من الفعل الماضى إلى المستقبل:
ومنه قوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» (1). ف «تثير» للمستقبل وما قبله وما بعده ماض وإنما جئ بها كذلك حكاية للحال التى يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة.
وعلى هذا ورد قول تأبط شرا:
بأنّى قد لقيت الغول تهوى
…
بسهب كالصّحيفة صحصحان (2)
فأضربها بلا دهش فخرّت
…
صريعا لليدين وللجران (3)
فانه قصد أن يصور لقومه الحال التى تشجع فيها على ضرب الغول كأنهم يبصرهم إياها مشاهدة للتعجب من جرأته، ولو قال «فضربتها» لزالت هذه الفائدة.
- الالتفات من المستقبل إلى الماضى:
ومنه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (4)، فانه إنما قال «ففزع» بلفظ الماضى بعد قوله «ينفخ» وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزع وأنه كائن لا محالة لأن الفعل يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.
(1) فاطر 9.
(2)
السهب: الأرض المستوية وجمعه سهوب. الصحصحان: الأرض الواسعة المستوية.
(3)
الجران من البعير: مقدم عنقه، ويقال: ألقى البعير جرانه: أى برك، وألقى فلان على هذا الأمر جرانه: أى وطن نفسه عليه.
(4)
النمل 87.