الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن الأثير:
وكان ضياء الدين ابن الأثير (- هـ) أوضح من السابقين تصورا وفهما للفصاحة، وقد اهتم بها اهتماما عظيما وصحّح كثيرا من الآراء فى كتابيه «المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر» و «الجامع الكبير». يقول عن الفصاحة:
ولا تتبين الفصاحة بهذا القول لأنّه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات:
الأول: أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.
الثانى: أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص، فان اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو، فهو إذن فصيح عند هذا وغير فصيح عند ذاك. وليس كذلك، بل الفصيح هو فصيح عند الجميع لا خلاف فيه بحال من الأحوال لأنّه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هى لم يبق فى اللفظ الذى يختص به خلاف.
الثالث: أنه إذا جئ بلفظ قبيح ينبو عنه السمع وهو مع ذلك ظاهر بين ينبغى أن يكون فصيحا، وليس كذلك لأنّ الفصاحة وصف حسن اللفظ لا وصف قبح.
فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل: «إنّ اللفظ الفصيح هو الظاهر البين» ، ومعنى ذلك أنّ ابن الأثير لا يأخذ بهذا القول الذى أثار حيرته فمضى يبحث عن تعريف للفصاحة، ويحقق القول فيها. وقد شرح
(1) المثل السائر، ج 1 ص 64.
المسألة بوضوح فقال إنّ المقصود ب «أنّ الكلام الفصيح هو الظاهر البين» أن تكون ألفاظه مفهومة لا يحتاج فهمها إلى استخراج من كتاب لغة، وإنمّا كانت بهذه الصفة؛ لأنّها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة فى كلامهم، وإنّما كانت مألوفة الاستعمال دائرة فى الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها، وذلك أنّ أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا وقسموا فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحسن الألفاظ سبب استعمالها دون غيرها واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها، فالفصيح من الألفاظ هو الحسن.
فان قيل: من أى وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟
قيل لهم: إنّ هذا من الأمور المحسوسة التى شاهدها فى نفسها، لأنّ الألفاظ داخلة فى حيز الأصوات، فالذى يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن، والذى يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أنّ السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما، ويكره صوت الغراب وينفر عنه، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك فى صهيل الفرس فالألفاظ جارية هذا المجرى فانه لا خلاف فى أنّ لفظة «المزنة» و «الديمة» حسنة يستلذها السمع، وأنّ لفظة «البعاق» قبيحة يكرهها السمع. وهذه اللفظات الثلاث من صفة، وهى تدل على معنى واحد، ومع هذا فانك ترى لفظتى «المزنة» و «الديمة» وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ «البعاق» وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل، وإن استعمل فانما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم.
لقد ثبت أنّ الفصيح من الألفاظ هو «الظاهر البين» ، وإنّما كان ظاهرا بينا؛ لأنّه مألوف الاستعمال، وإنّما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع، والذى يدرك بالسمع إنما هو اللفظ لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة والقبيح غير
موصوف بفصاحة لأنّه ضدها لمكان قبحه. ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ فى الدلالة عليه سواء ليس منها حسن ومنها قبيح، ولما لم يكن كذلك علم أنّها تخص اللفظ دون المعنى. وابن الأثير لم يفصل بين اللفظ والمعنى فى هذا القول وإنّما خصّ اللفظ بصفة هى له، والمعنى يجئ فيه ضمنا وتبعا.
وأشار إلى الفصاحة عند المتقدمين فقال: «وقد ذكر من تقدّمنى من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها، واختلفوا فى ذلك، واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه، ولو حققوا النظر ووقفوا على السر فى اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف فى شئ منها» (1).
وردّ رأى من ذهب إلى أنّ كل الألفاظ حسن وقال: «ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة «الغصن» ولفظة «العسلوج» ، وبين لفظة «المدامة» ولفظة «الاسفنط» وبين لفظة «السيف» ولفظة «الخنشليل» ، وبين لفظة «الأسد» ولفظة «الفدوكس» ، فلا ينبغى أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه كما قيل:«اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر (2) فى رحله» . وما مثاله فى هذا المقام إلّا كمن يسوّى بين صورة زنجية سوداء شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كلوة وشعر قطط (3) كأنه زبيبة، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خد أسيل وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرة كأنها ليل على صباح. فاذا كان بانسان من
سقم النظر أن يسوّى بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم النظر أن يسوى بين هذه الألفاظ وهذه. ولا فرق بين النظر والسمع فى هذا المقام فان هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب».
(1) المثل السائر، ج 1 ص 148.
(2)
الجعر: ما يبس من العذرة فى المجعر أى الدبر، أو نحو كل ذات مخلب من السباع.
(3)
الشعر القطط: القصير الجعد.