الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما قبح قول أبى تمام:
فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن
…
يرضى المؤمل منك إلّا بالرضى
ومنه قول الآخر:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
ومنه قول المتنبى:
وتسعدنى فى غمرة بعد غمرة
…
سبوح لها منها عليها شواهد
وأما الثانى من شروط اللفظة المفردة فيكون فى التأليف إذا ترادفت الكلمات المختارة فيوجد الحسن فيها أكثر وتزيد طلاوته على ما لا يجمع من تلك الكلمات إلا القليل، وهذا يرجع إلى اللفظة بانفرادها وليس للتأليف فيه إلّا ما أثاره التواتر والترادف. وكذلك الثالث والرابع من الأقسام لا علقة للتأليف بهما، وإنّما يقبح إذا كثر فيه الكلام الوحشى أو العامى.
وأما الخامس فللتأليف به علقة وكيدة، لأنّ إعراب اللفظة تبع لتأليفها من الكلام وعلى حكم الموضع الذى وردت فيه.
وأما السادس فللتأليف فيه تعلق بحسب إضافة الكلمة إلى غيرها، فانّ القبح يختلف بحسب ذلك.
وأما السابع فلا علقة للتأليف به، إلّا أنّ ظهور قبحه أجلى إذا ترادفت فيه الكلمات الطوال.
وأما الثامن فلا علقة للتأليف به إذ كان لا يتعدى الكلمة بانفرادها.
ودراسة ابن سنان للفصاحة من أخصب الدراسات، ولا يكاد المتأخرون يخرجون عنها فى كل ما ألفوا أو اختصروا أو شرحوا.
عبد القاهر:
وكانت الفصاحة والبلاغة والبراعة والبيان ألفاظا مترادفة عند عبد القاهر الجرجانى (- هـ أو هـ)، وكلها يعبر بها عن «فضل بعض القائلين
على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد وراموا أن يعلموهم ما فى نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم» (1)
والألفاظ عنده خدم للمعانى وأوعية تتبعها فى حسنها وجمالها أو قبحها ورداءتها، يقول: «ولن تجد أيمن طائرا، وأحسن أولا وآخرا، وأهدى إلى الاحسان، وأجلب للاستحسان من أن ترسل المعانى على سجيتها وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فانها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلّا ما يليق بها ولم تلبس من المعارض إلّا ما يزينها. فأما أن تضع فى نفسك أن لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذى أنت بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقوع فى الذم. فان ساعدك الجد كما ساعد فى قوله:
أو دعانى أمت بما أودعانى
وكما ساعد أبا تمام فى نحو قوله:
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
…
فيا دمع أنجدنى على ساكنى نجد
وقوله:
هنّ الحمام فان كسرت عيافة
…
من حائهن فانهنّ حمام
فذاك وإلا أطلقت ألسنة العيب» (2).
إنّ الفصاحة تكون فى المعنى وليس للكلمة المفردة كبير قيمة، وكثيرا ما تستعمل اللفظة فى موضع فتكون حلوة الجرس عذبة، وتستعمل فى موضع آخر فتفقد تلك المزية، وإنما كان ذلك «لأنّ المزية التى من أجلها نصف اللفظ فى شأننا هذا بأنه فصيح مزية تحدث بعد أن لا تكون وتظهر فى العلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شئ إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها إفرادا
(1) دلائل الإعجاز، ص 35.
(2)
أسرار البلاغة، ص 19، وينظر دلائل الإعجاز، 401.
لم ترم فيها نظما ولم تحدث لها تأليفا طلبت محالا. وإذا كان كذلك وجب أن تعلم قطعا أنّ تلك المزية فى المعنى دون اللفظ» (1).
فالألفاظ عند عبد القاهر لا تتفاضل من حيث هى ألفاظ مجردة، ولا من حيث هى كلم مفردة، وإنما تثبت لها
الفضيلة وخلافها فى ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التى تليها وما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنّك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك فى موضع ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك فى موضع آخر كلفظ «الأخدع» فى بيت الحماسة:
تلفتّ نحو الحى حتى وجدتنى
…
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا (2)
وبيت البحترى:
وإنى وإن بلّغتنى شرف الغنى
…
وأعتقت من رقّ المطامع أخدعى
فان لها فى هذين البيتين ما لا يخفى من الحسن، ثم إنك تتأملها فى بيت أبى تمام:
يا دهر قوّم من أخدعيك فقد
…
أضججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة والإيناس والبهجة.
ومن أعجب ذلك لفظة «الشئ» فانك تراها مقبولة حسنة فى موضع وضعيفة مستكرهة فى موضع آخر، وإن أردت أن تعرف ذلك فانظر إلى قول عمر بن أبى ربيعة:
ومن مالئ عينيه من شئ غيره
…
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى
وإلى قول أبى حية النميرى:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
…
تقاضاه شئ لا يملّ التقاضيا
(1) دلائل الإعجاز، ص 307.
(2)
الأخدعان: عرقان فى جانبى العنق قد خفيا وبطنا، والليت: صفحة العنق.
فانك تعرف حسنها ومكانها من القبول، ثم انظر فى بيت المتنبى:
لو الفلك الدوّار أبغضت سعيه
…
لعوّقه شئ عن الدوران
فانك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم.
ومن سر هذا الباب أنّك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت فى عدة مواضع ثم ترى لها فى بعض ذلك ملاحة لا تجدها فى الباقى، مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة «الجسر» فى قول أبى تمام:
لا يطمع المرء أن يجتاب لجّته
…
بالقول ما لم يكن جسرا له العمل
وقوله:
بصرت بالراحة العظمى فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التّعب
فترى لها فى الثانى حسنا لا تراه فى الأول، ثم تنظر إليها فى قول ربيعة الرقى:
قولى: نعم، ونعم إن قلت واجبة
…
قالت: عسى وعسى جسر إلى نعم
ترى لها لطفا وخلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل.
وينتهى عبد القاهر إلى أنّ الكلمة لو كانت إذا حسنت من حيث هى لفظ واذا استحقت المزية والشرف، استحقت ذلك فى ذاتها وعلى انفرادها دون أن يكون السبب فى ذلك حال لها مع أخواتها المجاورة لها فى النظم لما اختلفت بها الحال ولكانت إما أن تحسن أبدا أو لا تحسن أبدا (1).
ولعل الغرض الدينى كان دافعا إلى هذا الرأى، لأن كلمات القرآن الكريم عربية نطق بها الشعراء والخطباء وتداولها الناس، وليس لها مزية وهى مفردة لا يضمها سلك يوحد بينها ويجمع متفرقها، ولكى يظهر عبد القاهر
(1) دلائل الإعجاز، ص 38، 62.
إعجاز القرآن ويردّ ما كان يشيع فى البيئات المختلفة اتجه إلى نظرية النظم ليسد بها المسالك ويفند آراء المختلفين ويوقف طعنات الحاقدين.
ولم يقف عند الاهتمام بالنظم وإنما اهتم بالتصوير الأدبى الذى لا يكون إلا بترتيب الألفاظ والتأليف بينها، يقول:«ومعلوم أنّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأنّ سبيل المعنى الذى يعبر عنه سبيل الشئ الذى يقع التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار، فكما أنّ محالا إذا أنت أردت النظر فى صوغ الخاتم وفى جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذى وقع فيه العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية فى الكلام أن تنظر فى مجرد معناه. وكما أنا لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم، كذلك ينبغى إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام» (1).
فعبد القاهر يرى أنّ للتصوير الأدبى قيمة كبيرة، ولذلك أطال الكلام فى «أسرار البلاغة» على الوسائل التى تجعل الصورة حسنة مقبولة، وفصل القول فى نظرية النظم، وذهب إلى أبعد من ذلك ورأى أنّ فى الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته. يقول متحدثا عن الاستعارة فى بيت الشاعر:
سالت عليه شعاب الحىّ حين دعا
…
أنصاره بوجوه كالدنانير
«فانك ترى هذه الاستعارة على لطفها وغرابتها إنمّا تم لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى بما توخّى فى وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة تلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارين والظرف فأزل كلّا منها عن مكانه الذى وضعه الشاعر فيه فقل: «طالت
(1) دلائل الإعجاز، ص 196.
شعاب الحى بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره» ثم انظر كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التى كانت وكيف تذهب النشوة التى كنت تجدها» (1).
إنّ الفصاحة عنده لا تكون إلّا بتوخى معانى النحو، أى النظم، والألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضربا خاصا من التأليف ويعمد بها إلى وجه فى التركيب.
فلو أنّك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر فعددت كلماته حدّا كيف جاء واتفق وأبطلت نضده ونظامه الذى عليه بنى وفيه أفرغ المعنى وأجرى، وغيرت ترتيبه الذى بخصوصيته أفاد كما أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول فى «قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل»:«منزل قفا ذكرى من نبك حبيب» أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان، وأسقطت نسبته من صاحبه، وقطعت الرحم بينه وبين منشئه، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل ونسب يخص بمتكلم (2).
وانتهى إلى الحكم بالخطأ على من قصر الفصاحة على الكلمات من حيث هى ألفاظ منطوقة وأصوات مسموعة، والأديب لا يطلب اللفظ بحال، وإنّما يطلب المعنى فاذا ظفر به فاللفظ معه وإزاء ناظره، ولذلك لم تكن الفصاحة عنده من صفات المفردات من غير اعتبار التركيب.
إنّ عبد القاهر ربط بين الفصاحة والنظم ولذلك لم يطل الكلام على شروط الفصاحة كما فعل معاصره ابن سنان الخفاجى، ولكنه مع ذلك لا ينكرها كل الإنكار، ونراه يقول فى خاتمة كتابه «دلائل الإعجاز»:
«واعلم أنّا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز، وإنما الذى ننكره ونفيل رأى من يذهب إليه أن يجعله معجزا به وحده ويجعله الأصل
(1) دلائل الإعجاز، ص 78.
(2)
أسرار البلاغة، ص 8.