الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن التقديم: تقديم تعلقات الفعل عليه كالمفعول والجار والمجرور والحال، ويكون ذلك لأغراض منها:
[انواع من التقديم]
- الاختصاص: كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (1)
- الاهتمام بالمتقدم: كقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ» (2)
- التبرك: مثل «قرآنا قرأت» .
- ضرورة الشعر، وهو كثير لا يحصره حدّ.
- رعاية الفاصلة: كقوله تعالى: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» (3) وهذه الأغراض كثيرة، وقد ذكر الزمخشرى أنّ تقديم هذه الأنواع للاختصاص، غير أن ابن الأثير يرجع ذلك إلى وجهين:
الأول: الاختصاص، كقوله تعالى:«قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ. وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ. بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (4) فانه إنما قيل «بل الله فاعبد» ولم يقل «بل اعبد الله» لأنه إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره، ولو قال «بل اعبد» لجاز إيقاع الفعل على أى مفعول شاء.
الثانى: يختص بنظم الكلام، كقوله تعالى:«إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» وقد ذكر الزمخشرى فى تفسيره أنّ التقديم فى هذا الموضع قصد به الاختصاص وليس كذلك فانّه لم يقدم المفعول فيه على الفعل للاختصاص، وإنّما قدّم
(1) الفاتحة 5.
(2)
الإنعام 164.
(3)
الضحى 9 - 10.
(4)
الزمر 64 - 66.
لمكان نظم الكلام، لأنه لو قال: نعبدك ونستعينك لم يكن له من الحسن ما لقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. ألا ترى أنّه تقدّم قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» (1)، فجاء بعد ذلك قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»
وذاك لمراعاة حسن النظام السجعى الذى هو على حرف النون، ولو قال «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان» (2).
وهناك أنواع كثيرة من التقديم لا ترجع إلى المسند إليه والمسند ولا إلى متعلقات الفعل عليه وإنما ترجع إلى أمور كثيرة، بحثها الزركشى (3) فى أنواع التقديم والتأخير، وقسمها إلى ما قدم والمعنى عليه، وما قدم والنية به التأخير، والقسم الأول واسع فسيح ومقتضياته كثيرة ذكر منها خمسة وعشرين لونا، وأهمها:
- السبق: كقوله تعالى: «وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى» (4).
- الذات: كقوله تعالى: «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ» (5).
- العلة والسببية: كقوله تعالى: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (6) لأن العبادة سبب حصول الإعانة.
- المرتبة: كقوله تعالى: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» (7)، لأنّ المغفرة سلامة والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة.
(1) الفاتحة 2 - 4.
(2)
المثل السائر ج 2 ص 39، وينظر الطراز ج 2 ص 66.
(3)
البرهان فى علوم القرآن ج 3 ص 239.
(4)
الأحزاب 7.
(5)
المجادلة 7.
(6)
الفاتحة 5.
(7)
البقرة 173، وآيات كثيرة.
- التعظيم: كقوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ» (1).
- الغلبة والكثرة: كقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» (2)
- الاهتمام عند المخاطب: كقوله تعالى: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» (3)
- مراعاة الافراد: كقوله تعالى: «الْمالُ وَالْبَنُونَ» (4)، فان المفرد سابق على الجمع.
- قصد الترتيب.
- خفة اللفظ.
- رعاية الفاصلة: كقوله تعالى: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ» (5).
وهذه الأنواع التى ذكرها الزركشى لم يتطرق لها البلاغيون إلّا من خلال الجملة، ولذلك كانت دراستهم لها قاصرة، أما الذين عنوا بأسلوب القرآن الكريم فقد تجاوزوا هذه المرحلة ونظروا إلى التقديم والتأخير نظرة أوسع وأكثر عمقا فجاءت مادتهم أغزر ودراساتهم أخصب، ولا يكاد يستثنى من ذلك إلّا عبد القاهر الذى أبدع فى تحليل الأساليب البلاغية، ونقل النحو من الإعراب والبناء إلى المعانى التى تحتملها العبارات، وكانت نظريته فى «النظم» من أحسن ما عرف النقد القديم.
(1) النساء 69.
(2)
فاطر 32.
(3)
النساء 86.
(4)
الكهف 46.
(5)
الحاقة 30 - 31.
ومن أمثلة تحليله للتقديم والتأخير قوله فى النكرة إذا قدمت على الفعل أو قدم الفعل عليها: «إذا قلت: «أجاءك رجل؟» فأنت تريد أن تسأله:
هل كان مجئ من أحد من الرجال إليه. فان قدمت الاسم فقلت: «أرجل جاءك؟» فأنت تسأله على جنس ما جاءه أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا كنت علمت أنّه قد أتاه آت ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتى، فسبيلك فى ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتى فقلت:«أزيد جاءك أم عمرو؟» ولا يجوز تقديم الاسم فى المسألة الأولى، لأنّ تقديم الاسم يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن عينه أو عن جنسه ولا ثالث. وإذا كان كذلك كان محالا أن تقدم الاسم النكرة وأنت لا تريد السؤال عن الجنس لأنّه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلق من حيث لا يبقى بعد الجنس إلا العين. والنكرة لا تدل على عين شئ فيسأل بها عنه. فان قلت:
«أرجل طويل جاءك أم قصير؟» كان السؤال عن أن الجائى من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فان وصفت النكرة بالجملة فقلت: أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه؟ كان السؤال عن المعطى أكان ممن عرفه قبل أم كان إنسانا لم تتقدم منه معرفة.
وإذ قد عرفت الحكم فى الابتداء بالنكرة فى الاستفهام فابن الخبر عليه فاذا قلت: «رجل جاءنى» لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أنّ الذى جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت. فان لم ترد ذاك كان الواجب
أن تقول: «جاءنى رجل» فتقدم الفعل (1).
وهذه قيمة التقديم والتأخير فى اللغة العربية، وليس من العبث أن يشغل البلاغيون- وعلى رأسهم عبد القاهر- أنفسهم بهذه المسألة أو غيرها من المسائل الأخرى المتصلة بالأساليب لولا أنّ لكل تعبير معناه، ولكل وضع هدفه ومغزاه. وفى ذلك اتساع فى القول وقدرة على التعبير.
(1) دلائل الإعجاز ص 109 - 110.