الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك ما كانت عليه نظرية النظم قبل القرن الخامس للهجرة، وليس فى أقوال الجاحظ ومن جاء بعده فكرة واضحة عنها إلا ما كان من كلام القاضى عبد الجبار الذى ربط الفصاحة بالنظم وبنى عليها رأيه فى إعجاز القرآن.
تطور النظرية:
لقد وضحت هذه النظرية وبلغت مداها على يد عبد القاهر الجرجانى (- هـ أو هـ) الذى أطال الكلام عليها، وسمّى موضوعات التقديم والتأخير، والذكر والحذف، والقصر، والفصل والوصل، والتعريف والتنكير، معانى النحو أو النّظم. والنظم- عنده- تعليق الكلام بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض (1)، أو هو توخى معانى النحو وقد حصر موضوعاته فى قوله:«واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التى رسمت لك فلا تخل بشئ منها وذلك أنّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه غير أن ينظر فى وجوه كل باب وفروقه فينظر فى الخبر إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «زيد منطلق» و «زيد ينطلق» و «ينطلق زيد» و «منطلق زيد» و «زيد المنطلق» و «المنطلق زيد» و «زيد هو المنطلق» و «زيد هو منطلق» . وفى الشرط والجزاء إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «إن تخرج أخرج» و «إن خرجت خرجت» و «إن تخرج فأنا خارج» و «أنا خارج إن خرجت» و «أنا إن خرجت خارج» .
وفى الحال إلى الوجوه التى تراها فى قولك: «جاءنى زيد مسرعا» و «جاءنى يسرع» و «جاءنى وهو مسرع» أو
«هو يسرع» و «جاءنى قد أسرع» و «جاءنى وقد أسرع» ، فيعرف لكل من ذلك موضعه ويجئ به حيث ينبغى له.
(1) دلائل الإعجاز ص (ص).
وينظر فى الحروف التى تشترك فى معنى ثم ينفرد كل واحد منها بخصوصية فى ذلك المعنى، فيضع كلّا من ذلك فى خاصّ معناه نحو أن يجئ ب «ما» فى نفى الحال، وب «لا» إذا أراد نفى الاستقبال، وب «إن» فيما يترجح بين أن يكون وأن لا يكون، وب «إذا» فيما علم أنّه كائن.
وينظر فى الجمل التى ترد فيعرف موضع الفصل فيها من موضع الوصل ثم يعرف فيما حقه الوصل موضع الواو من موضع الفاء، وموضع الفاء من موضع «ثم» ، وموضع «أو» من موضع «أم» ، وموضع «لكن» من موضع «بل» .
ويتصرف فى التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير فى الكلام كله، وفى الحذف والتكرار والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه ويستعمله على الصحة وعلى ما ينبغى له.
هذا هو السبيل، فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم، إلّا وهو معنى من معانى النحو قد أصيب به موضعه ووضع فى حقه أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه واستعمل فى غير ما ينبغى له. فلا ترى كلاما قد وصف بصحة نظم أو فساده أو وصف بمزية وفضل فيه إلّا وأنت تجد مرجع تلك الصحة وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معانى النحو وأحكامه، ووجدته يدخل فى أصل من أصوله ويتصل بباب من أبوابه» (1).
فمعانى النحو أو النّظم تشمل: الخبر، وأركان الجملة وما يتعلق بالمسند والمسند إليه من شرط وحال، وتشمل الفصل والوصل ومعرفة مواضعهما ومعانى الواو والفاء وثم وبل ولكن، وتشمل التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، والحذف والتكرار، والإضمار والإظهار.
والفرق بين هذه الأساليب ليس فرقا فى الحركات وما يطرأ على الكلمات، وإنّما فى معانى العبارات التى يحدثها ذلك الوضع والنظم الدقيق،
(1) دلائل الإعجاز ص 64 - 65.
ولذلك فليست العمدة فى معرفة قواعد النحو وحدها ولكن فيما تؤدى إليه هذه القواعد والأصول. وقد يكون
أحدنا لا يعرف التسميات الدقيقة لموضوعات النحو، ولكنه يعرف الفروق بينها ويحس بمعانيها حينما يسمعها، شأنه فى ذلك شأن البدوى الذى عاش بعيدا عن المصطلحات وما تعنى به كتب النحو غير أنه كان يفهم ما يسمع ويميز بين أسلوب وآخر.
وليست المزية باللغة ومعرفتها، لأنّ ذلك لا يؤدى إلى التفاوت بين الكلام، ولا من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكن للعلم بمواضعها وما ينبغى أن يصنع فيها. وليست بسلامة الحروف، وإنّما بالنظم الذى يعطى الكلمات والإعراب معنى دقيقا.
والنظم مراتب، فمنه ما لا نرى المزية فيه إلّا بعد قراءة القطعة الشعرية كقول البحترى:
بلونا ضرائب من قد نرى
…
فما إن رأينا لفتح ضريبا
هو المرء أبدت له الحادثا
…
ت عزما وشيكا ورأيا صليبا
تنقّل فى خلقى سؤدد
…
سماحا مرجّى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا
…
وكالبحر إن جئته مستثيبا
ففى هذه الأبيات تلاحقت الصور وضم بعضها إلى بعض.
ومنه ما يهجم الحسن دفعة واحدة حتى يعرف من البيت الواحد مكان الشاعر من الفضل وموضعه من الحذق، ويشهد له بالفضل حتى يعلم أنّ البيت من قبل شاعر فحل وأنّه خرج من تحت يد صناع.
ومن النظم ما يتحد فى الوضع ويدق فيه الصنع وذلك أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها فى بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج فى الجملة إلى أن توضع فى النفس وضعا واحدا وأن يكون الحال فيها حال البانى يضع بيمينه ههنا فى حال ما يضع بيساره هناك. ومنه ما لا يحتاج إلى فكر وروية لكى ينتظم، بل سبيله فى ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآل فخرطها فى سلك لا يبغى أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء